‏إظهار الرسائل ذات التسميات وليد جاسم الزبيدي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات وليد جاسم الزبيدي. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، سبتمبر 09، 2009

آخر الطريق أوله..أم أوّلُ الطريق آخره..؟

د. وليد جاسم الزبيدي
فاتحة مُرشيد، أطلّت علينا بديوانها الجديد وهي تفتح فتحاً مبيناً جديداً، أتت إلينا بفلسفةٍ ورؤى تختلف عن (ايماءات) و ( تعال نمطر)، و(ورق عاشق)، فأنها تختلفُ في مواقع وتتقاطع في مواقع ومقاطع أخرى. هنا لم تومئ، ولم تتناقض، ولم تُلغِ، إنها تُشكّلُ ، وأحياناً تتشكلُ بذاتها كائناً، ومرةً كائنات، تبعثرُها كما يبعثر الطفلُ ألعابه، ثم تتصالح معها، فهي لا تذوب في الفردية، ولا تلتحم مع الجمهور، تتنقلُ كفراشةٍ تحترق بوهج الإبهار، وهي تحملُ من كل هذا النسيج كائناً جديداً لعلهُ لم يولد بعد..؟!
في مولودها الجديد، وكائنها الجديد، يكون الإفتتاح بمقولةٍ للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا
( 1888- 1935م) : (الأدبُ هو الدليل على أن الحياة لا تكفي)، هو شاعر القلق والأمل واليأس والرجاء،فهو يرى الحياة غير متكاملة، وأن الأدب اجتماعي أو مجتمعي فلكون الحياة غير كاملة يتكامل نقصها بوجود الأدب، فالأدب هو الكمال الإجتماعي وهو ليس عمل فردي بحت، فلذلك أنتج الإنسان هذا ألدب لتكون الحياة كاملةً متكاملة، هذه هي فلسفة الشاعر بيسوا، فهل جاءت الشاعرة من رحم هذه المقولة؟، وهل أن بإشارتها هذه يعني أن كائنها من فلسفة هذا الشاعر البرتغالي؟ ، وهل أن الشاعرة متعايشة ومتناغمة مع فلسفة بيسوا؟ ، كلها أسئلة تدور في خلد المتلقي عندما يبدأ تصفّح الديوان وقراءتهِ للمرة الأولى.
فبعد حين ، ومن يعرف روحية وهاجس فاتحة، ومنْ استوطن في أغوار حروفها وصورها ومعانيها، سيكتشف، أنها وضعت هذه المقولة، والعبارة، لا أن تكون صدىً لها ، بل لتعاكسها، وتتمرد عليها، ولتنطلق نحو فلسفةٍ جديدةٍ فيها التفرّد والتمرد، والانزياح..فلقد كانت ثقافة ووعي الشاعرة والروائية المغربية سفينة النجاة لها في عباب وخضم البحار التي تعوم فيها، فكل موجة وتيار يصرخ ويهدر بما في جعبته، وكل رأي وفلسفةٍ إعصارٌ يمتد ليقتلع الجذور، إلاّ أن فاتحة، كانت عصيةً بوجه كل التيارات سواء المعتدلة أو المتطرفة، فهي مع الإعتدال، تظهرُ كل الجدّة، والتسلط، ومع التطرف تلوي ذراع الصّرع وتفكّه من قيوده التي تعلقه بالذهان تارةَ وبالرهاب تارةً أو بعقيدةٍ تغورُ في الصخر..
في الديوان وردت أسماء لأعلام في الأدب والثقافة ، إنها بطاقات ملوّنة طالما تتحفنا بأسماء وإحالات لأعلام تُدِلّ بها على ثقافتها وسعة وحجم قراءاتها، ووعيها في الإختيار، وماذا تختار؟ فقد جاءت هنا أعلام بدءاًَ من الصفحة الأولى، وجعلتنا (فاتحة) في متحفها هذا أن نطّلعَ على تلك الشخصيات التي قد سمعنا بها فقط أو لم نسمعها جعلتني بطريقة وأخرى أن أعمد الى دراسة تلك الشخصيات كي أسبر أغوار الشاعرة وكلماتها ومقتنياتها الشعرية وإكسسوارات المعنى واللفظ ، فقد كان فضلاً عن فرناندو بيسوا الشاعر البرتغالي الذي ذكرته آنفاً، وكان: فاون ستيين، ومريانة لارسن ، وبيني أندرسن، والأديب المغربي إدمون عمران المليح.وكانت فاتحة في كل إصدار وإبداع جديد تضيف إلينا أسماء مبدعين، فهي لم تضف أسماء أو تحصر أعلام من هنا أو هناك، بل أنها تجمع أفكارهم وفلسفاتهم، بما ينتمي لأفكارها أو بما يتواءم مع كتاباتها وصورها. فقد أتت بأسماء وأعلام تختلف عمّا أتت بهم في رواياتها (لحظات لا غير) و( مخالب المتعة).
- النص الأول: يوميات الحزن بجدة: (ص:9): - وهي مهداة: ( الى روح والدي الذي لن يموت..)..
لم تكن القصيدة مرثية بل كانت مشاعر لإسترجاع الذات، ووجدانية في رسم خارطة العواطف، الأب، الذي انغمست بجلبابه ومساماته،عانقت حروفها نفحات القرآن ، ( أقرأ عليك/ سورة مريم)، (لعل الذكرى/تنفع المؤمنين)، (يومَ وُلدتَ)،كما أنها تنظر لأبيها في لحظات التوديع الأخيرة في جدة( أنظرُ إليك/أراكَ لأول مرةٍ/عارياً/ سوى من كبرياء الألم/). وهي تتمنى ولادةً جديدةً لأبيها في رحمها(هل من معجزةٍ/تنفخُ في رحمي/ فتولدُ من جديد). كما وتدرج بين ثنايا النّص اللهجة السعودية حيث يقول لها المتشددون (غطّي شعرك ياحُرمة..)، و(احتشمي يا حرمة).وتصوّر في نصها صورة الوفاة لوالدها: (ويحهم /سرقوا منك/تذكرة العودة/ وجواز السفر/)، إنها تعني هي الرحلة الأخيرة ، وأن الإنسان تحترق كل أوراقه وتُصادر حالما تحتضر الروح، فتُشطب كلّ أوراقه، ولم تبق غير أعماله التي تسبقه حيث ألهناك..
-النص الثاني:أنا العابرُ.. مقيمٌ فيكَ: (ص:31):
تبينُ هنا وفي هذا النّص فلسفة الشاعرة، والثنائية الجميلة التي تؤكد أن مع الحياة موت، ومع اللقاء رحيل، فهي تقول( مثقلةٌ بي/ مثقلٌ بها)، و( تحملني/ أحملها)، و( مثقلةٌ بعزلتي/ مثقلٌ بعزلتها)، و( تمقتني/أحبها)و( تحبني/أمقتها)، و( أتعثرُ بظلها- تتعثرُ بظلي)، ثنائيات كثيرة وجميلة، تتوحد فتفترق، تفترقُ فتتوحّد.. وفي هذا النّص الجميل تكرّر الشاعرة الروائية عبارتها الأثيرة التي ذكرتها في روايتها( لحظات لا غير)، ولكن بصيغةٍ أخرى وتعطيها دلالة مغايرة ومختلفة، فلقد كانت العبارة التي صدّرت الرواية بها: تريّث قليلاً أيها الموت أني أكتب). وهنا وردت العبارة في النّص شعرياً: ( تريّثي قليلاً/ أيتها الحقيبة/إنّي أحب/)..
لاحظ الاستخدام الشعري الموسيقي في هذه العبارة وكيف أتى متناغما مع النّص، وقد جاء مكملا له لا عالةً عليه.
-النص الثالث: لو كانَ بالإمكان: (ص: 49):أبهرت إبهارا عجيباً بهذا النصّ أعدتُ قراءتهُ 13 مرة لكون الرقم 13 فأل خير عند بعض الأمم. هذا النّص لم يكن لعبة اللغة، بل كان لعبة الصورة، لعبة المستحيل، هو الإنفلاتُ عن المألوف، كما أن الكاتب المغاربي المشهور الذي أهدته الشاعرة القصيدة الذي جاء الديوان على عنوانها( آخر الطريق أوله) الأستاذ إدمون عمران المليح،الذي يعشق الإنفلات وغير المألوف.فكان النّص تأجيجاً لثورة العقل وفتح واستشراف لرؤيةٍ حديثة تواكب الحداثة بمعناها الجديد..فهي تقول: ( قفزتُ إليك/ قبلةً واحدة)، و( من الحلاّق/ أطلبُ /تشذيبَ/ ذاكرتي المسدلة/ على قفا الوقت/)، و ( بمنشفة التيه/ أمسح / خرائطَ المكان.)، و ( سدّدتُ الى السماء إعصاري)، و( أشهرتُ في المرايا صرخاتي)، ...
صورٌ وصعقات متتالية متوالية تمطر عليك، فلا تعرف أيّها تُمسك، فتضيع منك كل الفراشات..
- النصّ الرابع: معبرٌ للوهم..(ص: 61):
استخدمت في هذا النّص مخاطبة المؤنث كما فعلت في ديوانها (ورق عاشق) ، الذي بدأ من العنوان كما أشرت في مقالتي وقراءتي السابقة للديوان أنها بدأت كأنها المذكر الذي يختفي وراء حجبها فكان ورق عاشق ولم يكن ورق عاشقة، وفي هذا النّص، تخاطب الأنثى ,هي الروح وهي ذات الشاعرة، تخاطب ملابسها، عطرها، (ياعطرَ أنفاس، يا قميصها، ياممشاها بين الشواطئ)، وتقول: ( كأني بكِ/ تصرخين في صمت/ بين صحون باردة/وبقايا طعام/.../ نظرة امرأةٍ / تنقصها رائحةُ عناقٍ ليلي/..). إنها تتحسسّ روحها الأنثى المشخصنة بجسد وملابس وطعام وعطر، تسكبُ في هذه الروح العطش والألم والرغبة، وتبوحُ من خلالها عن المسكوت عنه في ذاتها المتمردة.
- النّص الخامس: ما أستأنستُ بالجوار: (ص: 77): وهي مهداة: ( الى سميّة.. سميّتي).
النّص هذا حمّالُ أوجه يقرأهُ المتلقي قراءات متعدّدة حسب رؤيته ووعيه ، فهو للقارىء في أول وهلة نصّ وجداني، يحملُ بين طياته عذاب وحرمان، ولكن بعد القراءة العاشرة ستجد أنه نصّ سياسي ، فأنت هنا لا تُحمّل النّص أكثر من طاقته بل أنّ النّص يجعلك تبحث ، وتستشعر، فتقول: (مازال يرسمُ الحدود/ ولازلت في انتظار/ أن تطيحَ لمسةٌ / من جهة القلب/بذاك الجدار/..) ثم تقول: ( ربع قرنٍ مضى/ وأنت تنظرُ اليّ/ ولا تراني/ وأنا أنصتُ اليكَ/ولا أسمع/ صدىً لأغنياتي/ ..) وتقول: ( ربعُ قرنٍ مضى/ ونحنُ لا زلنا / بقدسية/ نرعى عزلتنا /خوفاً من الوحدة/)..
إنها الحدود والعوائق، وعدم سماع الآخر، والخوف، والعزلة، وعدم التوحّد، والخوف من الوحدة.. إنها نكبة العرب، إنها مأساة كل العرب .. رسم الحدود، وأنت تنظر اليّ ولا تراني، وأنا أنصتُ اليك ولا أسمعك..؟؟

- أمّا النّص السابع: غوص البجع: ( ص: 97):
وُلدَ النّص في كوبنهاجن، يونيو 2007، فقد جاء معطّراً ومتحلياً بما نثرتهُ عليها الدانمارك من ثلج ومطر وحب، بل وطربت أكثر ورافقت وشخصنت شعراء الدانمارك معها ، فتقول في كل مقطع ( كنّا أربعة) ، وفي مكان آخر ( أربعةٌ كنّا)، وحينما تبحث عن الأربعة الذين يمثلون المسرحية ويضبطون الإيقاع، بل ويلوّنون اللوحة، هم : فاتحة، وشعراء الدانمارك: فاون ستيين، وبيني أندرسن، ومريانة لارسن، شعراء وكتّاب رواية، وهو مبدعون ، بيني أندرسن، شاعر وموسيقار ويُعدّ من أعظم الشعراء الدنماركيين الأحياء، ومريانة،الحائزة على الجائزة الكبرى للشعر، لديها نحو ستين كتاباً في الشعر والرواية والمسرح..فهي تقول: 0 لا تظنّنَ رقصتي/ ابتهاجاً/ أو استهتاراً/ هي نوبة الجسد/أصيبَ بصرع الكلام/ مذ أجبروه على الصمت/..). فهي البحث عن الهوية، والعطش نحو التحضر بروحه لا بشكله؛ وهي تعرضُ أمام هاملت مسرحيةً عربيةً تقول
( كلنا فارس/ وكلنا ضحية/ والبخيل / منْ يحصي الخسارة/..).

الاثنين، سبتمبر 07، 2009

صوت وصدى: قراءة في ديوان (صوت بلا صدى)

قراءة: د. وليد جاسم الزبيدي
لم تحركني أو تهيج مشاعري دواوين الشاعر سعيد الزبيدي الأولى،ولم تجعلني أمسك القلم لأكتب عنه وعنها،مثلما أفعل الآن،في ديوانه الأخير (صوت بلا صدى)، الصادر عن دار كنوز للمعرفة العلمية في الأردن، من القطع المتوسط، وبـ(86) صفحة،باخراج وتصميم جميل، وقد حمل الغلاف الأخير للديوان صورة الشاعر مع شاعر العرب الأكبر الجواهري العظيم، التي التقطت في 22 شباط 1980م، في زيارة الأخير لجامعة الموصل وقصيدته العصماء فيها (أم الربيعين يامن فقت ثالثها..).
أختطّ الشاعرُ لنفسه منهجاً خاصّا به، تبنى مشاعره واحاسيسه، ليخرج من جلباب الأكاديمي، ودرس النحو الذي يسطر قوالبا ومنحى بؤدي الى الجمود والركود في بعض الأحيان، وهكذا وجد في الشعر الساحة الرحيبة لملاقحة الوجدان والعواطف بعقلية النحوي الذي احتكم بدرس سيبويه والمخزومي.
لقد كان الصوت القادم ، صوت غربة وحزن وحنين، الى كل ذكرى وصديق وبقايا مدينة، وبقايا زمن يحمل عطر اقرانه وعشقه. كان صوت المطارات والقطارات وكل وسائل النقل الحديثة، كان صوت البحر، وصوت هديل الحمام، وصوت السفارات، ورجال الجوازات والكمارك، صوت من يسخر ومن يمزح، ومن ينكأ جرحا..
تبنّى الشاعر في منهجه في كتابة واخراج دواوينه، الإفتتاح بالتقديم، فكانت مقدمة الدكتور عبد العزيز المقالح، من اليمن الشقيق، في ديوانه( وأرى العمر يضيىء)، حيث كانت نفحة الأمل من الدكتور المقالح في تغيير كلمة( بحترق) التي وضعها الشاعرنفسه في العنوان( وأرى العمر يحترق)، فكان للمقالح وجهة نظر وفلسفة تختلف عن فلسفة الشاعر فأشار بأن يكون العنوان هكذا، وبعدها كانت مقدمة الدكتور علي عباس علوان،(الناقد العراقي المعروف)، في ديوانه ( أفق يمتد)، ومقدمة الدكتور محمد المدني، من مصر الشقيقة، في ديوانه (على رصيف الغربة)، وفي ديوانه الأخير كانت مقدمة الدكتور ثابت الآلوسي، أستاذ التقد والأكاديمي العراقي المعروف.
ضمّ الديوان (صوت لا صدى)، أربعين نصّاً، توزّع بين القصيدة العمودية المزخرفة ببحور الخليل، وقصيدة التفعيلة الحرة المعطرة بأنفاس السياب والملائكة. فكانت (13) قصيدة عمودية، و( 27) قصيدة تفعيلة. لقد سمغت قديما من أصدقاء الشاعر، ان سعيدا هو شاعر مناسبة، أو شاعر قصيدة المناسبة، ممن كانوا يتابعون ويقرأون شعره، واليوم يكرّرها الدكتور ثابت الآلوسي، حيث يشير الى أن معظم القصائد هي قصائد مناسبة. وأردت الوقوف عند هذه النقطة، قد تكون لدى البعض انها (سُبّة)، وأريد أن أسأل، لا أدري هل أن قصيدة المناسبة هي سبة أو شنار، أو هي عيبٌ من عيوب الشعر العربي؟؟، فلو تصفّحنا الشعر العربي قديمه وحديثة، هل تجد قصيدةً بلا مناسبة، بل أن أشهر قلائد العرب من الشعر هي قصائد المناسبة، في موقعة أو نصر أو تنصيب، أو ولادة، أو رئاء، أو....!!!
فالشاعرُ احساس ومشاعر، وهو مرآة تعكس البيئة، مرآة لكل اختلاف وانقسام، وائتلاف، ونحن نعلمُ ، أن العرب ، هم قوم المناسبات، وأرضنا وبحرنا وسماؤنا، مشحونة جميعها بالمناسبات، وما من شعب اهتم بتاريخه واحداثه ومناسباته مثل الشعب العربي.
ولكن لنتأمل مناسبات الشاعر، فهي ليست مناسبات وطنية أو قومية أو دينية، ...، كالتي يحتفي بها الجميع، فمناسبات الشاعر هي مناسبات : الغربة، والرحيل، والدموع، ورنّة هاتف، مناسباتٌ تفوح بعطر الماضي على ايقاع ( قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍومنزلِ..) نحو حاضرٍ يمتزجُ بلوعةٍ فيصدح( أزح عن صدركَ الزّبدا..)...
نجد في قصائد الديوان نسيجا والوانا، كل نص يختلف وجهةً وعطرا عن سابقه، بالرغم مما تلاحظه من تاريخ كتابة النص حيث يصر الشاعر على كتابة تأريخ القصيدة، فتجد قصائد عدة في تواريخ متقاربة، لكنها مختلفة في الصور والبحور والفن، وهذه تسجل للشاعر، فشعراء كثيرون، حينما يكتبون قصائد في فترات وأيام متقاربة لا يستطيعون ان يتخلصوا من البحر الذي كُتبت فيه القصيدة بل يكرروا بعض الألفاظ والمفردات وأحيانا الصور..وهكذا نجد في الديوان نغمات وأنّات مختلفة تصل حد النواح، أنه ناي يعزف في ليل الغربة، ينتظر رجوع الصّدى.
والآن نتصفحُ الديوان فنقرأ:
1- أخا النّقد: (ص: 13): وهي قصيدة عمودية، تشم رائحة النحو فيها، ويكاد فيها أن يصالح بين النحو والشعر والنقد.وأعتقد أنها مغازلة للناقد صاحب مقدمة الديوان.
2- يده يد: (ص: 15): وهي من شعر التفعيلة، مهداة الى د. محمود السليمي.
3- الصّدمة: (ص:19): وهي في الشعر العمودي، في رثاء د. علاّل الغازي، من المغرب الشقيق، وتحيلك هذه القصيدة الى روحية المتنبي في قصيدته ( كفى بك داءاً ان ترى الموت شافيا..).
4- وعي الصّدمة: (ص: 19): وهي في أربعينية الدكتور علاّل، حيث تلتقي غربته بغربة المرثي، الغربة والموت وجهان لعملة واحدة لدى الشاعر. فالرثاء للموتى هو رثاء المغترب ورثاء الغربة.
5- شوط الدّم: (ص: 22): وهي من الشعر الحر، من وحي تفجير شارع المتنبي، حيث يستحضر الشاعر رموزالمتنبي وأدواته، ويشخصنها، ويستحضر روح فاتك، حيث يأت فاتك مجددا( فاتك الجديد) ليقتل المتنبي مرة أخرى!!
6- نهي: (ص: 24): من الشعر الحر، وهي وجدانية معبرة عن الأيام الخوالي.
7- أدرْ حديثك: (ص: 26): قصيدة عمودية، وفيها من الحنين الأندلسي، حيث حنين شعراء الأندلس العرب الى الصحراء والأطلال، فهو يحن للنخلة والجيران، والخان، والمقاهي، والنهر، حنين للزمان والمكان .
8- كالنيل صورته: (ص:27): قصيدة عمودية، مهداة الى ابن النيل، د. محمد ابراهيم المدني، تشع أملاً وأضافت لها القافية وحرف الروي فيها جمالا في حرف النون.
9- قد أتقن القراءة: (ص: 29): من الشعر الحر:وهي قصيدة استعراض حافظة وذاكرة الشاعر وما تعلمه وأتقنه في لعبةالحرف واللغة فكأنه يحفر في صخر.
10-حديث أمّي: (ص:31) : قصيدة عمودية، وفيها صوت الجواهري الكبير، وأصداء قصيدته: ( فداء لمثواك من مضجعِ..) في رئاء الإمام الحسين –عليه السلام-، وفي القصيدة صور قرآنية، من سورة يوسف.
11-ذلك الجسر: (ص: 33)، من الشعر الحر، مهداة الى جسر الصرافية، حيث محطات الذكرى والشباب ومسير العشاق وحاضر نازف بالدم لهذا الجسر الذي يمثّل ذاكرة الناس.
12- الفرحة الكبرى: (ص: 35): مهداة الى مجهول، وفيها صوت الجواهري، والنبرة الجواهرية.
13-بائع العطر: (ص: 37): من الشعر العمودي، وهي نفثات محزون.
14- هل: (ص: 38): من الشعر الحر، وفيها الصوت الرصاص والموت.
15- بائع الجواز: (ص:40): من الشعر الحر، وهي قصيدة افلتزام زالوطن وصورة الإنتماء.
16-أزح: (ص: 41): من الشعر العمودي، وفيها عطر الشاعر الكبير الجواهري، في قصيدته( أزح عن صدرك الزّبدا..).
17- قلم الرّصاص: (ص: 42 ):من الشعر الحر، وفيها الحنين الى الطفولة وعشق قلم الرصاص الذي يعني الحنين الى أولى الخطى في رسم الحرف.
18-هل تبكي المدن: (ص: 44)وهي من الشعر الحر، مهداة الى المدينة التي ضمّدت جراحه (مسقط)، فقد كان في الشعر العباسي فن وغرض رثاء المدن، التي تدمرها الحروب، أما الشاعر في قصيدته هذه يؤسس لمدن معافاة.
19-الأربعاء الأسود: (ص: 46): وهي من الشعر الحر،وهي مهداة الى سامراء في التفجير الثاني للقبة.
20-الموجة الأخيرة: (ص: 48): من الشعر الحر، في وداع الشاعرة نازك الملائكة، وقد استحضر دواوينها وأول قصيدة عُدّت من الشعر الحر( الكوليرا)، ورادتها في الشعر الحر.
21-مهر الكلمة: (ص: 50): من الشعر الحر، مهداة الى الشاعر الشعبي العراقي رحيم المالكي، وهي رثائية.
22-الكوكب الحادي عشر: (ص: 52): وهي من الشعر الحر، ونلاحظ عمق تأثير سورة يوسف في ذات الشعر، وربطت مدلولاتها في صوره، وهي حال من تعبير الرؤيا، وما فعله أخوة يوسف بأخيهم، وهي مهداة الى المنتخب العراقي في فوزه ببطولة كأس آسيا.
23- عصر العولمة: (ص: 53):من الشعر الحر، هجوم ونقد لعصر العولمة ولكل السلبيات التي جاءت بها العولمة للمجتمعات، وفيها همز ولمز.تعكس وتنعكس، وتتقعر وتتحودب، الصورةُ، بعدسات مختلفة متباينة الرؤى.
24-رفيق الكلمة: (ص: 55): من الشعر الحر، مهداة للمبدع الرحبي.
25- أقبل العيد: (ص: 56):من الشعر الحر،ومنها صورة المتنبي، وصوته، في قصيدته المعروفة(عيد بأة حال عدت ياعيد"وصورة كافور حيث استخدم مفردة (كويفير) للتصغير والتحقيرواستخدم صيغة الجمع (الكوافير) حيث لم يكن كافور واحد في العالم بل تعدّدت (الكوافير) وتعدّدت المسميات والدكتاتوريات، والظلاميون.
26- هل ليلةٌ أخرى: (ص: 58): من الشعر الحر، مهداة الى العام 2008م، وفيها أمل وصور لوفيقة والسياب وشهريار وشهرزاد ونبوءة يوسف.
27-اتصال هاتفي : (ص: 60): من الشعر الحر، مهداة الى كل من يتابع أخبار حارته بالهاتف.
28- اتصال آخر: (ص :62): من الشعر الحر، يوميات ووجدانيات.
29-السور الأخير: (ص: 64): من الشعر الحر.ألم الغربة حيث يتخذ من جواز السفر رمزا وسورا ..
30- الجمرة الحانية: (ص: 66) من الشعر الحر مهداة للشاعر عدنان الصائغ.
31-مُدّ لنا يدا: (ص: 68): من الشعر الحر، وه مهداة الى الشاعر محمود البريكان، وفيها صوت الجواهري،(ذئبٌ ترصّدني..)، وفيها صور بصرية وشخصيات مثل الفراهيدي وواصل بن عطاء والموانيىء..
32- مهراً لعينيك: (ص: 70): من الشعر العمودي. مهداة الى الدكتور محمود السليمي.
33- صوت بلا صدى: (ص: 72):من الشعر الحر ، وجاء منها عنوان الديوان، وفيها صور قرآنية( لا تخلع نعليك..)،ووصف لحاله ومعاناته وإشارة الى عمره( وورائي الستون العجلى تجري..)..
34-وجه: (ص: 74): من الشعر الحر.
35- هدية ميلاد: (ص: 76): من الشعر العمودي، وهي مهداة الى ابنتيه نور وهدى بمناسبة عيد الميلاد.
36-من أرج البردة: (ص: 77): من الشعر العمودي، مهداة الى المولد النبوي الشريف.
37- لو كان .. ما كان: ( ص: 79): من الشعر الحر: وهي في ذكرى 942003 صورة لواقع العراق الجديد، وأسئلة للعرب.
38- من عام 2008 إلى العام 2009: (ص: 81) من الشعر العمودي، ..
39- بعض صيت: (ص: 83) من الشعر الحر، وهو بعض من ألإرث الذي خلّفه لولده.
40- مفردات كربلائية: (ص: 85) : من الشعر الحر وهي طقوس الحزن العراقي في أيام عاشوراء كربلاء..
في قصائد الديوان التي استعرضناها سريعا، يظهر صوت الشاعر، والتزامه بحرفية، النحوي، بقوة اللفظ، وجفاف في المعنى، في بعض القصائد العمودية، وهي قصائد منبر تعتمد الصوت والإلقاء ومدى تلقيها في أذن المتلقي. أما قصائد التفعيلة فينطلق فيها الشاعرُ في بث الروح والصور المختلفة، عبر أوزان وبحور وقواف تتلون بألوان الموقف والمناسبة.
لقد جاء هذا الديوان مخلتفا نوعا وفكرا وفناً ، فقد جاء (صوتٌ) وله ( صدى) في أرض بلاده وفي قلوب قارئيه ومحبيه...!!

الجمعة، أغسطس 07، 2009

انفلونزا الفنّ

د. وليد جاسم الزبيدي
باتيستا..
يُغلقُ دار الأوبرا
يصادرُ الساكسفون لأنهُ:
يبوحُ بأنّات الجياع
يُقاضي الأوركسترا
لأنها تجمعٌ فوق العدد المسموح
لأنها تلهبُ الحماس..
يُغلقُ دورَ العرض
خوفاً من القامات الطويلة
وضجيج الباعة
أو فيلماً لا يحمل صورة قدّيس..
باتيستا:
يُغلقُ أبواب المسرح
لأنها تعتق العبيد
وتبوح في الهواء الطلق
أسرار السلاطين..
باتيستا..
يمنعُ النساءَ من العوم
لأن الشواطئ تحتسي الإحتشام
باتيستا..
سلطان الله في الأرض
وقرآن المحرمات
يحرق الحانات
يصلب النادلَ
على أفواه السكارى
يجعلُ من الجماجم أقداحه
الرومبا.. صرعٌ يستهترُ في البدن
ممنوعٌ الجنون
باتيستا..
يلعن الحريم
يضاجع زنجيا مخصياً
ينامُ بين القبور
يخاف من عودة الأشلاء
لتمزّق بكارة أحلامه
باتيستا..
يشربُ السيكار
ولا يعلم...
أنّ في الدخان أنفاسَ كاسترو
وفي الجمرةِ غضبَ غيفارا..
هافانا ترقصُ التشاتشاتشا
وبغداد يحرقها الطغاة
يهربُ أبو نؤاس من شارعه
لأنه لم يحفظ سورة الفاتحة
المتنبي ينجو من سيارة مفخخة
فيطلب اللجوء
باتيستا:
يُعلن:
ظهور إصابات في البلاد
بمرض انفلونزا الفنّ..!!

الخميس، يونيو 04، 2009

إيقونات على مكتب الذاكرة

د. وليد جاسم الزبيدي
1/ أيقونة القلب
قطرات ندى
نبضات تحرّكُ
حوافر الكلام..
يزخّ الظلام..
أخبار دورة الأحلام..
*************
2/أيقونة الكتاب
يقرأني ، يتصفّحُ وجهي
يهرش رأسي
لعله يتذكرني
يهمس للعنوان، ترجّل
فأنا أقرأ
*************
3/أيقونة الشعر
ليست القافيةُ وحدها تدور
وليس امتدادا تدورُ البحور
فقد كسرت حواجز لعنة الإقواء
ولعنة الزّحاف
حداثةُ الكتابة..
وسطوةُ الغرابة..
***************
4/ أيقونة الرواية
ترتدي عباءة السّرد
تتكاثف الصورةُ في مرآة الشعر
تتخلّلها أغانٍ تبحرُ
وبختام السّرد
جرحٌ في وجه المتلقي..
***************
5/ أيقونة أدونيس
يبدّلُ نظارةً بإسطرلاب، وتلسكوب
يقرأ في حجرات الأفلاك
يَقلبُ أدوات النحو والنقد
تزحفُ إليه النواقيس
يرجمُ الخرابَ، ليؤسس
ديراً جديد..
*************
6/ أيقونة ألجواهري
(العرقجين) طوطمهُ، الحرزُ الذي يحملهُ
تعويذته التي صبرت عليه
طفلٌ يؤاخي بين النهد وبين الثورة
يؤرخُ الجليد في صحارى أفريقيا
ويؤسس الجمر في القطب الشمالي
وبين الرحلتين
يقفُ: جبلاَ..!
***********
7/ أيقونة مظفر النواب
اسمهُ: الريل، أو (حمد)
وإن تخفّى بعباءة الفصحى
ليلهُ البنفسج وإن لوّثهُ الساسةُ
وقناديله تمتدُ من السجن
إلى الحرية..
حرّيتهُ إن تكبّل أرجله
ويُفكّ لسانه..!
****************
8/ أيقونة رامبو
شبابٌ، وغصنٌ، وورد
نظمَ من الحب عقد
أسطورة البرد
جعل المرايا نجوماً
من الصخر صوت الضجر
عُصارة التوت، وسلافة العنب
يطرّز ليل العذارى ذهب..
***************
9/ أيقونة جبر علوان
جبر الألوان
بعد انكسار الضوء
فنٌ على قماشة الذكرى
يتوهُ في زحمة (روما)، يتلقفهُ( الخان)
تغازلهُ نافورات باريس
وطرق (البندقية)
فتأخذهُ (المسنّاية) في الحضن..!
***************
10/ أيقونة لويس أراغون
في عيون اليزا، كومونةُ الحب والصّبر
جسدكَ امتلاء الفصول
صوتكَ كنائس وطبول
تتأملُ جمالَ البحر
فيطعنك الطوفان..
***************
11/ أيقونة فاتحة مرشيد
غزالٌ ينشدُ في البرية
يجمعُ أوراق عاشق
يهمسُ في أذن الفجر: تعال نُمطر..
ينبلجُ الكتابُ، وتبكي لتسمع صوت أغنية:
(لا مش أنا اللي أبكي...)
تنامُ مع الفنطازيا، وتفطرُ مع الرومانسية..
تومئ من بعيد ، لكل آتٍ
وحكمتها: آخر الطريقِ .. أوّلهُ..!!
*************
12/ أيقونة المتنبي
النبوءةُ فجيعتهُ، رداؤهُ
يعظمُ في عين نسر
يصغرُ في جوف خفّاش
معجزتهُ: خلّدَ تاريخاً
ولا يزال يغني..!!!
13/ أيقونة نجيب محفوظ
الحارةُ : قكرهُ، مصرُ: صومعتهُ
فكان حباً تحت مطر السنين
وثرثرةً في شفاه النيل
طوى تحت قميصه، أحلام العشّاق،
وكان التوت والنبوت لأفكار الساسة
يساريٌ الكرنك، وراهب السّكرية..!!
*************
14/ أيقونة أم كلثوم
مذْ عشقنا، وانثنت: في أنتَ عمري..
فتجلى الليلُ والأطلالُ، أيكاً فوق نهرِ
صوتُها كونٌ وقيثارٌ وشمس
إنها سرّ غدٍ ، أجملُ أمس
كوكبٌ لا زالَ يشدو
آسراً روحي وفكري..
**************
15/ أيقونة الخان
يضيء للعابرين صلاة
ويوميء نحو انبلاج الفرح
فيحضن أقدام كل الكرام، وينفض عن خافقيه الكدر
ليجمعَ حبّ الرجال الرجال
وهمس النساء ووجه الجمال
ويطرقُ باب انبعاث القدر..
**************
16/ أيقونة الجنس:
الرغبةُ ستائر حمراء، تخبئ خلفها
شهوةً تموءُ بين فخذين
لسانٌ يندلقُ من شفاه
يقتفي أثرَ اللذة..
حرارة الجسد، تصهر برودة الخوف
ينتصبُ الأفق.. لتلثمه قطرة..!!
*************
17/ أيقونة يوسف العاني:
إفتحْ عينيك إن لاقيتَ عاني
في صوتهِ الشوقُ تستهويه أشجاني
يوسف.. النبي.. أُلقيَ في غيابة الجُب
يوسف.. الشاهين.. حملتهُ (بهيّةُ)، نحو الهرم
ثم قذفتهُ في بحر الإسكندرية..
يوسف..ابن وهبي.. حينما يهبه القدر
مسرحاً ينحتُ عليه تماثيلَ خياله..
يوسف.. يوسف.. يوسف..
أيّ يوسف أنت؟؟
"الخان" الذي غادرتهُ، أم مونتيلا الذي ضلّ تابعهُ
"عبود" الذي لا يغني، حيث أغلقت حانته الشرطة..
تصعدُ ناهدة الرمّاح سقف الفن الحديث
(عمّي.. هذا يوسف العاني..) يشير إليه: خليل بن شوقي، فاروق بن فياض،
زينب، عبد الجبار بن عباس، فينزل من أرجوحة معلّقةٍ بالقمر
ليرمي الجسد إلى أرضٍ حضنته..!!

الخميس، مايو 14، 2009

تسونامي بابل

د. وليد جاسم الزبيدي

العمرُ، عمرُ الحروب، وصومعة المدافع
القادةُ المتّكؤون على عوراتهم
على نساء تعرّت وعرّت أكتافهم
من نياشين تلك الهزائم
العمرُ عمر الخطابات، والصحف المستبدّة
بالصورة المنتهى المبتغى
فمن بابل التي خرّبت تأريخها
من بابل الخراب والخرائب
فقد نقّبت فيها السّرفات
وأحذية الجنديات
اللواتي علّقنَ ملابسهن الداخلية على أسد بابل
وفي المعبد كان اللواط
من بابلَ الى بابلَ
خيطُ جنون
يمتدّ نحو مكناس وصحو الرّباط
يفوح عطرُ الدار البيضاء
كرائحة الكباب العراقيّ
فنقرأ معلقةً في زنقة ابن بطوطة
تحاورُ مخالب المتعة
فليس لديه
سوى لحظات..
العمرُ يسرعُ طيراً على أفق الأطلسي
فينشر أجنحةً للخليج..!!

السبت، أبريل 25، 2009

الأقنعة في رواية: لحظات لاغير

د. وليد جاسم الزبيدي

العنوانُ هو ثريا النّص، كما يقول النقاد في الأدب، وعنوان الرواية، جاء ووُلدَ من حوارات، ومن بين سطور الرواية ومكامنها، في (ص: 126)، يقول بطل الرواية، وحيد الكامل:"تمتّعي باللحظة يا حبيبتي، لنا اللحظات لا غير.".، أمّا الإستهلال في الورقة الأولى:"تريّث قليلاً أيها الموت.. إنّي أكتب."، فلقد جاءت هذه العبارة وانتقتها الروائية في(ص:160)، من خلال حوار، "عندما يحس بتحسن يجلس الى المكتب قائلاً:"تريّث قليلاً أيها الموت..إني أكتب"..والرواية حينما تقرأها تظن للوهلة الأولى أنها مسرحية شعرية، لكثرة المقاطع والنصوص المكتوبة بصوت البطلين، وحيد الكامل والدكتورة أسماء.
القناع "MASQUE" –لغةً بالعربية –ما تتقنّع به المرأة من ثوب تغطّي رأسها ومحاسنها، ، وهو، في اصطلاح المسرحيّين، وجهٌ مستعار من ورق مقوّى أو نسيج أو جلد أو غيره، يُثبت على وجه الممثّل ليخفي ملامحه الأساسية، فيتّخذ نمطاً محدّداً وصفات ثابتة، أو هو الشخصية التي تُظهر غير ما تضمر ، وهو، تاريخياً، وسيلة درامية استّخدمت في رقص القبائل البدائية، ثمّ انتقلت إلى الاحتفالات الدينية، فالمسرح الإغريقي وسواه، ولا تزال تُستخدم حتى يومنا هذا.‏
والقناع في الشعر المعاصر وسيلة درامية للتخفيف من حدّة الغنائية والمباشرة، وهو تقانة جديدة في الشعر الغنائي لخلق موقف درامي أو رمز فنّي يُضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية من الشخصيات، يستعيرها الشاعر من التراث أو من الواقع، ليتحدّث من خلالها عن تجربة معاصرة بضمير المتكلم، إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يميّز تمييزاً جيّداً صوت الشاعر من صوت هذه الشخصية.
فالصوت مزيج من تفاعل صوتي الشاعر والشخصية، ولذلك يكون القناع وسيطاً دراميّاً بين النص والقارئ، وهو وسيط فيه من الشاعر مثلُ ما فيه من الشخصية التراثية التي يمثلها القناع، لأنّ التفاعل بين الطرفين يضفي على الرمز الفني وضعاً جديداً ودلالات جديدة، ولا سيّما أن صوت الماضي يندغم في صوت الحاضر، ويندغم صوت الحاضر في صوت الماضي للتعبير عن تجربة شعرية معاصرة.‏
وهكذا نجد أن القناع أستُخدمَ في الشعر أولاً، قبل الفنون الأدبية الأخرى،(مع علمنا باستخدامه أولاً في المسرح خصوصا في المسرح اليوناني)، بل يكاد البعض أن يقول ، القناع والشعر متلازمان ومتراكبان ومتوائمان’ ولا ينسجم القناع إلا مع الشعر، ووُضعت العديد من الدراسات والأطاريح بهذا الموضوع، وقد كان بحث التخرج الذي كتبته في كلية التربية-قسم اللغة العربية في جامعة بابل، بعنوان قصيدة القناع في شعر صلاح عبد الصبور، وقد كان لأستاذيّ الفاضلين د.عباس الدّرة ود. عبد العظيم رهيف الفضل في الإرشاد والتوجيه والتصويب.
كان القناع يظهرُ مرةً برمزيته التاريخية أو السياسية أو الأسطورية فيكون صوت القناع عالياً واضحاً، وتارةً أخرى يعلو صوت الشاعر على صوت القناع، فأفردتُ باباً لصوت القناع، وأخرى لصوت الشاعر مع نماذج من الشعر ودراسةٍ متواضعةً، كما وجاءت قصيدة القناع في شعر البياتي أولاً ثم تلاهُ معاصروه، السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ،وكذلك وجدتُ في إطروحة الدكتوراه المطبوعة للكاتب عبد الرحمن بسيسو، هذا المعنى الذي أسلفت.
وفي أول رواية تكتبها وتطبعها وتنشرها(فاتحة مرشيد)، تنقل تجربة الشعر الى الرواية، وتنقل كل تقنات الشعر لتروضها، وتشذّبها بما تتلائم مع عقدة الرواية ودروبها، فهي الروائية العربية الأولى التي اختطت لنفسها هذا المذهب ونقلته حياً وليس ميتاً واشتغلت عليه بمباضع الجراحة والنجميل لتزيل المترهل وتضيف الى النحيف، فكانت الرواية بنتاً من علاقة شرعية بين الشعر والنثر، تمكنت الروائية الشاعرة أن تزاوج بين روحين في عقلها وقلبها لتُنتجَ وليداً يرفرفُ بجناحين في عالم الأدب والمعرفة والثقافة، ولعل(فاتحة) تمتلك بطيناً للشعر وآخر للرواية، فلا تفرط بأحد، بل جعلت من هذا الإمتزاج الروحي نتاجاً جديداً معافىً.
وفي استخدامها للأقنعة في روايتها، فكان التاريخي ، والسياسي، والأسطوري، تركيبةٌ متنوعةٌ لا تحس أنها موضوعة أو ملصقة على عواهنها،أو إنها منزلقة،أو رُكّبت بصورة مقلوبة، لقد استخدمت الروائية الشاعرة تلك الأقنعة بكل مهنية واحتراف وفق تقنيات عالية كأنها تمنتجها بفيلم أو تعرضها كمسرحية، حيث وظّفت كل الفنون السمعية والبصرية ومنها الأغاني والتراث والأمثال في الكتابة. وقد اختارت أقنعة بصوت الحدث، وبصوت المشاعر والأحاسيس، وأحيانا أخرى بقوة الفعل، فكانت الأقنعة متلونة ومتباينة ولكنها متناغمة وتجري وتنساب وتتحرك كلها كأنها فرقة موسيقية كبيرة تعزف أجمل سيمفونية.ومن هذه الأقنعة:
1/ قناع سراييج: (ص: 9)،الشاعر البوسني(1930-2002م)وهو يهمس بمقطع في ديوانه (أحدٌ ما دقّ الجرس)، وفيه صورة وصوت الإنتحار، وكيف يظهر بجرأة.
2/قناع جورجي لويس بورخيس: (ص:14)، الشاعر الأرجنتيني، فيه صوت الإحساس وصوت المرأة المتناغم مع المشاعر المتأججة..
3/قناع رينيه شار: (ص: 49)،الشاعر الفرنسي(1907-1988م)، صوت الإنتحار وصورته، وعدم الأسف عليه، وصوت الحب المتفاعل مع المستقبل.
4/قناع مورياك: (ص:62)، الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك المولود في بوردو في 11 اكتوبر 1885 والذي توفي سنة 1970 في الأول من سبتمبر،قناع الفوضى واللامبالاة، وعدم الإستسلام للأمر الواقع.
5/قناع جان بول ايمارد سارتر: (ص: 69)،الفيلسوف والروائي والمؤلف المسرحي، الفرنسي، (1905-1980م)، وكانت مقولته الشهيرة في إحدى مسرحياته:" الجحيم هم الآخرون". فكان صوت الفلسفة والإطار الفلسفي لفلسفة الرواية.
6/قناع رامبو: (ص: 65)، الشاعر الفرنسي الشاب المتوفى سنة 1891 عن عمر يناهز 37 عاماً، فكان قناع الشباب والحياة، والمغادرة بوقت مبكر كما غادرها بطل المسرحية( وحيد الكامل)..
7/ قناع بوفوار: (ص: 70)،الكاتبة سيمون دي بوفوار(1908-1986م)، المعروفة بعلاقتها الحميمة مع سارتر، وفي النهاية دُفنت إلى جانب قبره، هكذا كانت أمنية بطلة الرواية، أن تكون هكذا كصورة الكاتبة، أن تكون مع حبيبها في الحياة الدنيا وفي الآخرة.فكان صوت الحب والحميمية الخالصة.
8/ قناع حمزاتوف: (ص: 101)،الشاعر الداغستاني(1923-2003م)، صوت الحرية، وصوت السياسي ، وصوت منْ يحب ويعشق أرضه وسماءه..وصوت الفضيلة.
9/قناع أوسكار: (ص: 118)، المؤلف المسرحي والروائي والشاعر ، أوسكار فينغال ، وهو أنجلو-آيرلندي ، ومن مقولاته الشهيرة:" الطريق المثلى للتعامل مع الإغراء هي أن نستسلم له.". وهكذا كانت صورة استسلام الدكتورة أسماء التي كانت تبحث عن مخرج لعقدة (أوديب) في ذات البطل،الذي أحب والدته وكره أباه.
10/ قناع نيتشة: (ص: 133)،الفيلسوف الشاعر قردريك فيلهيلم نيتشه (1845-1900م)، استخدمته قناعا لحل ألغاز مريضها الذي حاول تجريب الإنتحار، لكون (نيتشة) من أبرز الممهدين لعلم النفس ،فكان اللاوعي للدكتورة، والنظرة إلى الموت يشكل فلسفي.
11/ قناع مونطيرو: (ص: 136)،الشاعر الإسباني لويس غارثيا مونتيرو المولود في غرناطة عام 1958م، والحائز على جوائز مهمة، شاعر الحب والغياب، " ويسألني عن حكاية غيابك..".
12/قناع نزار قباني: (ص: 144)،الشاعر العربي، الشاعر الجميل الرقيق، الحاد، النسمة والعاصفة، المسكون في ذات الشاعرة والروائية، المتجلببة بجلاليبه، صوت الجمال وصوت القبلات، ورفيف الجسد، ورعشة الأنامل والشفاه.
13/ قناع محمود درويش ) : ص:150) الشاعر العربي، صوت القضية والأرض والأرواح التي عانقت السماء في سبيل الحرية.
14/قناع عبد المعطي حجازي: (ص:154) صوت الحداثة والوطن.
وهكذا تنوّعت وتعدّدتِ الأقنعةُ بين كاتب، وشاعر، وفيلسوف، وعالم نفسي، وسياسي، وبين شعر وحكمة، ونثر،وفلسفة، وأقوال في علم النفس، كلها تصب في مصب واحد، كل الخيوط تمسكها بأصابعها الذهبية لتنسج منها روايةً لم تُكتب في زماننا العربي. كما تقرأ وأنت في جو الشعر، المقاطع الشعرية التي جعلتها حواراً جميلاً ، فلو جمعت كل المقاطع لأتتك قصيدةً كاملةً كتبتها (مُرشيد) في نفسٍ وروحٍ وهاجس واحد، كما جمعها الدكتور عدنان الظاهر في مقالته عن الرواية، فكأنك تقرأ قصيدةً لـ(فاتحة) وتسمع صوتها دون قناع، أو أن البطلة(أسماء) ارتدت قناع (فاتحة) الشعري ليعلو صوت الشاعرة على صوت الروائية.
ومُزجت وتناسقت مع الأقنعة وأصواتها ، صوت الأغاني، هذه اللازمة الجميلة غير المملة أو المقحمة في ثنايا الحوار بل تأتي مكملة له، وهذه اللازمة نجدها في شعر فاتحة وفي روايتها الأخيرة(مخالب المتعة) أيضا، فنجد أغنية نجاة الصغيرة(ص: 137): ما أحلى الرجوع إليه.. من شعر نزار وموسيقى عبد الوهاب.. كما نجد أغنية بالفرنسية (ص: 162) لجاك بريل: (عندما لا نملك سوى الحب..)، وأغنية أخرى للموسيقار محمد عبد الوهاب(ص: 159): " جايين للدنيا مانعرف ليه.." وهي أغنية الفلسفة العربية وتناغمت مع فكرة وحوار البطلين. فكانت الأغاني قناعاً آخر توظّفهُ الروائية الشاعرة في الرواية.
أما القناع الآخر الذي وظّفته الكاتبة في الرواية ولأول مرة في الروايات العربية بصورة ذكية ومعبّرة هو: الرقص، فكانت الإشارة إلى رقصةٍ بعينها، (ص: 122)، فالرقص تعبير ولغة الجسد، وإيقاع معبّر ويرتبط بعادات وثقافة كل مجتمع واختيارها للرقص كونه المعبر عن الذات وعن المشاعر وتتماها مع الروح، بإيقاع ساحر وخيال. كما أنها إختارت رقصة (التانغو)كونها تعتمد على اثنين رجل وامرأة وهاهي أسماء مع وحيد، وهذه الرقصة يؤديها الراقصان بعيدان ثم يلتقيان كأن الرقصة تعبّر عن تلاقٍ ثم فراق،" بدأت رقصتنا كتانغو يهيم بين دنو وابتعاد.."، وهكذا هي الرواية. فلقد كان اختيارها لهذه الرقصة دقيقا ومعبراً فلم يأت اعتباطا أو جزافاً.
وما لنا إلا أن نقول في ختام قراءتنا المتواضعة وكما فهمتها( تريّث قليلاً أيها الموت..إنّي أكتبُ قراءةً في رواية فاتحة.. فأنظرني إلى يوم نشرها وتقرأها العقول قبل العيون..)..!!!

الأربعاء، أبريل 15، 2009

غيمةٌ مغربيةٌ تهطل على أرض الرافدين: الشاعرة فاتحة مرشيد



قراءة: وليد جاسم الزبيدي
الشاعرة فاتحة مرشيد

من مواليد 14/ آذار-مارس/1958م وُلدت الشاعرة المغربية الدكتورة فاتحة مرشيد بمدينة ابن سليمان وهي أحدى الأقاليم المغربية تنتمي إلى جهة الشاوية ورديغة وتوجد في قلب البلاد شرقي الدار البيضاء وهي مدينة زراعية تتميز بكثرة الأراضي الخضراء والحدائق وتحافظ على طابعها العمراني التقليدي . والشاعرة حائزة على الدكتوراه في الطب سنة 1985م وعلى دبلوم التخصص في طب الأطفال سنة 1990م، أشرفت على إعداد وتقديم برنامج يهتم بالتربية الصحية في القناة الثانية المغربية،وهي عضو في اتحاد كتّاب المغرب.
لها إصداراتٌ متنوعة في الشعر والرواية والطب، من إصداراتها: ديوان إيماءات عام 2002م ، دار الثقافة، الدار البيضاء، وديوان: ورق عاشق، وهي مجموعة قصائد ،نشر الدار البيضاء، سنة 2003م، وتعال نمطر، إصدار دار شرقيات –القاهرة 2006، وديوان أي سواد تخفي يا قوس قزح، باللغتين العربية والفرنسية، منشورات مرسم ، الرباط، 2006م، ورواية لحظات لا غير، إصدار المركز الثقافي العربي-بيروت، 2007م.
شاركت في العديد من الفعاليات الثقافية داخل المغرب وخارجه. تُرجمت أعمالها إلى اللغات الفرنسية والإنكليزية والأسبانية والتركية والدنماركية. في مقالنا المتواضع هذا سنلقي بعض الضوء على المسيرة الشعرية للشاعرة (فاتحة) آملين أن تكون مقالتنا فاتحة خير للآخرين الذين سيضيفون ويضفون لهذه الشاعرة ما تستحق من اهتمام ودراسة. الشاعرةُ (فاتحةُ) تغوصُ في أعماق الطفولة، وتتحسسُ بدائية الحواس والمشاعر المتلونة بالانفعال والتلقائية، فهي مع الطفل في اختصاصها المهني الطبي، الذي لا يتعارض مع هاجس طفولة الشعر، بل جاء مكملاً لإنسانية الكلمة والحرف، فيمنحها الشعرُ حلماً ، والطبّ يهبها ألماً وفضاءاً للتأمل.
لقد أقبلت الشاعرةُ على الطفولة من أوسع أبوابها لتعودَ لأحضان البراءة والطبيعة، حياة البساطة والعبث، فاختارت طب الأطفال، وها هي تمدّ نسيجاً رقيقاً متشابكاً بين أدوات الطب وأدوات الشعر، ما بين حاضنة الطفل وحاضنة طفولة الكلمة، ما بين مبضع وحقنة إلى أسلوب وصورةٍ واندهاش وومضة، لقد تعاملت مع الكلمة في غرفة عمليات فبعثت فيها الروح. تأتي (فاتحةُ مرشيد) لتؤسسَ في المغرب العربي أدباً –أنثوياً- (إذا جاز التعبير)، كالذي أسستْهُ الشاعرة سعاد الصباح في المشرق العربي، فالشاعرتان من ذات المدرسة، مدرسة نزار قباني، هذا الشاعر العربي الكبير، الذي أيقظ المرأة وجعلها تجرأ أن تصرخ، وتهتف، وتعارضُ، وتؤسس المنظمات ، وتطرق أبواب السلاطين والقوانين مطالبة بحريتها.
لقد استفزّ (نزار قباني) جراحاتنا وكرامتنا وتقاليدنا، إنه أجراس الكنائس وأصوات المآذن، هكذا جاءت الشاعرة من رحم هذه المدرسة العتيدة، الرقيقة، التي تمارس الفوضى، والحرية، تمارس الثورة كما تحمل غصن الزيتون..
والآن لنقرأ أشعار (فاتحة مرشيد) بتأنٍ ونرى ما الذي أتت به من جديد، إصدارها الأول، ديوان ،تأملات، أولُ ما يحرك هواجسك العنوان، وكما يقول النقاد المعاصرون ،العنوان ثريا النّص، وهكذا نبدأ به، فالعنوان يحيلك إلى (إيماءات) الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الصادر عن مطبعة الأديب البغدادية سنة 1978م ، ترجمة الشاعر سعدي يوسف،وهي قصائد ما تسمى الومضة أو الضربة في قصيدة النثر. وعناوين المقطوعات هي : رحيل، يأس، نهوض، عراء، نفس،إبحار، غيرة.. هذه العناوين هي رحيلٌ يائسٌ في نهوض عراء النفس وإبحارٌ في الغيرة. هكذا أقرأها، فهي عناوين الإغتراب داخل الروح، وإبحارٌ نحو مجهول. وفي هذه المقطوعات تسيطر عليها الجملة الفعلية(الفعل الماضي خاصّة)، فتقرأ: أقصى، علّقَ، أغمضَ، وهي حركات وصور الماضي الحزين ، الماضي الراحل واليائس والمبحر في مجاهل الكون.
أما مقطوعة (يأس)، فهي المتألهة بالفعل المضارع، الجملة الفعلية أيضا، (يبزغُ، يكون، يمتطي، أكتمُ، أبتسمُ، أهرعُ، أضعُ، أرتدي، أجلسُ، أنصتُ، .. الألف التي تشير إلى (أنا) الكبيرة، التي تتحدثُ عن ذاتها تستشرفُ فيه الحال والاستقبال. وتتبعها (نهوض)، وهي جمل فعلية فعلها مضارع تبدأ بالألف(أنهض، أتسلق، ألامس، أشيد، ألتحف، ..)وهي ألذات. وهكذا يسيطر الفعل المضارع في معظم مقطوعاتها، وتطغي الأنا في حرف الألف في الفعل المضارع حيث الفاعل مستتراً ومختبئاً تحته الأنا.
الديوان الآخر للشاعرة المبدعة (فاتحة مرشيد) ، بعنوان: ورق عاشق، لماذا ورق عاشق؟ ولم يكن ورق عاشقة؟؟! الشاعرة أنثى، ارتدت قناع الذكورة، وخاطبت روحها الأنثى: وحدكِ.. هكذا بدأتْ، ثم تنهالُ وتنثالُ الأفعالُ المضارعةُ، وقد استخدمت الشاعرة مقطع من أغنية محمد عبد الوهاب ووظّفته في القصيدة( لا مش أنا اللبكي). وقد استخدمت الشاعرة عبارة لم يستخدمها أي شاعر في وصف المرأة وصورةَ فريدة لم تتكرر( حلمتُ أن يطأنَ بأعلى كعبهن لذّاتي)!!هذه القدحة الذكية المعبرة عن روح الأنثى وتجسيدها العضوي (كعب)..
الشاعرة فاتحة لم تكن لغتها لغة نزار اليومية ولا صورة وإحساس سعاد الصباح، أنها من مدرسة نزار نعم، ولكن بخصوصية مختلفة، وبفن وأداء وإبداع مختلف لغوياً وفنياً وأسلوبياً. تولد في قصائدها الصور بلغة من السهل الممتنع، والضربة الشعرية، والومضة التي تبهر العقول، فتظل الصورةُ في الأفق لا تزول حتى ولو غلقت كتابها.
وأختار للقاريء بعضاً من إشراقات وإبداعات الشاعرة المبدعة فاتحة مرشيد:
مقطوعة عراء:
ككل الصبايا/ أخفيتُ تحت القميص / كتاباتي/ كبعض عرائي/ وعند انفلات الصّبا/ فقدتُ حيائي/ ما عاد يخجلني/أن يسري عنّي ردائي./..
ومقطوعة حب لاهث: لأن حبكَ/لاهثٌ كالهروب/يلاحقني الزمن/بأحضانك/..
ومقطوعة حافة فرحي: لم يتجاسر الحزنُ/ على طرق باب/أنت خلفه/ تسلّق/ حافة فرحي.../.
ومقطوعة نزيف: تنزفُ/ الروح/ مني/ لا أثر/ لدمائي/ على/ القلم../.
مقطوعة ماء القلب: أهو الظمأ/ يجعلني/ أرى الماء/حيث السراب؟/ أم هو الحب/بخيلٌ/ بماء القلب؟../.
وهكذا نلاحظُ الأسلوبية التي استخدمتها الشاعرة في التعبير عن الأحاسيس والمشاعر بالجملة الفعلية وخصوصا الفعل المضارع وهذا يعني ارتباط هذه القصائد بالحدث واستمرارية هذا الحدث في الحاضر والمستقبل ، وكذلك لغة (الأنا) التي تتسع مع اتساع مدى القصيدة. وقد تخلّت في بعض قصائدها من أنثوتها لترتدي قناع الذكورة وهي تعني هنا القوة ، قوة الحدث، قوة الفعل.أي أنها لا تتصرف قولاً بل تربط كلماتها بأفعال، أو أن صورها هي أعمال وأحداث ووقائع حقيقية تتجسد عبر الجمل والعبارات والمقاطع.
أسلوبيةٌ جديدةٌ تنهضُ بمهامها ومسؤوليتها هذه الشاعرة الفذّة التي صوّرت خلجات وآلام المرأة بإحساس جديد واعٍ، كما ولبستْ وتقنّعتْ بلباس وقناع الذكورة لأنها تعني القوة والقدرة التي تحتاجها الرّقة ويحتاجها الجمال. الشاعرةُ (فاتحة) فتحت فتحاً جديداً في باب الغزل والرقة الشعرية والمهارة اللغوية في استخدام أدواتها. أنها قراءة سريعة لشاعرة تحتاج إلى وقفات متأنية من النقاد العراقيين والعرب وهي دعوة لقراءة أدب وشعر هذه الفنانة المبدعة.
تحيةً للشاعرة فاتحة مرشيد، وتحيةً إلى الأدب والأدباء في المغرب، وهذا جسر يمتد من بغداد إلى الرباط، فالهمّ واحد، والإبداع واحد، واللغة واحدة، والإحساس يتجدد..

الاثنين، أبريل 13، 2009

مخالب المتعة وجيوش البطالة





قراءة: د. وليد جاسم الزبيدي

(إلى الصديق الدكتور وليد جاسم الزبيدي مع خالص التقدير والمحبة..فاتحة /الدار البيضاء 20/3/2009)

هكذا طرّزت النسخة التي بعثتها لي الدكتورة فاتحة مرشيد من المغرب الشقيق -
حينما تكتبُ عن الدكتورة المبدعة (فاتحة مُرشيد)، فأنكَ تدخلُ متاهةً في داخلك أولاً مع النفس، ثم على السطور الزرقاء التي سرعان ماتنقلبُ حمراء بفعل جمرة المعنى. هكذا أجدُ كتاباتها وإبداعاتها تكسرُ طوق المألوف العربي لتسلّط الضوءَ على أمراضنا وخبايانا وانتفاخنا الكاذب. رواية(مخالب المتعة)، هي الرواية الثانية للروائية الشاعرة فاتحة، بعد روايتها الأولى (لحظات لاغبر)،مخالب المتعة الطبعة الأولى في أوائل عام 2009م، عدد الصفحات 160 صفحة، القياس 14 :21Xالناشر المركز الثقافي العربي الدار البيضاء-المغرب، صدّرت الروائية روايتها بعبارة لسقراط" السعادة هي المتعة من غير ندم".عند قراءتي للرواية وجدتُ فيها عدة مستويات سنستظل تحتها في هذه السطور:
-المستوى الأول: السياسي: القلق السياسي، والإرهاب السياسي، يجعل الكثير من المغيبين يعيشون في الظلام وخلف الكواليس، ووجوه الساسة أمام الكاميرات كوجوه الممثلين ونجوم هوليود. الرواية في شقها الأول رواية البطالة العربية ، جيوش البطالة التي تمتد من المحيط الى الخليج، البطالةُ بكل أنواعها وعناوينها ومسمياتها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. هؤلاء العاطلون عن العمل، هم عاطلون عن الحب، عن الحياة والتعايش السلمي مع المجتمع، يمارسون طقوسهم الأزلية وهي: قراءة الصحف اليومية وصفحات فرص العمل، يتصدّرون الإعتصامات أما البنايات الحكومية، يشتركون في الإضراب عن الطعام، كلها ممارسات ميئوسة ليصرخوا: نحن هنا..!!.. ثم تفتحُ الروائية الشاعرة بجملها الشعرية وكأنك تقرأ ديواناً شعرياً، تفتحُ نافذةً سياسيةً أخرى ، نافذة العراق بكل جراحه وتعقيداته، قبل أحداث عام 2003م وبعد التغيير، قصّة الرّسام (إدريس) والفتاة العراقية (بلقيس) التي تحيلنا الى زوج الشاعر نزار قباني( بلقيس الراوي)، حيث استخدمت ووظّفت هذا الإسم العراقي المعروف في روايتها، ووصفت الحال في العراق وما جرى فيه من ظلم وتعذيب وقهر قبل 2003 هذه الأحداث التي جعلت(بلقيس) تهاجر مثل أسراب الطيور العراقية المهاجرة للمنفى، ثم كيف رجعت الى العراق بعد التغيير السياسي لتساهم مع زوجها في البناء الجديد..
-المستوى الثاني: الجنس: لقد انمازت الإبداعات العربية قديماً ومجملها حديثاً إلا القليل، بابتعادها عن خطين محرّمين، تضعها السلطة ودور النشر، هما(النظام السياسي العربي)و (الجنس)، كأن النظام السياسي العربي والجنس توأمان ، منْ تحرّشَ بالجنس تهجّم على السلطة.. فقد تصدّت الروائية العربية (فاتحة)، لهذين الخطين المتوازيين، فكسرتهما مع كسر التوقع بقلمٍ جريء وفكرٍ ووعي. تعاملت مع الجنس بمنظور مثقف، ومنظور طبي، لا إسفاف ولا ابتذال، وتجد ذلك بقراءة الرواية من الغلاف الى الغلاف، فتجد حوارات واضحة في الصفحات( 49) خصوصاً في وصف نقطة(ج) وما تعنيه جنسياً، وهي الموضة الجديدة التي تمارسها النساء اللائي يبلغن سن اليأس وهي جراحة تجميل لتنشيط الرغبة لدى المرأة وتعيدها كأنها فتاة في العشرين. وتجد حوارات مماثلة في الصفحات(17، 18، 38...)، ...
-المستوى الثالث: الأغاني العربية وربطها مع الحدث: من الأساليب الذي تستخدمه (فاتحة) في دواوينها الشعرية ورواياتها، وكأنه نهج أو منهجٌ إختطته لنفسها، هو توظيف الأغنية في القصيدة وفي الرواية . فقد تنوّعت الأغاني من حيث المذهب والمغنّي والبلد، حسب جو وايحاءات المشهد والحوار، حيث تلملمُ الصور والشخوص، وتضع الأغنية كأنها(فلاش باك) تنطقُ بما هو مسكوت عنه. ومن الأغاني المستخدمة في الرواية:
1-أغنية السيدة أم كلثوم: "جددت حبك ليه.. ليه، بعد الفؤاد ماارتاح..حرام عليك، حرام عليك، خليه غافل عن اللي راح.." تقرأها في (ص: 37) وطريقة كتابة الأغنية كأنك تسمعها فهي تردّد وتكرر الكلمات كما هي في اللحن فالموسيقي يقرأها كأنها النوتة الموسيقية والشاعر يتحسسها ويفهم معاني التكرار. فجاءت هذه الأغنية ليست في فراغ أو أنها لترميم موقف، أو تعبر عن كون هذه الأغنية تعشقها صاحبة الرواية، لا، أن هذه الأغنية تعبّر عن حدث قديم تناغم مع حوار بين شخوص الرواية(عزيز وميمي) بعد عودة عزيز للحانة ، وبعد فراق طويل، تكاد أن تكون (ميمي) قد نسته نتيجة لسفر منْ تُحب، لفترات طويلة ، عاد وعادت معه جراحات الماضي. وكأن الأغنية هي لسان حال (ميمي) في أذن غريمها(عزيز).
2-أغنية السيدة أم كلثوم أيضا: " وعايزنا نرجع زي زمان، قل للزمان إرجع يازمان.."..تقرأها في (ص: 69)، وهي جاءت مثلاً على لسان (أمين) في حديثه مع (بسمة)، وهي تحدّثه عن علاقتها مع زوجها كيف ساءت وتكسّرت كالزجاج، بعد وفاة ولدها، وكانت هذه الأغنية خير تعبير عن الحال الذي لا يصلح..وهكذا اختصرت الروائية العديد من الحوارات والإحلات باستخدامها هذا الإسلوب الذي وظّفته بشكل مدروس ودقيق.
3-أغنية المطرب العراقي ناظم الغزالي: "أيّ شيءٍ في العيدِ أهدي اليكِ ياملاكي..".تقرأها في (ص:92)،يسمعها الرسّام (ادريس) في ركنه المعهود في الحانة وفي يده القلم يخطط على ورقة وجه بلقيس وكأن الغناء العراقي وهذه الأغنية هي جدارية بلقيس وتصبح الأغنية صوت الرسّام المتحرق شوقا والمتصبب ولهاً.. ومع صوت الغزالي ترتعش خطوطه فيستقيم الحب في القلب..الحب عراقي والأغنية عراقية ، والرسم هدية لوجه الحبيبة، فأي شيء يهديه؟؟
4- أغنية من الفلكلور المغربي: "حكمت عليها الظروف/ تشرب لكاس وترضي الخواطر/مسكينة من الفقر والخوف/تخلق السعادة وتبقى هي بلا خاطر/وراه كاينا ظروف/وراه كاينا ظروف/.." هذه الأغنية في الحانة وهي تؤرشف قصة حياتها، ترضي أذواق الناس وخواطرهم وتسعدهم في الحانة ولكن لا أحد يسعدها ويشعر بأحاسيسها، وفي (ص: 101) تجد هذه الأغنية وهي تختصر كل الحوارات والمسافات والزمن.
5- أغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب: "بفكر في اللي ناسيني/وبنسى اللي فاكرني/وبهرب مللي شاريني/ودوّر عاللي بايعني/عاللي بايعني.." جاءت هذه الأغنية لتصوّر حالة (ميمي) التي تبحث عن عشقها (عزيز) الذي هو بدوره يبحث عن فتاة أحلامه(ليلى)، والأغنية صورة واقعية وتجسيد للمشاعر والأفعال والحوارات بين (ميمي) و(عزيز)..
-المستوى الرابع: التراث الشعبي في الرواية: لقد استخدمت الروائية العربية(فاتحة)جهداً مكثفاً وشغلاً واضحاً في توظيف التراث لخدمة الرواية وبنائها ، فنجد الكلام العامّي، أو اللهجة الدارجة في المغرب، والمثل الشعبي، والأكلات الشعبية والمسمّيات المحلية ولكنها ليست بالغامضة فأنت تفهمها أيها العربي لكون التراث يكاد يكون واحدا والتقاليد واحدة، فأنت تقرأ:
1-في (ص: 7)قول والدة أمين(تحركوا تُرزقوا)، وهي كالمثل الذي يردده العراقيون(في الحركة بركة).
2-في ذكر الطعام والأكلات الشعبية(ص: 12): (طبق الكسكس أو طاستين من الحريرة)،الأكلة التي تقدمها صاحبة الدار(النزل) للمستأجرين (عزيز وأمين).
3-العبارة العراقية التي تكررها(بلقيس) وحفظها (أمين الرسام) فاستهوته وأخذ يرددها: (أموتن عليها) و
( أموتن عليك).. وهي عبارة عراقية قح لما تحمل من دلالات محبة صادقة (ص: 109).
4-في (ص: 117)، وصف للعرس المغاربي وليلة الزفاف وجوقات الطرب، في البادية، وهي تقاليد وتشبه الى حد بعيد العرس في القرية العراقية، حيث العروس تستبدل ثيابها عدة مرات، في (ص:113) حيث أصدقاء العريس يختلون به ليدعموه معنويا ويشرحون له الطقوس، وفي الفجر كيف يترقبون سروال العروس الملطخ بالدم لتستقبله النسوة بالزغاريد، هكذا كما في العراق، الحال واحد والتقاليد واحدة على الأقل في الريف إن غابت منذ وقت مبكر في المدينة.
5- الكلام العامي في اللهجة المغربية: على لسان أم أمين( دعي معاه أمي البتول يفك الله عقدته)،في (ص: 71)، وقول البتول( هذا ثقاف مديور ليك ياوليدي) في (ص: 71) .. وهكذا الكلام العامي في (ص: 104، 105)...
6-وهو من حوار بين ألزبون ومصطفى (مول الطاكسي)،حيث يقول الزبون الثرثار: قال أسيادُنا الأولون: (الدنيا بحال لمرة الى بغاتك حلاّت حُزامها وعُطاتك).. أي حال الدنيا حال المرأة إذا أقبلت عليك أعطت بدون حساب .
وبعد عرض مستويات القراءة للرواية، فإنّ العاطلين عن العمل هو همّ شعبي محلي وإقليمي ودولي، لم تعط بعض الدول مستحقاته الى الآن، فقد عرضت الروائية هذه الهموم في شرائح مختلفة ونماذج متباعدة ، متقاربة، في الذكاء والفطنة والتحصيل العلمي والقوة والشباب. معظم أبطال وشخوص الرواية هم عاطلون وحتى النساء، وأخص بالذات نساء الطبقة البرجوازية المترفة التي لم يكن همها العمل أو التحصيل الدراسي بقدر شراء المتعة بفلوسها بل شراء كل شيء حسب فكرها، بالفلوس.. وتجد اختيار الروائية للأمثلة من العاطلين، من أصحاب الشهادات العليا، وكذلك من تخصصات إنسانية، مثل التاريخ والجغرافية، هذه التخصصات المحرومة من التعيين، وكأن التاريخ والجغرافية عُطّلت ، فوجهة نظر (أمين) في التاريخ والجغرافيا تقول: (إيماني بأن لا مستقبل بدون تاريخ، ومصير الشعوب تحدده الجغرافية..) في حين يوجه (عزيز) التاريخ والجغرافية وجهة أخرى حسب مفهومه ومصلحته: (مثلاً أن توجهها نحو تاريخ النساء وجغرافيتهن.. ياسلام على جغرافية النساء: هضاب ووديان وجبال وسفوح ومغارات..)..
وهكذا كان العاطل (عزيز) يمثل تأجج الرغبة والمتعة في علاقاته مع النساء، في حين كان (أمين) أكبر وأرق أذن عرفها التاريخ فقد كان بستمتع بعلاقته الإفلاطونية، مع (بسمة)، فكان أمين الأسرار،.. وهكذا نجد كل عاطل يمثل نمطاً وهاجساً وثقافةً وشريحة، فكل شخصية تلبس قناع البطالة بنوع وبشكل وبنمط مختلف، وللمحسوبية والواسطة الأثر الواضح في ختام الرواية حيث يحصل (أمين) على رسالة توصية بالتعيين من (بسمة) وهي هديتها له بعد هجرتها الى كندا لكي يعمل موظفا بعد أن كان يعمل عندها سميراً وأنيساً وحافظاً لأسرارها..
روايةٌ تصرخُ بالهموم والأشجان، فهي لم تدرس أو تسلط الضوء على البطالة فقط بل جاءت فسيفساء تحمل التراث، والشعر، والأغاني، وعالجت أكثر من موضوع في الطبقة الأرستقراطية والطبقة الفقيرة أو المعدمة، وكيف تسخّر العوائل البرجوازية كل الناس البسطاء على مختلف ثقافاتهم لخدمة متعتها ونزواتها، هكذا عهدنا (فاتحة مُرشيد ) في كل عام وكل موسم ثقافي تتحفنا بالجديد شكلاً ومضموناً، وهاهي روائيةٌ فذّةٌ كما عهدناها شاعرةً فذّةً...!!!