د. وليد جاسم الزبيدي
فاتحة مُرشيد، أطلّت علينا بديوانها الجديد وهي تفتح فتحاً مبيناً جديداً، أتت إلينا بفلسفةٍ ورؤى تختلف عن (ايماءات) و ( تعال نمطر)، و(ورق عاشق)، فأنها تختلفُ في مواقع وتتقاطع في مواقع ومقاطع أخرى. هنا لم تومئ، ولم تتناقض، ولم تُلغِ، إنها تُشكّلُ ، وأحياناً تتشكلُ بذاتها كائناً، ومرةً كائنات، تبعثرُها كما يبعثر الطفلُ ألعابه، ثم تتصالح معها، فهي لا تذوب في الفردية، ولا تلتحم مع الجمهور، تتنقلُ كفراشةٍ تحترق بوهج الإبهار، وهي تحملُ من كل هذا النسيج كائناً جديداً لعلهُ لم يولد بعد..؟!
في مولودها الجديد، وكائنها الجديد، يكون الإفتتاح بمقولةٍ للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا
( 1888- 1935م) : (الأدبُ هو الدليل على أن الحياة لا تكفي)، هو شاعر القلق والأمل واليأس والرجاء،فهو يرى الحياة غير متكاملة، وأن الأدب اجتماعي أو مجتمعي فلكون الحياة غير كاملة يتكامل نقصها بوجود الأدب، فالأدب هو الكمال الإجتماعي وهو ليس عمل فردي بحت، فلذلك أنتج الإنسان هذا ألدب لتكون الحياة كاملةً متكاملة، هذه هي فلسفة الشاعر بيسوا، فهل جاءت الشاعرة من رحم هذه المقولة؟، وهل أن بإشارتها هذه يعني أن كائنها من فلسفة هذا الشاعر البرتغالي؟ ، وهل أن الشاعرة متعايشة ومتناغمة مع فلسفة بيسوا؟ ، كلها أسئلة تدور في خلد المتلقي عندما يبدأ تصفّح الديوان وقراءتهِ للمرة الأولى.
فبعد حين ، ومن يعرف روحية وهاجس فاتحة، ومنْ استوطن في أغوار حروفها وصورها ومعانيها، سيكتشف، أنها وضعت هذه المقولة، والعبارة، لا أن تكون صدىً لها ، بل لتعاكسها، وتتمرد عليها، ولتنطلق نحو فلسفةٍ جديدةٍ فيها التفرّد والتمرد، والانزياح..فلقد كانت ثقافة ووعي الشاعرة والروائية المغربية سفينة النجاة لها في عباب وخضم البحار التي تعوم فيها، فكل موجة وتيار يصرخ ويهدر بما في جعبته، وكل رأي وفلسفةٍ إعصارٌ يمتد ليقتلع الجذور، إلاّ أن فاتحة، كانت عصيةً بوجه كل التيارات سواء المعتدلة أو المتطرفة، فهي مع الإعتدال، تظهرُ كل الجدّة، والتسلط، ومع التطرف تلوي ذراع الصّرع وتفكّه من قيوده التي تعلقه بالذهان تارةَ وبالرهاب تارةً أو بعقيدةٍ تغورُ في الصخر..
في الديوان وردت أسماء لأعلام في الأدب والثقافة ، إنها بطاقات ملوّنة طالما تتحفنا بأسماء وإحالات لأعلام تُدِلّ بها على ثقافتها وسعة وحجم قراءاتها، ووعيها في الإختيار، وماذا تختار؟ فقد جاءت هنا أعلام بدءاًَ من الصفحة الأولى، وجعلتنا (فاتحة) في متحفها هذا أن نطّلعَ على تلك الشخصيات التي قد سمعنا بها فقط أو لم نسمعها جعلتني بطريقة وأخرى أن أعمد الى دراسة تلك الشخصيات كي أسبر أغوار الشاعرة وكلماتها ومقتنياتها الشعرية وإكسسوارات المعنى واللفظ ، فقد كان فضلاً عن فرناندو بيسوا الشاعر البرتغالي الذي ذكرته آنفاً، وكان: فاون ستيين، ومريانة لارسن ، وبيني أندرسن، والأديب المغربي إدمون عمران المليح.وكانت فاتحة في كل إصدار وإبداع جديد تضيف إلينا أسماء مبدعين، فهي لم تضف أسماء أو تحصر أعلام من هنا أو هناك، بل أنها تجمع أفكارهم وفلسفاتهم، بما ينتمي لأفكارها أو بما يتواءم مع كتاباتها وصورها. فقد أتت بأسماء وأعلام تختلف عمّا أتت بهم في رواياتها (لحظات لا غير) و( مخالب المتعة).
- النص الأول: يوميات الحزن بجدة: (ص:9): - وهي مهداة: ( الى روح والدي الذي لن يموت..)..
لم تكن القصيدة مرثية بل كانت مشاعر لإسترجاع الذات، ووجدانية في رسم خارطة العواطف، الأب، الذي انغمست بجلبابه ومساماته،عانقت حروفها نفحات القرآن ، ( أقرأ عليك/ سورة مريم)، (لعل الذكرى/تنفع المؤمنين)، (يومَ وُلدتَ)،كما أنها تنظر لأبيها في لحظات التوديع الأخيرة في جدة( أنظرُ إليك/أراكَ لأول مرةٍ/عارياً/ سوى من كبرياء الألم/). وهي تتمنى ولادةً جديدةً لأبيها في رحمها(هل من معجزةٍ/تنفخُ في رحمي/ فتولدُ من جديد). كما وتدرج بين ثنايا النّص اللهجة السعودية حيث يقول لها المتشددون (غطّي شعرك ياحُرمة..)، و(احتشمي يا حرمة).وتصوّر في نصها صورة الوفاة لوالدها: (ويحهم /سرقوا منك/تذكرة العودة/ وجواز السفر/)، إنها تعني هي الرحلة الأخيرة ، وأن الإنسان تحترق كل أوراقه وتُصادر حالما تحتضر الروح، فتُشطب كلّ أوراقه، ولم تبق غير أعماله التي تسبقه حيث ألهناك..
-النص الثاني:أنا العابرُ.. مقيمٌ فيكَ: (ص:31):
تبينُ هنا وفي هذا النّص فلسفة الشاعرة، والثنائية الجميلة التي تؤكد أن مع الحياة موت، ومع اللقاء رحيل، فهي تقول( مثقلةٌ بي/ مثقلٌ بها)، و( تحملني/ أحملها)، و( مثقلةٌ بعزلتي/ مثقلٌ بعزلتها)، و( تمقتني/أحبها)و( تحبني/أمقتها)، و( أتعثرُ بظلها- تتعثرُ بظلي)، ثنائيات كثيرة وجميلة، تتوحد فتفترق، تفترقُ فتتوحّد.. وفي هذا النّص الجميل تكرّر الشاعرة الروائية عبارتها الأثيرة التي ذكرتها في روايتها( لحظات لا غير)، ولكن بصيغةٍ أخرى وتعطيها دلالة مغايرة ومختلفة، فلقد كانت العبارة التي صدّرت الرواية بها: تريّث قليلاً أيها الموت أني أكتب). وهنا وردت العبارة في النّص شعرياً: ( تريّثي قليلاً/ أيتها الحقيبة/إنّي أحب/)..
لاحظ الاستخدام الشعري الموسيقي في هذه العبارة وكيف أتى متناغما مع النّص، وقد جاء مكملا له لا عالةً عليه.
-النص الثالث: لو كانَ بالإمكان: (ص: 49):أبهرت إبهارا عجيباً بهذا النصّ أعدتُ قراءتهُ 13 مرة لكون الرقم 13 فأل خير عند بعض الأمم. هذا النّص لم يكن لعبة اللغة، بل كان لعبة الصورة، لعبة المستحيل، هو الإنفلاتُ عن المألوف، كما أن الكاتب المغاربي المشهور الذي أهدته الشاعرة القصيدة الذي جاء الديوان على عنوانها( آخر الطريق أوله) الأستاذ إدمون عمران المليح،الذي يعشق الإنفلات وغير المألوف.فكان النّص تأجيجاً لثورة العقل وفتح واستشراف لرؤيةٍ حديثة تواكب الحداثة بمعناها الجديد..فهي تقول: ( قفزتُ إليك/ قبلةً واحدة)، و( من الحلاّق/ أطلبُ /تشذيبَ/ ذاكرتي المسدلة/ على قفا الوقت/)، و ( بمنشفة التيه/ أمسح / خرائطَ المكان.)، و ( سدّدتُ الى السماء إعصاري)، و( أشهرتُ في المرايا صرخاتي)، ...
صورٌ وصعقات متتالية متوالية تمطر عليك، فلا تعرف أيّها تُمسك، فتضيع منك كل الفراشات..
- النصّ الرابع: معبرٌ للوهم..(ص: 61):
استخدمت في هذا النّص مخاطبة المؤنث كما فعلت في ديوانها (ورق عاشق) ، الذي بدأ من العنوان كما أشرت في مقالتي وقراءتي السابقة للديوان أنها بدأت كأنها المذكر الذي يختفي وراء حجبها فكان ورق عاشق ولم يكن ورق عاشقة، وفي هذا النّص، تخاطب الأنثى ,هي الروح وهي ذات الشاعرة، تخاطب ملابسها، عطرها، (ياعطرَ أنفاس، يا قميصها، ياممشاها بين الشواطئ)، وتقول: ( كأني بكِ/ تصرخين في صمت/ بين صحون باردة/وبقايا طعام/.../ نظرة امرأةٍ / تنقصها رائحةُ عناقٍ ليلي/..). إنها تتحسسّ روحها الأنثى المشخصنة بجسد وملابس وطعام وعطر، تسكبُ في هذه الروح العطش والألم والرغبة، وتبوحُ من خلالها عن المسكوت عنه في ذاتها المتمردة.
- النّص الخامس: ما أستأنستُ بالجوار: (ص: 77): وهي مهداة: ( الى سميّة.. سميّتي).
النّص هذا حمّالُ أوجه يقرأهُ المتلقي قراءات متعدّدة حسب رؤيته ووعيه ، فهو للقارىء في أول وهلة نصّ وجداني، يحملُ بين طياته عذاب وحرمان، ولكن بعد القراءة العاشرة ستجد أنه نصّ سياسي ، فأنت هنا لا تُحمّل النّص أكثر من طاقته بل أنّ النّص يجعلك تبحث ، وتستشعر، فتقول: (مازال يرسمُ الحدود/ ولازلت في انتظار/ أن تطيحَ لمسةٌ / من جهة القلب/بذاك الجدار/..) ثم تقول: ( ربع قرنٍ مضى/ وأنت تنظرُ اليّ/ ولا تراني/ وأنا أنصتُ اليكَ/ولا أسمع/ صدىً لأغنياتي/ ..) وتقول: ( ربعُ قرنٍ مضى/ ونحنُ لا زلنا / بقدسية/ نرعى عزلتنا /خوفاً من الوحدة/)..
إنها الحدود والعوائق، وعدم سماع الآخر، والخوف، والعزلة، وعدم التوحّد، والخوف من الوحدة.. إنها نكبة العرب، إنها مأساة كل العرب .. رسم الحدود، وأنت تنظر اليّ ولا تراني، وأنا أنصتُ اليك ولا أسمعك..؟؟
- أمّا النّص السابع: غوص البجع: ( ص: 97):
وُلدَ النّص في كوبنهاجن، يونيو 2007، فقد جاء معطّراً ومتحلياً بما نثرتهُ عليها الدانمارك من ثلج ومطر وحب، بل وطربت أكثر ورافقت وشخصنت شعراء الدانمارك معها ، فتقول في كل مقطع ( كنّا أربعة) ، وفي مكان آخر ( أربعةٌ كنّا)، وحينما تبحث عن الأربعة الذين يمثلون المسرحية ويضبطون الإيقاع، بل ويلوّنون اللوحة، هم : فاتحة، وشعراء الدانمارك: فاون ستيين، وبيني أندرسن، ومريانة لارسن، شعراء وكتّاب رواية، وهو مبدعون ، بيني أندرسن، شاعر وموسيقار ويُعدّ من أعظم الشعراء الدنماركيين الأحياء، ومريانة،الحائزة على الجائزة الكبرى للشعر، لديها نحو ستين كتاباً في الشعر والرواية والمسرح..فهي تقول: 0 لا تظنّنَ رقصتي/ ابتهاجاً/ أو استهتاراً/ هي نوبة الجسد/أصيبَ بصرع الكلام/ مذ أجبروه على الصمت/..). فهي البحث عن الهوية، والعطش نحو التحضر بروحه لا بشكله؛ وهي تعرضُ أمام هاملت مسرحيةً عربيةً تقول
( كلنا فارس/ وكلنا ضحية/ والبخيل / منْ يحصي الخسارة/..).
في مولودها الجديد، وكائنها الجديد، يكون الإفتتاح بمقولةٍ للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا
( 1888- 1935م) : (الأدبُ هو الدليل على أن الحياة لا تكفي)، هو شاعر القلق والأمل واليأس والرجاء،فهو يرى الحياة غير متكاملة، وأن الأدب اجتماعي أو مجتمعي فلكون الحياة غير كاملة يتكامل نقصها بوجود الأدب، فالأدب هو الكمال الإجتماعي وهو ليس عمل فردي بحت، فلذلك أنتج الإنسان هذا ألدب لتكون الحياة كاملةً متكاملة، هذه هي فلسفة الشاعر بيسوا، فهل جاءت الشاعرة من رحم هذه المقولة؟، وهل أن بإشارتها هذه يعني أن كائنها من فلسفة هذا الشاعر البرتغالي؟ ، وهل أن الشاعرة متعايشة ومتناغمة مع فلسفة بيسوا؟ ، كلها أسئلة تدور في خلد المتلقي عندما يبدأ تصفّح الديوان وقراءتهِ للمرة الأولى.
فبعد حين ، ومن يعرف روحية وهاجس فاتحة، ومنْ استوطن في أغوار حروفها وصورها ومعانيها، سيكتشف، أنها وضعت هذه المقولة، والعبارة، لا أن تكون صدىً لها ، بل لتعاكسها، وتتمرد عليها، ولتنطلق نحو فلسفةٍ جديدةٍ فيها التفرّد والتمرد، والانزياح..فلقد كانت ثقافة ووعي الشاعرة والروائية المغربية سفينة النجاة لها في عباب وخضم البحار التي تعوم فيها، فكل موجة وتيار يصرخ ويهدر بما في جعبته، وكل رأي وفلسفةٍ إعصارٌ يمتد ليقتلع الجذور، إلاّ أن فاتحة، كانت عصيةً بوجه كل التيارات سواء المعتدلة أو المتطرفة، فهي مع الإعتدال، تظهرُ كل الجدّة، والتسلط، ومع التطرف تلوي ذراع الصّرع وتفكّه من قيوده التي تعلقه بالذهان تارةَ وبالرهاب تارةً أو بعقيدةٍ تغورُ في الصخر..
في الديوان وردت أسماء لأعلام في الأدب والثقافة ، إنها بطاقات ملوّنة طالما تتحفنا بأسماء وإحالات لأعلام تُدِلّ بها على ثقافتها وسعة وحجم قراءاتها، ووعيها في الإختيار، وماذا تختار؟ فقد جاءت هنا أعلام بدءاًَ من الصفحة الأولى، وجعلتنا (فاتحة) في متحفها هذا أن نطّلعَ على تلك الشخصيات التي قد سمعنا بها فقط أو لم نسمعها جعلتني بطريقة وأخرى أن أعمد الى دراسة تلك الشخصيات كي أسبر أغوار الشاعرة وكلماتها ومقتنياتها الشعرية وإكسسوارات المعنى واللفظ ، فقد كان فضلاً عن فرناندو بيسوا الشاعر البرتغالي الذي ذكرته آنفاً، وكان: فاون ستيين، ومريانة لارسن ، وبيني أندرسن، والأديب المغربي إدمون عمران المليح.وكانت فاتحة في كل إصدار وإبداع جديد تضيف إلينا أسماء مبدعين، فهي لم تضف أسماء أو تحصر أعلام من هنا أو هناك، بل أنها تجمع أفكارهم وفلسفاتهم، بما ينتمي لأفكارها أو بما يتواءم مع كتاباتها وصورها. فقد أتت بأسماء وأعلام تختلف عمّا أتت بهم في رواياتها (لحظات لا غير) و( مخالب المتعة).
- النص الأول: يوميات الحزن بجدة: (ص:9): - وهي مهداة: ( الى روح والدي الذي لن يموت..)..
لم تكن القصيدة مرثية بل كانت مشاعر لإسترجاع الذات، ووجدانية في رسم خارطة العواطف، الأب، الذي انغمست بجلبابه ومساماته،عانقت حروفها نفحات القرآن ، ( أقرأ عليك/ سورة مريم)، (لعل الذكرى/تنفع المؤمنين)، (يومَ وُلدتَ)،كما أنها تنظر لأبيها في لحظات التوديع الأخيرة في جدة( أنظرُ إليك/أراكَ لأول مرةٍ/عارياً/ سوى من كبرياء الألم/). وهي تتمنى ولادةً جديدةً لأبيها في رحمها(هل من معجزةٍ/تنفخُ في رحمي/ فتولدُ من جديد). كما وتدرج بين ثنايا النّص اللهجة السعودية حيث يقول لها المتشددون (غطّي شعرك ياحُرمة..)، و(احتشمي يا حرمة).وتصوّر في نصها صورة الوفاة لوالدها: (ويحهم /سرقوا منك/تذكرة العودة/ وجواز السفر/)، إنها تعني هي الرحلة الأخيرة ، وأن الإنسان تحترق كل أوراقه وتُصادر حالما تحتضر الروح، فتُشطب كلّ أوراقه، ولم تبق غير أعماله التي تسبقه حيث ألهناك..
-النص الثاني:أنا العابرُ.. مقيمٌ فيكَ: (ص:31):
تبينُ هنا وفي هذا النّص فلسفة الشاعرة، والثنائية الجميلة التي تؤكد أن مع الحياة موت، ومع اللقاء رحيل، فهي تقول( مثقلةٌ بي/ مثقلٌ بها)، و( تحملني/ أحملها)، و( مثقلةٌ بعزلتي/ مثقلٌ بعزلتها)، و( تمقتني/أحبها)و( تحبني/أمقتها)، و( أتعثرُ بظلها- تتعثرُ بظلي)، ثنائيات كثيرة وجميلة، تتوحد فتفترق، تفترقُ فتتوحّد.. وفي هذا النّص الجميل تكرّر الشاعرة الروائية عبارتها الأثيرة التي ذكرتها في روايتها( لحظات لا غير)، ولكن بصيغةٍ أخرى وتعطيها دلالة مغايرة ومختلفة، فلقد كانت العبارة التي صدّرت الرواية بها: تريّث قليلاً أيها الموت أني أكتب). وهنا وردت العبارة في النّص شعرياً: ( تريّثي قليلاً/ أيتها الحقيبة/إنّي أحب/)..
لاحظ الاستخدام الشعري الموسيقي في هذه العبارة وكيف أتى متناغما مع النّص، وقد جاء مكملا له لا عالةً عليه.
-النص الثالث: لو كانَ بالإمكان: (ص: 49):أبهرت إبهارا عجيباً بهذا النصّ أعدتُ قراءتهُ 13 مرة لكون الرقم 13 فأل خير عند بعض الأمم. هذا النّص لم يكن لعبة اللغة، بل كان لعبة الصورة، لعبة المستحيل، هو الإنفلاتُ عن المألوف، كما أن الكاتب المغاربي المشهور الذي أهدته الشاعرة القصيدة الذي جاء الديوان على عنوانها( آخر الطريق أوله) الأستاذ إدمون عمران المليح،الذي يعشق الإنفلات وغير المألوف.فكان النّص تأجيجاً لثورة العقل وفتح واستشراف لرؤيةٍ حديثة تواكب الحداثة بمعناها الجديد..فهي تقول: ( قفزتُ إليك/ قبلةً واحدة)، و( من الحلاّق/ أطلبُ /تشذيبَ/ ذاكرتي المسدلة/ على قفا الوقت/)، و ( بمنشفة التيه/ أمسح / خرائطَ المكان.)، و ( سدّدتُ الى السماء إعصاري)، و( أشهرتُ في المرايا صرخاتي)، ...
صورٌ وصعقات متتالية متوالية تمطر عليك، فلا تعرف أيّها تُمسك، فتضيع منك كل الفراشات..
- النصّ الرابع: معبرٌ للوهم..(ص: 61):
استخدمت في هذا النّص مخاطبة المؤنث كما فعلت في ديوانها (ورق عاشق) ، الذي بدأ من العنوان كما أشرت في مقالتي وقراءتي السابقة للديوان أنها بدأت كأنها المذكر الذي يختفي وراء حجبها فكان ورق عاشق ولم يكن ورق عاشقة، وفي هذا النّص، تخاطب الأنثى ,هي الروح وهي ذات الشاعرة، تخاطب ملابسها، عطرها، (ياعطرَ أنفاس، يا قميصها، ياممشاها بين الشواطئ)، وتقول: ( كأني بكِ/ تصرخين في صمت/ بين صحون باردة/وبقايا طعام/.../ نظرة امرأةٍ / تنقصها رائحةُ عناقٍ ليلي/..). إنها تتحسسّ روحها الأنثى المشخصنة بجسد وملابس وطعام وعطر، تسكبُ في هذه الروح العطش والألم والرغبة، وتبوحُ من خلالها عن المسكوت عنه في ذاتها المتمردة.
- النّص الخامس: ما أستأنستُ بالجوار: (ص: 77): وهي مهداة: ( الى سميّة.. سميّتي).
النّص هذا حمّالُ أوجه يقرأهُ المتلقي قراءات متعدّدة حسب رؤيته ووعيه ، فهو للقارىء في أول وهلة نصّ وجداني، يحملُ بين طياته عذاب وحرمان، ولكن بعد القراءة العاشرة ستجد أنه نصّ سياسي ، فأنت هنا لا تُحمّل النّص أكثر من طاقته بل أنّ النّص يجعلك تبحث ، وتستشعر، فتقول: (مازال يرسمُ الحدود/ ولازلت في انتظار/ أن تطيحَ لمسةٌ / من جهة القلب/بذاك الجدار/..) ثم تقول: ( ربع قرنٍ مضى/ وأنت تنظرُ اليّ/ ولا تراني/ وأنا أنصتُ اليكَ/ولا أسمع/ صدىً لأغنياتي/ ..) وتقول: ( ربعُ قرنٍ مضى/ ونحنُ لا زلنا / بقدسية/ نرعى عزلتنا /خوفاً من الوحدة/)..
إنها الحدود والعوائق، وعدم سماع الآخر، والخوف، والعزلة، وعدم التوحّد، والخوف من الوحدة.. إنها نكبة العرب، إنها مأساة كل العرب .. رسم الحدود، وأنت تنظر اليّ ولا تراني، وأنا أنصتُ اليك ولا أسمعك..؟؟
- أمّا النّص السابع: غوص البجع: ( ص: 97):
وُلدَ النّص في كوبنهاجن، يونيو 2007، فقد جاء معطّراً ومتحلياً بما نثرتهُ عليها الدانمارك من ثلج ومطر وحب، بل وطربت أكثر ورافقت وشخصنت شعراء الدانمارك معها ، فتقول في كل مقطع ( كنّا أربعة) ، وفي مكان آخر ( أربعةٌ كنّا)، وحينما تبحث عن الأربعة الذين يمثلون المسرحية ويضبطون الإيقاع، بل ويلوّنون اللوحة، هم : فاتحة، وشعراء الدانمارك: فاون ستيين، وبيني أندرسن، ومريانة لارسن، شعراء وكتّاب رواية، وهو مبدعون ، بيني أندرسن، شاعر وموسيقار ويُعدّ من أعظم الشعراء الدنماركيين الأحياء، ومريانة،الحائزة على الجائزة الكبرى للشعر، لديها نحو ستين كتاباً في الشعر والرواية والمسرح..فهي تقول: 0 لا تظنّنَ رقصتي/ ابتهاجاً/ أو استهتاراً/ هي نوبة الجسد/أصيبَ بصرع الكلام/ مذ أجبروه على الصمت/..). فهي البحث عن الهوية، والعطش نحو التحضر بروحه لا بشكله؛ وهي تعرضُ أمام هاملت مسرحيةً عربيةً تقول
( كلنا فارس/ وكلنا ضحية/ والبخيل / منْ يحصي الخسارة/..).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق