الأحد، سبتمبر 27، 2009

زهدي ومادلين

د. عدنان الظاهر

جلستُ ذاتَ ساعة بطرٍ وخلوِّ بال أفلسف مسألة شغف الصديق الروائي والكاتب الدكتور زهدي الداوودي بالإسم [ مادلين ] ؟ لم أجدْ سبباً مُقنعاً يُشفي غليلي فبقيتُ حائراً لا أعرفُ كيف أُمضّي بقية ساعات ليلي الثقيل الوطأة عليَّ خاصةً حين تتعقد الأمور أمامي وتلتبس.
لا أستطيعُ النومَ مُبكّراً ولا مواصلة التحديق في شاشة التلفزيون لأنها تؤذي العيون الضعيفة أصلاً. إذاً ... وقد تُجدي هذه ال (إذاً ) ! فلأستدعيه عاجلاً بالتنويم أو التعويم المغناطيسي أو عن طريق مكالمة تلفونية قد تكون طويلة ولأضعه أمام إستجواب عويص . أعرفُ الصديق زهدي رجلاً صريحاً ومقاتلاً شجاعاً خبرته منطقة جبل ( كفران ) الحصين والوديان العميقة في محافظة كركوك نصيراً شيوعياً { بيش مه ركه } إثرَ إنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 وفصله من وظيفته معلِّماً في قرية ( مامةْ ) ثم صدور حكمين عليه بالسجن في قضية واحدة . إذاً زهدي رجلٌ لا يخشى الكلام عن خصوصياته الدقيقة فلأفتح معه موضوع مادلين وأرى ما سيقولُ . أضحكني زهدي طويلاً إذْ فاجأني بالسؤال : أيةَ مادلين تقصدُ ؟ إنتبهتُ ... تعلّق زهدي بفتاتين تحملان ذات الإسم : مادلين . تظاهرتُ أني لا أعرف التفاصيل فقلتُ له قصَّ عليَّ قصة الأولى ثم الثانية . فكّرَ قليلاً ثم طلبَ كأس نبيذٍ أحمرَ قانٍ فجاءه الكأسُ كما أراد مشعشعاً كالعقيق المنصهر بنار الثلج . قال وقد إرتشفَ من كأسه قليلاً لترطيب لسانه : أحببتُ مادلين الأولى حين كنتُ في ظرف عصيب . كانت ممرضة تعمل في مستشفى المجيدية في كركوك وكنت مع أبي المريض وهو يصارع الموتَ على سرير مرضه . كنتُ لم أزل دونَ الخامسة عشرة من عمري طالباً في السنة الثانية من الدراسة المتوسطة . كنت يومها في عنفوان مراهقتي وكانت مادلين في أوج فتنتها وتفتّح كنوز جسدها فكيف لا يقع مثلي في غرام فتاة مثلها ؟ أخذ زهدي رشفةً طويلةً مما في كأسه من عقيق سائلٍ أحمرَ قانٍ . بقي الكاسُ في كفه لا يريدُ أنْ يفارقهُ أو كأنه لا يريدُ . أطرقَ زهدي إطراقة غيرَ قصيرة . رفع رأسه نحوي كأنه تذكّرَ شيئاً فاته ذكْرُهُ . هل تعلم ؟ سألني . أحببت مادلين تلك من كل قلبي وقد شغفني إسمها غير المعروف في مدينتي ومدينة أهلي ( طوز ) ، فضلاً عن إختلافنا في الدين فهي مسيحية وأنا لستُ كذلك . تمتم مع نفسه : تجاذبُ الضدين لا صراعُ الأضداد ! وكيف إنتهت قصتك مع مادلين الأولى يا زهدي ؟ إنتهت نهاية مأساوية مزدوجة ، أجاب . توفي والدي وغادرتُ كركوك عائداً لمدينة طوز لأباشرَ الدوام في مدرستي وفي الصف الجديد ، الثاني المتوسط . وهل نسيتها يا زهدي وقد أصبحتَ مع باقي أهلك وأخوتك في مدينة طوز؟ قال أجلْ ، نسيتها ، لكنَّ الفضلَ في نسيانها للسياسة . كيف يا زهدي ؟ قال لعلك لا تصدق أني ـ وقد تعرفتُ على نخبة من الطلبة اليساريين الثوريين في مدرستي ـ كنتُ أعرف جناحي الحزب الشيوعي
" القاعدة " و " راية الشغيلة " . ومن سلوك ومناقشات أصحاب هذين الجناحين تعرّفتُ على الكثير من الأفكار ونقاط الإختلاف بين هذين الخطين. كنا نجتمع في البيوت وفي البساتين نقرأ ونتناقش ونختلف ونتفق ومضت الأيام حتى جاء شهر شباط من عام 1955 فقدتُ إضراباً ضد دخول العراق في حلف بغداد الأمر الذي أدى إلى فصلي من مدرستي وتلك قصة طويلة وراءَها غصصٌ وغصصٌ . أحببتَ يا زهدي وأنت في الرابعة عشرة من عمرك وفُصِلتَ من مدرستك وأنت لم تزل في الخامسة عشرة فعلام العَجَلة وما أسبابُ نضوجك المبكّر في عالمي الرومانس والسياسة ؟ خوضي عالم السياسة أنساني رومانسي الأول العنيف ، أجاب زهدي . أما شأنُ الثورة فقد دخلته من باب الفقر . رحل والدي ولم يترك لنا غيرَ راتبٍ تقاعديٍّ ضئيلٍ وبيوتٍ ثلاثة باع أو رهن أحدها قبل وفاته دون علم والدتي . ثم لا تنسَ حقدنا على شركات النفط الجاثمة في كركوك وشعلة غازات نفط حقول باباكركر الدائمة الإتقاد لا تدعُ لنا مجالاً لنسيان محنتنا وفقر شعبنا وإستغلال خيراتنا ونهب ثرواتنا من قبل شركات أجنبية فرضها الإستعمار البريطاني على العراق وشعب العراق . الأجانب يتنعمون ونحن نشقى فكيف لا نثور وكيف يسكتُ فقيرٌ مظلومٌ ظالمهُ غيرَ بعيدٍ عنه؟ سألته وكيف صارت أمورك بعد فصلك من مدرستك ؟ قال تلك قصة طويلة معقدة تجد تفاصيلها في روايتي {{ تحوّلات }}* . كدتُ ـ واصل زهدي كلامه ـ أنْ أكونَ بسبب ذلك الفصل مجرماً قاتلاً . لم أعلّقْ ، كنتُ شبهَ واثق أنه سيواصل الكلام ، وبالفعل . قال : حين أصرَّ مدير المدرسة على قرار فصلي رغم الضغوط والوساطات قررت بمساعدة أحد أقاربي إغتياله ليلاً ولكني تريثتُ ولم أنفّذْ قراري . نجحت الضغوط أخيراً فوافق المدير على عودتي لمدرستي بقرار من مجلس مدرسيّ المدرسة . ثمَّ ؟ حثثتُ زهدي على مواصلة حديثه الشيّق الباعث للحزن فقال : أكملت الدراسة المتوسطة ودخلت دار المعلمين الإبتدائية في كركوك لأتخرج فيها بعد ثلاثة أعوام وصدر أمرُ تعييني معلماً ومديراً في قرية مامةْ ، كان ذلك عام 1960 الصاخب الشديد الإضطراب زمان عبد الكريم قاسم ! .
صببتُ لزهدي كأسَ نبيذٍ آخرَ لإستدراجه [ أو لإغرائه ] لقصِّ المزيد من أحاديثه الساخرة والساحرة معاً وإنه لهوَ الساحر الساخر . نهض لقضاء حاجةٍ وما أنْ قضاها وعادَ حتى بادرني بالسؤال هل لديك المزيد من الأسئلة ؟ لديَّ منها الكثير يا زُهدي الزاهد . قال هات ... اليومَ خمرٌ وغداً أمرُ . إذاً ... قلتُ له ، تحسّنتْ أموركم المالية وقد غدوتَ معلماً ومديراً لمدرسة في الريف بعيداً عمّا كان يجري من مضايقات وإعتداءات وإعتقالات وسجون وإغتيالات طالت الكثير من العناصر الدمقراطية والشيوعية عهدذاك . قال تحسّنت أحوالنا المعاشية نعم ، لكنَّ أوضاع العراق السياسية كانت تنزلق أكثر فأكثر ويوماً إثرَ يومٍ نحو منزلقات ومنعرجات خطيرة أدّت أخيراً إلى نجاح إنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 الفاشي الدموي الذي أغرق العراق بالدم والسواد . قلت له دعْ عنك أحداث هذا الإنقلاب المعروفة وحدثني عن سنوات نعيمك قبل وقوع هذا الإنقلاب . قال كنتُ بالفعل سعيداً في مدرستي القروية ومحيطي الفلاحي الذي أحببتُ من كل قلبي خاصةً وأجدادي من الفلاحين البسطاء . ثم ... حدث ما لم يكن في الحسبان وهذه هي الحياة ومفاجآتها . نورٌ كالشهاب الثاقب الساقط من عالي السماوات يخترقُ فجأةً سُجُف وغياهب الظلمات . ماذا تقصدُ يا زهدي ؟ سألته مُتلهِّفاً . وسط المحنة التي كان العراق يمرُّ بها ـ قال ـ شاءت الصدف أنْ أتعرفَ على معلمة مصلاوية جاءت تزورُ والدتي ذاتَ يومٍ فذهِلتُ وطارَ صوابي . كان إسمها هي الأخرى مادلين وإنها كمادلين الأولى مسيحية ! كانت الأولى ممرضةً أما الثانية فمعلّمة . ماذا جرى ساعتها لي ؟ لا أدري . إلتبستْ عليَّ أموري فتخيلتُ زائرتنا هي الممرضة مادلين حتى شُبّهَ لي أنَّها ترتدي بدلة الممرضات البيضاء خلال ساعات دوامهنَّ في المستشفيات . كيف إنتقلت عدوى الحب من فتاة إلى أخرى لا يجمعهما إلا الإسم والدين الذي لا يلعب أيَّ دورٍ في حياتي ؟ كيف وجدتُ تلك في هذه ؟ كيف تضاعف تضامني معها بسبب محنة العراق وما كانت مدينة الموصل تتعرض له من حوادث القتل والإعتداءات والتهجير مارستها بحق الدمقراطيين والعوائل المسيحية عناصر أقل ما يُقالُ عنها أنها كانت حاقدة على ثورة تموز 1958 وناصبتها العداء بكافة الوسائل والطرق والأساليب حتى أفلحت أخيراً في إسقاطها . كانت أسعد أوقاتي تلك التي كانت مادلين تزور بيتنا وتقضّي معنا أوقاتاً طويلة إذْ وجدتْ في بيتنا عائلةً تسليّها عن وحدتها وغربتها ووجدت في والدتي والدةً لها واتخذت مني صديقاً وأخاً مُحبّاً . المِحنُ تجمع الناسَ المُمتَحنين بها وتوحدّهم . مرَّ الزمنُ وبمروره ومع مروره وجدتُ في نفسي قدراً كافياً من الشجاعة لأصارحها بحبي العميق ووجدتها ، يا للغرابة ، تبادلني مشاعري الجيّاشة تلك . صرت أثناء دوامي في مدرستي أكتب لها رسائل غرامية لاهبة فتجيبني عليها رسالةً برسالة . لا يدومُ سرورُ البشر طويلاً [[ لا يَنقُصُ البدرُ إلاّ حينَ يكتملُ ]]. عرضتُ عليها ذاتَ يومٍ الزواجَ فصدمتني بقولها إنها تتشرف بالزواج مني لولا ... لولا أنها مخطوبة لإبن عمتها ! إنهار حينها كل شيء في حياتي . تساوى أمام ناطريَّ النور والظلام . الثورة وضدها الإنقلاب عليها والمُرشّحُ البديل والقريب منها. الوظيفةُ في الريف والسجن . الحريةُ والتشرد والمطاردات البوليسية . وقع إنقلاب الثامن من شباط فالتحقتُ بحركة الأنصار في الجبل ليصدر الإنقلابيون قرارا بفصلي من وظيفتي والحكم عليَّ بالسجن غيابياً . كان هذان الأمران متوقعين لكنَّ الأمر غير المتوقع هو أنْ يصدُرَ أمرٌ من قبل بعض مسؤولي الحزب البارتي [ حزب مصطفى برزاني وقتذاك ] باعتقالي وتجريدي من سلاحي ! طيّبْ يا زهدي ، قلتُ له ، وماذا عن حبيبتك المصلاوية ؟ قال إنقطعتْ أخبارُها عني ولم أعدْ أعرف شيئاً عنها . ربما قتلها أو سجنها الإنقلابيون في مدينة الموصل سويةً مع باقي أفراد أسرتها هناك. شرع زهدي ، لفرط ما ألمَّ به من حزن وأسى ، شرع يغني بصوتٍ خفيضٍ مُطأطئ الرأس مرةً باللغة الألمانية ومرات بالتركمانية أو الكوردية . تناول كأسَ النبيذ وقال بعد أنَّ أفرغه مرةً واحدةً في جوفه : مع مادلين الأولى فارق والدي الحياة ، ومع الثانية فقدتُ وظيفتي وحريتي وفقدنا العراق فهل هذه هي قسمتي ونصيبي من حبي الأول والثاني ؟ ألا بئسَما القسمة والنصيب .
نهض الصديقُ زهدي ليودعني شاكراً دعوتي وحديثي معه عارضاً عليَّ أنْ أزورَه والصديق الحلاّوي دكتور ممتاز كامل كريدي في مدينة لايبزك الألمانية فمتى أحقق هذه الزيارة التي طالما وعدتهما بها وأخلفتُ مِراراً وعدي ؟ وأنت يا ممتاز العزيز ، عزيز حلة بابل ولايبزك جرمانيا ، متى تكتب لي خلاصات ذكرياتك لأنشرها على الملأ ؟

· * تحوّلات / رواية للدكتور زهدي خورشيد الداوودي . الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت . الطبعة الأولى 2007 .

ليست هناك تعليقات: