أجرت الحوار الإعلامية الجزائرية عقيلة رابحي
" الثقافة خَصْمُ السلطة،
وميزان القوة بينهما غير متكافئ على الدوام"
سؤال: كيف هي العلاقة بين المثقف والسلطة؟
جواب: تظهر السلطة حين تختل العلاقة بين جهتين ويعتل التكافؤ بين طرفين أيا كانت هده الجهة وأيا كان هدا الطرف فتتغير الأدوار طبقا لوضع اللاتكافئ الجديد فتتحول الشخصيات إلى راع ورعية وتتحول الثقافة إلى رسمية وشعبية وتتحول الجغرافية إلى مركز وهامش...
السلطة إذن هي "ممارسة عنف رمزي"، بتعبير بيير دي بورديو، لكن أول علامات السلطة هو "القبول" بها وبعنفها. فمتى بدأ القبول بعنفها تجدرت السلطة واستشرت ومتى رُفِضت وعورضت، كسرت شوكتها وبهت جشعها. وهدا بالضبط دور الثقافة، على الأقل في مفهومها الحديث: دمقرطة العلاقات الإنسانية، مقاومة التفاوت والهيمنة في الإنتاجات الرمزية، الاهتمام بأشكال التواصل الإنساني...
السلطة صفة تتعلق بالضغط في تقرير الأمور وتدبير العلاقات والتحكم في المصائر والانفراد بالرأي ... ولدلك فهي تتلون حسب مجال اشتغالها. فقد تكون سلطة سياسية أو دينية أو ثقافية أو قبلية أو عرقية أو غيرها.
ولأن الثقافة هي في الآن ذاته ضمير الإنسانية والمدافع عن الحرية والعدل والمساواة، فإنها تبقى الخصم المفترض الأول للسلطة التي يستحيل تصورها دون إرادة في الهيمنة والامتلاك والاحتواء. لهدا السبب، كانت ميزان القوة بينهما غير متكافئ على الدوام: فمتى ضعفت السلطة وخفت بريق مصداقيتها، تقوََت الثقافة ودوى صوتها في كل مكان كما حدث في روسيا القيصرية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ ومتى تعاظمت السلطة وعلا شأن رجالاتها، تقزمت الثقافة وقل تأثير المثقفين كما هو الحال في البلدان العربية مجتمعة...
سؤال: ولماذا يبقى المثقف الذي ينتقد السلطة وينشد ثقافة حرة رهين الهامش؟
جواب: في علم الفلك الحديث، يقدر العلماء نسبة الأجسام المرئية في الكون من كواكب ونجوم وسديم ومذنبات وشهب ونيازك ب 6٪ (ستة في المائة) أما الباقي وهو 94٪ (أربعة وتسعون في المائة) من الكون فيبقى لما كان يوصف في الماضي ب"الفراغ" وصار اليوم يعرف ب"المادة السوداء" وب"الطاقة". وهدا المثال بليغ للغاية كما أن هده النسبة هامة جدا لأننا سنصادفها أيضا في علم النفس عند تقسيم الذات الإنسانية إلى ثلاثة أقسام يهيمن فيها "اللاشعور" على 94٪ (أربعة وتسعون في المائة) بينما يترك 6٪ (الستة في المائة) المتبقية ل"الشعور" و"الأنا الأعلى"...
أعتقد بأن هده النسبة التي تتحكم في الكون والعقل البشري هي ذاتها المتحكمة في مصائر المجتمعات والأمم قاطبة. فليس "اللاشعور" في حياة الأفراد غير "التاريخ" في حياة الأمم؛ وليس "الأنا الأعلى" غير "الثقافة" أو "الضمير الإنساني"؛ وليس "الشعور" شيئا آخر غير وظيفة الموازنة بين "الأنا الأعلى الجماعي" و"حركة التاريخ"، تلك الوظيفة التي قد تلين وتضعف كما يمكنها أن "تتعاظم وتتسلط" فتصبح وساوس وعُصَاب وأمراضا "تسلطية" كان التجسيد الحي لها "هتلر" و"بوكاسا" و"بينوتشي"...
إن الخلود للتاريخ وحده، أما حصة "الثقافة" وحصة "السلطة" فمتساويتان. وعليه، فإن "تدني كفة الثقافة" لصالح "علو كفة السلطة" لا يمكنها أن تشير إلا إلى الظروف الذاتية والموضوعية للثقافة والمثقفين وتكشف عن مواطن الخلل في هدا الحقل الفاعل، حقل الثقافة. ويمكن حصر مواطن الخلل هده في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: وتتمحور حول كون المثقف العربي الذي يناهض السلطة على "المستوى الرمزي"، لا يقوم بالدور الموازي لهده الوظيفة على "أرض الواقع". فليست للمثقف العربي ثقافة تبني المواقف الشجاعة مما يحدث حواليه وما يمرر عليه من قرارات وما يشهد عليه من شطط. إنه يتبنى المواقف ضد "أعداء الوطن من الأجانب" فقط ولكنه لا يستطيع فعل نفس الشيء مع "أهل السلطة" من "أهل البلد"!...
النقطة الثانية: وتتمركز حول المبدع العربي الذي يحارب السلطة داخل نصوصه التخييلية من خلال التعددية اللغوية، وتنويع زوايا النظر، وتكسير السرد... ولكنه لا يستطيع رفع أصبعه اعتراضا على ما يحدث حوله!...
النقطة الثالثة: المثقف العربي يعيش في الهامش لأنه يعتزل المواجهة على ارض الواقع ليتفرغ للكتابة وهو لا يعي حجم 67٪ من الأمية في العالم العربي وحجم تدهور التعليم والتعلم لدى الفئات المحسوبة في السجلات الرسمية "فئات متعلمة"...
قد يكون التهميش الذي يعيشه المثقف العربي عقابا ذاتيا يمارسه المثقف على نفسه، نوعا من المازوكية. ولكن تهميش المثقف العربي في الآن ذاته يبقى "صناعة عربية" بامتياز تتفنن الدول العربية في صياغتها ورعايتها وتبادل الخبرات حولها فيما بينها...
سؤال: وإلى أي مدى يتمتع المثقف العربي بحريته في بلده؟
جواب: "الحرية" قيمة محورية تتمركز حولها الثقافة في كل مكان وكل زمان. ولكنها ليست المحور الغالب للأعمال الفكرية والإبداعية والنقدية العربية إلا إدا كانت "الحرية" مقترنة باستقلال الوطن ومقارعة المحتل أو كانت مقترنة بنقيضها الثابت "العبودية" و"الأسر". أما "الحرية" الحقيقية المرتبطة بتحرير القوى والأصوات العميقة داخلنا عبر مصالحتها والمصالحة معها من خلال توحيد القول والفعل، توحيد الفكر والقول، توحيد الفكر والفعل، توحيد الصوت والصورة... فتكاد تكون نادرة في الثقافة العربية.
"الحرية" ، بمعناها الكامل إذن، تقتضي التحرر من الخارج ومن الآخر ولكنها أيضا تقتضي تحرير الداخل، تحرير الذات. وإلا فما جدوى التحرر من المعمر ومن الآخر مع الحياة مكبلا من الداخل؟
المثقف العربي كفرد هو حر ولكنه حين يسعى لتحرير من حواليه يتعرض لأقسى أشكال الأذى المادي والرمزي...
سؤال: وما هي انعكاسات هذه العلاقة السلبية على المجتمعات العربية ؟
جواب: أهم انعكاسات هذه العلاقة السلبية على المجتمعات العربية هو التقزيم الهادف والتغييب الممنهج للمثقف الدي يؤدي حتما إلى تقزيم وتغييب القيم والضمير واحتضان الفوضى والاستبداد...
إن حرية المثقف في بلده رهينة بحرية أبناء بلده حوله. أما حرية الجميع، مثقفين وجماهير، فتبقى رهينة بقيام مؤسسات راعية للحرية وسن قوانين ضامنة لها، وتحرير التعليم والإعلام والبحث العلمي والإبداع بكافة أشكاله من سلطة المركز والواحدية والقرار الفردي
الجمعة، أكتوبر 31، 2008
حوار مع الكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني
Labels:
محمد سعيد الريحاني
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق