لمياء الآلوسي
كأنّ السماء أطبقت على الأرض فتعانقتا ، وما عادت الدنيا تتنفس إلا صدى قبلاتهما الذي يجهل الذبول ،
ولكن هي ... كان الطريق بالنسبة لها شيئاً آخر ،
إنها دائمة البحث عما يشغلها ، غائبة في عالمها الملائكي ، هكذا باتت ومنذ ذلك المساء الذي غاب فيه عنها .
إنغرزت قدماها في الأرض الرخوة تحتها ، إذ تناهى إليها من بعيد لغط ، وأصوات متداخلة ، وضَوء عربة انحرفت عن الشارع العام ، ثم عادت من جديد إلى الشارع ، ذهلت ، فحبكت ملابسها جيداً حول جيدها الوجل ، وقرفصت للحظات يقيدها شعور غريب ربما ، لكنها أفاقت وهي تتمتم : أنا بخير حقا أنا بخير،
ثم ركضت باتجاه المكان بكل قوتها ،
كان ممدداً ووجهه إلى الأرض ، دعت الله بكل ما فيها من رجاء أن يكون حياً ، أحاطته بذراعيها ، وبعد جهد أجلسته على الأرض ، وأسندته إلى حضنها ، تفحصت جسده الشاب ، وملابسه الممزقة ، لم يكن هناك ما يشي بخطر ما ، لكنها عندما أدخلت كفها تحت قميصه ، على موضع القلب بالذات ، خفق قلبها بعنف ، كالعادة شيء حار دبِق يتقاطر وئيداً من هناك
- يا الله إنه ينزف ،
خلعت قميصه ومزقته ، لتضمد به جرحه ،
ثم نزعت معطفها ، وأحاطته به
مصابيح تترقرق من بعيد ، لبيوت القرية التي آثرت الإنزواء عنها ، منذ زمنٍ في بيتها الصغير ، حيث أصوات ديكة تتناجى في ذلك الصمت ، فيتشبع نغماً حزيناً مألوفاً وغير مألوف ! لكنها كانت تجوب المكان وحيدة دائماً .
بدا المساء معتماً ، لكن السماء منحتها بعد ساعات شلالاً خافتاً من الضوء ، هلالاً يتأرجح تحت سلسلة من نجوم صغيرة ، تداخلت فيها أحاسيس ممزوجة بنوع من الألم التائق إلى الإندحار ، رعشة صغيرة تنتابها كل لحظة ، لذكرى تلك الأيام التي قادتها إلى هذه الأرض المعزولة ، عندما تركت وراءها كل شيء ، لتلتصق بأرض تحمل عبق آثاره ،
في كل شبر لها معه لقاء مشرع على الأحلام المستحيلة .
- ويحكِ ... إن جسده خفيف على ما ناء به جسدك من متاعب .
بعد لحظات طويلة تمكنت من رفع جسده ، وأخذت تجرجره بحذر
في ذلك الصمت المبهم غير المُبالي !
كل شيء توقف مرة واحدة ،
وتوقفتْ به أكثر من مرة ، لكنها عندما التقطت أنفاسها هذه المرة ، بدأ يستعيد وعيه قليلاً، فحمل آلامه معه ، وبدأت خطواته تستعيد بعض علاقتها المعهودة بالأرض ! ربما لأنه استكبر أن يستند على جسد امرأة ، لكنها لم تتركه بل أحاطته بين ذراعيها !
- إنه بيت صغير أو غرفة ، وحتى إذا لم تَرُقْ لك فلا بد منها .
كانت تبعد عنه عثرات الطريق المدلهم ، فما كان منه إلا أن شعر بالحياء فراح يحنو عليها ، ويشعرها بالعرفان
لكن غيمة تمددت تحت القمر ، فغيبت تفاصيل وجهها عنه ،
لاحظ وجود أجساد مغطاة بالسواد لنساء مقعيات على الأرض ، أرعبنه ، توقفَ ..
فربتت على ذراعه وقالت : لا عليك أنت معي .. الليل الذي تراه ما عاد هو الليل .
فكرَ : نعم , صار جودك ضيائي في هذه العتمة .
قال واهناً : مَن هن ؟ ولماذا يتربعن في هذا المكان الموحش !؟
ضحكت فسمع لقهقهاتها رجعاً في هذا السكون ، وتناثر شعرها الطويل إلى الخلف ، وعندما التفتت إليه , كانت غيمة من الشعر الأسود تمرُّ فوق وجهه ، فتصبغ الليل لوهلةٍ بألوان ما اعتادها ... فتداخلت الرؤى أمامه ،
- لسن نسوة , هذه ليست إلا شجيرات السدر الوارفة التي تناضل للبقاء ، إنها بقطرات المطر الشتوية التي تختزنها ، تتحدى صيفها ، لتزهر ثمراتها طوال السنين ، هذه الشجيرات مزينة بيد الرب .
- قبل لحظات كنتُ قريباً من الموت , كنتُ في متناول مخلبهِ الى ما يشبه اليقين !
- هناك غيم مرعد قادم من الشرق ، ساعدني كي نصل ، واضغط على جرحك جيداً ، وانسَ آلامك
*************
كان الظلام يقيده ، حتى أوشك أن يتداعى ، ثم حاول أن يفرد جناحيه الواسعين على إطلاقهما ، جسده المكتنز واختلاج ساقيهِ يجعلانه يخبط الأرض بما يدخر من قوة ، علّها تنهضه عالياً .
بعد فترة ولمّا بدا قادراً على المشي لوحده بعض الشيء .
ركضت , والريح تضرب ساقيها الطويلتين الممتلئتين ، حافية القدمين ، فشكّلت مع الطير المراوغ ، وشعاع القمر الذي عاود الظهور ، لوحة جامحة الجمال ، غدت قريبةً منه ثم أطبقت عليه ، وهنا تأرجح البرُّ بصوت ضحكاتها ، وخفق أجنحة الطيور التي تمكنت من التحليق عالياً ، بأجسادها الضخمة . تذكرتْ : كثيراً ما كانا وكأنهما يستظلان بها , بفزعها او ربما بسخريتها !
إقتربَ منها متعبةً راشحةً بالعرق ، مدت إليه يديها :
- تعال هنا ،
- عجيبةٌ شجيرات السدر هذه ، لمَ تنمو بهذه الكثافة هنا ؟؟ لتحمي الحُبارَيات أم .. ؟
- الصيادون يطعمون طيرَ الحر كبدَ الحبارى وقلبَه ، فهو عندما يحظى به يغرز مخالبه في قلبه ويقتطعه ، ويترك جسد الحبارى للصياد ، فغنيمته هي هذا القلب الدافيء النابض !!
وضعتْ الطير برفق إلى جوارها ، لكنه أفلتَ فانطلق يعدو .
خشي عليها من الأرض الصلبة ، التي تمددت عليها لاهثة ، دون أن تنتبه لشيء
- المكان في الداخل أكثر أمناً .
تردد :
- قد لا يوجد مكان أكثر حميمية من هذه الأرض ، تسورك شجيرات السدر ، وتدفئك السماء بألوانها
- إترك هذه الهواجس خارجَ رأسك .
قال لنفسه أولاً ثم رتّله عليها : بل انت منحتني شطآن بسعة الأفق ، وجعلتني أبحر منها إلى أرض لن يقال أنّ لها حدوداً , ولكني مع هذا ...
أحست أن في قلبها خزيناً من الحنو , من النجوم والنيازك والمجرات وأسئلة الحب , أسئلة الماضي الدامية :
- لمَ فينا هذا القلق المرعب إذا ؟
- هو قلق متسامٍ ، ورعبنا يكمن في أن لا نكون ضمن حدود هذا الشوق ، بل ربما نهيم فنتوكأ على خيال في ليل الحقيقة ! نهيم في كون هو كوننا لكننا لا نعرف كيف نعقله .
- دعيه حراً يأخذنا بأمواجه ، بصواعقه ، يمحونا ببطشه المقدس , أقول المقدس رغم شكي بما يقدسون !
قالت له وقتها بعد صمت طويل : إنه الرضا بالتحدي ، الرضا الذي يجعلنا نعشق بهذا العنف ، ونقاسي الظمأ
*************
فتحت الباب الموارب قليلاً ودخلت تسنده بكل جسدها .
من الخارج كان منظر البيت يشي بأنه بيت طيني ريفي بسيط ، لكنها عندما دخلت وأنارت الأضواء ، بدا بيتاً عصرياً للغاية ، وثمة موقد بمدخنته التي رصفت على حافتها عشرات التحف الفنية ، وفرشت الأرضية بسجاد زاهٍ جديد ونظيف ، أما الجدران فقد غطت باللوحات الزيتية البديعة ، وفي الزاوية البعيدة كانت هناك مكتبة كبيرة ، وأريكة واسعة بفراشها الوثير ووسائدها المنقوشة بأحاديث وهمساتِ لقاءات ماضية ! ومنضدة أنيقة عليها جهاز حاسوب وبضعة كتب ، وثمة موسيقى هادئة ساهمة ! تشيع في المكان جواً سحرياًً ,
سقته قدحاً ساخناً كان في حاجة إليه ، ثم طفقت تضمد جرحه بأربطة نظيفة ،
- لم أعد أتذكر شيئاً
أشارت إليه بالصمت
- لا أريدك أن تتذكر أي شيء ، فلازلت حياً ، لا ترفع صوتك كثيراً ، فهنا الهمس يتناثر أرواحاً تؤجج الدنيا حولنا .
أرقدته على فراش اختارته بعناية فهو الآن مطروح على الأرض ، منحته ملابس نظيفة معينة ، كان في الموقد جذع شجرة متقد ، فانشغلت بإثارة دفئه الذي حجبه الرماد ، ثم انهمكت في مطبخها الصغير المنظم بإعداد طعامٍ يليق به ناسيةً نفسها ،
(( كم بحثت عن أيامها معه ، كم حاولت أن تحتفظ لنفسها بوقع خطواته ))
شعّت بعودتها رائحة طعام شهي ، رصفت أطباقه على مفرش أفردته على الأرض أمامه
لاحظت أنه بدأ يتنفس بصوت مسموع , ورعشة خفيفة تنتاب جسده .
كان نور خافت يتطلع إليهما عبر فرجة الباب المشرعة ، وثمة ريح خفيفة تحرك أشجار البرتقال الظليلة ، فتتخيل خفق أجنحة عصافير .
برقت عيناها بضوء عاصف ، وكأنها تبحث عن شيء يحملها إلى عالم غير مرئي ، خرجت مسرعة ثم عادت محملة بأغصان أشجار يابسة ، ألقمت بها النار فزاد لهيبها
كان كلما أغلق عينيه أخذته غفوة سريعة ، فيفيق مرعوباً وهو يرى تلك الهراوات تنهال عليه ، إستوى على فراشه الناعم متأوهاً ،
كانت تتحرك بلا انقطاع مطرِقة ، وثمة ابتسامة هانئة تلوح على شفتيها رغم ذلك ، فتنتشله من حالة النوم القلق التي تسيطر عليه ، وثمة عطر بلون الورد ، ممزوج برائحة احتراق أغصان الغرب والحلفا يقتحم المكان ,
ما عاد قادراً على الصمت .
- هل أنت هنا على حدود الروح أم أنت الروح صافية ؟
خرج صوته غريباً مرتجفاً خائفاً ،
- وهل تتخيل أن للروح مكاناً في هذا الإنتباه الأرضي ؟
قرفصت إلى جواره ، لكن كل هذا عاد فانصهر في كيانه , في بوتقةِ روحٍ مجروحة رهيفة .
إنتبهَ قليلاً مرة أخرى :
- التفوا حولي ...... فصار كل شيء ضبابياً
قالت له وهي تتمنى أن ينسى الآن :
- لا عليك ، إنه زمن الشؤم ، زمن الضغائن والقتل من أجل قناعات عفا عليها الزمن وهذا على أية حال لم يأتِ من فراغ فقد كانت له ممهِّدات وكانت له حواضن !
وهذه أيضاً هي التي جعلتني أكاشف البر , أكاشفه وحده ... ولكنك نجوت !
صمتت مرتبكة ، فنظرته الحيرى ، وصوته المرتجف ، أخبراها أنه اكتنفته بادرة تعاسةٍ ثم تسللت مبتعدة عنه ، لاحَ كمن يتلو صلاة خافتة وبعدها حجبتْهُ غيبوبة طويلة !
بدأ نثيث المطر يضرب زجاج النوافذ ، وتعالى صوت الديكة ، ولكنه لم يفق , لبست معطفاً طويلاً ووشاحاً على رأسها ، بعد أن جدلتْ شعرها إلى الخلف ، وأغلقت الباب خلفها ,
كانت تركض في أزقة القرية المتفرعة ، ثم دلفت إلى ذلك البيت الطيني الصغير ,
بعد لحظات كانت تركض عائدة وهو وراءها يحمل حقيبة صغيرة ، يضعها فوق رأسه ليتقي قطرات المطر
- ألا تكفين عن توريطي معك !؟
بدا الطريق زلقاً بانحدار الأرض تجاه منزلها البعيد .
إنه دائم الكلام ، لكنها لا تعتمد إلا على جهوده ومهارته المتواضعة
- كم جسد نجا من هذا الجحيم ؟
ضاعت عبارته الأخيرة تحت حفيف سعفات النخيل العالية ,
دخلا معا وكأنهما قطتان مبللتان .
تمتم وهو يتفحص الجسد المسجى أمامه ، ويفتح ضمادة جرحه : يا لك من امرأة .
لاحظَ دمعتين تنحدران سريعاً ، بدت خجلى ، فربت على كفيها اللتين احتضنتا قدح الشاي الساخن
- لا تخشي عليه فلم يصب بطلق ناري ، كان محظوظاً .
مرّ الليل ليس كالسابق فقد كان يريد أن يعمل أمراً ما , ربما أراد أن يعبر لها عن دهشته فعجزَ او عن مودة عميقة فخاف او عن شكر كبير فما وجد كلمات إلا أنها لا تريد ذلك , همُّها في مكان آخر ! فكأنّ حبها هو يفعل هذا دون أن تدري .
لم يتكلم ولم تبادرهي فتسأله من أي مكان أنت فما عادت هذه الأشياء تعني شيئاً البتة ...
ومع خيوط الفجر الأولى في اليوم التالي
سارت معه لكنها أبقت على مسافة من خلالها يلوح كل منهما في طريق ، عاد لها ماضيها السابح في انتظار لا يكل ....
أرادت أن تقول للرجل وداعاً ولكنه هو نفسه لم يلتف , ومع ذلك عجلت حتى سارت بمحاذاته ثم أشارت إليه باتجاه الطريق الذي يجب أن يسلكه .
غيبه الطريق المتعرج بين التلال التي ارتفعت قليلاًً .
وفي طريق العودة ، بدت دوامات لطيور الحبارى ترتفع في السماء موشحة بضوء الصباح البارد ، وثمة نثيث واهن رغم أن السماء صافية
وبضعة رجال باتجاه غدران على الجهة الثانية يتراكضون ....
طير الحر رشقَ الحبارى بسلاحه الفتاك فأضحى في النزع الأخير !
******************
الأحد، ديسمبر 07، 2008
أوقات تحت أجنحة الحُبارى
الخميس، أكتوبر 02، 2008
إياد الآلوسي ... شعائر في هيكل اللون
لمياء الآلوسي
بطاقته الشخصية تشير الى أنه أخ لي !
ولكن مهلاً ...
المجتمعات الإنسانية وهي تتكون تأريخياً كانت حين تلتفت الى الوراء لا تجد لها غير رابطة الدم بؤرة أولية امتدت قليلاً قليلاً كمن يلقي بحجرٍ في ماء ساكن فتتسع الدوائر بتتابع شيِّقٍ ملغز ومع هذا كثير الإيحاء حافل بالدلالات , ولكن مع مرور القرون والأحقاب وتجذر الحياة وتشعُّب اتجاهاتها ومقاصدها تبلورت روابط جمة منها الرابطة الوجدانية الروحية فكان الفن واحداً من أرقى هذه الروابط .
إياد الآلوسي
فنان تشكيلي ،
بكالوريوس فنون جامعة بغداد أكاديمية الفنون الجميلة فرع سيراميك عام 1971
درس الفن على يد الرواد الأوائل الأساتذة فايق حسن والفنان فرج عبو , إسماعيل الشيخلي , محمد غني حكمت ، محمد الحسني ، إسماعيل فتاح الترك ، فالنتنوس كارالمبوس والفنان سعد شاكر
في البدء تأثر بالعديد من المدارس الفنية وكان للفنان فايق حسن والفنان فالنتنوس والفنان غني حكمت الأثر الكبير في تكوين شخصيته الفنية .
عضو جمعية الفنانين التشكيلين العراقية
عضو جمعية الخطاطين العراقيين
عضو نقابة الفنانين العراقية
نقيب فناني محافظة صلاح الدين
إجتاز دورة تدريبية لمدة سنة في براغ لإدارة معامل السيراميك
إجتاز دورة تدريبية في - استكو اون ترنت - في لندن لإنتاج أنواع الخزف والسيراميك
إجتاز دورة الكوادر الفنية في بغداد
مارس تدريس الفن والخط العربي في مدارس ومعاهد معلمي ومعلمات وزارة التربية
كُرِّم أكثر من مرة
أقام 14 معرضاً شخصياً للفن التشكيلي في بغداد المركز والعديد من المحافظات
إشترك في مختلف المعارض المقامة في العراق وعلى مدى 35 سنة
يعتبر الفن هاجسه العذب الذي يتمكن من خلاله التعبير عن أحاسيسه وآلامه وآماله
بدأ في المدرسة الواقعية والإنطباعية وانتقل إلى الإسلوب التعبيري الرمزي .. لمنحه الأفقَ الأوسع في التعبير عن هموم الفنان
أما في أعمال الخزف فلقد امتلك لنفسه خطاً خاصاً وأسلوباً حاول من خلاله الإبتعاد عن التقليدية في أعماله الكثيرة من خلال اللون أو الخزف
زامل الفنان شكري الطيار وفيصل لعيبي وراجحة الغرنوي وسلمى العلاق ورجاء محمد علي ومخلد المختار
***** *****
في ذلك البيت المهجور كطلسم تنوء به الريح
فتثير حكايات لانهاية لها بغرفه الواسعة العارية وباحته المترامية
وضع ومنذ زمن أدواته وأصباغه وفرشاته وكرسياً بمسند خشبي يثبِّت عليه لوحته . في غرفة واسعة , نوافذها مشرعة عالية بلا ستائر تستقبل الشمس مطلة على الشارع القريب وعندما تهفو أفكاره وتتبعثر يترك كل شيء وينزل مسرعاً إلى السرداب الكبير بأعمدته الرخامية العريضة وجدرانه التي تمازجت عليها الألوان حتى غدت لوحات تجريدية , وتناثرت في الزوايا بعض الأجهزة الرياضية التي كان يلهبُ أفكارَهُ في التمرين عليها .
في أصيل ذلك اليوم أعلن بعض الصبية بأصوات مرعوبة أنَّ هناك في ذلك البيت المهجور ملاكاً صالحاً يرتدي ملابس بيضاء ويعطي ظهره للشارع ويتوجه إلى القبلة للصلاة .
تناثرت الحكاية بين أطراف المدينة الصغيرة فتجمع الأطفال والنساء والشباب من كل مكان , الكل يستبشر خائفاً بمقدم هذا الملاك الأبيض
إستمر الوقت وهذا الملاك لا يني يصلي والحشد يكبر
وبغتة وسط دهشة الجميع ظهر إياد منهمكاً برفع الستارة البيضاء التي وضعها على لوحته وقد أثارته تلك الجلبة والحشد الذي بدا مكوماً عند الباب الخارجي الواطئ , التفت إليهم فازدادت دهشتهم بين مصدق ومكذب .
إنفض الحشد يائساً خائباً فالكل كان يتمنى لو أن الملاك كان حقيقة إذن لسعدت لياليهم بحكايات لانهاية لها !
كان لازال طالباً في الثانوية ومنذ ذلك الحين .. تعلم أن يسدل ستائر على أي مكان يدخله .
*****
*****
كنا مأخوذين معه في ذلك التوق الجميل ، لأي شيء ستؤول أعماله ، مباركاً من الوالد الذي كان يحوم حوله صامتاً لا يعرف كيف ينهاه ولماذا .
لقد حوّل الفناء الخلفي للدار إلى ورشة عمل لبناء تلك الكورة مستعيناً بما درسه عمن بارك الطين بالنار وجعله يبقى آلاف السنين ، وتحت شجرة الليمون الوارفة كان يقضي الوقت في عمله صامتا بعض الوقت ، أو مستنطقاً أوتار عوده ،
وفجأة وبعد أن أكمل بنائها .. وفي ظهيرة ذلك اليوم التموزي الحار سمعنا صوته ممزوجا بصرخات الجيران .
كانت النار تلتهم الفناء الخلفي وشجرة الليمون الخضراء ، وإياد يقف على الجدار يحاول زحزحة مستودع النفط الممتد إلى الكورة المستعرة لكن النيران كانت قد وصلت إلى قدميه فرمى بالمستودع إلى النار فالتهبت الدنيا وما فيها !
قال وهو يداوي حروقه : هناك غلط في البناء
بعد أيام عاد إلى بناء الكورة من جديد لكنه فشل هذه المرة
وبعد محاولات عدة نجح أخيراً في بنائها وكان أن سافر من الفجر إلى بغداد ليعود ومعه أساتذته
الفنان فالنتانوس كارالامبوس قبرصي من أصل يوناني ومصمم لجداريه مطار هيثرو في لندن وكان أستاذاً للفن في أكاديمية الفنون الجميلة جامعة بغداد
الفنان سعد شاكر أستاذ الفن الفخاري والتزجيج في نفس الأكاديمية
الفنان الدكتور تركي حسين أستاذ الفن في الأكاديمية حاليا
والأديب الفنان شكري الطيار
لكي يروا الكورة البدائية وليباركوا نتاجاته الأولى في السيراميك
ومنذ ذلك الحين أصبح البيت معرضه الشخصي الزاخر بكل أعماله الفخارية وأعمال السيراميك
كان مثلاً يضع تماثيله لنساء في شتى الأوضاع على مرأى الضيوف فلم يكن أمام الوالد إلا أن يسدل عليها ستاراً كلما دخل علينا ضيفٌ ممن لا يدركون عميقاً مغزى الفن ورسالة الجمال
حتى أن أحدهم قال له بعد أن تلفت في البيت :
- لقد عدتَ ببيتك إلى عهد الأصنام يا رجل !
وكان كثيراً ما يصمت أمام الإنتقادات ويزيد من توزيع لوحات إياد بمنتهى الزهو على جدران البيت ...البسملة جدارية 105× 105 سم
1988
110 سم × 90
لوحة زيتية 1989
شكل طوطمي
عرض 25 سم × 15 سم
تكوين مائي
20سم ×40 سمموضوع مائي
45 سم × 35 سمموضوع مائي
45 سم × 30 سم
الجمعة، أغسطس 15، 2008
مملكتان في قبو
لمياء الآلوسي
زخات المطر تغرقها برفيفها المنحاز لإنعاشها ، وملابسها الخفيفة التي أصبحت بلا لون تلتصق بجسدها ،
لسعة البرد اللذيذة هذه والرشقات المتتالية لمطر المساء ، تبعثرها مصابيح الشارع ،
وتلك المصابيح التي ينفرد بها المطر ، حُرَّاً متلاعباً بين انعطافات الأشجار والأبنية الصامتة ..
بكل ما فيها من حياة فرحت بهذه الحرية المبتسرة ، أرادت أن تُبقي ذكراها لكل سنوات عمرها القادمة ، إستخفها الفرح فتقدمت قليلاً عن مرافقيها ، نهرَها الرجل المفتول العضلات الذي يحاذيها ، فقصرت من وقع خطواتها على إسفلت ذلك الشارع الذي تمنت ألا ينتهي ..
منذ زمن بعيد ، نسيت أن للحياة دروباً طويلة عليها أن تسلكها ،
لكن ذلك الرجل الغاضب أبداً وقبل أن يُدخلها إلى هذا المكان ، أمرها أن تنزع فستانها ، امتنعت بشدة ، فمزَّقه وكومه بين قدميها ، تاركاً جسدها الفتي عارياً تماماً ، انحنت على جسدها تحميه ، وتحاول التقاط ما تبقى من ملابسها باشمئزاز هائل حزين ، ثم دفعها عبر باب حديد أغلقه دونها بقوة ،
ألغيت فرحتها المباغتة ، كان الظلام مطبقاً ، وكل شيء يبرعم فيها خوفاً ، تعلمت الإنتصار عليه كثيراً ، لكنها أيقنت هذه المرة أنها على أعتاب نزال من نوع آخر ، وربما لن تقاومه كثيرا ، لكنها رغم ذلك لن تبيح لهم انتهاك صمتها كثيرا ،
بعد أن فُتح ذلك الباب الحديدي ، لم يكن أمامها إلا خيار واحد هو أن تندفع إلى الداخل ، فارتطمت بجدار الغرفة ، وقبل أن تتبين مكانها الجديد ، أُغلق الباب وساد الظلام ، فتلمست طريقها جيداً ، بحثت عن التفاصيل ، مدت يديها في كل الإتجاهات ، فارتابت أن المكان قد لا يتسع إلا لجسدها !
أحست أن ذلك يحز رقبتها حزاً تسمعه ، فيملأها إحساس أنها تتحدى قوما مجهولين بلا ضمانات .
ستعتاد الظلام ، مدت ذراعيها مرة أخرى باحثة عن خبايا هذه الغرفة فارتطمت بشيء دائري وحنفية ، لم يكن في المكان شيء آخر ، لازالت رائحة المطر تزغرد على شعرها الذي تركوه هارباً من بين يديها فتناست أنهم يساومونها على عريها
ضحكت بمرارة : منذ سنوات وهي تخجل من جسدها النافر في مواضع عدة وأمها تزيد من تزيين فساتينها . كانت تقول
- يجب أن تخفي هذه الثورات العارمة في جسدك ، فالبيت مليء بالشباب ، إخوتك نعم ، لكن يبقى جسدك عورة !
تنقلت من زاوية إلى أخرى ، يلاحقها الخجل ، وعيون مخبأة في مكان ما ، تراقب عريها ,
فكرت : في أحيان كثيرة يكون جسد المرأة وخاصة في هكذا منزلقٍ عقوبة أخرى تضاف لها !
ارتجفت لصوت الباب الحديدي يفتح من جديد ، أرادت أن تبتعد عن مجال الرؤية فقرفصت محتمية بالجدار ، لكن مع توسع فرجة الباب تدفق الضوء إلى الداخل
خانتها ساقاها وتمنت في تلك اللحظة لو تبقى امتدادات الظلام وكل خباياه في حياتها ، لا تفارقها أبداً ،
تدثرت في شعرها الطويل ، تخبئ به جسدها ، تمنت لو تكون لها ألف يد ،تتسع لتصبح ثوباً فضفاضاً تسدله وقت تشاء على جسدها كله !
لكنها دفنت وجهها بين ساقيها وتكورت حتى تلاشت في جسدها الأبيض الناحل
اقتحمت رائحتُهُ المكان ..
ارتطم بجسدها الناعم , يتكور مرتجفا ،عند ذلك يسمع نهنهة بكاء ناعم ...
أجفل وتراجع إلى الوراء ، ولكن ليس بعيداً فحدود الغرفة لا تتجاوز حدود جسديهما
في تلك اللحظة عندما تلامسا .. أدرك حدود المحنة التي تورط بها
في ذلك المكان ، ورغم أن كلاًّ منهما يتحرك محاولاً الإنكفاء والتقلص ، كلاهما بدأ يغرز رأسه في جسده ، فكل حركة تنم عن أحدهما يجفل الآخر لها ، إذ أن ضيق المكان يجعلهما يلتصقان ببعضهما كلما حاولا الإبتعاد ،
كان لحضورها القلق معه ، شفق من الصدق والإنتماء ، رغم أنه انتابته خشية عابرة من أن تستيقط لديه أجراس ما في أغواره الطينية المجهولة والتي تعلم بشكلٍ حسنٍ أن يدحرها بعيداً
بعد زمن حسبته دهراً ، عندما فكت التحام جسدها حول ساقيها ، تداخلت أمامها الرؤى ، ولكنها هذه المرة وبعد لمحات من الصحو والحياة ، تلاشت إلى أبعد نقطة في كبريائها
رأته , كان يجلس في البقعة المتبقية من الغرفة أمامها ملتصقة ساقه بساقها ، وأنفاسه قريبة من أنفاسها
لكنه كان يجلس , كما فعلت , مقرفصاً متداخلا ًغامداً وجهه بين ساقيه العاريتين .
مر الوقت طويلاً قبل أن يتمكن من أن يسألها : منذ متى وأنت هنا ؟؟
تمنى أن يجعلها تركن إليه ولا تخشاه
كل منهما أراد أن يعرف لمَ جيءَ به إلى هنا ؟ ولماذا ؟ ما الذي يدعوهم لوضعهما معاً في هذا المكان العجيب ؟ تُسلط عليهما الأضواء هكذا ، لكن الأسئلة خبئت وما عاد لها معنى ، ليس مهماً الآن مَن هؤلاء ، بل المهم الخروج من الهوة .
تماسك صوته قليلا ، لم ينتظر إجابتها على سؤاله ، الذي بدا عائماً بلا قرار ، أي معنى للزمن !! وكل الأشياء غدت هلامية بلا امتداد .
- منذ زمن .... هنا ..... كنت قبلك !
كان الباب المغلق أبداً مزوداً بفتحة ضيقة من الأسفل تسمح لمرور صحن الطعام لثلاث مرات قي اليوم ، ثلاث مرات غدت مواقيت أيامهما معاً ، منها يعرفان أن الوقت يمر والأيام تترى ... أما الزمن بدون هذه المواقيت فلقد أصبح لهما معا ، كان يبقي لها كل وجبات الطعام المقدمة إليهما .
لكنه بمرور الوقت عرف أنها هي أيضا ، كانت تبقي له معظم حصتها من الطعام
فرغم سنواته الفتية ، إلا انه أحس أن هذه الفتاة هي كل ما يملك ، كل ما يمكنه الحفاظ عليه ، بل أحس للحظات أنها جزء منه ، أرادها أن تأمنه ، أن يجعلها تتجاوز عريها أمامه .
حاول أن يكلمها , أن يمد نسمةً من الألفة بينهما
لكنه .. . ورغم هذا الإحساس بالثقة ، كان يعي تماماً ، هذا الخوف الممتد بينهما , هذا الإحراج ، منها .. منه ... صوته مدها بشجاعة مضافة ، جعلها ترفع رأسها قليلا ً
فالتقت عيناهما ، لأول مرة منذ حفنة الأيام التي مرت ، رأته بتلك السمرة التي افتقدتها الشمس
ابتسم لها ، أطرقت خجلى ، لأول مرة شيءٌ ما جعلها ، تريح جسدها قليلاً ، فبين جفنيه ، وعلى جبينه الأسمر ، تغلغل عالم من عواصف هائلة , إمتدت بها إلى أرض لا تُحزَر بالمسافات .
بدون أن تعي انسابت دموعها ، فرغم ذلك الألق الحميمي الذي أحاط به كل واحد منهما صاحبه في تلك الغرفة غير المصدقة والعصية كسؤال ، فهما يعرفان أن هناك من ينتظر لحظة سقوطهما معا ، وربما راهنا على ما سيفعلانه لاحقا .. لكنهما كانا أيضا يراهنان على كبريائهما
- ِ يا ابنة العم !
سحقتها تلك العبارة فبكت بعنف كأنها بين ذراعي أمها ، فامتدت كفه تربت على رأسها , أجفلت ... رفعت وجهها إليه ، فرأت دموعه تنساب على وجنتيه كبلور ذائب , دنت منه أكثر ثم ربتت هي الأخرى على كفه بحنوٍّ يشي بارتباك مع ذلك , إنها تواسيه ،
وكلاهما أكبر من كل المواساة ,
هؤلاء القساة لا يدركون أنَّ الأسى خيمة بحجم السديم ، وأن لحظات الحلم خارج هذا السديم هي ما يدفع الكائن للإبقاء على رجاء ، وإن كان بلا ملامح ؟
ضحكا بقوة ربما ليزيحا هذه الغلالة من البَهَت ...
قليلة هي المرات التي كانت ترفع بها رأسها ، لكنه كان يعرف أنها تريد أن تتحرك قليلا ، فكان يغمد وجهه في الجدار خلفه ، ويترك لها تلك المساحة الصغيرة المتبقية ، تمتلكها لوحدها ، تفعل بها ما تشاء ، وكأن بينهما جداراً إسمنتياً
حتى انه ذات مرة سمعها تترنم بأغنية تراثية قديمة ، بل سمع وقع خطواتها المحدودة على الأرض ، وكأنها تتهادى راقصة على أنغام موسيقى تسمعها هي لوحدها فأحس مع ذلك بأنه سمعها معها !
وبمرور الوقت وبمجرد أن يرفع رأسه لبرهةٍ تدير جسدها هي الأخرى إلى جهة الجدار ، عندها يمتد ذلك الجدار الإسمنتي بينهما من جديد ، فتمنحه ذلك الإمتداد الذي يتسع له الكون كله ،
قال لها ذات يوم : في قريتنا البعيدة والمنسية على إحدى ضفاف الفرات ، كانت بيوتنا الطينية تضاء بمصابيح خافته ، وكانت الليالي الشتوية طويلة جداً ، لكن هناك في الجوار امرأة لها طريقة غريبة في قص الحكايات ، كانت تحمل فانوسها وقدرتها على تحريك كل جزء من وجهها ، لتجعل للحكايات نكهة خاصة ، فكنا نتحلق حولها ، وفي الغالب كان لحكاياتها طعم السحر ، فماهي إلا لحظات ونكون في عالم آخر ، صنعته هي لنا ، وكنا نصدقها بكل ما فينا من طفولة وطيبة ، ثم نفيق في ذلك الليل ، لنحمل لها فانوسها ، وما تجود به الوالدة عليها ، فنتدحرج معها عبر ذلك الزقاق الموحش ، ونعود نتقافز خوفا ورهبة ، لكن سحر الحكايات يبقى حتى في أحلامنا
ضحك : لم يكن في حينها تلفزيون في بيتنا ، فكانت تلك المرأة نافذتنا إلى العالم الممتد بعيداً ، كان لنا صديق اسمه حسين النمنم وامرأة متوحشة لكنها عامرة بالحب يسمونها السعلوة ورجل طافح بالفرح اسمه فرج الأقرع يمتطي صهوة خيول القرية ويشرب حليب أبقارها ويسخر من شجعانها
بدت متحيرة تتلفت حولها تبحث عن إرث لأيامها فلا تجد إلا إرث الكتب والتلفزيون .
منذ ذلك الحين صارت أوقاتهما تزجى بالحكايات الممهورة بالدفء والذكريات , نسي كل منهما عالمه الذي شكّل خلاياه وكيانه الروحي والمادي فصارا غارقَين في عالم جديد عاشاه معا .
تلك الحكايات التي لن ينتبه لها سارقو الفرح من قلوب وأصابع الناس والأشياء ، أغنياتُ الأمل المبهجة بالنسبة لهم كعملة تقادم عهدها ، هؤلاء المنبسطون كسطح صفيح ، كيف ترجوهم أو تدعو عليهم وهم السجناء فعلا لا أنت ؟
إلتفتَ الإثنان لبعضهما , خامرهما إدراك خاص وبرّاق بأنهما تجاوزا هذا الإحراج الممض وأنهما عرفا أن كل ما مر بهما كان تحدياً بهياً , وكمملكتين من الجمال , زادهما التصاقا .
***********
بعد أيام طويلة فتح الباب الحديدي ذات صباح ، لأول مرة منذ أن أوصد ذلك اليوم ، فالتجأت إليه دون وعيٍ منها ، فجعلها وراء ظهره ، لكنهم هذه المرة القوا عليهما بقطعتي قماش ولم يُغلق الباب ، إنفلتت مبتعدة عنه ، وأحاطت على عجل جسدَها العاري بإحدى قطعتي القماش ,
وقفا متقابلين وقد غدا دثارهما يغطي جسديهما تماماً ، وثمة امتداد من الفرح المباغت رسا عند روحيهما او قُلْ روحِهما !
عندما تلقفها الشارع هذه المرة كان ثمة هلالٌ بدا كابتسامة حبيب , يا للعجب , إنه الهلال ذاته الذي بدا لها بفضائه , بحمرته , بشكلهِ , بسخاء ضيائه وهو يريقه في ليالي التأمل الماضية أشبهَ بجرح يجهل الإلتئام ، إنه الآن يطلُّ عليها من بعيد كابتسامة مطمئنة ، فأغمضت عينيها على حدسٍ شيِّقٍ أن يجتمعا معاً في مساء وشيك , ليتعانقا , لينظرا الى تلك الأقبية وهي تغورَ في أقبيتها !
الأحد، يوليو 20، 2008
تلك نجمة عراقية / لمياء الآلوسي
فوق منضدتي الخشبية الصغيرة ، حاولت , لملمت أوراقي المبعثرة ، لم أكن اعرف أني كتبت ذلك كله وسط شعور بهذيان بهيجٍ ، هكذا يكون الإنسان عندما يتخلى عن ذاكرة الآلهة ، نبياً منعتقا من جحيم الخيال ، ويصبح نافراً بلا لجامٍ , يصبحُ غيرَ مأمون الجانب وكأنه مهرة مجنونة !
في ذلك الذوق المفروش بالعوسج ، في ظهيرة يوم عراقي مليء بالخوف والترقب ، وحيث الدخان يدخل إلى القلب ليخدر الحياة فينا , كان صوتها يصلني ، فيدفع أفكاري كأبخرة تتصاعد لتتبدَّد .
ماعدت قادرة على الإحتمال في هذه الأجواء المشحونة ، فبيوتنا التي بُنيتْ منذ عهد بعيد تتماهى فيما بينها وتتلاصق ، حتى يصبح الهمس مشتركاً والألم واحداً ، فلقد كنا نسكن في تلك المنازل المُنَضَّدة على التلال المطلة كالأثداء على ضفاف النهر ...
بيوتٍ شهدت دون إرادةٍ منها او بإرادةٍ ! صنوفَ الحكايات المخبأة والسعيدة الحزينة ، ولازالت تضمنا او نضمها لا ندري ...
بيوت شرقية صغيرة ، أسجيتها العالية تهرأت بمرور الزمن ، وأصبحت تنبئ بخجلٍ ، أنَّ هناك أسواراً بيننا بما تبقى فيها من حجارة ، لكن ما بيني وبين جارتي وابنتها ليس سوى علب الصفيح الصدئة عملنا معاً على ملئها بالطين ، وغرزنا فيها بعض النباتات المشتركة التي كنا نتناولها بحميميةٍ مع أقراص الخبز الطازجة ، كلما أوقدت تنورها الطيني ، وأوقدت معه حكاياتٍ شجية وكثيراً ما تُدعو للإستزادة لغرابتها ، لكنها لا تلبث أن تبترها فتتركني فريسةً لتذمري او لإشفاقي !
ركضتْ عبر السياج , دخلت باحة بيتها .
كانت تقف بجانب تنورها الطيني ، في تلك الباحة المكشوفة ، متشحة بالبياض ، وتتلفع بفوطة عراقية بيضاء لكن خصلات شعرها الأبيض الممزوجة ببقايا من سحب الحناء الشاحبة تهلهل متماوجة من خلف ستارها الأبيض
- أنت هنا ؟؟
همست لي وفي عينيها بريق أخافني . وضعتْ كلتا كفيها على فوهة التنور الخامد ، وأحنت رأسها وكأنها غارقة في صلاتها .
- ستة أولاد أردتهم أن يطهروني من هذه الدنيا , ذهبوا جميعاً ( صفقت بكلتا يديها وأزاحتهما عاليا ) وتركوني للوحشة , ستة أولاد مع أبيهم وهذه المسكينة .
قالتها وهي تشير إلى ابنتها الجالسة في الزاوية البعيدة منتحبة تلطم صدرها العاري .
- تتصور أني مجنونة .
إقتربت الإبنة خائفة .
- منذ أن رأت سحب الدخان
- لكنها تعرف جيداً أنَّ ذلك بسبب الإنفجارات وهذا ليس جديداً علينا .
- لقد جُنَّت هذه المرأة , جُنت , تتصور أنها نهاية الدنيا ، ويوم القيامة آتٍ دون شكٍّ .
إندفع صوتها المبحوح
- دجلة , نهرنا الجلاّب , لقد كنتِ صغيرة , ألا تذكرين ؟
بدأت تجوب المكان ثم توقفت على حافة التل العالي الباسط كفيه على كتف النهر و كأنه يوصيه ، ثم انحدرتْ بانحدار الطريق الترابي الذي عبدته أقدام من مروا عبر هذا الزمان ...
فبيتها هو الوحيد الذي أعتقته من الحواجز ، وتركت المكان مفتوحاً بينه وبين النهر .
في لحظة وجلٍ يكبلنا أنا والإبنة مشت جارتي المليئة بالحياة ، باتجاه النهر ، فأمامها بضعة أمتارٍ في أرض وعرة ...
مشينا خلفها مبقين على مسافة بيننا ، لأننا نعرف أنها عنزة جبلية لا تُقهر !
في الأفق البعيد ... إمتداد عجيب لسحب الدخان المتماوج يمتلك النهر ، فيدفعه بقوة سحرية إلى فسحة السماء فيلتهب العشب المخضل بالقطران ، ويمد رداءه على طول النهر وعرضه , يتدفق اللهب في كل مكان , ينسحب مرة معتذراً للنهر , يجرجره هواءُ تموز اللاهب فيتماوج في كل مكان متناسياً اعتذاره !
توقفنا نحن الثلاثة غير بعيد عن النهر لكنها انفلتت مندفعة إلى أحضان دجلة كما العاشقة البكر بعد أن أزاحتْ فوطتها وألقت بها على الشاطئ ، وبدأت تغرف بيديها من مائه لتسكبَهُ عليه في محاولة لإخماد نارهِ ! أية غرابة وأي عجب ومَن يطفيء النار بالنار ؟
ولكنها - وهذا هو الأغرب - تؤمن عميقاً بإمكانية ذلك .
- لقد جنت , الم أقل لك ( قالتها الابنة هامسة وسط ذهولها )
- في الصباح عندما سمعنا إنفجار أنبوب النفط , وتدفقت النيران على ضفاف دجلة ، وجدتُها تركض إلى خزانة ملابسها لترتدي الملابس التي تدخرها للحج ووجدتها تدور حول البيت , تصرخ : إنه يوم القيامة يا ناس ، وأنا لم أتطهر من ذنوبي ، ستحل علينا لعنة الرب ، حاولتُ تهدئتها لكنها لم تكن تسمعني .
تذكرتُ وأنا أتأملها أن بعض المتصوفة أجازوا أنْ يطوف الإنسان حول بيته ، بعد أن يعطره ويغتسل ويرتدي ثياباً بيضاء نظيفة ، فيكون كمَن أدَّى فريضة الحج !!
ولكن هذه المرأة ... أية طريقة صوفية تتبع !! وهي بكل هذه البساطة ؟
خرجتْ باتجاهنا وقد التصق ثوبها , الذي غدا بنياً , بما علق به من بعض العشب المحترق ، والحلفاء المتفحمة , بجسدها المختلج , وبقايا حشائش على شعرها المجدولِ خلف ظهرها ...
تربعتْ على الشاطئ كسيرةً حزينة فأحطنا بها ونحن نرى الحريق يمتد باتجاه الريح إلى الجنوب ، فيشتعل العالم حولنا ، وإذا اشتعل فسينطفئ ويُذرّى ذات يوم , ساعةٍ , هنيهةٍ ولكنَّ ما في القلوب مَن سيذرِّيه ؟
سمعتها تهمس :
- كنا نوقظ الفجر , نسابق الدنيا وننزل إلى النهر ، وخلفي أولادي الستة وأبوهم ، عبر طريقنا الوعرة , وبطوننا خاوية والماء البارد يلسعنا في كل مكان وعندما تتجمع السحب فوق الرؤوس الصارخة بالحياة ، وتنشب أظفارها فينا بزخات كحمم البراكين , يصبح وقع القطرة على جلودنا المنسوخة كأنها من صلب الشياطين ! كما الموت القاتل ، لكننا كنا نرفع ملابسنا ونتعرى فحياتنا رهنٌ بما يجود به هذا النهر الغاضب , وفي كثير من الأحيان أرفع كل ملابسي , يسترني الغبش الربيعي , وكان جسدي بضاً لم تطله الشمس ، وربما لهذا السبب لم يكنْ أحدٌَ يبالي !
فكان علي أن أغوص في وسط النهر فترطمني أمواجه ، تسحقني لكني أتشبث بالطين , بغريَنهِ كي أجمع ما جرفه رغم إحساسي بما يشبه اليقين بعضَ الأحيان أنني أصبحتُ من بين ما يجرفه ... كان يمنحنا هداياه ، فنتشبث بكل شيء حتى القشة الصغيرة ، فإن تركناها ، سيأخذها جيراننا الذين جاءوا بعدنا !
نعرف أنه خرَّبَ القرى الفقيرة البعيدة ، لكننا فقراء أيضا ، وهو يعمر بيوتنا حولاً كاملاً ...
كنت أسمع امتعاضَ الستة وشكواهم من البرد والمطر ، ومن هذا العمل الذي يسرق منهم نشوة التباهي أمام أقرانهم , بقدرة تنوري على إدخالهم المدارس ، ورغبتي في أن يطالوا الشمس ذات يوم ، ويتمكنوا من أن يسألوا السماء :
لماذا تنثر غبارها الأسود علينا وليس على أعدائها ؟ لماذا يمهر ناسنا بالألم والحزن في هذا الوقت فيتركه مُحدِّقاً كالهاوية ؟
ثم أين هم الآن ؟ تناثرت أشلاؤهم وأضحت الأرض تنحني أمام عالمهم السماوي . .
نهضت ثم عادت إلى النهر ورفعت هذه المرة فوطتها ثم ألقتها إلى النهر ..................
- لو كانوا هنا لما حدث ذلك كله .
بعد عدة أعوام رأيتها على الضفة الثانية وكان مساءاً .
كانت جالسة على بساط ، في حقلٍ يطفح من بين ثناياه عشبٌ ملونٌ لم أرد أن أصدق أنها هي لذا اكتفيت بأن أسمع بعض همسات تفوح منها
قالت للستة ومعهم البنت وهم متحلقون حولها كهالةٍ من الحبور والإصغاء : كان هذا جيلاً وحكاية ,
حكايةً ظلت تخشى أن ترى لها خاتمة , فمَن منكم سيشْرع بتدوين عنفها لتكون أغنية أنتم أنغامُها والقلوبُ التي تُصغي اليها !؟
الخميس، يوليو 17، 2008
رائحة الحب
كان ذلك البيت الكبير ،يملؤني بالخوف ، والرهبة ، والتي تحل بي منذ ساعات الغروب ، ومع ذلك الضوء القاتم من الشعاع الأحمر الغارق بالصمت ، ويزداد مع قدوم المساء ، إذ إنه بني في فترات طويلة ، و أزمنة مختلفة ، مما جعله لاينتمي الى طراز واحد ، وحدها تلك الباحة الصغيرة بشجرة الرمان الهرمة ، وتعريشة العنب المتدافعة معها ، تعلن عن حكايات من مروا بهذا البيت ، كل غرفة من غرفه الكثيرة ، كان بها من الزخارف والكوات المفتوحة في الجدران ، ما ينبأ بأنه لا يعود إلى زمن واحد ، غرف متداخلة ، موصدة أبوابها لاتفتح ، مهملة ، وموحشة ، وفارغة .. لا تقطنها سوى الرطوبة والخفافيش ، وبضع أثاث متهريء قديم .. تنطلق منها أصوات مبهمة ممزوجة بهمسات الريح وهزيمها ، أما أبوابها ألموغلة بالقدم ..فلقد كانت تتأوه معلنة عن هزيمتها ، وعجزها أمام السنين
بمواجهة الطارمة في ألأسفل ، حيث فرشت ألأرائك الخشبية أمام ألغرفة ألمظلمة في كل ساعات ألنهار ، تلك الغرفة التي تجلس ألوالدة فيها طوال أليوم ، تمتلك سلطانها وقوتها والكل يناديها بالوالدة ، إلا إنها لم تنجب إلا ابنة أصرت على أن تجنبها الزواج وتبعدها عن كل ألرجال ألراغبين فيها ، وإبنا يعيش عالمه الخاص ، بكل ما يكتنفه من غموض وأسرار ، لا يجرؤ أحد على ولوجه
كنت أدخل خلسة إلى غرفته فلقد إمتدت شجرة الرمان ، وإحتضنت تعريشة العنب ودفعتها لتركع أمام باب غرفته ألمنعزلة ، ألوحيدة على ألسطح ألجانبي ، يفتح لها بابان خشبيان ويرتقي إليها عبر سلمين حجريين ، وحدي التي أفعل ذلك ، أسترق لحظة إنشغال البيت عني ، حنين يملؤني في ذلك ألمكان ، ويبعثر إحساسي بالخوف ، فأبقى متوجسة من أن ترتطم يداي بأيِ شيء مما تحتويه ألأرفف ، والمنضدة من ألاف الكتب والتحفيات ، نوع من ألتوق القدسي يكتنفني ، ويبعثر كل هامات صمتي ألطويل ، منذ أن أتيت إلى هذه المدينة المنسية على حافة نهر دجلة ، ألمسورة بقلاع الهوس المجنون ، لأباطرة حطوا فترة وأنتهوا لا يذكرهم الزمان ، أرادوا أن يتحصنوا بجبال المنطقة العالية ، ليجنوا ألخلود ألأرعن
كان يضع مفتاح بابيه معي ، هكذا كان إتفاق غير معلن بيننا ، دخلت هذه المرة ، كانت ألعينان ألغارقتان في تساؤل مملوء بالحب ، وألتوق ، تنوس حوله رائحة قريبة من سحر ملائكي ، فيه إنباعثة ألخلق ألأول ، ارتعشت لظلال تلك ألسخرية ألمتهادية بين إستباقات ألحنين في نظرته ، إنبعث في المكان عطر سماوي قادم من بين طيات ألشعر ألكستنائي ألمتموج على جبينه المتغضن ، لازلت أتأرجح في مكاني تسري في أحاسيس تنقلني الى دنياه هو ، كان يحمل بين أصابعة سيجارته ألمشتعلة ، وشبح أبتسامته يعلن
- لازلت صبية أيتها ألغيمة ألمرعدة ..
ومن خلال ألنافذة ألوحيدة ألتي تشغل جزء من ألجدار ، ومن بعيد كان النهر ينساب رخيا وصوت خافت ينبعث من جهاز تسجيل ، تركه وحيدا في ألزاوية ألبعيدة ، جدران الغرفة ، مليئة بكتب فخمة وأوراق مكدسة ، خلعت حذائي ، ودخلت ينسرح فيً إيقاع عذب ،آه .. جسدي ، تحركه أيد سحرية ، رفعتني بلا هموم ، وكأني غصن طري تأخذه رعشات هنية، على ألسرير ألوحيد ، وقفت ودفعت يدي عاليا ، أريد أن أطول الشمس أو هكذا تخيلت ، تحيط بي غلالة بلون السماء ، قد يدخل أحدهم علي في أية لحظة ، لكني تناسيت هذا ألإحتمال ، وأنغرزت في دنياه الرهيفة ، تنفست عبقه ، إرتشفت كل لمحة منه ، حتى إني نزلت عن السرير وحومت حول كتبه ، التي تمتلك الحظوة في انه أجلسها في حضنه ، ومسد على صفحاتها ، والتهم كلماتها
في خضم صلاتي وتوقي إليه ، تناغمت خطواته العجلى على السلم الحجري
سيدخل ماذا أقول له ؟ ولماذا أنا هنا ؟؟
لم يلتفت الى وجودي الطاريء بل تحرك وكأنني حلم ، ضباب ، أي شيء
اخذ حقيبته
- سوف ارحل .. لا جدوى من بقائي هنا ، لا اعرف الى أين ؟؟ لكنني لن أبقى هنا ، في كل محطة أقف بها سأعلمك بطريقة ما ، هذه الغرفة ستكون لك أنت فقط ، كل ما بها لك
- لا .. توقف (تعجبت لجرأتي واندفاعي) لن تذهب
- ماذا .... ؟؟( افلت الحقيبة ) لم يعد لي مكان هنا ، يجب أن ارحل
خرج وسط ذهولي ، قامته الطويلة كانت آخر ماأرتسم حولي ، ما حدث بهذه السرعة أورثني الشلل .. شيء ما كالنزيف غدا يقطر من كل شرايين روحي
فجأة .. توقف جهاز التسجيل ، وتوقفت الموسيقى ، وكل شيء
حدث ذلك ويحدث في كل مرة أدخل بها في غرفته كل مرة ، يأخذ حقيبته ويرحل بعيدا عني ويتوقف بعده كل شيء
** ** **
عندما دخلت أحمل المغلف البريدي ، كان غارقا في عمله ، يضع قطعة مستطيلة صغيرة من الخشب ، التي ينضد ألعشرات منها الى جواره ، ثم يدقها على ألحائط ، ليثبتها بالمسامير بعد أن يكتب عليها بقلمه الخاص وبالحبر الأسود بضعة رموز ، حاولت كثيرا فك طلاسمها لكنها لم تمنح غموضها إلا له .. غير بعيد عنه ، جلست شابة صغيرة تقعي على ركبتيها وهي تتأوه ، تسندها إمرأة عجوز ، تخيم تحت عباءتها ألسوداء صامتة خلف إبنتها ، وبين لحظة وأخرى كان العم يضع كفيه حول رأسها الصغير ، يزداد تأوهها فيضغط بقوة أكبر ، يتلو عدد لا يحصى من الآيات ألقرآنية ..ثم يعود ليدق مسمارا جديدا على ألخشبة ، كان العمل مجهدا لسنواته السبعين ، وظهره المقوس ، لكنه كان يمارسه بقدسية لا حدود لها
وضعت المغلف إلى جانبه وهممت بالخروج ، فإستوقفني ، جلست إلى جواره وهو يتلو أدعية أسمعها منه في كل مرة ، يدق بها هذه الأخشاب ، التي غزت كل جدران غرفته ،وامتدت الى جدران الغرف الأخرى ، يرفع صوته بين الفينة وألاخرى مرتلا الآيات القرآنية بصوت تعب متهدج
بعد أن فرغ من مهمته ، قبلت المرأة وإبنتها يديه وإنصرفتا ، خلفتا ورائهما ضجة من الدعوات
حملني بعض ما جادت به المرأة من رزقها البسيط
هرول أمامي ، بقامته الهزيلة ، يتعثر بجلبابه الطويل ، وقد إنحرفت عمامته إلى الخلف وأوشكت على السقوط ، اختفى وسط ألممرات ألضيقة لغرف ألبيت المتداخلة ، لكني كنت أعرف انه يقصدها .. كلما ألمت بالبيت حادثة يلجـأ إليها في غرفتها الواسعة ، والتي نادرا ما تطلبني إليها .. نما بيننا جفاء عجيب منذ اليوم الأول الذي دخلت به هذه الدار ، حتى أني أكاد لا أتذكر تفاصيل غرفتها ، رغم أنها مقعدة لا تتحرك ، إلا لتتوكأ على ابنتها الشابة ، كي توصلها لقضاء حاجتها في ذلك المرحاض الضيق ، ألمخيف ، أمام برميل ألماء ألحديدي ، حيث تنتصب شجرة الرمان
كان علي مهما كان الوقت أن أملأ الإبريق ، واقف مرتجفة الى أن تنتهي تلك المهمة الصعبة وكثيرة هي ألمهام التي يوكلونها لي ، ولكن خارج غرفتها
دخل ألعم عليها ، ووقفت أنا لاهثة وراءه في الطارمة ، علت أصواتهما وتداخلت كان الظرف البريدي موضوع للجدل ، لم تند عنها تلك الصرخة المعهودة . بل كان بكاءا مرا موصولا وندب لحظها العاثر ، لم يخرج مهرولا كالعادة ، وهذا يعني أن مصير البيت ، وما سيؤول إليه رهن بما تريد
في ذلك أليوم ، وبعد منتصف الليل ، عندما سمعت ذلك الطرق الخفيف على باب غرفتي تجمد في كل شيء وما عدت قادرة على رفع إصبعي ، كنت في سريري غارقة في كتابي
وقبل أن يأخذني الخوف معه الى عالمه الممزوج بالهلع ، تناثرت حركة غريبة وثمة همسات قريبة ، أخذت تتعالى رويدا ، وطرقا خفيفا جعلني اهدأ قليلا
كانت تقف أمامي وأنا افتح لها الباب
- لماذا تغلقين الباب ؟؟
تعجبت لقدومها ، لأول مرة تكلمني بدون نظرات الشك والاستغراب ، بل إنها كثيرا ماتتحاشى الكلام معي
- تركتهما معا ، منذ أكثر من أربعين سنة وهو ينام بعيدا عنها .
- اليوم عادا الى النوم معا ؟ قلت أمازحها
ضحكت : بعد هذه السنين ؟؟ هه ، أبدا !! إنها تفخر بأنها أنجبتنا أنا وأخي دون أن تدعه يرى ساقيها .. ولكنها الرسالة ، يقول انه لن يعود ، لن نراه مجددا .. وسيرسل لنا ما يساعدنا على العيش ، وكأن أمواله ستبارك أيامنا وتقتل وحدتنا وشوقنا إليه ، التفتت إلي
ألم تنتهي من إكمال دراستك ، أم انك تكتبين له رسالة ؟؟
- من ..؟ اكتب لمن ؟
- لممدوح لقد أعطاك مفتاح غرفته ، اختارك أنت ، لكنه تركنا جميعا ، وأنت أيضا
كنت أحاول مدارة تشتتي وحزني ، فدعوتها للجلوس ..
عزفت عن ذلك قائلة بعد أن رفعت الكتاب الذي كنت أضعه طوال الوقت على صدري ،
- ابتعدي عن كتبه ففيها لعنة الرب ، إني أخشى عليك منها ..
دفعت إليها بالكتاب : انه لي ، ليس كتابه
- بل كتابه ، أشم فيه رائحته ، حتى رائحة هذه الغرفة أصبحت تشبه رائحته ، أنت أيضا أصبحت مثله .. هذا الصمت ، وعدم الرغبة بأي شيء ، وكأن جذوركما لاتمت الى هذا ألبيت ألممهور بالحزن والخراب بصلة
أرادت الخروج لكنها التفتت إلي قبل أن تغلق الباب ورائها
- إن كتبت له فقولي ، إنك فينا ، رائحتك تسكننا ، تبعثر هذا الشوق إليك وتلملمه ، وتمحي المسافات التي تقتلنا ، نريدك أنت ، تعب انتظارنا منا ، نريدك أنت فقط