الجمعة، أكتوبر 31، 2008

صمت ُ وذهول

عيسى القنصل
فى جنون العشق ِ القاك بقلبى

فى ذهول ٍ فجر الافراح فيّــــــا

جئت مثل الضؤ عندى فجـــــأة

فاحتسينا خمرة العمر سويّــــا

بسمة ُ انت ِ اضأت ليلتـــــــــى

كم اناديك الا تاتى اليّــــــــــــا

اننى كالريح اجرى نحـــــــــوك ِ

يا لصدر ُ يحتوى قلبا نديـــــــــا

ايه اسماءُ فوادى خفقــــــــــه

عاليا كالرعد ِيبغيك الهديــــــه

صوتك المشحون بالسحر غدا

فى حنايا القلب اضحى سرمديا

فى ذهول الصمت احكة قصتــى

فاسمعينى .. اننى اهواك ٍ فيّــا

فى منامى .. فى كلامى وجهكم

يرتقى كالمجد عندى ازليّـــــــا

حبنا ينمو كالخلايا فاقبلــــــــى

قلبى المطعون ياتيك صبيّــــــا

واحضنينى فوق نهديك قليـــــلا

اننى فى العشق مجنون الهويـــه

سوف ابقى عاشقا فيك التجلى

انت يا اسماء من يلغى المنيـــــه

فى نقاء الوجه طهر ُ نابـــــــــع ُ

من كيان يحتوى قلبا نقيــــــــــا

كلما ادنو اليكم ينتشــــــــــــــــى

عمرنا طهرا وتبكى مقلتيـــــــــا

كيف لم القاك الا شاعــــــــــرا ؟؟

ليتنى اغدو باحلامك شيـــــــا

فى ذهول ٍ صامت ٍ حبّى نمــــــى

فاقبلينى ..عاشقا ًحتى المنيّــــــه

حوار مع الكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني

أجرت الحوار الإعلامية الجزائرية عقيلة رابحي

" الثقافة خَصْمُ السلطة،
وميزان القوة بينهما غير متكافئ على الدوام"


سؤال: كيف هي العلاقة بين المثقف والسلطة؟
جواب: تظهر السلطة حين تختل العلاقة بين جهتين ويعتل التكافؤ بين طرفين أيا كانت هده الجهة وأيا كان هدا الطرف فتتغير الأدوار طبقا لوضع اللاتكافئ الجديد فتتحول الشخصيات إلى راع ورعية وتتحول الثقافة إلى رسمية وشعبية وتتحول الجغرافية إلى مركز وهامش...
السلطة إذن هي "ممارسة عنف رمزي"، بتعبير بيير دي بورديو، لكن أول علامات السلطة هو "القبول" بها وبعنفها. فمتى بدأ القبول بعنفها تجدرت السلطة واستشرت ومتى رُفِضت وعورضت، كسرت شوكتها وبهت جشعها. وهدا بالضبط دور الثقافة، على الأقل في مفهومها الحديث: دمقرطة العلاقات الإنسانية، مقاومة التفاوت والهيمنة في الإنتاجات الرمزية، الاهتمام بأشكال التواصل الإنساني...
السلطة صفة تتعلق بالضغط في تقرير الأمور وتدبير العلاقات والتحكم في المصائر والانفراد بالرأي ... ولدلك فهي تتلون حسب مجال اشتغالها. فقد تكون سلطة سياسية أو دينية أو ثقافية أو قبلية أو عرقية أو غيرها.
ولأن الثقافة هي في الآن ذاته ضمير الإنسانية والمدافع عن الحرية والعدل والمساواة، فإنها تبقى الخصم المفترض الأول للسلطة التي يستحيل تصورها دون إرادة في الهيمنة والامتلاك والاحتواء. لهدا السبب، كانت ميزان القوة بينهما غير متكافئ على الدوام: فمتى ضعفت السلطة وخفت بريق مصداقيتها، تقوََت الثقافة ودوى صوتها في كل مكان كما حدث في روسيا القيصرية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ومتى تعاظمت السلطة وعلا شأن رجالاتها، تقزمت الثقافة وقل تأثير المثقفين كما هو الحال في البلدان العربية مجتمعة...


سؤال: ولماذا يبقى المثقف الذي ينتقد السلطة وينشد ثقافة حرة رهين الهامش؟
جواب: في علم الفلك الحديث، يقدر العلماء نسبة الأجسام المرئية في الكون من كواكب ونجوم وسديم ومذنبات وشهب ونيازك ب 6٪ (ستة في المائة) أما الباقي وهو 94٪ (أربعة وتسعون في المائة) من الكون فيبقى لما كان يوصف في الماضي ب"الفراغ" وصار اليوم يعرف ب"المادة السوداء" وب"الطاقة". وهدا المثال بليغ للغاية كما أن هده النسبة هامة جدا لأننا سنصادفها أيضا في علم النفس عند تقسيم الذات الإنسانية إلى ثلاثة أقسام يهيمن فيها "اللاشعور" على 94٪ (أربعة وتسعون في المائة) بينما يترك 6٪ (الستة في المائة) المتبقية ل"الشعور" و"الأنا الأعلى"...
أعتقد بأن هده النسبة التي تتحكم في الكون والعقل البشري هي ذاتها المتحكمة في مصائر المجتمعات والأمم قاطبة. فليس "اللاشعور" في حياة الأفراد غير "التاريخ" في حياة الأمم؛ وليس "الأنا الأعلى" غير "الثقافة" أو "الضمير الإنساني"؛ وليس "الشعور" شيئا آخر غير وظيفة الموازنة بين "الأنا الأعلى الجماعي" و"حركة التاريخ"، تلك الوظيفة التي قد تلين وتضعف كما يمكنها أن "تتعاظم وتتسلط" فتصبح وساوس وعُصَاب وأمراضا "تسلطية" كان التجسيد الحي لها "هتلر" و"بوكاسا" و"بينوتشي"...
إن الخلود للتاريخ وحده، أما حصة "الثقافة" وحصة "السلطة" فمتساويتان. وعليه، فإن "تدني كفة الثقافة" لصالح "علو كفة السلطة" لا يمكنها أن تشير إلا إلى الظروف الذاتية والموضوعية للثقافة والمثقفين وتكشف عن مواطن الخلل في هدا الحقل الفاعل، حقل الثقافة. ويمكن حصر مواطن الخلل هده في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: وتتمحور حول كون المثقف العربي الذي يناهض السلطة على "المستوى الرمزي"، لا يقوم بالدور الموازي لهده الوظيفة على "أرض الواقع". فليست للمثقف العربي ثقافة تبني المواقف الشجاعة مما يحدث حواليه وما يمرر عليه من قرارات وما يشهد عليه من شطط. إنه يتبنى المواقف ضد "أعداء الوطن من الأجانب" فقط ولكنه لا يستطيع فعل نفس الشيء مع "أهل السلطة" من "أهل البلد"!...
النقطة الثانية: وتتمركز حول المبدع العربي الذي يحارب السلطة داخل نصوصه التخييلية من خلال التعددية اللغوية، وتنويع زوايا النظر، وتكسير السرد... ولكنه لا يستطيع رفع أصبعه اعتراضا على ما يحدث حوله!...
النقطة الثالثة: المثقف العربي يعيش في الهامش لأنه يعتزل المواجهة على ارض الواقع ليتفرغ للكتابة وهو لا يعي حجم 67٪ من الأمية في العالم العربي وحجم تدهور التعليم والتعلم لدى الفئات المحسوبة في السجلات الرسمية "فئات متعلمة"...
قد يكون التهميش الذي يعيشه المثقف العربي عقابا ذاتيا يمارسه المثقف على نفسه، نوعا من المازوكية. ولكن تهميش المثقف العربي في الآن ذاته يبقى "صناعة عربية" بامتياز تتفنن الدول العربية في صياغتها ورعايتها وتبادل الخبرات حولها فيما بينها...


سؤال: وإلى أي مدى يتمتع المثقف العربي بحريته في بلده؟
جواب: "الحرية" قيمة محورية تتمركز حولها الثقافة في كل مكان وكل زمان. ولكنها ليست المحور الغالب للأعمال الفكرية والإبداعية والنقدية العربية إلا إدا كانت "الحرية" مقترنة باستقلال الوطن ومقارعة المحتل أو كانت مقترنة بنقيضها الثابت "العبودية" و"الأسر". أما "الحرية" الحقيقية المرتبطة بتحرير القوى والأصوات العميقة داخلنا عبر مصالحتها والمصالحة معها من خلال توحيد القول والفعل، توحيد الفكر والقول، توحيد الفكر والفعل، توحيد الصوت والصورة... فتكاد تكون نادرة في الثقافة العربية.
"الحرية" ، بمعناها الكامل إذن، تقتضي التحرر من الخارج ومن الآخر ولكنها أيضا تقتضي تحرير الداخل، تحرير الذات. وإلا فما جدوى التحرر من المعمر ومن الآخر مع الحياة مكبلا من الداخل؟
المثقف العربي كفرد هو حر ولكنه حين يسعى لتحرير من حواليه يتعرض لأقسى أشكال الأذى المادي والرمزي...


سؤال: وما هي انعكاسات هذه العلاقة السلبية على المجتمعات العربية ؟
جواب: أهم انعكاسات هذه العلاقة السلبية على المجتمعات العربية هو التقزيم الهادف والتغييب الممنهج للمثقف الدي يؤدي حتما إلى تقزيم وتغييب القيم والضمير واحتضان الفوضى والاستبداد...
إن حرية المثقف في بلده رهينة بحرية أبناء بلده حوله. أما حرية الجميع، مثقفين وجماهير، فتبقى رهينة بقيام مؤسسات راعية للحرية وسن قوانين ضامنة لها، وتحرير التعليم والإعلام والبحث العلمي والإبداع بكافة أشكاله من سلطة المركز والواحدية والقرار الفردي

إبراهيم يحب الحياة



نادر أبو تامر

لم أظن بأني سأصاحبه. إبراهيم أكبر مني في العمر. بثلاثين سنة ربما. لكني بعد أوّل مقابلة لي معه لم أعد أنتبه إلى سنه.

في قريتي، كثيرون لم يتابعوا دراستهم الجامعية. كثيرون أنهوا الصف الثاني عشر. عدد لا بأس به منهم حصلوا على شهادة تمكنهم من الدخول إلى الجامعة، إلا أنهم لم يتسجلوا للجامعات.

لم أكن من هؤلاء.

ذهبت لوحدي. تركت قريتي البعيدة في الشمال. ركبت عدة باصات حتى وصلت إلى حيفا ومنها إلى الجامعة التي كنت أسمع عنها.

لم أعرف كيف أنتقل من قسم إلى آخر لأتسجل لدراسة اللغة العربية.

وفجأة ، بينما كنت أنقل نظراتي الحائرة والمترددة بين اللافتات على الأبنية العديدة التي تعج بها الجامعة لكشني شخص من كتفي. سألني عما أبحث. بعدما زلطت ريقي من شدة الخوف، سألته عن قسم اللغة العربية. فقال إنه قبل قليل عاد من هناك. ورافقني إلى السكرتيرة. حين طلبت مني بعض الأوراق، سارع هو إلى تصوير نسخة منها وعلى حسابه الخاص. في الكافيتيريا لم يقبل أن ادفع ثمن فنجان القهوة وكعكة الجبنة.

أبلغني أن اسمه إبراهيم. رجل وقور. هندامه أنيق. كرافته كحلية بخطوط بيضاء مائلة تكسر زرقة القميص الفاتحة. حسبته في البداية محاضرًا في الجامعة لأن عمره يزيد عن خمسين عاما. في قريتي، رجال في مثل عمره لا يذهبون إلى الجامعة، بل يلعبون الشدة والسنوكر ويشربون القهوة الحلوة عشرات المرات في النهار. يشتكون من البطالة. وإذا جاء العمل لا يعملون.

احترمته. واحترمته أكثر عندما أقلني بسيارته الجميلة إلى مساكن الطلاب. في الطريق أخبرني أنه دفع مبلغا إضافيًّا لكي يمتلك هذه السيارة. لماذا؟ سألته، فقال: لأن حوادث الطرق كثيرة في هذه الأيام، وهذه السيارة مصفحة. "هيكلها سيحميني في حال وقوع حادث طرق"، قال. بدا كلامه مقنعا، لكنني شككت. في الطريق علمت أنه يتعلم في الجامعة بعد ساعات الدوام في وظيفته في مدينة رام الله. فاحترمته أكثر. لم يسكن إبراهيم في مساكن الطلاب كما نفعل نحن، بل في منزله في القدس. كان بيته بسيطا، متواضعا، قديما، دافئا رغم البرودة الشديدة في الليالي، هذا ما حدثني هو عنه، واكتشفت في وقت لاحق أن كلّ كلمة قالها لي كانت في محلها.

وكانت زوجته "أم ديما" تبعث لي الكعك معه بشتى الأشكال والأنواع، وكان يلفه بعدة أكياس نايلون لكي لا يتسخ فرش السيارة. وكانت هذه هدية ثمينة لمن لا يستطيع أن يشتري أكثر من كيلو بطاطا يتفنن في تقشيرها للقلي والسلق والهرط والمرط والخبط والشبط، مرة مع بيض ومرة بدونه. لم يرزق "أبو ديما" ذكورًا. كانت لديه ثلاث بنات أمورات. وكان يتمنى أن يأتي الابن الذكر، لكن هذا الولد الذكر لم يأتِ. هذا ما قسمه الربّ.

كلّ مرة كنت أراه، كان يضيف إلى سيارته التي ستحميه لوازم إضافية. قطعة من هنا. قطعة من هناك. يصفح العجلات. يزيد مناعة هيكل السيارة ويصرف عليها الكثير لأن الحالة ميسورة والحمد لله.

ورغم أن إبراهيم لم يتغيب عن الدراسة خلال الفصل الأول والشهر الأول من الفصل الثاني فقد استغربت أنه في الأيام الأخيرة لم يأت إلى الدروس. وبما أن الفصل كان شتاء ظننته مزكومًا أو مفلوزًا، مبحوحا أو عنده حساسية، أو ربما بسبب التدفئة التي ركبها في سيارته المدللة. لم أستعجل للاتصال به لأنني قلت بيني وبين نفسي إنه سيعود في الأيام القليلة القادمة. فهو طالب لا يتغيب عن الدروس. كان معي رقم هاتفه في البيت. لم أسارع للاتصال به. انتظرت عدة أيام أخرى وعرفت بأنه لن يتصل بي، فلم يكن في غرفتي في مساكن الطلاب هاتف. لم يعرف أي واحد من زملائنا ماذا جرى لإبراهيم ولماذا تغيب طوال أسبوعين عن الدراسة، وعدا زميلة أخرى تركب على عينيها نظارة سميكة مثل قاعدة زجاجة الكولا، فهو الطالب الوحيد،الذي لم تفته أية محاضرة.

مع انتهاء الأسبوع الثاني ذهبت إلى بناية الهواتف في الجامعة. نزلت على الدرج وقلبي خائف ومتوجس. انتابتني قشعريرة مؤقته، بدون أن أعرف ما السبب. حاولت تجاهلها.

عندما نقرت رقم هاتف بيته توقعت أن يرد هو على المكالمة لأن الوقت كان مساء. ومن المفروض أن يكون في البيت بعد الدوام. لم أعرف ماذا سأقول له. هل اشتقت إلى كعكات أم ديما؟ أم أنني غير مرتاح في الجامعة بدون أخبار سيارته الأمينة والآمنة..

من الطرف الثاني لخط الهاتف أتاني صوت يقول ببطء غير طبيعي: ألو، مين؟

صديق إبراهيم من الجامعة...

نفس محدثتي ابتعد عن خط الهاتف وسمعتها وهي تحاول التقاط أنفاسها تقول

إبراهيم لا يستطيع التحدث..

ماذا؟

هل هو مسافر؟

نعم. مسافر. إلى مكان بعيد.

شعرت بضيق شديد في حلقي. لأنني تأكدت أن شيئا غير مطمئن قد حدث.

ثم تابعت زوجته: ألم تقرأ الخبر في الصحيفة.؟

قبل أن أخبرها بأنني لا اشتري الصحف يوميًّا، لأنني لا أمتلك النقود لذلك فأهلي بصعوبة يدفعون قسط التعليم، سارعت لأسالها: ماذا جرى؟ لم أنتبه للصحف هذا الأسبوع..

في الطريق من عند والده الذي ذهب لزيارته، شعر بضيق نفس ثم أوقف سيارته جانبا. وجدناه ميتا في سيارته. إصابته جلطة حادة. قتلته. لم يستطع مقاومتها. نعرف أنه يقدرك ويعزك. لم يكن رقمك معنا لنخبرك. ظنناك تقرأ الصحف....

بعد المكالمة. عدت إلى غرفتي. تلك الليلة لم أنم. لم أستطع أن لا أفكر بإبراهيم وبسيارته المدللة. وقررت أن أبدأ بشراء الصحف كلّ صباح..

تجدون المزيد من قصص نادر أبو تامر عبر العنوان التالي
nader.bettna.com
للمراسلة naderabutamer@gmail.com

الأربعاء، أكتوبر 29، 2008

الأدب.. بين الهامبورغر وهيفاء وهبة

د. حبيب بولس
" الركود المحزن في حركتنا الأدبي ليس كارثة طبيعية, بل نتاج واقعنا.. بإمكاننا ويجب إعادة فحص البيت الثقافي وإعادة الأصالة والمهابة للحظة التي بهتت ألوانها. إذا علمنا ونشطنا وأبدعنا بشكل مثير للاحترام, نعيد لحركتنا الأدبية احترامها ومهابتها وتأثيرها في مجتمعنا".
المتتبع لحركتنا الأدبية يجد ركودا ما يسيطر عليها هذه الأيام, حتى باتت تقتصر على احتفالات "التكريم" و "التأبين". ونحن إذ نجل هذه الاحتفالات ولا ننتقص من أهميتها, فإننا ندهش في الوقت ذاته لمثل هذا الركود الذي بات يهدد حياتنا الأدبية, بل حياتنا الثقافية برمتها. وهذا الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل وبصوت مرتفع: ما الذي يجري؟ لمَ هذا الفتور؟ ما هي الأسباب التي أدت إلى مثل هذه الحالة؟ وكيف يمكن الخروج منها؟ ولكن, ونحن نطرح مثل هذه الأسئلة يجب ألا يغيب عن بالنا أن هناك بعض الاهتمامات التي تضيء ساحتنا الأدبية, بمعنى انه تنوجد لدينا أحيانا لمعة هنا ولمعة هناك, ولكن حتى هذه اللمعات حين تحدث كإقامة ندوة أو محاضرة إذا فحصنا بهدوء نجد أن من يحضرها لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين, الأمر الذي يدعو إلى القلق والخوف في آن معا.
إنها إذن أزمة قائمة, وعلينا جميعا أن نتساءل لماذا؟ لأننا إذا عرفنا الداء, هان علينا توصيف الدواء. هل سر هذا التراجع كامن في المواضيع التي تطرح؟ بمعنى هل المواضيع المطروحة لا تمس الجوانب التي تهم الناس كي يقبلوا عليها بشف ليستفيدوا من تجارب الآخرين؟ هل نحن كأدباء أصبحنا منقطعين عن هموم الناس, عن هموم مجتمعنا وصرنا نحلق في أجواء بعيدة؟! أم أن السر كامن في الناس أنفسهم؟ أي أنهم صاروا ينفرون من كل ما هو جاد ويتعلقون, وربما تسحرهم السلعة الأدبية الرخيصة, التي لا تدعو إلى التفكير العميق, بل إلى تزجيه الوقت وملء الفراغ؟
اعتقد أن الأمر منوط بالناحيتين, فنحن جميعا نعيش في فترة جَزر صعبة, بدأنا معها نلاحظ أن عددا كبيرا من اليقينيان التي درجنا عليها, والتي كنا ترتكز إليها, وننطلق منها, ونروج لها, قد بدأت تنهار وذلك بسبب ما يجري على الساحة السياسية العربية عامة, والفلسطينية بشكل خاص, حيث طغى السياسي على الثقافي والضحل على الجاد, فأربك هذا الأدباء والناس معا, وصار الأديب والمتلقي يعيشان في حيرة, لا يعرفان معها كيف ينقلان الخطى على ارض ساخنة, ارض مليئة بالندوب وبالحصى. وحين يعيش الإنسان- وليس مهما هنا نوعيته- ظروفا متقلبة ساخنة سريعة الوتيرة حتما سيصاب باللخمة وبالذهول, مما يدفعه لقلة حيلته إلى هرب من المواجهة إلى الترفيه عن النفس, وذلك عن طريق مشاهدة البرامج السطحية الغثة- أو قراءة الأخبار السريعة, التي تنبش في الخصوصيات, أو متابعة البرامج الإذاعية الرخيصة التي تقوم على الأغاني "العاطفية" المبتذلة, وعلى بعض التعليقات من هنا وهناك.
والمهتمون شهود عيان- على مضض- لما يجري حقا. خاصة تعلق الناس بالفضائيات التي تركز على تأجيج العواطف وإثارة الغرائز بوسائل رخيصة, بحيث صارت البرامج الطاغية فيها هي تلك البرامج الدعائية التي تعزف على أوتار"حساسة", خاصة والناس يمرون بأوضاع صعبة على جميع الأصعدة وبالذات الصعيد الاقتصادي. هذه الأوضاع تجعل متابع هذه البرامج يحلم ويسرح ويعيش ساعات طوالا مقطوعا عن واقعه محلقا وراء سراب.
او البرامج التي تدغدغ الأحلام وتجعل مشاهدها كالمخدر, كتلك البرامج التي راجت مؤخرا في الفضائيات العربية (السوبر ستار, وستار أكاديمي) وغيرها أو البرامج "الترفيهية" التي لا تقدم أي زاد فكر لمشاهديها, بقدر ما تقوم على التلاعب بعواطفهم وغرائزهم كقناة التلفاز المسماة "روتانا". إن التراجع السياسي الحاصل, والضغط الاقتصادي والخمول الفكري النابع منهما. كل ذلك يلعب دورا هاما في خلق جو من اللامبالاة والهروبية والتراجع عن الجدية والترفيه, عن الثمين إلى الرخيص, عن المهم إلى التافه. ولقد لعبت "العولمة" دورا هاما في خلق مناخ فكري مترهل أدى بالتالي إلى خمول أدبي ثقافي, فالعولمة التي تهدف إلى تحويل الشعوب والمجتمعات إلى قطعان استهلاكية تلهث وراء نمط الحياة الأميركي, انتصرت على ما يبدو في تحويل كل الوسائل والآليات التي كان من المفروض أن تلعب الدور التثقيفي والأدبي الجيد, إلى وسائل واليات تروج إلى السلعة الرخيصة السهلة التناول, وحتى الصحف التي كانت تلعب دورا تثويريا تنويريا صار همها المحافظة على نفسها من الناحية الربحية فصرت ترى إلى لهاثها وراء الإعلان وذلك على حساب المقال الجيد, وأصحاب تلك الصحف رغم وعيهم للمشكلة يرفعون الأيدي مستسلمين, ويطالبون الكتاب والأدباء "بالاختصار" وبالحذف وبتقصير المقالة بحجة أن الناس "لا يملكون الوقت" لقراءة مادة جادة أو طويلة. والأمر الغريب أن الناس فعلا صاروا ينفرون من مثل هذه المقالات ولا يقرؤون سوى عناوينها ويعرضون عنها إلى النتف الصحفية والأخبار الغريبة والمثيرة هل صار الوضع الأدبي الثقافي الجاد منفرا؟ وهل ستصير مقالاتنا وأشعارنا وقصصنا ورواياتنا ومسرحياتنا وأغانينا, كي تكون مقروءة أو مسموعة, وبسبب العولمة, "ساندويتشات" أدبية سريعة التناول والأكل والهضم؟!
هل ستسد هذه "الساندويشات" السريعة مكان الطبخة المتقنة الشهية؟ هل ستصير قصيدتنا قرص "همبرغر"؟ وقصتنا قطعة دجاج من "ماكدونلدز"؟ وفي أحسن الحالات رغيفا من "الباجيت"؟ هل سينجح أدبنا, مع هذا المد الاستهلاكي السريع, من الأصالة إلى التهجين؟ هل سيصير شعرنا-فخرنا-أغنية مغناجة قصيرة باهتة الكلمات واللحن تستعيض عن ضعفها بعرض مفاتن المطربة؟ كما هو الحاصل اليوم في الأغاني الرائجة بين شبابنا. هل سيصير أدبنا "هيفاء وهبة"؟ وهل سنسمح بذلك؟ وهل هي فترة عن قريب ستزول؟ أو غيمة عن قريب ستنقشع؟ لا أحب ذلك. إذن كيف الخروج من هذه الأزمة؟ كيف سنحرك الحياة من جديد في حركتنا الأدبية والثقافية؟ نحن لا نملك لهذا الأمر وصفة سحرية. ولكن ما يمكن قوله في هذه العجالة, إن أدبائنا ليسوا منقطعين عن قضايا شعبهم ومجتمعهم, ولكنهم بهتوا أمام الحاصل, لذا فالوقت قد حان لأن نصحو جميعا. إننا مطالبون اليوم بفحص بيتنا, مؤسسات وجمعيات وأفرادا. والمسؤولية الكبرى بطبيعة الحال تقع علينا نحن أعني الذين يتعاملون مع الأدب والثقافة. علينا أولا تأثيث بيتنا جيدا, وذلك بإقامة اتحاد عام حقيقي وشامل للأدباء يكافح هذه الظاهرة الشائهة والناتئة, ويدعو إلى المفيد ويرد الهيبة إلى أدبنا بوسائل شتى, أولها احترام أدبنا والحث على مواكبته ودعوة الأدباء إلى احترام بعضهم واحترام إنتاجهم والتأشير على الغث والساقط لتجنبه. وهكذا إذا احترمنا أدبنا واحترمنا بعضنا ورفعنا مكانة وهيبة الأديب, لا يتجرأ الرخيص والتافه على التسرب من جهة, واحترمتنا المحافل الرسمية والاجتماعية من أخرى, واستجابت لدعوتنا في أن تضع في أعلى سلم أولوياتها الأدب وأن تستنفر للنهوض به كل القوى والوسائل إذ ما فائدة المشاريع المادية, إذا خلا المجتمع من روحانيته. كذلك علينا ونحن نمر بمثل هذه الأزمة كيف نلاءم بين واقعنا ومستجداته وبين أدبنا؟ كيف نطرح المواضيع الجاذبة. علينا طرق أبواب المدارس والمعاهد العلمية لتوعية طلابنا, وذلك عن طريق ابتكار برامج أدبية ثقافية جاذبة لأن ما سبق صار تقليديا مملا, علينا أن نفكر بوسائل وطرائق جديدة تجمع بين المشتهى والحاصل. وتعرف كيف توائم بينهما, علينا أ، نعصر مضاميننا, وأن ندفع أساليبنا نحو الحداثة لتلاءم اليقينيات الجديدة الآخذة في التبرعم, ولكن شريطة أن نحافظ على المرتكزات والأصول.
علينا أن نجدد في لغتنا- حجارة أدبنا- لتحتضن الحاصل والمستجد. إذا فعلنا كل هذه الأمور يصبح الركود المسيطر اليوم استراحة محارب نجمع فيها القوى ونستعيد عافيتنا. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى النهوض بأدبنا ولكن النهوض بالأدب مشروط بنهوضنا نحن وذلك بالتخلي عن خلافاتنا وعن عقدة نقصنا أمام الأجنبي. بهذا فقط نستطيع أن نرد إلى حطة أدبنا التي بهتت ألوانها البهاء والأصالة والاحترام. بهذا فقط نستطيع أن نحافظ على وجودنا في المشهد الحضاري العام.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .

زبانية الجامعة

عـادل عطيـة

المعلم ، رسول ورسالة
رسول حضارة ، ورسالة : نور، وخير، وحياة
والرسل لن يستطيعوا أن يبشروا ،
ولا الشهداء أن يسفكوا دماءهم ،
إذا ما توقف القلب عن التوهج بالحب
لقد رأيت أن اكون صادقاً فى رأيى ،
برغم احساسى بالتمزق من فكرة جرح ، أو اذى الضمير المقصود لهؤلاء العزيزين علىّ !
فهناك اساتذة جامعات ،
وكأن الجانب الشرير فى الانسان ، هو الذى : يحاضر ، ويعلّم ، ويخرج اجيال !
بعضهم وكأن شخص مرعب يختبئ وراء ظهرهم ،
يزرعون ثقافة الخوف من الاسئلة
فقد قام احدهم ، بتعنيف فتاة حاولت الاستفسار عن شئ لم تستوعبه من محاضرته !
وآخر يتعامل مع طلبته ، على أنهم الكائنات التى يجب أن تكرهها ،
فقد طرد أحدهم أكثر من نصف طلابه من المدرج ؛
لأنهم لم يحضروا معهم مسطرتهم ، مع انها لن تستخدم فى محاضرته !
وآخر وكأنه مصنوع من الريح لا تعرف اتجاهه ، ولا مواعيده :
يأمر طلبته بالتواجد الساعة الثامنة صباحاً ،
فإذا به يحضر الساعة التاسعة صباحاً !
وإذا التزموا بهذا التوقيت ،
يفاجؤهم بحضوره الساعة الثامنة صباحاً ،
ليطرد الذين جاءوا بعد ذلك !
وآخر ، قرر أن يكون الرسول بحد السيف ،
ينتمى لحزب واحد توتاليتارياً ، وليس رسالة سماوية تدعو إلى العيش المشترك !
ولن انسى مافعله احدهم بطالبة مسيحية ،
وكيف سخر منها ،
ومن معتقداتها ،
فإذا بالمسكينة تعود إلى منزلها ،
وتستلقى على فراشها إلى يوم البعث ،
فقد ماتت قهرا
والعجيب حقاً : أنه تكرّم بحضور جنازتها !
فمن وراء صراخ فلذات اكبادنا من بعض اساتذة الجامعات ،
بعدما كان صراخهم فى الماضى ، صراخ الدهشة اللطيفة ؟!
من وراء حيازة الاستاذ الجامعى للسلطة والقوة الجبرية باسم العلم والتعليم ؟!
من وراء تلك الحالة ،
التى كلما رسم الطالب لنفسه صورة استاذ جامعى خيّل إليه أنه شيطان ؟!
هل هى القوانين السياسية ،
التى نعرف ابعادها ،
واهدافها ،
والتى افرزت المزيد من جبن الجبناء ،
لأن من يحاول الشكوى ضد استاذه ،
سيعاقبه بالرسوب إلى ماشاءت ارادته دون رادع ؟!
أم أن الاستاذ الجامعى ، هو نتاج : محزن
لمن تعلّم على يدهم ،
فأفقدوه فضائله الانسانية ، والدينية ؟!
**
اننى اتدفق بالنداء إلى وزير التعليم العالى ،
ليساند فلذات اكبادنا ؛ ليكونوا فوق الهمجية الفردانية
ومعاقبة كل استاذ جامعى فقد قيمه الانسانية ،
وحروفه المضيئة ،
وصنع الكآبة ، واليأس على وجه وفى قلب طلابه
فمن خلال التناغم المستعاد بين الطالب واستاذه ، سيتألق وجه التعليم فى مصر
adelattiaeg@yahoo.com

أيامٌ مُتَخيّلَة لساسون سوميخ، والخطاب المغاير

د. حبيب بولس

صدر عن دار نشر "هكيبوتس هميؤوحاد" سنة 2008، الجزء الثاني من سيرة حياة البروفيسور سوسان سوميخ، بعنوان "ايام متخيلة"، أخا للجزء الاول "بغداد أمس" سنة 2004.
في الكتاب يشرع سوميخ حياته على مصاريعها، بحيث تنفلش هذه الحياة أمام المتلقّي على مساحة زمنية واسعة من عام (1951) عام قدومه إلى اسرائيل من وطنه الأصليّ العراق وحتى عام (2000). ولكنه رغم هذا الانفلاش ينوّه في المقدمة بأنّه لا يكتب ترجمة شخصية بالمعنى المعروف لهذا الجانر الادبي وإنما ينتقي من حياة تجارب معنية تعمد فيها، ويقف على احداث يراها مهمة مرّ بها، ويذكر شخصيات التقاها وتعرف عليها، فيسرد كل ذلك من خلال ذاكرته الحيّة، والانتقاء السليم، بغية التأشير على ما لعب دوراً في بلورة شخصية وفي صقله إنساناً اكاديمياً مميزاً مرموقاً. لذا فإن القارئ لهذه السيرة على سعتها واهميتها لن يجد فيها مهما اجتهد تغوّرا للنفس واستبارا لخفاياها، او نزولاً إلى أصقاعها لمعانية أو لمكاشفة صراعاتها الداخلية.
كما أنه لن يجد تصويراً داخلياً للانفعالات والعواطف الشخصية أو التصريح بها وإزالة الغشاوة عنها، إنما القراءة المتأنية تجعل القارئ- المتلقي يتجول على السطح ويعاين الامور من الخارج، وهذا ما يدفعه إلى التصور وإطلاق العنان والترحال الخيالي الذي من يستمد الكتاب عنوان.

الكتاب موّجه إلى القارئ اليهودي، ويهدف سوميخ من وراء ذلك إلى إطلاع الجيل الجهيد والاجيال اللاحقة على المشاكل والتحديات والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية التي واجهت اليهود الشرقيين وهو واحد منهم، الذين قدموا من الدول العربية الى اسرائيل مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وكيف استطاع هؤلاء رغم العوائق بناء شخصياتهم وبناء حياتهم وانخراطهم فيما بعد في الدولة. ولكن "سوميخ" وهو يسبر غور هذه القضايا على تشظياتها لا تبارحه صرامته الاكاديمية، فأسلوبه هنا يمازج بين الاسلوب الجدي الصارم وبين الترقق، كما أنه لا ينجر وراء عواطفه الشخصية، بل يظل يتنقل بين حدث وآخر وبين شخصية وأخرى ضمن إطار الحدث والشخصية البراني ونادرا ما يغوص في الجواني.

ما يستوقفنا كقراء-متلقين عرب في الكتاب هو المبدأ الذي من ينطلق وعليه يشيد بنيانه الحياتي على تلونات الزاخر بالتجارب والحافل بالمعرفة، أعني المبدأ الذي مفاده: "الانفتاح على الحضارات والثقافات والعمل المشترك بينها جميعاً هو الطريق الصحيح للتطور والتجدد". وعلى طول الكتاب وعرضه يتحكم هذا المبدأ بمجريات الاحداث، ويحاول سوميخ من خلاله نقل العدوى إلى المتلقي. فحيات تصلح بامتياز لأنه تكون مقتدى للشعب اليهودي هذا اذا هو فعلا يريد أن يعيش بسلام وباستقرار في بلاده مع الشق الآخر من المواطنين وفي هذه البلاد وأعني العرب الفلسطينيين ومع الجيران العرب بشكل عام. ويثبت "سوميخ" في كل ما جاء في كتابه بأنه قضى حياته حقيقة في اسرائيل في تشجيع التقارب بين شعبي البلاد وفي تشجيع العمل المشترك في إطار الحضارة والثقافة وخاصة في مجال الادب، ونحن اعني معارفه وطلابه شهود على ذلك.
وللتأكيد على هذا المبدأ يرتد سوميخ إلى الماضي ويفلش حياته أمام المتلقي نصف قرن من الزمن، حيث يعود إلى البدايات ويرتقي بهذه البدايات زمانياً ومكانياً وأحداثاً وشخصياتٍ، حتى يصل عام (2000)، وذلك كي يقف المتلقي على تجربة غنية تصلح لأن تكون ورشاً وغطة.
وقارئ هذه السيرة الغنية تستلفته أمور كثيرة كانت قد غابت أو غيبت في هذا الزمن الرديء الذي نعيشه حتى صارت نوعاً من النوسطالجيا- الحنين. من هنا تستمد هذه السيرة اهميتها، ومن هنا كذلك تشرق بمواقف قد صارت تعربى للذكريات، وهذا ما يؤلم المؤلف- كاتبها وما يجعله يوثقها أدبياً. فمع انحسار الموضوعية في المواقف ومع تراجع اليسار الاسرائيلي واضمحلال القيم وغياب المفاهيم الديمقراطية، تلك المفاهيم التي تجعل الانسان مركز الكون بغض النظر عن انتماءاته، ومع ترسيخ العنصرية والعنجهية والغطرسة القومية وطغيانها على الحاضر المعيش، ومع موجة الكره المتصاعدة تجاه الاقلية العربية الفلسطينية في البلاد، ومع ازدياد وتفاقم التعصب الديني المقيت، يأتي "سوميخ" في كتابه ليقول مقولة أخرى، يأتي بخطاب مغاير تماماً لما يجري، خطاب محب كم صرنا نشتهي أن نسمعه، يأتي ليلح على انسانية الانسان، وعلى مبدأ العلمانية والقرار الحرّ والليبرالية والعدالة والديمقراطية. هذه المفاهيم التي بدأت تتراجع حدّ الغياب والتلاشي في المجتمع اليهودي الاسرائيلي ليحتل مكانها مفهوم الحرب والتمييز العنصري الصارخ وهضم الحقوق المشروعة.

ما يلفت في الكتاب/ السيرة، أمور كثيرة- كما أسلفت- غابت عنّا ردحًا من الزمن، منها: الأمانة والصدق في نقل الأحداث، والجرأة والشجاعة في الموقف، والتحدي والالتزام بالمبدأ، وكذلك العلاقة الخالية من المصلحة والمُحبّة والداعمة مع المواطنين العرب، تلك العلاقة المفعمة بالتقدير حدّ العشق، ليش للإنسان العربي فقط، بل لتراثه ولحضارته وللغته ولثقافته ولأدبه، وكذلك الوقوف إلى جانب قضايا الأقلية العربية الفلسطينية، وهنا يجد المتلقّي أنّ الكتاب/ السيرة، حافل بأسماء شخصيات عربية كثيرة، هم أصدقاء الكاتب من سياسيين وأدباء وزملاء وطلاب، كانت له معهم تجارب كثيرة أدبية وثقافية وحياتية واجتماعية وعلميّة، أثرت حياته وأغنت مسيرته وبلورت شخصيته، ورفدته بالكثير من الأفكار الإنسانية الليبرالية العلمانية. وكذلك يلفت نظر المتلقي ذلك الإحساس الصادق والعميق بالقضية الفلسطينية والإيمان بمشروع السلام العادل شريطة تحقيق الحلم الفلسطيني. وكذلك ما يبفت النظر هو هذا العشق اللامتناهي للأدب العربي والذي يتجلى في الكثير من المواقف المطروحة في الكتاب، وكذلك الافتخار بهذا الأدب، ليس من كون الكاتب متخصصًا أكاديميًّا فيه، بل لأنّه يرى في هذا الأدب أدبه، فهو لم يكره كلمة مستشرق التي كان ينعت بها أحيانًا في المحافل الأكاديمية، وذلك لأنّه يرى أنّ العربية على ما فيها من لغة وأدب وحضارة وتراث وثقافة في الماضي والحاضر، لغة وهوية.
والسؤال الذي يرتفع بعد كل ما ذكر، هو كيف يتجلى كل ذلك في الكتاب/ السرة.
لن أستعرض كل ما جاء في الكتاب/ السيرة، كي لا أفوّت على المتلقي متعة القراءة، ولكنّني سأتوقف عند بعض الفصول التي تؤكّد على ما ذكرته سابقًا.

في الفصل الأول يحدّثنا سوميخ ابن السابعة عشرة عام (1951) عن بداياته، عن انبهاره بالدولة العبرية الجديدة، ولكن سرعان ما يزول هذا الانبهار أمام الواقع المر، والمعاناة التي يعيشها يهود العراق أبناء بلاده من القادمين الجدد: الفوضى وعدم الراحة والإذلال، والأسئلة الكبيرة عن المستقبل، مصير الأهل والجيران، كل ذلك بسبب ما حصل من انقلاب كاد أن يكون مدمّرًا في تلك الفترة. من حياة مستقرة كريمة، إلى فوضى. من قيم ومبادئ تربى عليها اليهودي العراقي، إلى زعزعة كل ذلك وتقويضه. إنّها فترة انتقالية صعبة، والسؤال الذي يطرحه سوميخ الشاب في هذا الفصل، السؤال الذي يعكس ما كان أبناء العراق يهجسون به في حينه: "أين أرض الميعاد التي وُعدنا بها، حيث يعيش اليهودي مستقرًّا حرًّا لا أحد يهزأ بيهوديّته أو يستفزّه بسبب ديانته؟".
هذه المرارة التي تجمّعت في الحلق عند اليهود العراقيين من المهاجرين الجدد، جعلتهم يشعرون بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية مقارنة مع يهود أوروبا "الأشكناز". حتى القيم الاجتماعية، تلك القيم الصارمة التي سيّج يهود العراق أنفسهم بها من اجل حماية تراثهم وعاداتهم ومفاهيمهم، بدأت تتحطم من خلال زوال الفوارق الاجتماعية وتغيّر المفاهيم والعقلية، وتصادم العقليّتين الغربية والشرقية، وقد تجلى ذلك في الزوّاج المختلط بين العراقيين والأوروبيات.

يتوقّف سوميخ كثيرًا عند مشكلة أخرى واجهت يهود العراق، وهي مشكلة اللغة، فالعراقيون، وهو واحد منهم، لم يعرفوا العبريّة جيّدًا، خاصّة تلك التي تطورت في إسرائيل، من هنا كان فهمهم للآخرين صعبًَا، فلغتهم هي العربية وثقافتهم كذلك، إضافة إلى الانكليزية. ثم يسجل سوميخ في الفصل الثاني من الكتاب/ السيرة انبهاره من مناظر طبيعة فلسطين الخلابة، وذلك من خلال رحلاته التي نظّمتها في حينه جهات رسمية واجتماعية وسياسية كمنظمة "هشومير هتسعير" و"أولبان هدسيم" والشبيبة الشيوعية. ويشير إلى أنّه لم يخرج في رحلة منظمة في وطنه الأصلي العراق، لأنّ الامر كان محظورًا على اليهود في الأربعينيات من القرن الماضي، وذلك بسبب المضايقات التي كانوا يتعرّضون لها، خاصة بعد إعلان التقسيم في العام (1947)، الذي رفضه العالم العربي في حينه.
من خلال هذه الرحلات تعرّف سوميخ على المدن والقرى العربية، ويخصص الكثير للناصرة ولمرج ابن عامر ولطبريا، ويرى في الناصرة حاضرة العلم والثقافة والأدب. حيث أنّه قام فيما بعد بزمن قصير، بزيارتها بشكل فردي بغية الاطلاع على ما في مكتباتها التجارية والخاصة، من كتب بالعربية كان يتحرّق شوقًا إليها. ومن خلال هذه الزيارات الفردية، تعرّف على الكثيرين من الشعراء والكتّاب، يذكر منهم الشعراء جمال قعوار مدّ الله في عمره، وميشيل حداد وعيسى لوباني وتوفيق زياد رحمهم الله. ويخص زيّاد بالكثير من الحديث منذ ان تعرّف عليه، حتى موته الفاجع في التسعينيات. ثم يتحدث عن زيارته الأولى إلى مدينة حيفا، تلك المدينة التي يعيش فيها الشعبان. وتشاء الصدف أن يدخل وادي النسناس حيث واجهته ملصقات أثلجت صدره كالملصق "صوت قاف ولا تخاف"، و"قاف" هو حرف الحزب الشيوعي الاسرائيلي قبل انشقاق المجموعة التي كشفت عن ميولها الصهيونية منه. وفرحه من هذا الملصق نابع من كونه جاء من بلاد تمنع اليسار وتعدم الشيوعيين، حتى إنّ حمل صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، القاعدة، أو توزيعها، كان محظورًا. وهنا في حيفا يرى أنّ كل شيء متاح، لذلك يفرح لدمقراطية دولته ويعجب بها في حينه. ولكنّه يقول إنّه "بعد ما زار بلاد الغرب ورأى الدمقراطية، هناك توقف عن هذا الإعجاب".
ويحدّثنا سوميخ عن مواجهته الأولى مع صحيفة "الاتحاد" في البلاد، التي كانت تصدر عن عصبة التحرر، والتي أعادت تشكيل الحزب الشيوعي الاسرائيلي بعد قيام الدولة، حين توحّدت مع الشيوعيين اليهود، في الحزب الشيوعي الفلسطيني. "الاتحاد"، التي كان يعرفها أيام وجوده في بغداد، والتي كانت تجذبه بسبب مواقفها ومبادئها، ها هو اليوم، موجود في مبناها في حيفا، في مبنى "الاتحاد"، يلتقي بالراحل إميل حبيبي، محرّر "الاتحاد" في حينه. ويحدّثنا سوميخ عن حرارة اللقاء، وعن إعجابه الكبير بشخصية إميل حبيبي، وعن تقديره لأدبه ولمبادئه ولكتاباته الأدبية والسياسية، ويصرّح بانّه كان يقف وراء اختيار إميل حبيبي لنيل "جائزة إسرائيل". من إميل حبيبي يتشرّب سوميخ تفاصيل المأساة الفلسطينية وخاصة مأساة اللاجئين، فينطلق ليزور القرى الفلسطينية حيث يتعرّف على سكانها وعلى أوضاعهم القاسية وعلى معاناتهم بسبب ما نالوه من السلطة التي صادرت أراضيهم وهدمت قراهم وحوّلتهم إلى لاجئين داخل وطنهم، وإلى أجيرين يعملون في أراضيهم التي كانوا أصحابها. الأمر يحزن سوميخ، فيعلن تضامنه معم.
ويصرّح سوميخ بجرأة بأنّه في تلك الفترة من حياته لم يكن مقتنعًا بالأفكار الشيوعية، وأنّ الحزب الشيوعي الإسرائيلي لم يكن مثله الأعلى، وإنّما كان "هشومير هتسعير" أي "مبام" بزعامة موشيه سنيه، وخاصة الجناح الذي أسّس الكيبوتسات. فقد رأى في جماعة هذه المنظمة أنّهم يؤمنون بالمساواة وبالاشتراكية. ولكنّه حين اكتشف أنّ عضوية هذا الحزب كانت مقصورة على اليهود فقط، بينما الحزب الشيوعي الاسرائيلي، كان حزبًا يهوديًّا عربيًّا، على حد سواء، في الكنيست، وفي الهستدروت، وفي كل شيء، مع قيادة مشتركة يهودية وعربية متنورة، كفيلنر وطوبي، ومع إعجابه الشديد بالاتحاد السوفييتي الذي قضى على الوحش النازي، وكذلك مع تقديره للحزب الشيوعي العراقي، الذي نظر إلى اليهودي في العراق كمواطن له كامل الحقوق، والذي عرف كيف يميّز بين اليهودي والصهيوني، "اليهود أخوتنا، الصهاينة أعداؤنا"، كل هذه العوامل جعلته في النهاية ينحاز للحزب الشيوعي ويصبح عضوًا فعالا فيه حتى أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي. يقوم بكل ما كان يطلب منه، بدءًا من الاجتماعات التنظيمية ومرورًا بتوزيع الصحيفة "كول هعام" في مدينة بات يام، على خطورة ذلك، وانتهاء بالنشر والكتابة في صحف الحزب بالعبرية والعربية.
ثم يتطرق سوميخ بكل صدق وصراحة للهزات التي تعرّض لها الحزب الشيوعي وللجهود الكبيرة التي بذلت لرأب الصدع ولترميم ما تصدّع. تلك الهزّات التي نشأت إثر أحداث هنغاريا سنة 1956، التي أعلن زعيمها في حينه الحياد، فأجهض الاتحاد السوفييتي ثورته وأعدم. ثم إعلان مالينكوف في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي التاسع عشر عن الوضع المأساوي للزراعة في بلاده، الزراعة التي كان يرى فيها الشيوعيون عندنا أنّها مثالية. ثم ما أعلنه خروتشوف في المؤتمر العشرين عن قضية ستالين ونظامه السيء.

هذه الأمور زعزعت ثقة الكثيرين بالحزب الشيوعي، ثم الانقسام الذي حدث في الحزب إثر العدوان الثلاثي على مصر، إلخ... من هذه المشاكل التي أصابت مسيرة الحزب في البلاد. ولكن الضربة القاضية التي جعلته يجمّد عضويته في الحزب، ويكف عن المشاركة في نشاطاته كانت عام 1967، أي أيام الانقلاب التشيكي بزعامة دوبتشيك، ذلك الانقلاب الذي أجهض بانتشار الدبابات السوفييتية في براغ. هذا الحدث جعل سوميخ يبتعد عن الحززب لأنّ الدبابات، حسب قوله، قضت على حلم "الشيوعية الدمقراطية" التي كان يؤمن بها. ولكنّه مع ذلك يقرّر بأنّه لن يبتعد عن تأييد الاشتراكية العالمية، أو الشيوعية الانسانية الدمقراطية، لأنّه ينفر من مفاهيم الرأسمالية ولا يهضمها.

في فصل آخر شائق، بتحدّث سوميخ عنن إنشائه مع صديقه المقرب المرحوم دافيد صيمح منتدى الإبداع بالعربية في مدينة تل أبيب، ويشرح بإسهاب عن صيمح وعن مبادئه وانتقاداته لتعامل الدولة مع الأقلية العربية الفلسطينية في البلاد، ومع تراثها وأدبها وحضارتها. ويكر كيف انحازا سوية إلى "الاتحاد" و"الجديد"، لأنّهما عبّرتا عن وجهة نظرهما وذلك لأنّهما كانتا تنشران أدبًا ثوريًّا برؤية تقدمية، وكذلك مقالات تفضح سياسة الدولة تجاه العرب وتجاه المهاجرين الجدد من يهود البلاد العربية، كما ويقارن بينهما وبين صحيفة "اليوم" التي كانت تعبّر عن وجهة نظر السلطة في حينه، ويصفها بالصحيفة الهابطة دون المستوى. من خلال "الاتحاد" و"الجديد" يتعرّف سوميخ على العديد من الادباء والمثقفين العرب واليهود من الشيوعيين يذكر منهم بإعجاب وتقدير الراحلين: إميل توما، وجبرا نقولا، وصليبا خميس، وعصام العبّاسي، كما يذكر أيضًا شمعون بلاص وحنا أبوو حنا وسامي ميخائيل، مدّ الله في أعمارهم. وكذلك يتحدّث عن علاقة الود والتقدير مع الشاعر الراحل راشد حسين، رغم اختلاف وجهتي النظر السياسية بينهما.
ثم يتحدّث عن كيفية انتقال الأدباء اليهود الذين كتبوا بالعربية إلى الكتابة بالعبرية، بهدف- كما جاء في بيان سامي ميخائيل سنة 1954، والذي نشر في الجديد- "الواقعية والتزام الأدباء من المهاجرين الجدد بمعايشة قضايا الجماهير ليكونوا في الخط المركزي للحياة، كي يكتبوا أدبًا مخلصًا يتحدّى ويعرّي ويخدم شعبهم والشعوب الأخرى. إذ أنّ اللغة ليس مهمّة، المضمون هو المهم".
وقد أضاف سوميخ إلى البيان: "إنّ واجب هؤلاء الأدباء متابعة مجريات تطوّر الادب العبري والوقوف إلى جانب الأدب العربي في إسرائيل، وأهميّة الترجمة بينهما". وهذا الجانب- الترجمة- هو ما أخذه شخصيًّا على عاتقه. وفعلا كان له إسهام ضخم في هذا المجال، خاصة في ترجمة الأدب العربي إلى العبرية.

في الفصول اللاحقة يتحدّث سوميخ عن دراسته الأكاديمية حتى وصوله إلى درجة بروفيسور وإلى رئيس كرسي الأدب في جامعة تل أبيب. وعن المؤتمرات الأكاديمية التي حضرها وشارك فيها، ومن الشخصيات الأكاديمية التي تعرّف عليها خلال عمله والمؤتمرات ودراسته يذكر الباحث الأدبي الكبير محمد مصطفى بدوي من جامعة أكسفورد، والذي كان مرشده في رسالة الدكتوراة "الإيقاع المتغيّر في روايات نجيب محفوظ"، ويخصّه بفصل كامل. كما يخص أيضًا كلا من المستشرق جو بيتين المشهور، والباحث الكبير في اللهجات حاييم بلانك، بفصل كامل.
كما يتحدّث عن العلاقة الحميمة مع الشاعر الشيوعي الكبير ألكسندر بن، محرر صحيفة الحزب الشيوعي بالعبرية، "كول هعام"، ويخصّه هو الآخر بالكثير. ولا ينسى طبعًا الجامعة وعلاقاته بالمحاضرين، وكذلك طلابه الذين يظهر لهم في الكتاب أسمى آيات الحب والاحترام والافتخار بانجازاتهم العلمية والأكاديمية.

وفي الفصول الأخيرة من الكتاب/ السيرة، يتوقّف سوميخ عند الادباء العرب المصريين الذين درسهم ودرّس عنهم وبحث في أدبهم، خاصة توفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، ويذكر رأي هؤلاء في أبحاثه رغم كونه يهوديًّا، فينقل لنا باعتزاز إعجاب يوسف إدريس مثلا بأبحاثه التي نشرها عن أدبه، والتي عبّر عنها بهذه الجملة: "أنت من أتّكل عليه في البحث في كتاباتي". وكذلك ينقل لنا علاقة الاحترام المتبادل بينه وبين نجيب محفوظ، حيث يقول: "لم نحسبه كماركسيين بطلا ثقافيًّا، ولك يكن كغوركي وبريخت وأراغون ونيرودا وناظم حكمت في رأينا. ولكن رأينا تغيّر بعد قراءته المعمّقة وبعد البحث في رواياته وقصصه". ومن المنصف أن نضيف أنّ بحث سوميخ المنشور بالانكليزية والصادر عن لايدن بعنوان "The Changing Rhythem" سنة 1973، كان الأول الذي عرّف العالم بنجيب محفوظ، والذي أسهم في رأيي في منحه جائزة نوبل للأدب عام 1988.

هل ينتهي الكتاب/ السيرة هنا؟ طبعًا لا، إنّما هذا غيض من فيض. وأنا سمحت لنفسي بأن أتخيّر الفصول التي ارتأيتها هامّة في ناحيتين: الأولى لأنها أسهمت في بلورة الحاضر وفي صقل شخصية المؤلف، والثانية لأنّ هذه الفصول مرتبطة بشكل كبير وحميمي بنا، أعني العرب الفلسطينيين في البلاد.

وما يجدر ذكره هنا أنّ سوميخ في كتابه/ سيرته، كان متواضعًا، فهو لم يتطرّق لأبحاثه المشهورة إلا لمامًا، وبأسمائها فقط، ولا يبرز نفسه كبطل، وإنّما هو يختبئ وراء الأحداث والشخصيات التي يقدّمها. هو ليس صانع أحداث جسام كما يقول، ولا هو سيّد تلك الاحداث، إنّما هو جزء من الصورة العامة ومن المشهد الحضاري/ الثقافي/ السياسي/ الأكاديمي والعلمي. والقارئ يستطيع أن يجلو شخصية سوميخ من خلال هذا النسيج الذي يحوكه أثناء سرده للوقائع والأحداث، ومن خلال علاقاته مع الآخرين.

وللكاتب، رغم هذا التواضع الشديد، أيحاث كثيرة رفعت من منزلة الأدب العربي عالميًّا، وقدّمته بالكثير من الفخر والاعتزاز والحب، كما أنّ له يدًا ناصعة البياض في خلق مناخ أدبي فكري عربي في البلاد، وذلك من خلال ما نشره وما قدّمه من محاضرات، وما قام به من ترجمات وإسهامات، والأهم من خلال ما درّسه من مادّة الادب العربي الحديث في الجامعة، هذا التدريس الذي يشف عن نظرة عشق لهذا الأدب، والذي فتح منهاجية جديدة تعتمد على النص أوّلا لفهم الأدب وتحليله وللوقوف على جماليّاته. وكذلك له دور كبير في خلق شريحة من الأكاديميين والباحثين والادباء العرب الشباب الذي تتلمذوا على يديه، ونهلوا من منابعه، والذين رعاهم وأحبّهم وأخلص لهم ودعمهم وصاروا مفخرته لأنّهم جميعهم تقريبًا يحتلّون اليوم مراكز هامّة في الجامعات والكليّات.

من كل ما تقدّم وتأسيسًا عليه، أرى أنّ الكتاب/ السيرة جدير بالقراءة وأنّه يستحق الترجمة إلى العربية لما فيه من فائدة علميّة أدبيّة، وتجربة حياتية غنيّة تقرّب وتجمّع وتؤلّف وتدعو للتعايش وللسلام بين الشعبين.
وعلى ما يبدو كان دافع سوميخ من كتابة هذه السيرة هو العمر الذي يجري بنا سريعًا، فتخوّفًا من النسيان يكتب سيرته على غناها، ويعايش الماضي الثري ليكون عظة لنا كما أنّ دافعه الآخر هو ترسيخ المبدأ الذي تبناه وسار على هديه، مبدأ التعايش والدمقراطية، وكذلك التمسك بعراقيّته تعبيرًا عن حبّه اشعبه وللأدب والتراث العربيّين.

تحية للبروفيسور ساسون سوميخ على انتاجه الجديد هذا مع تمنيّاتي له بدوام الصحة والعافية ومديد العمر، ودمت لنا أستاذنا نبعًا دافقًا من العطاء لا ينضب أبدًا، بل يرهق النضوب.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .

يا خوف عكا من هديرك يا بحر

فوزي ناصر


شُفْت في عْيونا دَمِع
قالت وَجَع..
زار القَلِب..
لحظه وْعَبَر
يمكن بهذا اليوم
كان الصَّفا والحب
كانو عا سَفَر
وْيمكن بِهَالغُفْران
ربِّي ما غفر

****

لو تِعْرفو عكا
إلْ من يوم يوما
صامده بْوِجْه البحر
لا خافت مْواجو
لا صوت عَصفو
لو هَدَر
وْمَ هْتزرمشا
لو فاض من شرقا النهر*
عكا اللي ما طلع مِنَّا خبر
إلا النَّّّّّصر
عكا اللي فوق سْوارها
بمشي البدر
عكا اللي حفرت حْكاياتها
فوق الحجر
وْفِ حْجارها حْكايات
فينيقيا وْكنعان
إسألو رمل البحر
إلْ سخَّنوه فوق الجمر**
عكا اللي ما عرفت قهر
عكا إلْ بِداخلْها الصَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّبر
هِيِّّّّّّ الصَّّّّّّّّبر
وِهْدُر يا بحر
يا خوف عكا
من هديرك يا بحر..!!.
----------------------
* نهر عكا أو النَّعامين
** اسم عكا يعني الرمل الحار،اشارة لصناعة الزجاج على شواطئها!

فوزي ناصر – كاتب وشاعر ، ومرشد سياحي في معالم الوطن الفلسطيني - الناصرة

مطلوبة حية أو ميتة.. التهمة : كاتبة غير معروفة

ميرا جميل

كثيرا ما ألتقي في نيقوسيا ، العاصمة القبرصية ، ادباء ورجال فكر عربا ، خاصة من لبنان ، وبعضهم يقيمون منذ وقت طويل في المنفى الاختياري ، منتظرين تبدل أحوال وطنهم ، واستقرار أمنه ، قبل العودة ومتابعة ما انقطع من حياتهم .
وكثيرا ما جرنا النقاش لنتحدث عن عشقنا للوطن .. عن ذكرياتنا ، وعن مأساة الابتعاد القسري عن الأهل والأصحاب والبيت ، والحياة بتوتر ، بانتظار خبر من الوطن ، والقلق الدائم الذي يجعل حياتهم أكثر صعوبة .. وخاصة ابناء لبنان ،" يا قطعة سما " كما تصدح فيروز .. وكم يؤلمني هذا الحب اللبناني للوطن "على مرمى العين " كما يقولون .. ولكنه " البعيد دهرا " كما يتأوهون .. وأتأمل حالي .. ولكن وضعي يختلف ، مع ان حبي لوطني ، وفلسطينيتي ، لا تقل عن حب اللبنانيين لوطنهم الفيروزي .
حقا خياري يختلف عن خياراتهم . انا مقيمة في نيقوسيا لزواجي من قبرصي يوناني ، ولد ، شب وتثقف في القدس العربية ، من أبوين يونانيين . جاء لحيفا بعد احتلال القدس عام 1967 وعشقها ، بل جن فيها ، وما زالت حتى اليوم أجمل مدينة في نظره ، سكن فيها لفترة قاربت السنتين ، وهناك تعرفت عليه ، اثناء دراستي الجامعية ، تزوجنا ، ، ثم قرر بيع بيت والديه في القدس والعودة الى وطن الآباء والأجداد ، ليبني بيته ومستقبله ، كما كانت رغبة والديه العجوزين ،بعد تغير أحوال القدس للأسوأ .. والذين توفيا ودفنا في قبرص .
زوجي مشبع بالثقافة العربية ومن القراء النهمين للأدب العربي ،قديمه وحديثه ، ويعتقد ان كاتبا مثل حنا مينا يستحق خمسة جوائز اوسكار ، ولكن اللوم على الانغلاق العربي ، وعدم وجود قيمة للأديب أكثر من مساحة عدد قرائه التي لا تتجاوز بأحسن الأحوال خمسة الاف قارئ . والأهم ان صوت الأديب لا قيمة له في مجتمعه ، وقد تجذرت اللغة العربية في روحه بصفتها لغة الأم الأولى ، وكيف لا وهو خريج مدارس القدس وبيت لحم العربية ، واليونانية كانت لغة الوالدين في البيت ، ليس أكثر ..!!
كانت له محاولات شعرية يرفض نشرها .. ويعمل اليوم في مجال السياحة ، وعمله يشغل معظم وقته ... ويرفض حتى ان يفصح عن معرفته للغة العربية كلغة أم أولى أو ثانية أمام الزبائن العرب ، وأنا أحترم موقفه وأحترم خصوصياته ، وقد بدات أفهم اصراره على الاحتفاظ بهذا الحاجز الذي يقيمه بين نفسه وبين عمله وزبائنه العرب . من قناعته ان التعامل مع بعض الزبائن العرب ، سيكون أصعب ، اذا اختصر المسافة اللغوية بينه وبينهم . رغم انه يضطر أحيانا لاستعمال بعض الكلمات العربية مع زبائنه .. فيتحمسون ويكونون في آخر انبساط لأن يونانيا قبرصيا " يعرف " بعض كلمات لغتهم . ولكنه أبدا لم يسمح لنفسه بالافصاح عن "هويته العربية " كما يقول ، ضمانا لراحة البال ... ومن هنا اسمي غير الكامل فيما أنشره .. وصورتي القديمة ، التي اضطررت لنشرها بضغط من منتدى واتا .
كتاباتي تغضبه ، ولم يكن يتوقع ان أخوض اللجة بهذا الحماس ، وأن أثير حولي مئات علامات الاستفهام ، رغم انه لا يخفي اعجابه بقدرتي الانشائية وينتقد أخطائي اللغوية ... ويغضبه ، خاصة ، مئات الايملات التي تتوارد يوميا ، والتي يحمل بعضها كلمات نابية ، وتهجمات شخصية ، وتأويلات حول من أكون ، رافضين أن أكون انا نفسي ميرا جميل ، متوهمين اني شخص آخر ، وقد وصلني من صديقة دراسة حيفاوية وأديب نصراوي معروف ، ان الاستفسارات عن ميرا جميل باتت شغل البعض الشاغل ، والتأويلات لا تتوقف في محاولة لكشف " المستورة " ميرا. وان "التهم " بدأت تروج والبعض على ثقة ان فلانا هو ميرا او ربما غيره .. وكأن وجود امراة عربية قادرة على اقتحام عالم الرجال وعلى النقد الفكري والثقافي ، هو أمر غير وارد بالحسبان العقلي العربي !!
لزوجي موقف ناقد للعقلية العربية ، بدات أتماثل معه ، فهو يقول ان العقلية العربية " تبحث عن الأسم وليس عن الموقف " .... " هذا ما لا احبه في العقلية الشرقية " يقول ببعض الغضب . ويضيف : " انها عقلية تناقش الشخص وليس الفكر ، وتقيم صاحب القلم وليس مضمون ما يخطه على الورق " وكثيرا ما وبخني بلطافته ، بأني لم أستوعب بعد ان المجتمعات العربية تسير القهقرى ، وأن قوة الكلمة عاجزة عن فرض التحول ، ويقول بلهجة الحسم : "عقل تعود على التلقين يحتاج الى أجيال عديدة حتى يبدا بالتفكير المستقل والابداعي " .. ودائما يقول :" ما عدا اللبنانيين ". ويبدو ان حبه للبنانيين بسبب مارون عبود والشدياق أولا وميخائيل نعيمة وجبران وجميع أدباء المهجر ثانيا ، وسلام الراسي والدكتور أنيس فريحة ثالثا . وقد أعاد قراءة بعض أعمال عبود وفريحة والراسي خمسة مرات أو أكثر ، خاصة كتاب فريحة الرائع "الفكاهة اللبنانية" الذي لا يفارق مكتبه ... وانه لو لم يكن يونانيا ، لاختار أن يكون لبنانيا. . ويمدح مساحة الحرية التي تميز لبنان والتي جعلته مرفأ المبدعين العرب ، يلجأون اليه هربا من بطش أنظمتهم وافاقها الضيقة. . . وانه لا يرى أن التنويريين العرب قادرين على احداث نقلة نوعية في هذا الاندفاع التراجعي للعالم العربي والفكر الاسلامي الماضوي ، ويصفه ب : " حالة مستعصية وميؤوس منها " ... هل حقا نحن مجتمعا لا يقيم وزنا للفكر والرأي ، بل للشخص والأسم والانتماء الديني ؟؟
لا اعرف .. الظواهر تقول ان زوجي مصيب . حقا البحث عن ميرا جميل يضحكني ويسليني ، ونفس الوقت يغضبني تطاول الظلاميين خاصة حول شخصي ، وكنت قد تلقيت رسالة من " مفكر " عربي ، على أثر ما ذكرته في مقال لي بأن الفاتيكان اعترف بصحة نظرية داروين ،في محاولة مني للتدليل على ضرورة فصل الدين عن العلوم ، وعدم ارهاق عقولنا بالاعجازات العلمية الوهمية للقرآن ، وان نعمل على جعل العلوم قيد التطبيق في مجتمعاتنا ، وليس مجرد مفاخرات جوفاء لا تفيدنا بشيء، الا باضحاك العالم على جهلنا. .. فكتب ذلك "المفكر" ( البهيم ) لي : " يا ابنة القردة ميرا .. مبروك عليك العيش على الأشجار وتناول الأعشاب مع فصيلتك من القرود ". وكلمات سخيفة أخرى تعبر عن عقلية مغرقة في الظلامية والتخلف ... فرددت عليه مرحبة بأخ لم تلده أمي .. وان داروين قد يكون على حق بأن أصل الانسان الاوروبي قرد ، ولكن بعض القرود ترفض ان يكون أصلها من بعض البشر في الشرق ".
بالطبع أتلقى رسائل أفتخر بها .. من كتاب وباحثين لفتت مقالاتي انتباههم ، ومنهم أسماء وصلت للعالمية بابحاثها وتفكيرها الابداعي ... بل وتلقيت قصائد غزل مضحكة .. لو عرفوا جيلي لخجلوا من التغزل بشخصي ، ويبدو ان انتمائي لعالم المراة جنسا ، حرك عواطف المراهقين الشعراء . وتتدفق على حاسوبي ايملات كثيرة تطلب ان اشارك بقلمي في مواقع الكترونية مختلفة . وانا التي بدأت النشر متأخرة ، بت أرى حقائق لم اكن أتوقعها بمثل هذا السواد ، وعقليات مسطحة وتافهة .من داخل فلسطين 48 ومن العالم العربي ، والحسن أخو الحسين بالتأكيد !!
حقا بعض المعلومات حول الجوائز وواقع الحركة الثقافية ، مدني بها صديق أديب نصراوي ، وقد ساعدني في البداية على توزيع كتاباتي .. وعلمت انه متهم بأنه ميرا نفسها .. اعتذرت منه ، فأجابني : " بالعكس ، أنا أفخر ان تنسب مقالاتك لي ، ليتني أستطيع ان أكتب بمثل صراحتك !! "
ومع ذلك لم التق ذلك الأديب الا على صفحات الأنترنت ، حيث شدتني صراحته وحدته فيما يكتب من مقالات فكرية ونقدية وقصص ممتازة ورائعة ، ولمست القدر الكبير من المصداقية في مواقفه ، ومن القدرة على اثارة دهشة القارئ بنصوصه .. كاتبته ، ونتواصل في تبادل الآراء .. وكان من أكبر المشجعين لي على نقد جائزة الابداع ، وشرح لي تفاصيلها ، وأرسل لي ما كتبه عن الثقافة العربية في فلسطين 48 ( ولكنه يرفض الا ان يقول اسرائيل معتبرا كل التعابير الأخرى مثل دفن النعامة لرأسها في الرمال . . لدرجة انه قال لي بعد ان وصله مقالي انه يتمنى لو كان صاحب المقال ، وأصر على نشره ... وورطني بالنشر .. وكم أنا مدينة له بفتحه هذه النافذة أمامي على عالم الفكر والثقافة .
حقا هناك اختلاف كبير بين أن تكون مجرد متلق ، وبين أن تكون مساهما في معركة الفكر .والحوار .. ولكن يبدو ان تقييم زوجي للحوار العربي ، ليس بعيدا عن الواقع . للأسف معظم ما أتلقاه اما ذما أو مدحا ، ويغيب عنه الرأي الشخصي والرؤية التي تضيف للموقف وتثريه !!
السؤال الاخر : لماذا د. ميرا ؟
أجل أنهيت الدكتوراة في العلوم الأجتماعية قبل زمن طويل ، لا يهمني اللقب بحد ذاته ، ولكنه لا يخجلني . وأقرأ لدكاترة في منتهى التخلف نصا وفكرا ... فلماذا اتجاهل لقبي الذي عملت للحصول عليه أكثر من خمس سنين ؟؟ وهل يتغير الحال باستعمال اللقب ؟ هل تصبح ميرا ميرتين ؟؟
الذي يظن ان الثقافة العربية في مناطق ال 48 لا تعنيني هو واهم .. هذه ثقافتي التي شدتني في شبابي المبكر ، حيث درست في بداياتي الأكاديمية اللغة العربية والشرق الأوسط ... وما زلت أذكر ندوات محمود درويش وسالم جبران وسميح القاسم في حيفا .. وما زلت أذكر محاضرات الدكتور اميل توما التي اعتبرها بمثابة جامعة ثانية للتثقيف والتنوير ..
وما زلت أعيش نبض أجمل فترة في أدب المقاومة الفلسطيني . ما زالت قصيدة المرحوم درويش برثاء الشباب العرب الخمسة ( ربما 1961 ) تبكيني حتى اليوم ( يحكون في بلادي يحكون في شجن - عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن ). ما زلت أذكر جنازة الأصدقاء الحيفاويين الثلاثة من الشباب الخمسة وكيف دفنوا بقبور متجاورة في مقبرة الروم .. وما زال هتاف الجماهير الحيفاوية الغاضبة يدوي في راسي : " شعبنا شعب حي دمه ما بصير مي " كنت أهتف وأبكي .. وما زلت أشعر بالدمعة عالقة تحت رمشي .. . هل حقا حافظنا على قسمنا .. على دمنا ؟ أم تبعثرنا وتهاوينا وصارت الزعامة أهم من الدم وأهم من التثقيف ، وأهم من الأدب ؟
صارت الزعامة أهم من الثقافة والتربية السياسة ، كما كتب الدكتور الناقد حبيب بولس عن نفس الموضوع المتعلق باتحاد الكتاب الميت في مقالته " عن الرؤوس والقنانير " – حقا قنانير يا حبيب ، بارك الله بقلمك ، أنقذتني في الوقت المناسب مع أني لا أعرفك شخصيا ، ولكني سعيدة جدا بقراءة مقالاتك على مواقع الشبكة العنكبوتية ؟ لا أعرف اذا كانوا سيتهمونك انت ايضا بأنك ميرا جميل ، وأعتذر منك سلفا ؟؟
بات كل شيء يقاس بالقبان .. حتى جوائز الأدب صارت بهدلة للأدباء .. شاهدت صور تكريم الشاعر تركي عامر لنيله الجائزة ، يوزعها بفرح يضحكني ويشعرني كم نحن بسطاء وبدائيون... عشرات الحضور وعشرات الصور .. هل حقا تستحق الجائزة هذا الاحتفال ؟ ألم يكن اجدر بك يا تركي ان تعيد الجائزة المهينة للابداع الأدبي وللفائزين أنفسهم ؟
لماذا يحصل الناقد الدكتور بطرس دله على 50 الف شاقل ، والقصصي نادر أبو تامر على 40 الف شيكل ، وأنت على 30 الف شاقل ؟ وآخرون على 20 الف شاقل ؟
أين كرامتكم أيها الأدباء ؟! هل بعتموها ببعض الفضة الشيكلية ؟! كيف نثق بكلماتكم بعد اليوم ؟! هل انتم مبدعون حقا ، أم شحاذون ؟! تعلموا من الكاتب المصري الرائع صنع الله ابراهيم ، الذي رفض جائزة وزير الثقافة المصري ، جائزة من النظام الذي زج به لسنوات طويلة في السجن بسبب أفكاره الانسانية وحبه لوطنه وشعبه !!
الأدباء اليهود حصلوا على مبالغ متساوية - 66 الف شاقل لكل منهم .. على الأقل يجب الأصرار على المساواة في القيمة النقدية .
كلمة أخيرة ... لاتشغلوا أنفسكم كثيرا بمن أكون . كتاباتي هي هويتي .. وأسمي هو حقا ميرا جميل .. ولكنه غير مهم .. تعالوا ناقشوا كتاباتي .. أفكاري .. رؤيتي .. طروحاتي . اسمي ليس هويتي . قلمي هو هويتي . .. وأكثر من ذلك تعالوا للبحث عني في قبرص أيضا وفي الصحافة القبرصية واليونانية .. ربما تجدون ضالتكم .. تجدون عقولكم التي ترفض الاعتراف بما ينتجه المرء من ابداع وتصر ان تعرف شكله وتجس نبضه وتضعه على القبان ، لكي تقيمه ..
لا انتظر تقييما من عاجزين يشغلون أنفسهم بالخمخمة عن ميرا وتأويلات مستهجنة من تكون أو من يكون .. أعتذر لمن سببت لهم المضايقة باتهامهم بأنهم ميرا .. ولكني عند كل كلمة صدرت مني .
يكفيني ما اتلقاه من رسائل ادباء عرب من المغرب حتى العراق ومن عرب ال 48 في التقدير والاشادة بما أكتبه . ويكفيني قناعتي بأني لا أكذب على قرائي !!

د. ميرا جميل - كاتبة وباحثة اجتماعية فلسطينية مقيمة في قبرص

صباحكم أجمل/ هوايا الأرقا



زياد جيوسي


نافذة أثرية في بلدتي جيوس
بعدستي

بين الألم والفرح تدور عجلة الزمان، فأبحث في هذا الصباح البارد عن الفرح بالسير تحت الرذاذ، فقد بدأ موسم الأمطار يحمل في ثناياه خير كثيرا، واغتسلت رام الله بالمطر كما الوطن، فتطهر جسدها وروحها بكمية جيدة من الأمطار، أزالت بعض مما تراكم عليها في الصيف الطويل الذي سبقه موسم جفاف عانينا فيه من شحة الماء، وعكس نفسه على غلال الزيت والزيتون، فجاء الزيت شحيحاً في معظم المناطق.

ليلة الأمس حين توقف رذاذ المطر خرجت من صومعتي للسير في دروب رام الله، كان الهواء باردا، لكني كنت اشعر بالدفء يلفني، كان البرق يسطع بالغرب باتجاه ساحلنا السليب، دلالة على أمطار قوية، فتوقعت أن يصل المطر في الليل لرام الله ولكنه لم يصل إلا رذاذاً، فسرت بقوة وهمة عالية، متمتعا بالنسمات الباردة وجمال المدينة وهدوئها، وبعد تجوال سريع لعدة كيلومترات آويت لصومعتي وحيدا إلا من رفقة الحب والذاكرة، فالخريف يجدد الحب ويجدد الروح، فأشعر بأوراق تسقط مني كأوراق الشجر، استعدادا لولادة جديدة.

الأيام الماضية كنت أمر بمرحلة هدوء وانطواء، فلم أكن أخرج سوى للسير في شوارع المدينة في الصباح الباكر وفي الأمسيات، ولم احضر سوى فيلم سينمائي واحد في المركز الثقافي الألماني الفرنسي، شعرت به فيلما موجها يهدف فقط لإبراز أن شعبنا ليست لديه أية مشكلة بالتعايش مع المحتل ومستوطنيه، وسيكون لي حديث بمقال خاص عن هذا الفيلم، وقد بدأت أشعر أن هناك دورا خفيا يمارسه المركز المذكور بعد أن زاد عدد رواده وزواره، وقد استفزني هذا الفيلم حتى أني قدمت مداخلة طويلة لتبيان أهداف الفيلم السيئة، رغم أني قلة من الأوقات التي أشارك بها في مثل هذه الحوارات، لأخرج من هناك مع الصديق حسان البلعاوي الذي استُفز مثلي في لقائنا الأول بعد معرفة طويلة من خلال كتاباتي واطلاعه عليها، لنجلس حتى منتصف الليل بحديث ذو شجون كانت القدس وذاكرة القدس التي عشتها، واحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية تأخذ الحيز الأكبر من الحوار، وسرقنا الوقت حتى اكتشفنا انه لم يبقى غيرنا في مقهى زرياب الجميل، فاعتذرنا للعاملين الذين بقوا بانتظارنا ولم يظهروا تأففا ولا ضيقا من تأخرنا.

وها أنا أعود لأواصل ما انقطع من الذاكرة في الأحاديث السابقة، وتمسك ذاكرتي بيدي وتعيدني لأوائل سبعينات القرن الماضي إلى الشام مرة أخرى، فقد عشقت المدينة بطريقة غريبة، وقد كتبت عن ذلك في مقال صباحكم أجمل\ شام يا ذا السيف، في الثلاثين من الشهر السابع لهذا العام، وفي دمشق كنت أصحو مبكرا وأجول في شوارعها، أتمتع بالسير لمسافات طويلة، كنت اتجه نحو حي من أحيائها وابدأ التجوال فيه حتى أحاول أن اعرفه كله، وفي العصارى أعود إلى وسط المدينة، احتسي القهوة أو الشاي بالنعناع على مقهى الفاروق الذي ذهب به الزمان، وأدلل نفسي أحيانا بنفسٍ من التمباك من تحت يد أبو سليم الفلسطيني الذي كان يقطن مخيم اليرموك، فعلى روحه الرحمة إن كان ميتا أو ما زال على قيد الحياة، وإن كنت أشك بذلك فقد كان في الخمسينات من العمر وأنا بأوائل العشرينات، وكان يحلو لي الجلوس معه حين لا يكن ضغط بالعمل عليه، فيحدثني عن ذاكرته وفلسطين وذاكرة اللجوء، ويحلم باليوم الذي يعود به إلى بلدته في شمال فلسطين، وإن كنت نسيت مع الزمن أي بلدة ينتسب إليها بالجذور، فأشعر بالدمعات تتدفق إلى عينيه وهو يحدثني، فما أن يجلس معي إلا وقلت له مقطع من أغنية: أهلا بالشيخ يحدثنا، فيجيب كما الأغنية: سأحدثكم، ونضحك معا.

كانت دمشق جميلة وبسيطة، كانت مساحات الأخضر تحيطها، وبعد ما يزيد عن ثلاثين عاما لم أراها، اسمع من أصدقاء لي هناك أن هذه المساحات الخضراء قد التهمها البنيان وغابات الاسمنت، وأن معظم ما في ذاكرتي قد عفا عليه الزمان، وأني بحاجة إلى ترتيب زيارة جديدة لبناء ذاكرة أخرى تقارن بين ما كان وما مضى.

كان يعجبني التجوال بحي الساروجة القديم واشعر فيه بعبق التاريخ، والذي يحمل اسمه من أسطورة تروى، ومع الزمن وجدت نفس الأسطورة سببا لتسمية بلدة طاروجة في محافظة نابلس وتسمية الفالوجة في فلسطين والعراق، وربما تكون سببا للتسمية في مناطق أخرى من أنحاء الوطن العربي الكبير، أما في الأمسيات فكان يحلو لي الجلوس دوما في قاصيون المرتفع والجميل، احتسي القهوة والشاي مع كتاب اقرأه مع النسمات العليلة، أو أحضر فيلما سينمائيا وخاصة في سينما الكندي التي كانت متميزة بأفلامها، أو أحضر مسرحية بأحد المسارح المنتشرة في المدينة، وقد أتيح لي بتلك الفترة أن أزور حلب وحمص وأجول بهما، كما أتيح لي أن ازور الزبداني وسرغايا والفيجة وعين الخضراء وهي من أجمل مصايف سوريا، ولكنها زيارات قصيرة لم تترك في الذاكرة إلا بعض من الملامح.

وذات صباح خرجت من البيت لأجد دمشق ترتدي حلتها العسكرية، فعلمت أن حرب تشرين قد بدأت، وكنت حاضرا على ملحمة مشرفة من القتال الشرس، وشاهدت بعيناي الطائرات الإسرائيلية وهي تتساقط أمام منظومة الصواريخ الدفاعية المضادة للطيران، فشعرت بالكرامة تعود للروح وذاكرة خروجنا مطرودين من وطننا ومن رام الله في حرب حزيران في الذاكرة، وفي تلك الفترة فقدت رفيقين في غارة على حي أبو رمانة، أوصلاني بالسيارة إلى منطقة المعرض واتجها هناك، فحصلت الغارة الإسرائيلية وارتقت أرواحهما شهداء للعلا، بعد أن تسللت الطائرات المغيرة من فوق بردى على ارتفاع منخفض ونفذت فعلتها، وشاهدت غارة فاشلة أخرى على موقع بطريق السويداء وكنت مع أصدقاء بسيارة نمر من هناك، فقفزنا إلى جنبات الشارع على الأرض حتى نهاية الغارة، وفرت الطائرات المغيرة بعد أن واجهت مقاومة عنيفة فلم تتمكن من أهدافها، ونجونا جميعا رغم أني كنت اشعر مع القذائف المتساقطة بأني ارتفع للسماء وأرتطم بالأرض، وبقيت بدمشق في تلك الفترة ورفضت أن أعود لعمّان، حتى توقفت الحرب وقررت الذهاب إلى بغداد للدراسة الجامعية، حيث كان اللقاء بحاضرة مميزة من حواضر العرب، سيكون لها أحاديث في مرات قادمة.

صباح آخر لرام الله، صباح أجمل يا طيفي البعيد القريب، صباح أجمل يا حروفي الخمسة، التي لا يمكن أن تفارقني وستبقى منقوشة في ثنايا الروح وتلافيف الذاكرة، صباح أجمل مع أمطار الخير والجمال وجولة الصباح السريعة في دروب المدينة، أتأمل بها رام الله والياسمين المتعربش على الحيطان وأقطف كالعادة وردتين منها، لي ولطيفي، فأضعها أمامي في صومعتي بيت الياسمين لأبدأ نهارا جديدا وحلما بصباح أجمل مع شدو فيروز: " أحب دمشق هوايا الأرقا، أحب جوار بلادي، ثرى من صبا و وداد، رعته العيون جميلة و قامة كحيلة، دمشق بغُوطتك الوادعة حنين إلى الحب لا ينتهي، كأنك حلمي الذي أشتهي، هوى ملئ قصتك الدامعة، تمايل سكرى به دمشق كشمس الضحى الطالعة، هنا و البطولات لا تنضب، تطلع شعب حبيب العلى إلى المجد بالمشتهى، كلل دمشق و أنت الثرى الطيب، غضبت و ما أجمل، فكنت السلام إذا يغضب".

صباحكم أجمل.

الثلاثاء، أكتوبر 28، 2008

دلالة أسماء الأعلام في الأغاني

د. عدنان الظاهر
أولا ً : في الأغاني العراقية
ظاهرة وجود أسماء الأعلام في العديد من الأغاني العراقية ظاهرة قديمة معروفة ربما تعود أوائلها إلى ما قبل أربعينيات القرن الماضي . ففي هذه الأربعينيات شاعت أغاني المطرب الريفي السيد ( حضيري أبو عزيز ) شيوعاً كبيراً لأسباب كثيرة على رأسها عذوبة صوت هذا المغني ثم روحه المرحة ثم ولوجه أبوابَ متعددة وأغراض منوعة فيما كان يقدم من أغنيات . ففيها العاطفي والرومانسي وفيها السياسي الخفيف جداً . ثم إنه كان لصيق أجواء ومناخات وذوق أرياف جنوب العراق ولا من غرابة فالرجل من أهالي الناصرية ( ذي قار ) . أتذكر من أغاني السيد حضيري أبو عزيز التي راجت في أربعينيات القرن المنصرم واحدة ً جدَّ مؤثرة فيها رنة حزن يظهر قوياً حيناً ويخفت أحيانا ما زلتُ متأثرا ً بأجوائها رغم مرور أكثر من ستين عاما ً عليها تلحينا ً وغناءً . تلك هي أغنية
[ بوية سعد يا بوية / الونة طالت يا سعد يا بوية ] . أما أغنيته الأخرى التي سارت بين العراقيين سريان النار في الهشيم كما يقالُ فهي أغنية
[ عمي يابوالتموين دمضي العريضة ... ] فقد غناها في أوج أزمات تموين وإمداد الحصص التموينية مثل الطحين والسكر والأقمشة والشاي وربما الصابون خلال وبعد الحرب العالمية الثانية . كانت تحدث يومذاك مهازل ومآس ٍ بسبب سوء التوزيع والتلاعب بأقوات الناس وغش الأغذية المدعّمة من قبل الحكومات الملكية . ومن طرائف السيد أبو عزيز أنه كان خلال تقديم مقاطع أغنياته في ستوديو إذاعة بغداد مرة ً في الأسبوع ويسمعها الناس خلال أجهزة الراديو فقط تستغرق كل مرة فترةَ نصف ساعة كما جرت العادة في ذلك الزمان مع باقي المطربات والمطربين ... كان يطّعمُ أغنياته بطقات قوية من أصابعه [ يدك إصبع ] مترافقة ً أو متناوبة ً مع طقات أخرى قوية جداً يوقعها بلسانه فكانت هذه وتلك تضيفان جواً آخرَ من الطرب والمرح حدَّ الضحك . ولقد كان لسيد المقام العراقي الأستاذ محمد الكبنجي إسم علمه الخاص يردده في أغنية أو جزء من مقام حزين لعله من نوع قطر أو مخالف ذاك هو ( وحيْد ) حيث يقول كمن يبكي [ يا وحيْد يا بوية ] ... وحيْدْ مصغر وحيد . كانت هذه الأغنية أقدم من أغنية حضيري أبو عزيز . أما المطرب الريفي الفذ الآخر ذو الحنجرة المتفردة والمتسربلة بالشجن وأحزان ريف جنوب العراق فهو داخل حسن الذي بزَّ جميع معاصريه من مطربي الريف لا بصوته حسبُ ، بل وبشخصيته وأناقة ملبسه الريفي المعروف ثم مسبحة الكهرب التي لم تكنْ لتفارقَ كفيه أثناء أدائه وصلاته الغنائية في ستوديو تلفزيون بغداد أيام عبد الكريم قاسم . فلداخل حسن إسم العلم الخاص به كالماركة المسجلة ألا وهو ( حمزة ) في أغنية يقول فيها [ ألوجنْ الوجن يمة يا يا يمة / يلحمزة الوج عليكْ / من خزرة العين يمة يا يمة / جاهل وأخاف عليك ]. لستُ متأكداً من صاحب أو صاحبة أغنية هي الأخرى حزينة شجية تقول كلماتها [ بوية مِحمد يا مِحمدْ / تزعل ليش تتعودْ ] وأظن غناها المطرب المجدد السيد إلهام المدفعي بتوزيع موسيقي خاص حديث . أما الأغنية القديمة المعروفة التي إسم علمها الخاص هو ( غلّوبي ) فقد عُرفت فقط بصوت المطرب ناظم الغزالي حيث يقول [ ماريده ماريده الغلوبي / وعيونه سود سود محبوبي ] وغلوبي هو مصغر الإسم غالب ... غالب غلوبي حسب فلسفة أو فقه العربية الدارجة في العراق . أما المرحوم سعدي الحلي فقد كانت لديَّ له أغنية يتغزل فيه بحبيب لا بنجمة ولا ليلى ولا ميمي ولا هم يحزنون ... يخاطبُ فيها فتىً لفتاتهُ غزالية وعيونهُ فراتية يرمز فيها إلى فرات الحلة والمطرب سعدي من الحلة كما هو معروف .
ثانياً : في الأغاني العربية
قليل هو وجود أسماء الأعلام في الأغاني العربية على كثرتها لكني رصدتُ بعضا ً منها في بعض الأغاني . فالمطربة نجاح سلام غنت أغنية شاعت في زمانها تقول في مطلعها [ برهوم حاكيني / زعلان سليني / من فركتك يابه / مجروح داويني / برهوم يا برهوم ] . أما فريد الأطرش فقد ذكر ولمرتين وربما أكثر أسماء نساء كانت الأولى في أغنية قديمة جداً له يخاطب فتاة إسمها ( ميمي ) يقول في هذه الأغنية [ مين زييّ شاف الهنا / مين زييّ نال المنى / من يوم ما حبك فؤادي ... ثم يقول : ميمي ... ] . أما في الأغنية الأخرى فإنه يخاطب المرأة التي شاركته بطولة الفيلم بإسم
( زنوبة ) وهو كذلك تصغير للإسم ( زينب ) في الأغنية التي يقول فيها
[ زنوبة زنوبة حلوة وخفة ومحبوبة / ... ]
لا أدري إنْ كان خاطب محمد عبد الوهاب في بعض أغانيه أحداً من النساء أو الرجال بإستثناء ملك مصر السابق في أغنية ( الفن ) حيث ذكر إسم فاروق بالنص من باب المجاملة والتعظيم وليس من باب الغزل .
سحتُ في ذكرياتي مع أغاني بقية الأقطار العربية فلم أجد غير أغنية المطرب التونسي محمد حمودة يخاطب فيها شخصا ً إسمه ( حمودة ) يقول في أغنيته هذه [ جاري يا جاري يا جاري / يا قريب الدار / ... حمودّة يا حمودة يا حمودة ... ] و حمودّة مرة ً أخرى هو مصغر محمد أو أحمد .
هل ذكر المطربون اللبنانيون المعروفون أسماء أعلام ٍ في أغانيهم ؟ لم يذكر ذلك على حدِّ علمي أحد ٌ من كبار المطربين والمطربات كفيروز مثلاً خلا أنَّ وديع الصافي ذكر ( ليلى ) كعروسة مرشحة لإبنه يحببها له فهي تشاركهم حياة الريف والقرية البسيطة حيث الحياة مقتصرة على الزيتون والجبنة [ الله يرضى عليك يا إبني / ظهري إنكسر والهم ذوّبني / خوذ ليلى بنت ضيعتنا / بتعيش عزيتون والجبنة ... ] . نرى من هذه الأغنية أنَّ ليلى ليست حبيبة المغني ولا تمتُّ له بصلة قربى كما كان الحال مع المغنين العراقيين فمَن ذكروا في أغانيهم كانوا أولادهم أو أعزة عليهم بهذه الدرجة أو تلك أو حتى كانوا مغرمين بالبعض منهم . في الجزائر خاطب المطرب رابح درياسة حبيبته بالتكنية فأطلق عليها [ نجمة قطبية ] في أغنيته التي شَهُرت بهذا العنوان . لا أعرف شيئاً عن واقع الأغاني السودانية وهل يذكر مغنوهم أسماء أعلام ٍ في أغانيهم أو لا ؟ لعل المثال الكبير على غياب ذكر أسماء الأعلام في أغاني مشاهير المطربات والمطربين نجده في مثال أم كلثوم ... لا أظنُّ أنها ذكرت إسمَ رجلٍ في أغانيها قاطبة ً إنما تغزلت أو توددت لرجل لا إسمَ له في أغنية واحدة من أحد أفلامها بقولها له [ غني لي شوي شوي / غني لي وخذ عينيْ ] . ثم عبرت في واحدة من أقدم أغانيها عن تهاويم عشق ٍ عميق ٍ حقيقيٍّ لإمرأة مثلها معروف بين بعض النساء حيث قالت [ ليهْ تلوعني وإنتِ نور عيني / إيهْ جرى / إيهْ جرى بينك في الهوى وبيني ليه تلوعيني ] . لم أسمعْ إمرأة ً نجحت في التعبير عن عميق وحقيقة أحاسيسها الصادقة في حبها العارم لإمرأة أخرى كما فعلت أم كلثوم في هذه الأغنية . ماذا عن فائزة أحمد ؟ لها أغنية معروفة خاطبت فيها ولكن ... أمها هي أغنية [ ست الحبايب يا حبيبة / يا أغلى من روحي ودمّي ... ] . أخذ مطرب أردني أغنية عراقية بطولها وعرضها أظنها لصاحب شرّاد دون أن يذكر مصدر هذه الأغنية التي لطشها نهارا ً جهارا ً ولم يذكر إسم ملحنها العراقي ومغنيها هي أغنية [ عيني وماي عيني / يا عنيدْ يا يابة ْ / تسوة هلي وكل الكرابة / يا عنيد يا يابة ] وعنيْد هنا هو مصغر عنيد .
ماذا بعدُ ؟ ولِمَ إمتاز المغنون العراقيون بهذه الظاهرة ، ظاهرة ذكر أسماء أعلام ٍ تحمل دلالات عميقة منوَّعة فيها حب وعشق أو عطف وذكريات لأصحاب هذه الأسماء كما رأينا في القسم الأول . ف ( سعد و حمد وعبد ووحيد وغلوبي وحمزة ) كانوا إما أولاد المغنين أو ممن وقعوا في غرامهم أو لمجرد ملأ فراغ ٍ حسي ٍّ أو لحني أو لضرورة خاصة بمؤدي الأغنية .
ليتني أقرأ إضافات لهذه الخاطرة القصيرة يتفضلُّ بها السادة القرّاء تتمة ً للموضوع وإثراءً له من كافة جوانبه فما من شك ٍّ عندي أني لم ألممْ به الإلمام َ المطلوب مهما كانت قوة ذاكرتي . ثم َّ إنَّ تتبعي لعالم الأغاني والطرب على صعيد العالم العربي محدود فهو كونٌ وأنا مجرد ذرة صغيرة فيه .

إغسلني بضوء القمر

الهام ناصر

الى عينينِ
أراهما وحدي
واغازلهما وحدي
واُرسلُ لهما
وجدي

الى تلك الملامح التي سكنت تفاصيلها
فِكري
الى ذاك الثغر المبتسم بكبرياء
الى غرورٍ يُعجبني
وأضعفُ بقناعةٍ ورِضى
أمامه
*
اليك وحدك
حُمى الاشتياق

اليكَ
صباحي بنكهة الشمس
ومسائي بملمس الحرير

اليكَ
ثورة الحب
وحنينٍ بطعمِ الغياب

اليكَ
أُُشعل ثوبي وصوتي
قربانا للملذات

اليكَ
أسفِكُ دماءَ الوجنتين
وأتعرى من وقارِ الفاضلات

اليكَ
أخلعُ صمتَ الغابات
وارتدي أمطارَ
الشتاء

اليكَ
كل ايقاعاتِ الجسد
حين تعزف
الأنّات

اليكَ
انفجار الشّفاه
بثقافاتِ
الدلالِ
والقُبلِ
وأحمر الشفاه

إغسلني بضوء القمر
بلونِ الشجر
بصرخة الغيمِ عند المطر
إغسِِلني بنجمة مضطربة
بضربة برقِ منتحرة
بسماءِ قابله للإنفجار
إغسلني بموعِدٍ
هو قضاء وقدر

وجودك في حياتي
قضاءُ قَدْ قُدِر
ووجودي في حياتُك
ثمرٌ نضِج
حان القِطاف

إغسِلني
بيديك اللولبية
بعينيكَ المائية
بعِطرِك الفرنسي
الهاربُ من ثغرِ باريسَ الأنثوية

إغسِلني
بصوتِ ثقافي
او بصمتِ جاهِلٍ أُمّيْ

لا أُميّزُ حينها الأصوات
ولن اسألُك من هو صانعَ الزُّجاج!!

الاثنين، أكتوبر 27، 2008

عازفة الالحان


عيسى القنصل

يا صديقى لا تسلنــــــــــــــــــى

كيف يكسو الدمع خـــــــــــــدى

كيف تاتينى القوافـــــــــــــــــــــى

باكيات ٍ مثل مــــــــــــــــــــــــــــدِّ

كيف ابكى با نفعــــــــــــــــــــــــال ٍ

كل يوم ٍ فوق لحــــــــــــــــــــــــدى

ولماذا ؟؟ ولمـــــــــــــــــــــــــــاذا؟

صار خطوى دون قصـــــــــــــــــد ِ

صارت الاحلام ُ وهمــــــــــــــــــــا

والامانى فى تــــــــــــــــــــــــــردى

لم يعد للعمر معنــــــــــــــــــــــــــى

لا ارى عطرا لـــــــــــــــــــــــــورد ِ

دمعتى ظل ُ لحزنــــــــــــــــــــــــــى

وانهياراتى لوحـــــــــــــــــــــــــدى

اننى كالظل اجــــــــــــــــــــــــــرى

خلف دمعّى قرب لحــــــــــــــــــــدى

والثوانى ِ كخلايــــــــــــــــــــــــــا

تتنامى دون حــــــــــــــــــــــــــــد ِ

كلها احبال صـــــــــــــــــــــــارت

تشتهى موتى بكمـــــــــــــــــــــــــــد

ان هذا الوقت َ نــــــــــــــــــــــــــاب ُ

صار مغروسا بجلـــــــــــــــــــــــــدى

ودمائى نازفــــــــــــــــــــــــــــــات ُ

وانينى مثل رعـــــــــــــــــــــــــــــد

يا صديقى ان موتـــــــــــــــــــــــــــى

صار قربى صار عنّــــــــــــــــــدى

لا تسلنى اى شـــــــــــــــــــــــــــــــىء

لست ُ ادرى لســـــــــــــــــــت ُ ادرى

حكمة ُ الاقدار الغــــــــــــــــــــــــت

من حياتى عطــــــــــــــــــــــرُ وردى

فاعطنى منك الذراعــــــــــــــــــــــا

حين امضى نحو لحـــــــــــــــــــــــدى

أناديكم...أشدُ على ما تبقى من ماضيكم

مريم الراوي

اليهم وهم سر حزني وشقائي...
وتبقى نبضات "أناديكم" برائحة نايها الثائر خيول تعدوالى وجهة الخلود الأبدي " فلسطين".
فلسطين، تلك الجميلة المترفعة عن الكراسي والبنادق الملوثة ببارود الصراع الأحمق....
فلسطين، تلك الحكايات الإسطورة عن شعب خلق ليناضل، وأستشهد كي يعود مع صلاة الفجر، حجر، مقلاع، كوفية، اياد سمراء، وعيون مقدسية..
تبقى تلك الإنشودة، تأريخ، وذكرى، ودموع، لما أحب..
تبقى"اناديكم" تجر كلما حضرت طفولتي ودهشتي الأولى، عن فتى غاب في ضباب الدخان والبارود، وعاد مع صراخ الرياح، زيتونة تحتضن الأرض، وكفناً يصافح أكف المشيعين، والمصلين..
وماتبقى اليوم سواها والشهداء، وبعض من ذكريات ملحمة البقاء..
والآن...إختصرنا الوطن، وكامل التراب المقدس بــ"غزة".
غزة التي أضحت شحاذاً دولياً، يسأل الغرباء وقفة للتأريخ، لان شقيق الدم اغلق بوابات الغد بوجه المتعبين من ابناء بيادر الليمون والزيتون؟!
غزة التي كانت تتصدر جبهات المواجهة، وتحمل رايات النصر، سقط من عنفوان أيامها زهو الماضي وإرتخت جدائل صمودها يوما بعد آخر، وتبين لنا إن غزة تشبهنا كثيراً، كثيراً، كثيراً...
لاشائبة الآن في عروبة فلسطين..مازال الدم يبحث عن الدم في عقر الدار، ومازال القلب معلق بالكراسي الخاوية، إذاً مصيرنا الهاوية!!..
ومنذ ذلك اليوم، منذ أن أصبح لفلسطين مئة لسان ينطق، والف عيون تشهد زور،كل شئ بات كاذب!! احلامنا كاذبة، ومبادئنا بنود بالية، رخيصة.. وايامنا محض ترهات متسلسلة.. وتبقى وحدها الشعارات تقتلع من ارواحنا ماتبقى من النبضات، فيخفق الوجد بتمتمات الغريب!! ونكون هم، هم، لانحن.. ويضيع البقية الباقية، مابين مفتاح، وامل، وانتظار ممل..
فكيف نكون، وكيف ننتصر؟!
ومتى نكون، لننتصر؟!
ولكن، لازالت غزة تقترف في ريعان جرحها، جرمها الأزلي "الصمـــود"..
ومن يدري عل غزة، في يوم ما، ذات وجع، ساعة ألم، تلد الصرخة المنتظرة، من رحم الأرض التي إختنقت بدماء الإخوة الأغراب!!
وهل انتهى النداء؟؟

الثقافة ومنظومة الكهوف

سامي العامري
---------

حديث مع رَبّة الشفاء
---------

نهدان
******

نبضُكِ ,
نبضُكِ لا يحتاجُ الى قيثارٍ كي يعزفني
أما جسدانا فَهُما ما عادا جسدينْ
باتا بَرَّاً مسحوراً
ويزقزق عصفوران على تَلَّينْ
من خمرٍ ولُجَينْ !
---------
أغلب الأحيان عندما أقرأ شعراً موزوناً يعجبني لا أستطيع إلاّ أن أردده بصوتٍ مسموع وأتمايل مع لحنه والفاظه ومعانيه وكذلك أفعل مع قصائدي الجديدة من أجل أن أرسِّخَها في الذاكرة ولهذا خرجتُ الى الممر قبل الفطور بساعة ...
إقتربت الممرضة مني بوجهها المتهلل دوماً ,
سألتني عن أفضل الأوقات عندي لملاقاة الطبيب اليوم ام غداً .
أجبتُ شاكراً : لا أدري , ولكن اذا كان لا بد فالأحسن غداً لأنني ربما حضِّرتُ عدداً من الأسئلة .
قالت : حسناً , وهناك نزيلٌ جديد نوعاً ما سأل عنك ويريد لقاءك وفهمتُ أنه عربي وأظنه سيجيء اليك بعد قليل او انت إذهبْ اليه فهو قريب منك .
آه عربي !
فأخدتُ أسير وأتلو ما كتبتهُ للتو مرة أخرى
ثم :
آه , شعر عربي فصيح !
رأيتُك قبل يومين وانت تتحدث مع رجل الماني وكنتُ مسرعاً ولكني سمعتك تقول له بأنك عراقي أي عربي والآن تيقنتُ من ذلك !
قال لي ذلك ونحن ندنو من بعض . إنه رجل عربي على مشارف الخمسين مثلي
وأضاف : ولكن بالمناسبة , لمن هذه القصيدة ؟
أجبتُ : لي .
فعلق بابتسامة حزينة : حسناً ولكن ألا تخشى اتهام البعض لك بالإباحية وغيرها ؟!
قلتُ بتهكم : لِمَ أخشى وفي سطور قصيدتي وصفٌ أقرب الى البراءة ؟ ومرة أخرى , لِمَ أخشى وهم يغتالون أبناء وطنهم لا لشيء وإنما لأنهم من دين آخر او قومية أخرى ؟ بل إنهم يغتالون حتى مَن يؤمن بدينهم , نعم يغتالونه لأنه ليس من طائفتهم !
لِمَ أخشى وهم يجهلون أعظم فقهٍ , ألا وهو فقهُ الحياة ؟
فقال : أعرفُ ولكني قلتُ هذا للمباسطة فأمرنا نحن العرب أعجب من العجب وما بلدك إلاّ كحال بلدي ولم أستغرب تدمير بلدك اقتصاداً وثقافة وإنساناً .
خسارةٌ , نعم , كبيرةٌ خسارتُنا حين لا نحول الدين الى قصيدة ؟
قلتُ : أنظرْ ,
البارحة قبل النوم فكرتُ بما كتبتُ في الماضي عن نفس هذه المنطقة المعتمة من حياتنا , كم نحن منفيون في إرث ثقيل من الغلاظات ولهذا كتبتُ هذه السطور القليلة البسيطة من الشعر , أعرف أنَّ لجسدنا عقلاً وله طموحات وتطلعات وتدفعني كآبة الجسد للتأمل مثلما تدفعني مباهجُهُ .
فعقَّبَ بصوت خفيض : المسألة عزيزي هي أساساً قبضة الصحراء القاسية التي ما تزال تنهال على هاماتنا وأرضِنا وحاضرنا , هناك بداوة يسترشد بها أغلب تفكيرنا وسلوكياتنا كالبوصلة شعورياً ولا شعورياً , وحتى الفقيه الذي يستمريء الحديث عن الفروض والعبادات والسلوك وهو يوجِّه بخُطَبهِ حركةَ الملايين من بسطاء الناس لا يعي ما معنى اللاشعور مثلاً ودوره المحوري في حياة الإنسان ودوافعه وسلوكه , وتُفزعُهُ مفرداتٌ مثل العقل الباطن , الذهان , الفوبيا , الإنفصام والرهاب الخ ...
قلتُ له : شكراً , الثقافة العالمية ملك للجميع , ولكن حول الجسد فهذا الشاعر الفيلسوف الذي لا يتكرر نيتشه والذي لم يكن مادياً كان يعتبر الروح إفرازاً واحداً من إفرازات الجسد .
إنه تطوير كبير لمفهوم الجسد باعتباره توتراتٍ وتردداتٍ وتحوُّلاً وليس وظائف او كتلةً رخوة لذائذية كما فهمها أولو أمرنا ! وهو أنسنة الروح باعتبارها جوهرة متحولةً أيضاً وهي فينا منا معنا .
زادَ صاحبي قائلاً : والجسد بالمعيار الأرضي , عند بدء الحياة , سبقَ الوعي , وما دام كذلك فهو أكثر أصالةً .
انت تشاهد التخبط الحاصل فهم ينادون الناس بأخذ ما أباحهُ الشرع من منتجات الغرب وأمريكا والعالم الجديد وعدم الإفادة من البيئة او الثقافة التي أتت بهذه المنتجات ,
لأنها ثقافة ( لا إيمانية ) !
قلتُ : أعرف , إنها ( حملاتُ ) تغزُّلٍ بمآثر الأجداد واستدرار تعاطف الناس بأحاديث منمقة عن الماضي التليد والفروسية ! او التأسف على ما يسمونه فقدانَ بساطةِ العيش ناسين الفقرَ والأمية والعزلة وهم يناغون الريف وأحاديث السمر والدِّلال !

وطن
******
مَوتي وموتُكَ واحدٌ فتعالا
نُحْيي بمِيتَتِنا الأُلى والآلا
هُمْ فوقَ أرضكَ مَيِّتون وليتَهمْ
كَثراكَ نبضاً او دُجايَ هِلالا !
---------

قال صاحبي باشّاً: فكرتُ بهذا الموضوع من قبل وكنت أقول لنفسي : يبقى الحنين للأمس شاعرياً وجميلاً ومفهوماً اذا تجسَّد أغنيةً , وأما عن المثقف فكنتُ مؤمناً بأن المثقف لا يمكن أن يعيش إلا خارجاً على الريف خارجاً على المدينة ! فهو مهموم بحلم عن إنسانية رائعة تحملُ معها وهي تتقدم الدافيءَ من الماضي والبديعَ من الحاضر ... وعودةً الى كلامك أسأل وانا أشعر الآن بنوع من الشك فاذا كان الفقيه ميؤوساً منه الى هذا الحد فهل بالإمكان التعويل على سياسيينا !؟
او بتعبير آخر : انت طرحت مثالاً واحداً من مئات الأمثلة التي تبدو أسئلة ملحة ولكن اذا كان الداعية او رجل الدين عاجزاً الى هذا الحد فهل يمكن للسياسي أن يبرر عدم امتلاكه لثقافة متكاملة ؟ وكيف يمكن للفنان عندنا او للمثقف عموماً أن يغامر فيَثِقَ بالسياسيين بمنحه لهم مقاليدَ بلده وتعويلهِ عليهم وهم لا تزال قوافلُ الجِمال تقطع كثبانَ أجسادهم وأرواحهم وعقولهم رغم ما يظهره بعضهم من أناقة ملبسٍ بائسة !؟
قلتُ له : شكراً , سأحاول أن أجيب , الشرط المهم جداً هو التجربة الروحية الفكرية الحياتية المتنوعة والمتواصلة , والساسة عندنا يفكرون أساساً بالمنصب والمال لذلك تنتهي تجاربهم لحظة حصولهم على المنصب والمال !
واذا اهتموا بما يدور حولهم من أحداث عالمية فيكتفون فقط بدور الشُّراح لهذه الأحداث أيْ خبراء فقط في التحليل !
لاحظْ , اذا استثنينا السياسات الداخلية للبلدان الأخرى فانت تعرفُ دون شك أن السياسة العالمية , أيْ علاقة البلدان مع بعضها وفقَ المنظور المُشاهَد هي حسابات واستراتيجيات وأرقام وحِيَلٌ وخطوط عودةٍ الخ ... او لنقلْ المصالح أولاً ثم المباديء ولهذا فالتخطيط لا يتم إلاّ من خلال موازين علمية وفرضيات مسبقة هي في النهاية استشراف للغد القريب على الأقل , اليس كذلك ؟
عزيزي , انا أستطيع مثلاً أن أعطي أسماء عشرات البلدان التي هي أقل شأناً من العراق جغرافياً واقتصادياً وحضارياً واستراتيجياً والتي تتمنى أمريكا احتلالها ولكنها لا تستطيع , لماذا لا تستطيع ؟
نحن الذين نعطي أمريكا وغيرَها مبرراتِ احتلال بلدنا واذا كان ضرورياً أن ننادي بخروج المحتل فالأكثر ضرورة منه هو بحثُنا عميقاً في أسباب الإحتلال وكيفية إزالتها ومنع تكرارها وعدا هذا فاذا خرج الأمريكان اليوم لظرف سياسي دولي طاريء مثلاً فإنهم لا يلبثون أن يعودوا بعد فترة لأن مغريات الإحتلال لا تزال قائمة .
علَّق صاحبي بالقول : الوعي الحريص الواقعي العملي لا يستطيع إلاّ أن يتجاوب مع التوجه العالمي الجديد بكل تفاعلاته نافعِها وضارِّها فهي خلاصةُ ما وصل له الجهد البشري بأسئلتهِ , بضعفه وقوته وكفاحهِ الطويل عِبرَ آلاف السنين .
قلت : أكيد , السؤال المهم : هل يمكن أن تتوقف حيث انت ؟ لا يمكن أن يفكر بإيقاف حركة الزمن إلاّ المغفلون , وكم فتحنا أبواب الزعامة عندنا لمغفلين من شتى الأصناف دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً !
فها هو المثقف الحقيقي , سَلْهُ ماذا يفعل اليوم ؟ إنه يتسلّى برؤية مئات العبقريات المفاجئة وهي تُلقي به جانباً وتتسلم الراية ببشائر وفتوحات في اللغة والخيال الفذ الدافق والتي تنتظر فقط مَن يغترف !
علَّق صاحبي العربي وهو يربِّت على كتفي : أوافقك على تقييمك لهذا الخيال وتَميُّزهِ وفرادته ! ولكن لو حكيتَ لي أكثر عن سبب وجودك ومنذ متى انت هنا وكيف هي حالتك الآن ؟
أجبته بودٍّ واقتضاب عن سؤاله وأضفتُ قائلاً :
الأسباب هذه تكفي , وعليه عزيزي فانا لا أرتاب من فطنتك فانت كما أخبرتني تشتغل في حقل الترجمة الأدبية أيْ تنتمي الى الفئة الواعية , ولكن انت لم توضح لي أكثر لماذا انت هنا ؟
قال بعد تأملٍ : انا هنا بسبب أزمة مالية عائلية ونوعاً ما إجتماعية تطورت ولكن مع ذلك فالزيف لاحقنا الى هنا فقد حاربني الكثير من البدو وما ذلك إلاّ لأنهم أحسوا بتمكني من لغة هذه البلاد وشغفي بالأدب فخافوا على عروشهم التي صنعتْها أوهامُهم مع أني كنت أتمنى الحوار الصحي والتواصل العميق بينما هم يعتبرون الثقافة سباقاً , سباقَ جِمالٍ !!
قلتُ له بنبرة حزنٍ : معذرةً , هناك جريمة فظيعة ضد الثقافة , ضد الذوق , ضد المنطق , ضد السياسة , ضد الإيمان الحق ...
انا أحبُّ كثيراً , مِن بين كل البَشَر , أولئك المجرمين المحترفين الذين يصلون الى مستوى من الشجاعة والصدق والإعتراف بالذنب بحيث يجتمعون ثم يشرعون بالتقيُّؤ على أنفسهم , هكذا يتمُّ التطهُّر وليس طلب الصفح والغفران من قِوىً عُليا !
إبتسمَ ثم اعتذرَ بسبب مجيء موعد الفطور وتناول الأدوية .
بعدما صافحني ومضى تذكرتُ الأدوية : لماذا انا من دون هؤلاء لا أحتاج اليها ؟
عاودني إحساسٌ بالضيق من نفسي ذلك أني ربما أستغل لطف الأطباء لأمكث فترة أطول , فأعود وأقول : لا , فها انا حائرٌ موزَّعٌ , تنتابني حالات من الخوف والغيبوبة رغم ما يصاحبهما من أطيافٍ فاتنة تنتهي بلا ملامح في أحيانٍ عديدة .
خطوتُ عدة أمتار نحو غرفة الإستراحة والزيارات وفي يدي فنجان القهوة الحارة , أشعلت سيجارة عند الباب ثم دخلتُ مُلقياً بالتحية على عدد من النزلاء وتناولتُ رشفة من القهوة وسحبت نفساً عميقاً من الدخان العذب فأصابت جسدي يقظة وروحي نشوة نادرة فاحتميتُ بالنافذة ! قرأت لِما يشرئبُّ أمامي من أشجار السدر والسنديان :
عازف
*****
صرتُ أدري بالذي سُمِّيَ في الفكرِ
( هنا والآنْ )
عازفٌ يستقطبُ الغاباتِ حَولي
وجماهيرُ أطَلَّتْ فَجأةً أَرْؤُسُها
من بين قُضبانِ الكمانْ !
---------
غنَّيتُ هذه السطور عدة مرات , ذُهلتُ من قدرتي على نسيان العالم والتركيز على أثرٍ واحد كهذا الضياء الصباحي من حيث الجذل والسطوع : أتذكرُها , قالت لي بعد انفصال وجيز : عانقْني , أنتظرُ بلهفةٍ ذراعيك ,
عواطفنا مَهما تسامت فلا يمكن أن تكون إلاّ قبساً من أنوارٍ تنحني لجسدينا .
قلتُ لها : نعم , خُذيني بكلِّ ما أحمل من بسالةِ شوق !
والآن تتراجع الشمس قليلاً قليلاً , مُتأبطةً ذراعَيْ غيمتين فتحلُّ محلها شُعلةٌ أخرى تدور كالدوامة في كفِّ الفضاء , تتفايض رعوداً حانية , يهطل عطاؤها , فيتلوّن جسدي وتتلون فروع الأشجار كالأمزجة .
قالت الربة بنبرة شيِّقة وهي تتراءى فوق سفح النهار كأيقونة واسعة من ألوان وأصداء : هذا انت فَرِحٌ , والضلوع تتفتح كالأغصان النضرة متى تحط عليها أعشاشٌ تُقبلُ من وراء البحار , أعشاشٌ يبنيها رفيف .
قلتُ مع لمسة اعتذار خمَّنتُ أنها تليق بالمقام : تعبيراتي قبل هنيهاتٍ كانت محبَطةً او قولي غاضبة !
قالت : لا عليك , فقد رأيتُ شراراً منها , رأيتهُ يفتش عن مدارٍ فدنوتُ منك , إصغِ لي ,
إحرصْ على أن تكون دائماً كالبحر فهو تارةً يبدو هادئاً وتارة منفعلاً ولكنه في الحالتين يبقى واسعاً وعميقاً .
قلتُ : أيتها الربة الأثيلة , شكراً لك ولكن قد تدفع بعضُ التفاصيل المغثية بالمرء لأن يلتفت اليها وما هذا إلاّ لأنها تريد أن تتصدر وتطغى فيحاول ترميم بعض السدود على أملِ لجم هذا الطغيان , وزميلي العربي الذي كان معي قبل قليل نكأَ عندي جرحاً قديماً بعض الشيء فليتني أجد بعد أن قلبَّتَهُ , ما يوقف نزيفه أكثر وأكثر.
قالت بحماس : أولاً سأزيدك من الفرح حفنة أخرى وفهماً أجمل له وبعدها سترى نزيفك هذا صديقاً يرافقك ليحميك .
الفرحُ الحقيقي هو حبيبٌ اذا رأيته وسمعتُه رأيت وسمعتَ طفولتك لأنه موطيء حنينك للتجدد . حنينك لسبر كينونتنا بكل حواسك ,
الفرح بالحبيب يعدِّدك , ينثر جُزيئاتك بخاراً نجمياً , يتركك نغماً تشربُ شهرتُه ريقَ الآفاق , وكالرَّطَب ينقر شفاه الأزمنة .
أَدُلُّك على قوس قزحٍ سيلتفُّ شرائط من قُبَلٍ وأقمارٍ حول خَصْر الليل
تشابكْ معه , إنفصلْ عنه ,
قلْ انا أجراسٌ مُنصِتة
انا إنصاتٌ يُتلى
انا مطرٌ فهل مِن مسافر لا يسمع سنابك غيومي أينما حلَّ ؟
بل قلْ انا صرخة جَمالٍ
يُضيءُ مسافاتها الغرابُ والخفاش ويتبناها الخنزير والبوم ,
وانا كمانٌ تعشبُ به المداخل .
كلُّ وصيٍّ على الدين محتالٌ ساذج ولكنه يتذاكى لذا فلا بد أن تعرف أنهم أول مَن سيندحر .
قلتُ : نعم ولكن حادي العيس التكنولوجي ! هذا يمتلك عدة أوجه كما تعلمين او لهذا السيف ثلاثة حدود ,
فأما الحد الثاني فهو السياسي , فالسياسي او رجل الدولة , مفتوحةٌ أمامه كل السبل ولكنه يفضل السبل الملتوية لأنها في عرفه , وهو مسؤول من العالم الثالث , أسرعُ وأنجع !
وأما الحد الثالث فهو زعانف الثقافة الذين وصلوا الى مرحلة ما بعد الحداثة بينما وطنهم ما زال يتبع منظومة الكهوف !
وكم هو ملفتٌ سُلَّم تدرُّجهم وسط مناخ يسمح بالتغافل عن الفرق بين أن تكون مثقفاً مبدعاً بالفعل وبين رغبتك بذلك ولذا فاليوم جميعنا مثقفون , جميعنا مبدعون !
قالت الربة بابتسامتها الحنون : أفهمُ ما تعني , الأمر صحيح ولكنه ليس كل شيء ,
دَعك من سياسييكم فهم كمتشدقي دينكم كلما سما المبدعون الحقيقيون درجةً كلما انحدروا هم درجات .
غير أن الإبداع حالة خاصة جداً وهو ينهض أول ما ينهض من الموهبة والجنون الأصيل وأما الرغبة بالتعبير , فانظرْ : كانت السُلُحفاة تنظر الى الطيور وهي تهدهد الفضاء بأجنحتها وتلعب في هوائه برشاقةٍ فتغبطها ولا أقول ( تحسدها ) فالحسد بضاعة بشرية باتت تجد لها رواجاً عالياً لدى أهل الشرق المُعدَم ,
وبناءاً على ذلك اجتمعت السلاحف يوماً فقررت تعلم الطيران فقال كبيرهنَّ : علينا أوَّلاً تعلم السباحة كخطوة أُولى فلغة الفضاء ما زالت بعيدة المنال , وبالفعل بعد الصبر والمثابرة كان لها ما أرادت , تعلمت السباحة حتى صارت جزءاً من فطراتها فما أن تفقس بيوضُها على الساحل وتخرح السلاحف الصغيرة حتى توجهها راداراتُها صوب الماء , وهي تقدِّم الكثير من القرابين في طريقها ولكنه الإخلاص !
قلتُ للربة : أتريدين القول بأني سأستفيق ذات صبيحة فأرى أسراباً من السلاحف مُحلِّقةً فوقي ؟!
قالت بلطف : أعني أن الطريق طويل ولا بد من قرابين في كل محطة !

----------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
(**) النص هنا كُتِبَ قبل شهرين وأُكمِلَ قبل أيام وقد رأيت نشره نظراً لحاجة سياق حلقات الكتاب له .




كولونيا - 2008
alamiri84@yahoo.de

قوانين الحياة‏

علي جبر
إذا كانت الحياه لعبه فهذه هي قوانينها ..₪..
تسعة قوانين من أجل إنسان أفضل.
₪ القانون الأول ₪
قبول الذات
قد تعشق هذا الجسد أو تمقته,
لكنه لن يكون لك سواه في هذه الحياة .
₪ القانون الثاني ₪
ستظل تتعلم طوال حياتك
منذ لحظة ميلا دك تلتحق بمدرسة لا تغلق أبوابها تدعى "الحياة"
تتعلم فيها كل يوم دروس جديدة قد تعشقها أو تمقتها لكن لا غنى لك عنها
في مشوار حياتك.
القانون الثالث ₪
لا تفضي التجارب إلى أخطاء بل إلى دروس مستفادة
ليس النمو إلا عملية تجريب وسلسلة من المحاولات والأخطاء والنجاحات
الوقتية، ولا تقل الإخفاقات أهمية عن النجاح
كلاهما جزء من عملية النمو.
₪ القانون الرابع ₪
تكرار الدرس هو السبيل لتعلمه
سوف تعاد لك الدروس في أشكال متنوعة إلى أن تتمكن من تعلمها،
وعندما يمكنك ذلك فعليك الانتقال بعدها إلى الدرس التالي.
₪ القانون الخامس ₪
لا حدود للمعرفة
لا توجد مرحلة في حياتك بلا دروس, فهناك دروس تتعلمها، مادمت حيا.

₪ القانون السادس ₪
ما ترنو إليه أفضل مما حققته الآن
كلما حققت هدفا كنت تنشده سعيت نحو ما هو أفضل منه.

₪ القانون السابع ₪
الآخرون مرايا لك
ليس بإمكانك أن تحب أو تكره شيئا يتعلق بشخص آخر
إذا لم يعكس هذا الشيء ما تحبه أو تكرهه في شخصيتك.

القانون الثامن ₪
أنت حر في صنع حياتك الخاصة
لديك كل ما تحتاجه من أدوات وموارد؛ واستثمارها مآله إليك.

القانون التاسع ₪
ما تحتاجه من إجابات يكمن بداخلك
كل ما عليك فعله هو أن تنظر بداخلك وتنصت بدقة وتثق بنفسك
حتى تتمتع وتنجح فى حياتك

مع اطيب امنايتى لكم بالنجاح
gabr189@yahoo.com

الأحد، أكتوبر 26، 2008

مجرد خاطرة



سعد حمزة


لم يكن في خلدي أن أكتب هذا المقال وإنما الكيل قد طفح والصبر قد نفذ، ولم أقل انها مجرد صدفة بل صعقة كبيرة جعلتني أعيد ترتيب الأوراق من جديد وأرمم قليلا ما خربه واقع الحال، لأن الذي حدث لم يكن بالحسبان بل خارج حسابات المتوقع، هي صدمة كبيرة كان لها وقعا كبيرا على نفسي، بل انها خلقت نوعا من الاحباط باديء الأمر خصوصا لحظة وصولي الأراضي الاسترالية في نيسان عام 2005، وأنا ما زلت محملا بالطموحات والمشاريع الثقافية، والتي حملتها معي وحافظت عليها من الموت داخل الوطن وخرجت بها الى عمّان وحققت القليل منها وأنا في عمان وعاهدت أن أكمل البقية حيث أصل أستراليا الوطن الثاني، وهي ذات الطموحات التي حملها زملائي الذين غادروا العراق قسرا وحققوا الكثير منها في عمّان وقدموا في العاصمة الأردنية المزيد من الفعاليات الثقافية والفنية، وكتب عنها في العديد من الصحف الأردنية والعربية حتى باتت الثقافة البديلة في هذا البلد الفتي رغم أن مساحة التحرك هناك كانت ضمن ضوابط تقيّد حركة المثقف العراقي، وعدم منحه الحرية الكافية لادلاء ما في دلوه حاله حال باقي المثقفين في دول الجوار مثل دمشق وبيروت، رغم أن تجمعنا الثقافي في عمّان عاهد نفسه أن يواصل مسيرته الابداعية حتى بعد رحيل أغلب عناصره المبدعة الى دول اوروبا وأمريكا وأستراليا، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، باستثناء الكتاب والأدباء والفنانين الذين وصلوا اوروبا وليس جميعهم على وجه التحديد، هناك من حاول أن يؤسس تجمعا يليق بالثقافة العراقية البديلة لثقافة النظام الديكتاتوري المقبور وأنشطة ثقافية وفنية عززت سمعة العراق الثقافية التي ظلت على مدى ثلاثة عقود مغيبة بفعل سيطرة وسطوة المؤسسات الاعلامية للنظام السابق، أما في أمريكا بغض النظر عن الكتاب والأدباء الذين غادروا العراق في بداية السبعينيات وبداية الثمانينيات لم يكن هناك أي تجمع يذكر سوى من ولادات بائسة لا تستطيع أن تنفخ النار في الرماد، ان لم أقل أن أكثر عناصرها حالها حال عناصرها المتواجدين في استراليا، غادرت ابداعاتها وانخرطت في عالم المال والمهن والسعي وراء بناء بنى اقتصادية تعيد لها ما فقدته من عناصر الحياة الحقيقية.
وأعود لأتحدث عن الثقافة والمثقف وواقع حالهما كلما رأيته وسمعته وهو مأساوي للأسف الشديد، لأن المثقفين العراقيين كان لهم الحظ الأوفر للوصول الى استراليا خصوصا بعد عام 2000 ووصلت منهم مجاميع لا باس بها وبامكانها أن تشكل أكبر تجمعا ثقافيا له حضوره لأن هذه المجاميع تملك من التجربة السياسية والثقافية لا يحسد عليها، وبعد التحري عن كل هذه المجاميع من خلال زياراتي لبعض الولايات، ومن خلال اتصالاتي عبر الهاتف أو وسائل الاتصال الأخرى تبيّن لي وللأسف الشديد أن أغلب هؤلاء الزملاء غادروا مقاعد الابداع لينصرفوا وراء البحث عن المال ومزاولة التجارة وممارسة مهن لا تمت بالصلة لا بالقريب ولا بالبعيد عن ما كان يجوش داخلهم من طموحات يحققونها ويكملون بها مسيرتهم الابداعية التي عاهدوا أنفسهم على اكمالها حتى الرمق الأخير.
إن محاولات متواضعة هنا وهناك في القارة الاسترالية لا تفي بالغرض المطلوب، فحضور المثقف العراقي والعربي ضئيل جدا وحتى شكل هذا النشاط يخلو من العمق الثقافي والفكري الذي يعيد الى الأذهان ما تركه المثقف والأديب العربي مطلع القرن العشرين في اوروبا وأمريكا وفي كل بلاد المهجر والذي أسس أدبا له هويته وترجم الى عدة لغات وما يزال وحتى اليوم يدرس في مناهج الدول الغربية والوطن العربي، ونشرت مئات الأطروحات والرسائل الجامعية بصدده.
هنالك عوامل عديدة كانت السبب وراء غياب ونشر الثقافة العربية في أستراليا، وواحد من أهم أسبابها هو الصراع من أجل الهوية ، لأنه وللأسف الشديد للآن المثقف العربي أو حتى المواطن البسيط يعيش صراع الهوية، فهو لا يستطيع أن ينسلخ عن هويته القديمة ولا يستطيع أن يتكيف مع الهوية الجديدة، ولأنه ما زال وما يزال للآن يعاني هذا الأمر فهو بالتأكيد ظل أسير الأمرين. وثانيا هناك تجمعات ثقافية أقليمية تأخذ على عاتقها ابراز فقط ثقافة البلد الواحد بعيدة كل البعد عن ابراز صورة الثقافة العربية الموحدة ومنجزها التاريخي. وثالثا ليس هناك الدعم الكافي سواء كان معنويا أو ماديا على دعم الانشطة الثقافية العربية، لا من قبل ملحقيات ثقافية عربية ولا من مؤسسات ثقافية عربية في الداخل والخارج، وللآن وللأسف الشديد ما زالت هناك صيحات من قبل مثقفين وكتاب عرب تُميز ما بين أدب الداخل وأدب الخارج وكأن الثقافة العربية منشطرة الجسد نصفين. وأخيرا ليس هناك محاولة لاقامة مؤتمر عام للكتاب والأدباء العرب في أستراليا، والذي من خلاله تأسيس تجمع ثقافي عربي مدعوم يأخذ على عاتقه مسئولية نشر الثقافة العربية واحياء تراثها التاريخي واعادة الحياة للابداع العربي الذي بامكانه أن يمد الجسور مع ثقافات العالم الآخر، وبالتالي خلق تلاقح ابداعي مشترك يضيق الهوة المتواجده الآن بين حضارتنا التاريخية وحضارة الآخرين.
ثم أعود وأقول، كخطوة اولى من أجل مواصلة مسيرة الابداع الثقافي، شكلنا بداية هذا العام تجمعا ثقافيا في ولاية (كوينزلاند) أخذ على عاتقه تقديم بعض الأمسيات الثقافية التي شارك فيها أدباء ومثقفين عراقيين وعرب وأستراليين، ومن هذه الأمسيات، حفل تأبين رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة، وحفل إضاءة شموع عن رحيل الشاعر محمود درويش، وحفل تأبين عن أربعينية الشاعر المرحوم. وأمسية ثقافية بمناسبة صدور رواية (تراتيل عزاء البحر) الصادرة (عن دار العودة بيروت)، وأمسية شعرية للشاعر سعد حمزة بمناسبة صدور روايتهما المشتركة (سادينا) وبمناسبة فوزهما بجائزة ناجي نعمان للأدب لعام 2007 للروائية دينا سليم، كما حضر هذه الأمسيات عدد من المثقفين العرب والأجانب، حيث قرأت الفقرات باللغتين العربية والانجليزية، كما أن لهذا التجمع برنامج كل شهرين، يقدم من خلاله نشاط جديد، وسيكون النشاط القادم هو ( حفل توقيع كتاب) وذلك بمناسبة صدور الرواية الرابعة (الحافيات) للروائية الكاتبه دينا سليم في موعد سيعلن عنه لاحقا، وللتذكير أن أبواب التجمع مفتوحة لكل المثقفين العرب والأجانب، لأن هوية هذا التجمع هوية كونية، وشعار التجمع هو (ثقافة بلا حدود) بغض النظر عن الدين والهوية والقومية.

* سعد حمزة – عن التجمع الثقافي في ولاية (كوينزلاند) الاسترالية.

السبت، أكتوبر 25، 2008

عودة عشتار إلى عالم الأحياء

د. عدنان الظاهر

( حوار ثنائي خرافي مع النفس )

عنوانٌ غريبٌ ! كانت الربّة ُ عشتارُ دوماً في عالم الأحياء فماذا جرى حتى تنقلب َ الصورة ُ ؟ ماذا تقترحُ يا رجل ، هل أبدّل العنوانَ ليغدو مثلا ً : عودة تموز إلى عالم الأحياء ؟ لا ، بل إجعله : قيام تموزَ من مملكة الموتى . فليكنْ ، وما من مانع ٍ عندي . قيامُ تموزَ وليس في قيامته من بُدعة جديدة على بني البشر فهم ما زالوا ومنذ آلاف السنين في إنتظار عودة من يهديهم سواءَ السبيلِ ومن ينتقمُ لهم ممن أسرفَ وتطرّف في ظلمهم وعاث في الأرض فسادا . قام تموزُ أو سيقومُ قريباً ولكنْ ، ما سبب قومته أو قيامته المفاجئة هذه ومن تعهدها فقيام الموتى من قبورهم ليس بالأمر الهين إذ ْ يحتاجُ إلى مَن يبعث في الموتى الروحَ وهي من أمر ربي ؟ لا فُض َّ فوك أخي ، لا بد َّ من باعث ٍ للروح في الجسد الميت ، لا بدَّ . وفي حالة تموزَ البابلي أو( دوموزي السومري ) المقنول ِ ظلماً فمن ترى تحييه غيرُ حبيبته عشتار أم الكرم والخصب والجود والعطاء ؟ لكنها كانت هي الأخرى غائبة ، إفتعلت غيبة ً حددتها بشهرٍ واحد ثم نقضتْ غيبتها وإختزلت أمدها فلعلها ما أقدمت على ذلك إلا من أجل إنقاذ حياة حبيبها القتيل تموز . كاد كلامها عن غيابها أن يتسبب َ في إنقلاب السماء على الأرض وهطول الأمطار زوابعَ وبراكينَ وزلازلَ وسيولِ دم ٍ . تموز لا يُطيق قتله مرتين ولا يصبرُ على فراق حبيبته ومعبودته عشتار بابل . لا يستطيع فراقها يوماً واحداً فكيف في فراق ٍ طويل ٍ أمدهُ شهرٌ كاملٌ ؟ شهورُ فراقِ الأحبّة ِ دهورٌ وعصور . أعادت عشتارُ النظرَ في قرارها السابق فألغت على عَجَل ٍ إجازتها [ هل كانت مَرَضية أم إجازة إعتيادية ؟ ] . أكانت هي أم كان تموزُ في عَجَلة ٍ من أمره ولم يُطق ْ صبراً ؟ كلاهما ، كلاهما مَشوقٌ مستهامُ . كلاهما في شوق عارم للقاء سريع ٍ عاجلٍ فالغيابُ ثقيلٌ وأيامُه مرّة كطعم الحنظل فمن ذا الذي يُطيقُ فراقَ الأحبة ويصبرُ على غيبتهم ؟ إشارة ٌ واحدة ٌ من كفِّ عشتارَ المخضّبِ بحناء بابل أو كتابة حرف واحد على شاشة الكومبيوتر تكفي لأحياء كافة الموتى من عهد عاد حتى اليوم . ما الذي ذكّرك بعهد عاد يا رجل وأنتَ تتكلم عن تموز بابل ؟ أبو العلاء المِعَرّي ، المعري هو الذي قال لا أنا :

صاحِ ، هذي قبورُنا تملأ ُ الرح
بَ فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ ؟

خففِ الوطءَ ، ما أظنُّ أديمَ ال
أرض ِ إلا من هذهِ الأجسادِ

[ أحزنتني وأكأبتني يا هذا ] ... قال تموز المنبعث لتوِّه مُحتجّا ً . معه كل الحق . إله مقتول ظلماً يقوم لساعته من عالم الآخرة المظلم فيرى حبيبته ومنقذته وباعثة َ الحياة فيه عشتارَ يحتضنها ويذوب فيها فيغيبان معاً في عالم مسحور ٍ آخرَ مَلَكين وحين يعودان من سفرة السحر يعودان عروسين بملابسَ بيضٍَ وأكاليل َعقيق وزمرّد وورود من الذهب الأبيض والأصفر والأحمر تفاجئهما أنتَ دونَ حياء ٍ بأشعار المعرّي الضرير المُغرقة في سوداويتها !! هذا الأمر غير مقبول منك . ليس هذا إنصافا ً منك يا رجل . إعتذرتُ . ندمتُ على تسرّعي وخضوعي لقوة إغراء وجبروت الشعر . ما حيلتي ، هكذا ولدتني أمي ضعيفاً أمام بعض مغريات الحياة والشعر من بينها . طيّب ، وماذا بعدُ ؟ ماذا تقصد ؟ ماذا عن لقاء تموز وعشتار بعد غيبته القسرية في العالم الأسفل ؟ يبدو أنك لم تحب في حياتك ولم تجرب لقاء الأحبة بعد غياب وفراق . هل أريك فيلماً مصوراً للقاء تموز وعشتار على أرض بابل ؟ كيف دبرتَ هذا الفيلم وتصوير الأحياء في بابل ممنوع ؟ لم أصور الفيلم أنا ـ أنا الآخرُ الشقيُّ المعذبُ غريمُ تموزَ عاشقُ عشتروت ـ إنما صورته بعض شرطة بابل السرية ! لديها أوامر أن تراقبَ بدقة ٍ وتصوِّر كلَ لقاءٍ يتم ُّ في الهواء الطلق وعلى مرآى الملأ بين رجل وإمرأة حتى لو كانا مَلكين . وكيف وصلتك نسخة من هذا الفيلم وعلمي أنك لستَ مُخبراً ولا أحد عناصر شرطة بابل السرية ؟ يا مغفَّل ! الرشوة ! دفعتُ كمية ً من الدولارات ( أربعَ وَرَقات ٍ ) لأحد كبار ضباط شرطة بابل فقبلها وقبّل يدي ثم قدّم لي مشكوراً نسخة ً من الفيلم المخابراتي . ألا يخشى هذا الضابط ُ من إنكشاف السر وما سيناله من عقوبات قد تصل إلى حد السجن مدى الحياة ؟ يا مغفّل ! ومن سيسجنه مدى أو بعض سنيِّ حياته إذا كان الضابط الأعلى منه شريكه فيما يكسب من الرشاوى ؟ والضابط الأعلى ـ لعلمك ـ هو الساعد الأيمن والقوة الضاربة للملك حمورابي وحلفائه من خارج حدود المملكة . تنهدّتُ بعمق ٍ وصدق ٍ ثم قلتُ لصاحبي : قد عقدتَ الأمرَ عليَّ يا رجل . جئتُ أسألك عن حال عشتار وقصتك المحزنة معها فأدخلتني مداخلَ التعقيد والتعويص والتلبيس لكأنك إبليسُ . ما لي وشرطة بابل والرشاوى والسجون الأبدية وما إلى ذلك من أمور تكدّر عليَّ حياتي وهي في غاية البساطة والوضوح والنقاء ؟ بل أنت الجاني على نفسك يا عبيط ... أجاب صديقي الخبير في شؤون الشرطة السرية . أنتَ مَن جنى على نفسه . أنتَ أنتَ كنتَ كثير الفضول لمعرفة تفاصيل قصة عشتار وحبيبها تموز لا لحرصك على معرفة مصير تموز ولكنْ لفضولك القتال وغيرتك منه لأنه إستأثر بحب عشتار فتركتك وحيداً مدحوراً كسيفا ً تبكي حظك السيّء نهاراً وليلاً حتى أوصلك يأسك منها قريباً من حالة الجنون بل وحاولتَ مرة ً الإنتحار لولا أنْ أنقذك صديقك الطبيب الحليّ الذي قاسمك مقاعد الدراسة زمناً طويلاً [ أطلَّ تموز مرة ً أخرى ليقولَ : مات هذا الطبيب واأسفاه . إنتحر. قتل نفسه . قيل إنه سقط من سقف عمارته العالية . هناك تكهنات أنَّ جهةً ً ما هي التي أسقطته من الأعالي وإنها ليست عملية إنتحار ، إنما حالة قتل ٍ عمد ، إغتيال ] . جريتُ سريعاً خلف تموز فلم أجده . تتبعت مصدر صوته فلم أعثر له على أثر . أردتُ أن أسمعَ منه المزيد من أخبار صديقي الطبيب . واحسرتاه ! فقدتُ من أنقذني من موتي وها هي عشتار تنقذ غريمي تموز من موته . شتانَّ بين حالة إنقاذي وحالة إنقاذ تموز . ذاك أحياني وقيامة تموز تقتلني والقاتل ليس تموز نفسه إنما تلك التي أنقذته : عشتار . تقتلني عشتارُ بإحياء غيري أي أنَّ هذا الغير يسلب مني حياتي ثمناً لرجعته وبرجعته أخسرُ عشتاري فأية رجعة ٍ هذه ؟ سيدتي وحبيبتي ـ ما زلتُ وسأبقى أسميها وأعتبرها حبيبتي وإنْ قتلتني ألفَ ألفَ مرة ٍ فحياتي معها في موتي وموتي بين يديها حياة ـ سيدتي وربتي وحبيبتي عشتار المباركة ! لا تنقطعي عني ولا تغيبي فغيبتك تجعلني أحيا شقياً مدى الحياة . أعرفُ أنك واقعة ٌ في هوى رجلٍ آخرَ إسمه تموز وتموز هو إسم شهر من أشهر السنة البابلية . سأطلق على نفسي إسم الشهر التالي لشهر تموز غيرة ً منه ومنافسة ً له ولقدره العالي لدى الربّة عشتار فالآتي من خلاف ٍ يركب الأكتافَ كما يقول ُ أهل الحلة . إسمي يا حبيبتي وربتي هو آبُ ( آبو ) ، الشهر الثامن في تسلسل أشهر السنة البابلية ، وهو شهر عطلتك السنوية الصيفية كما أسرَّ لي كبيرُ ضباط ِ شرطة بابلَ الذي يعرف كافة أسرار مواطني مملكة بابل وما جاورها من أقضية ونواح ٍ وقصبات وقرى . أجابت عشتار منطقك هذا ومناوراتك وألاعيبك اللفظية لا تأتيك بأية نتيجة ترضيك . ولا تزحزحني عن موقفي قيد شعرة. وهبتُ نفسي لتموزَ حبيباً وعشيقاً وزوجاً. زوجا ً ؟ تساءلت ُ والعجبُ يأخذ مني كلَّ مأخذ . أتتزوجين وقد ضاجعتِ آلاف الرجال بإسم الجنس أو العهر المقدَّس ؟ قالت إنك لا تدري أنَّ لكل مومس ٍ بغي ٍّ عشيقاً أثيراً قد تتزوجه وقد لا تتخذ منه زوجاً .
و تموز في حالتي هو عشيقي الأثير . أصابتني حالة من الإحباط والتوتر حتى غرقتُ في عَرَق جسدي وشعرت بظمأ شديد الوطأة . قالت ماذا حلَّ بك يا رجلُ ؟ ما سببُ غيرتك من تموز وأنت في أفضل أحوالك لستَ بقادرٍ على أن تنافسَهُ ولست بكفئه مهما أوتيتَ من حجة وبيان وبلاغ . فاتك سنُ الزواج يا رجلُ وإنك كما تعلم عاجزٌ عن الإنجاب ورسالتي ومهمتي هي أن أنجبَ وأواصلَ النسلَ والحرث َ فأديم ُ الحياة . هذه هي رسالتي الكبرى والأولى وهي في الأساس رسالة دنيوية لكنها إرتدت عباءة الدين لكي يتقبلها الناسُ ويعتبرونها رسالة ً نزلت من السماء فلا من نقاش ٍ ولا من شجب ٍ أو شكٍّ أو تساؤل . وعليه إتخذت عمليات البغاء العلني والجماعي صيغة { البغاء أو الجنس المقدّس } ... بِغاءٌ أو عهرٌ مقدَّس !! من أية جهة تأتيه القدسية ؟! تناولتْ جُرعة َ ماءٍ عشتارُ ثم قالت بلهجة إنذار وصرامة لا تخلوا من تهكم : إسمعْ ، إنتهت حياتك البايولوجية وإنغلقت على نفسها دورة ُ ودائرة ُ حياتك بعد أنْ ضاقت وإنكمشت أقطارها وجفّت في عروقك دماء الشباب وهمدت نيرانها وفوراتها . تهاويتُ إذْ سمعتُ بيانَ عشتارَ هذا فيا أرضُ غوصي بي وإبتلعيني بعاري وضيق صدري . لا أحتمل عاري وقد كشفتني وعرّتني عشتارُ التي تدّعي الآلوهية . رغم ذلك كله قررتُ أن أقاتلَ وأنْ أدافعَ عن نفسي كرجل فوجدتُ حجة ً ومبرراً لمنازلة عشتار في الساحة التي إختارت هي لا أنا . تكلمتُ ببطء شديدٍ أولا لألتقط َ أنفاسي المتقطعة وأجمعَ أوتارَ صوتي المهزوزة فركزتُ هجومي على نقطة واحدة هي من أكبر نقاط ضعف تموز وأكثرها خطورةً فيما يخص علاقته بعشتار . قلت لها ، والقلب يدق بعنفٍ في صدري بين الأضلاع ، إسمعي يا عشتارُ المرأة ... إصغي جيداً لي رجاءً . أنا أفضل من عشيقك تموز . أرادت أن تقاطعني فعاجلتها بطلبي منها أن تصبرَ وأن تصغي لما سأقول فإنصاعت للطلب . نعم ، أنا أفضل بكثير من تموزك هذا . كيف ولماذا ؟ لأنَّ تموز رجل يعمل بنصف وقت
Half – Time
يمارسك عشيقة ً أو زوجا ً نصفَ عام فقط ليختفي في العالم السفلي النصفَ الآخرَ من العام فأيُّ زوج ٍ هذا يتعطلُ ستة َ أشهر ٍ وينشط ستة شهورٍ من كل عام ؟ وهل تستقيم حياة ٌ طبيعية معه ؟ أيُ نوع ٍ من الرجال هوهذا التموز إبن التموز؟ لم تنتظر عشتارُ حتى أنهي مقالتي إذ ْ بادرت بعصبية للقول إني أعتبره رغم ما قلتَ أفضلَ منك . إنه يمارس الجنس معي 180 يوماً في العام بينما أنت مشكوك في أمر قدرتك الجنسية ! إذهب ليفحصك الطبيب الإختصاصي . إنفرجت أساريري وإنشرحَ صدري وزال ضيقي . مسحتُ بكفيَ عَرقَ وجهي وقلت لها يا عشتارُ ، إذا كان صاحبك هذا الأهبل يمارس الجنس معك ستة أشهر في السنة لا أكثر فإني أطمئنك ، وإني على ثقة تامة مما سأقول ، إني أستطيع بفضل حبوب الفياغرا والسياليس ومشورة صديقي الطبيب الذي قتلَ أو قتل نفسه أن أمارسه معك مرة ً أو مرتين في الليلة الواحدة وتفضلي إسألي أطباء الإختصاص. خجلت عشتارُ وقلما تخجل عشتارُ ومن أين يأتي ربّات ِ العهر المقدس الخجل ُ !! إرتخت مفاصلها وأحست بالظمأ . غابت عني قليلاً وما أن ْ عادت حتى جاء صوتُ تموزَ غريباً فيه بحّة ٌ وغرابة ليقول لي محذراً : ستقتلك حبوبُ الفياغرا . تجنبها . لم يبقَ لك من العمر ما يستحق المغامرة . كلْ واشربْ وسافرْ واعقدْ صداقاتٍ بريئة ً مع مَن شِئتَ من بنات حوّاء في بابلَ وغيرِ بابلَ . الصداقة الحقيقية السامية أفضل من الزواج ومتاعبه ومسؤولياته . شكرتُ تموزَ رغم علمي إنه ما قال ما قال إلا من باب الحسد وطرد العيون وإزاحتي عن طريقه منافساً له على حبِّ وتاج ومعبد عشتارَ في قلب بابل .
<< نصف ُ رجل ٍ بقدرة جنسية كاملة ٍ أفضلُ من رجل كامل ٍ فاقدٍ لها >> . قرأتُ هذا الكلام مكتوباً بلغة أهل بابل على شاشة عريضة جداً بتوقيع الملك حمورابي . وقرأت ُ ما بين قوسين جملة ً تقولُ (( المادة الثامنة من شرائع الملك الأعظم )) .

حديث الملاحم في ذكرى مجزرة كفر قاسم


عوني وتد
وقف الشيخ عثمان القسماوي عند الأصيل، يستطلع امر تأخر وصول قوافل العمال والفلاحين العائدين من حقول القرية والمستوطنات المجاورة.أنتصب يحجب بكفه المرتجفة خيوط شمس الغروب، يرنو بعينيه الذابلتين، علّه يزف الى قريته بشرى تمحو قلقها وتبدد مخاوفها. أنتظر شيخنا طويلاً.. يسابق بعينيه عتمة الليل ،ونسائم الغروب تداعب كوفيته السمراء فينبلج من تحتها وقار الشيب المثقل بالصبر، والثبات والصمود.وما أن لمحت عيناه خيال القافلة القادمة من بعيد ،وتهادت اذناه لجلبة زحفها ،وحداء عودتها ،حتى انفرجت اساريره ، وشرع ينادي بصوته الخافت : " هيهِ يا زينب ! عاد العمال من كروم العنب". "أبشري يا فاطمة! عبر الأبطال حدود الغضب" . " أصدحي يا جميلة ! هلت علينا جحافل العرب". فاستبشر اهل القرية خيرا ،وهللوا حمداً لوصول اهلهم والأبناء.
لم يكد شيخنا عثمان يتم اهزوجته فرحاً بعودة ربعه وذويه ،حتى علا صراخ المستغيثين ،وقطع ازيز الرصاص الكثيف نشوة الاهل والصبية القسماويين لعودة آبائهم وامهاتهم... رحماك يا ربي! ما هذا الدخان ؟! ما هذه النيران ؟! ما هذا العويل؟! فناحت تلال الروابي ، وصاح رَجْعُ الدماء، وزلزل صدى الرحيل:
ألا هل أتاك حديث الملاحم / وذبح الأناسي ذبح البهائم/وقصة شعب تسمى:حصاد الجماجم/ ومسرحها قرية ، اسمها : كفر قاسم ؟؟ / حديث أفاق عليه الجميع/ فظنوه أضغاث حلم مريع/ولكن! اتقضى هزيع، وجاء هزيع/ وجمد أعيننا الحالمة/وصك مسامعنا الواهمة/صراخ الثكالى / صراخ الصبايا، صراخ الحبالى/ طغى وتعالى/ صراخ الشباب الذبيح/ ترد صدورهم العارية/ وأيديهم الخشنة القاسية / بصاق الرصاص الجموح. (الشاعر : توفيق زياد)


لوحه للفنان عبد التمام طه – كفر قاسم

وقبل ان يلفظ شيخنا القسماوي انفاسه الاخيرة حسرة والما ً،على ذبح اهل قريته، جلس القرفصاء، وفرش كوفيته السمراء ارضاً ،وانهمرت دموعه الغزيرة نهراً ، تخط للأجيال تلو الأجيال حديث الملاحم البطولية. فكتبت لنا العبرات:
" وكانت المجزرة الرهيبة ..يوم الأثنين، في التاسع والعشرين من تشرين الاول ،عام الف وتسع مئة وست وخمسين. تسعة واربعون شهيداً ، من الرجال والشيوخ، ومن النساء والأطفال ، رووا بدمائهم الزكيّه سهول كفر قاسم الجريحه. شهداءٌ ابرار، قتلت يد الحقد أحلامهم، وحصد رصاص الغدر آمالهم لحياة كريمة عزيزه " .
وتتوالى الدموع الساخنة فوق الكوفية : " وليشهد العالم ، وليعي الصمت العربي! ان الجنرال "تسفي تسور"، قائد قيادة المركز والمسئول العسكري عن منطقة المثلث، أمر المقدم "يسخار شدمي"، قائد لواء الجيش في المنطقة ، بتوسيع ساعات منع التجول المفروض على القرى والبلدات العربيه، وأمره كذلك ان يكون حذر التجول هذه المرة يليق بالفلول التي لا تقهر ابداً ،فعليهم تطبيقه بيد من حديد ! ".
لفظ شيخنا عثمان انفاسه الاخيرة ،وارتقت روحه الى باريها، ليلحق بركب الشهداء الابرار من الأطفال والرجال، والنساء والشيوخ.


مجزرة كفر قاسم 29/10/1956

ولأن شعبنا الفلسطيني الصامد فوق كل المجازر والجراحات ،وفوق كل الآلام والويلات،
لَمْلم الأحزان ،ونفض عنه المخاوف والهوان ، وشب على رجليه الصلبتين الثابتتين يردع حقد الترحيل ،ويرفض الذل والخنوع والهوان ، شعبٌ يقارع مآرب التهجير ويصدّ الطغيان.
مجزرة... شاء الله لها ان تتزامن مع العدوان الثلاثي على ارض الكنانة،لكبت نداءات الاحرار بتأميم قناة السويس المصرية ، وكأن شعبنا الفلسطيني الصامد جعل من دمائه الزكية المعتقة ، بركانا يرد الضيم عن امته ،ويعلمها درساً في التفاني والعزة والاكبار.
شهداءٌ اوقفوا بجباه جماجمهم الشامخة، اولى خطوات مكائد تهجيرهم واجلائهم عن اراضيهم ،وأخمدوا بربيع انفاسهم لظى التنكيل، ورووا بدمائهم الزيتون واللوز والصبار.
في ذكرى المجزرة الثانية والخمسين،لن نبكي شهداءنا ، فحري بنا ان نذرف الدموع على امة الصمت الأكثر من مليار. امة أضاعت رشدها،وفقدت رشيدها بتخبطاتها ، وهدمت كيانها بمعاولها ، وأطاحت برجولتها بأستسلامها ، وباتت مواقفها شجب وتنديد واستنكار. أمة هشة، أمست وحدتها وهيبتها،حروفا مبهمة ،وارقاما متتالية فوق شريط ألاخبار!
وفي ذكرى المجزرة الثانية والخمسين ، سنزور قصور شهدائنا ،وسنصطحب اولادنا وعائلاتنا ، سنتلوا عليهم، ونذكر لهم ، ملاحم الابطال تلو الابطال : للقرى المهجرة ، للمقدسات المنتهكة ، لمفاتيح المهجرين والمبعدين ،للأسرى المنسيين ، ولطابو اقفهرت سطوره فوق قنطرة الدار. سنحكي لاولادنا عن المذبحة الرهيبه ، وعن اراضينا الغريبه ..ليتمسك ابناؤنا بما بقي لنا من امتار.
سنروي لهم كيف بيعت دماء تسع واربعون منا بقرش ابيض واحد ،وحكامنا ينظرون، فارتقبوا يا اولادنا يوماً ! تباع به عروش الخزي وكراسي العار، بأبخس الاسعار.
وستحملنا الذكرى ،فوق روابي كفر قاسم الجريحة ،نضمد احزانها بالمسك والورد والعنبر، ونفرش ساحاتها بالسنابل والنخيل والزعتر، وستكتب دموع شيخنا عثمان :
الله اكبر ! الله اكبر! الله اكبر!


مسجد الشهداء-كفر قاسم
ساعة الصفر صفرت واستقرت ** والغروب الغريب فيها وئيد
وبدا الغائبون رحلة عود ** وبدا اعصار الفناء يميد
قف : وصاح الغراب نعقا على شا ـ م ـ ** حنة بالغفاة ملاى تنود
بلغ الجهد مبلغا فاق وصفا ** فاذا هم على الحديد رقود
احصدوهم : خروا بطرفة عين ** جثثا فوق بعضها والبليد
يطلق الضحك ، والرصاص ، ويعلو ** وجهه الاربد الغليظ ، الجليد
واتم الرصاص قولا وفعلا ** وتردى فوق الشهيد الشهيد
وصغير طريد رعب تولى ** اذ نجا صارخا ويبكي الطريد
قد راهم يسّاقطون تباعا ** جثة فوق جثة لا تميد
لم تشاهد عيناه يوما ضحايا ** تتهاوى كما تهاوى السجود
ينحني عن سقف الرصاص ويعدو ** ليس يدري الجهات يهدي .. جنود
وعلا صوت طفلة في جوار ** هاتفا ، يا ابي ، ابي لا ردود
زهرة غضة راتهم عيانا ** فمضى عقلها وهامت تريد
وتنادي ابا واين ابوها ** ربما ضرجوه او موجود
في عداد الاحياء في الدار يرجو ** عودها فالظلام هول وبيد
وازيز الرصاص في اذنيها ** وعلى شالها دخان شديد
من قصيدة ـ كفر قاسم جل الشهيد ـ للشاعر محمود مرعي

(عرب الداخل)