زياد جيوسي
من أثار الجيب بعدسة: زياد جيوسي
الجيب (جبّعون)
تَركت رحلتي لبلدة الجيب أثرها الكبير في روحي، ففي الجيب تنشقت عبَق التاريخ، رأيت كيف دافع الجدود منذ عهد كنّعان الأول عن الوطن، شعرت أني أشاهد الملك جبّعون وهو يقاتل بكل قوة وعنفوان في مواجهة يوشع المحتل للدفاع عن وطنه وأرضه، ويسقط بالنهاية مضرجاً بدماءه لكنه لم يستسلم أبداً، فتبقى ذكراه عبقة عبر العصور، وتبقى دماءه تستصرخ الأحفاد أن لا يستسلموا ابداً ويعملوا على طرد المحتل الذي عاد من جديد واستولى على الأرض والوطن، المحتل الذي عاد ويحاول قتل جبّعون الملك من جديد من خلال قتل أحفاده.
اتجهنا برفقة مضيفنا الأخ أحمد المصري باتجاه أعلى نقطة في البلدة حيث أثار الجيب القديمة، ومن هناك كنا ننظر المستعمرات الاسرائيلية التي استولت على أراضي القدس وضواحيها وبلداتها، يفصلها عن مكان وقوفنا مسافات محددة وراء الجدار الأفعى، فشعرت بها كالخناجر تخترق الصدور، أجمل وأطهر بقاع الأرض يلوثها الاحتلال، يزرع مستوطناته فيها ويحرمنا منها، والجدار يلتف كأفعى قذرة يستولي على الأرض ويخنق السكان، فأصبحت بلدات القدس خلف الجدار مطوقة إلا من مسارب محددة تربطها بمدينة رام الله، في كل لحظة يمكن للاحتلال إغلاقها وعزل هذه البلدات تماماً عن محيطها.
في هذا المرتفع رأينا أثار الكنيسة البيزنطية وقد عمل الزمان والاهمال دوره في تدميرها وخرابها، فتحولت لأثار مدمرة في غياب الترميم والعناية، وكان الدخول إلى بقاياها نوعاً من المغامرة، وقد طلب مني المضيف بأكثر من زاوية أن انتبه خوفاً من انهيار مفاجئ، الا أن عبق التاريخ كان يشدني بقوة لمعرفة زوايا وخبايا الأمكنة، فهنا رائحة من عبق الوطن عبر العصور والأعوام، فتجولت في بقايا الكنيسة البيزنطية ألتقط الصور وأسجل الملاحظات، لأنتقل بعدها إلى مقام مهمل تماماً هو مقام الشيخ حامد، وقد أصبحت بوابته مغلقة، وخلف البوابة قام أحد المواطنين بالاستيلاء على الساحة وتحويلها إلى زريبة أغنام، فتسللت من بوابة هي أشبه بطاقة تتراكم تحتها الحجارة إلى داخل المقام مع الأخ محمد أحمد خطاب عضو المجلس البلدي الذي انضم إلينا، لأجد في الداخل ضريحاً مهملا تماماً مغلفُ ببقايا أقمشة خضراء أكل الدهر عليها وشرب، ولم يبقى منها إلا بقايا ممزقة كالحة اللون، والأتربة تملأ المقام، فلا عناية ولا اهتمام بهذا الأثر التاريخي، مما زادني ألماً وغصة، فها هي أثارنا وشواهد تاريخنا وأرضنا مهملة تماماً، وبدل العناية بها لتكون الراوي والشاهد للحكاية والتاريخ، تحولت لأطلال وأحاديث غابرة.
ومن المقام انطلقنا للتجوال في مجموعة من البيوت القديمة والأثرية والتي كانت مسكونة ذات يوم، وكانت هي بلدة الجيب وراوية التاريخ والحضارة، فأصبحت أطلال مهدمة لا تأوي اليها إلا القطط والحيوانات السائبة، وهي تشكل بمجموعها قلعة ضخمة وكبيرة، ومنها بيت كان مقراً للحاكم الروماني في غابر الأزمان، فأصبح الآن مقراً للخراب والدمار، ودخلنا مجموعة من البيوت التي ما زالت بقايا حجارتها تأن وتتألم وتتحدث عن زمن مضى، وأكاد أسمعها تهمس بألم: أين أحفاد أكناف بيت المقدس؟ وطوال الوقت كنت التقط الصور لتكون الشاهد على ما رأيته وأسجل الملاحظات، حتى أني وجدت بيتاً منقوشاً على حجر فوق بوابته سنة البناء 1342 مع عبارة (ما شاء الله) وهذا البيت ما زال محافظاً نوعاً ما على بعض من صلابته وقوة البنيان، مما يدلل أنه حديث البناء مقارنة بما يحيط به، ودخلنا مسجد البلدة وخلفه أثار المسجد القديم وقد أهمل تماماً وليس بداخله سوى حجارة مهدمة وبعض من التوابيت الخشبية القديمة.
ومن هناك واصلنا المسيرة برفقة مضيفينا الى بلدة جبعون التاريخية وأثارها، جبعون التي تحول اسمها الى الجيب عبر العصور، فوصلنا عين الماء المهملة تماماً، وبصعوبة تمكنت مع الأخ أحمد المصري من الدخول في ظل العتمة، والتقطت العديد من الصور للمشهد الراوي للحكاية، ومن داخل العين صعدنا عبر نفق حجري يعود للتاريخ القديم، منحوت بالصخر وعلى درجات حجرية تقارب المائة ولا نحمل وسائل اضاءة الا إنارة الهواتف الخلوية، صعدنا لأعلى التلة حيث كانت مملكة جبعون الكنعانية القديمة، والتي حفرت هذا النفق من أعلى التلة إلى عين الماء لتأمن المياه في حالات الحصار، لنجد في تلك التلة وأطرافها شواهد التاريخ القديم والحضارة التي أنشأها الأجداد، فهناك بئر ماء محفور بالصخر يصل عمقه لقرابة الخمسة والعشرين متراً وبقطر يقارب الاثنا عشر متراً، ويُنـزل إليه بدرجات حجرية محفورة تصل إلى تسعة وسبعين درجة، والشواهد تشير إلى أنه كان في قعره عين ماء جفت مع الزمان والعصور، أو أنه كان في قعرة فتحة توصل إلى عين الماء الرئيسة، ولعب الزمان دوره في اغلاقها، ودلالة ذلك أنه مهما بلغت كميات الأمطار المتساقطة فأنها تتسرب ولا تستقر بها، وفي أعلى التلة وجدنا أثار مصنع للخمور ودخلنا إلى معصرة زيتون تاريخية في كهف، لعبت الأيدي البشرية دورها في تحطيم أثارها بما فيها العامود المنحوت في وسطها، ولم يكتفى بذلك بل تحولت جدرانها إلى يافطات لعبارات الصراع بين أبناء الفصائل المختلفة، وبالقرب من المعصرة زرنا كهف محفور كان عبارة عن صيدلية تاريخية لحفظ الأدوية، محفور فيها طاقات صغيرة كانت تحفظ بها أعشاب العلاج، وزرنا في أطراف التلة مقابر الكهوف، فمنها كهوف حوت مقابر العامة، وكهوف حوت مقابر الخاصة، وأما قبر الملك الكنعاني جبعون وأسرته، فهناك من قام بردمها بالتراب وإحالتها إلى طريق ترابية.
وعبر هذه المسالك الصعبة قمنا بالعودة للبلدة مارين بالبساتين والكروم، أكلنا من حبات التين التي تتفوق على العسل بطيبتها وحلاوتها، فالتففنا عبر البساتين والحقول وأشجار الزيتون الرومية البالغة القدم حتى عدنا للبلدة، وطوال الوقت لم يتوقف مضيفنا أحمد المصري عن الحديث عن تاريخ بلدته، عن حلمه بأن يجد من المؤسسات من يهتم بها ويرمم أثارها، عن حلمه الذي يعمل من أجله جاهداً أن يكون هناك مهرجان سنوي ثقافي وفني في بلدته الضاربة الجذور، عن أمله أن يجد ولو دعماً بسيطاً لطباعة كتاب كتبه عن الجيب وتاريخها مزود بالصور، وقلت له: لا أمتلك إلا حبي للأرض والقلم وعدسة التصوير، سأكتب عن الجيب (جبعون) وحكاية التاريخ والأجداد، سأنشر الصور وأضعها تحت تصرف المؤسسات التي تطلبها، وإن تمكنت يوماً فسيكون لي معرض فوتغرافي عن هذا التاريخ، فلعلي أساهم معك بالدق على جدران الخزان.. لعل أحداً يسمع.
صباح عمّاني جميل ونسمات ناعمة وأنا أزور أسرتي وأهلي في عمّان الهوى، وشوق يشدني بقوة لرام الله الجمال، رمضان يضفي للصبح جمالاً آخر، أجالس وخيال طيفي الشقي الحلو المشاكس دالية العنب وحوض النعناع وبعض الورود، أستمع لشدو فيروز: (لاجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن يا قدس، يا مدينة الصلاة أصلي، عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعبد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد).
صباحكم أجمل.
الجيب (جبّعون)
تَركت رحلتي لبلدة الجيب أثرها الكبير في روحي، ففي الجيب تنشقت عبَق التاريخ، رأيت كيف دافع الجدود منذ عهد كنّعان الأول عن الوطن، شعرت أني أشاهد الملك جبّعون وهو يقاتل بكل قوة وعنفوان في مواجهة يوشع المحتل للدفاع عن وطنه وأرضه، ويسقط بالنهاية مضرجاً بدماءه لكنه لم يستسلم أبداً، فتبقى ذكراه عبقة عبر العصور، وتبقى دماءه تستصرخ الأحفاد أن لا يستسلموا ابداً ويعملوا على طرد المحتل الذي عاد من جديد واستولى على الأرض والوطن، المحتل الذي عاد ويحاول قتل جبّعون الملك من جديد من خلال قتل أحفاده.
اتجهنا برفقة مضيفنا الأخ أحمد المصري باتجاه أعلى نقطة في البلدة حيث أثار الجيب القديمة، ومن هناك كنا ننظر المستعمرات الاسرائيلية التي استولت على أراضي القدس وضواحيها وبلداتها، يفصلها عن مكان وقوفنا مسافات محددة وراء الجدار الأفعى، فشعرت بها كالخناجر تخترق الصدور، أجمل وأطهر بقاع الأرض يلوثها الاحتلال، يزرع مستوطناته فيها ويحرمنا منها، والجدار يلتف كأفعى قذرة يستولي على الأرض ويخنق السكان، فأصبحت بلدات القدس خلف الجدار مطوقة إلا من مسارب محددة تربطها بمدينة رام الله، في كل لحظة يمكن للاحتلال إغلاقها وعزل هذه البلدات تماماً عن محيطها.
في هذا المرتفع رأينا أثار الكنيسة البيزنطية وقد عمل الزمان والاهمال دوره في تدميرها وخرابها، فتحولت لأثار مدمرة في غياب الترميم والعناية، وكان الدخول إلى بقاياها نوعاً من المغامرة، وقد طلب مني المضيف بأكثر من زاوية أن انتبه خوفاً من انهيار مفاجئ، الا أن عبق التاريخ كان يشدني بقوة لمعرفة زوايا وخبايا الأمكنة، فهنا رائحة من عبق الوطن عبر العصور والأعوام، فتجولت في بقايا الكنيسة البيزنطية ألتقط الصور وأسجل الملاحظات، لأنتقل بعدها إلى مقام مهمل تماماً هو مقام الشيخ حامد، وقد أصبحت بوابته مغلقة، وخلف البوابة قام أحد المواطنين بالاستيلاء على الساحة وتحويلها إلى زريبة أغنام، فتسللت من بوابة هي أشبه بطاقة تتراكم تحتها الحجارة إلى داخل المقام مع الأخ محمد أحمد خطاب عضو المجلس البلدي الذي انضم إلينا، لأجد في الداخل ضريحاً مهملا تماماً مغلفُ ببقايا أقمشة خضراء أكل الدهر عليها وشرب، ولم يبقى منها إلا بقايا ممزقة كالحة اللون، والأتربة تملأ المقام، فلا عناية ولا اهتمام بهذا الأثر التاريخي، مما زادني ألماً وغصة، فها هي أثارنا وشواهد تاريخنا وأرضنا مهملة تماماً، وبدل العناية بها لتكون الراوي والشاهد للحكاية والتاريخ، تحولت لأطلال وأحاديث غابرة.
ومن المقام انطلقنا للتجوال في مجموعة من البيوت القديمة والأثرية والتي كانت مسكونة ذات يوم، وكانت هي بلدة الجيب وراوية التاريخ والحضارة، فأصبحت أطلال مهدمة لا تأوي اليها إلا القطط والحيوانات السائبة، وهي تشكل بمجموعها قلعة ضخمة وكبيرة، ومنها بيت كان مقراً للحاكم الروماني في غابر الأزمان، فأصبح الآن مقراً للخراب والدمار، ودخلنا مجموعة من البيوت التي ما زالت بقايا حجارتها تأن وتتألم وتتحدث عن زمن مضى، وأكاد أسمعها تهمس بألم: أين أحفاد أكناف بيت المقدس؟ وطوال الوقت كنت التقط الصور لتكون الشاهد على ما رأيته وأسجل الملاحظات، حتى أني وجدت بيتاً منقوشاً على حجر فوق بوابته سنة البناء 1342 مع عبارة (ما شاء الله) وهذا البيت ما زال محافظاً نوعاً ما على بعض من صلابته وقوة البنيان، مما يدلل أنه حديث البناء مقارنة بما يحيط به، ودخلنا مسجد البلدة وخلفه أثار المسجد القديم وقد أهمل تماماً وليس بداخله سوى حجارة مهدمة وبعض من التوابيت الخشبية القديمة.
ومن هناك واصلنا المسيرة برفقة مضيفينا الى بلدة جبعون التاريخية وأثارها، جبعون التي تحول اسمها الى الجيب عبر العصور، فوصلنا عين الماء المهملة تماماً، وبصعوبة تمكنت مع الأخ أحمد المصري من الدخول في ظل العتمة، والتقطت العديد من الصور للمشهد الراوي للحكاية، ومن داخل العين صعدنا عبر نفق حجري يعود للتاريخ القديم، منحوت بالصخر وعلى درجات حجرية تقارب المائة ولا نحمل وسائل اضاءة الا إنارة الهواتف الخلوية، صعدنا لأعلى التلة حيث كانت مملكة جبعون الكنعانية القديمة، والتي حفرت هذا النفق من أعلى التلة إلى عين الماء لتأمن المياه في حالات الحصار، لنجد في تلك التلة وأطرافها شواهد التاريخ القديم والحضارة التي أنشأها الأجداد، فهناك بئر ماء محفور بالصخر يصل عمقه لقرابة الخمسة والعشرين متراً وبقطر يقارب الاثنا عشر متراً، ويُنـزل إليه بدرجات حجرية محفورة تصل إلى تسعة وسبعين درجة، والشواهد تشير إلى أنه كان في قعره عين ماء جفت مع الزمان والعصور، أو أنه كان في قعرة فتحة توصل إلى عين الماء الرئيسة، ولعب الزمان دوره في اغلاقها، ودلالة ذلك أنه مهما بلغت كميات الأمطار المتساقطة فأنها تتسرب ولا تستقر بها، وفي أعلى التلة وجدنا أثار مصنع للخمور ودخلنا إلى معصرة زيتون تاريخية في كهف، لعبت الأيدي البشرية دورها في تحطيم أثارها بما فيها العامود المنحوت في وسطها، ولم يكتفى بذلك بل تحولت جدرانها إلى يافطات لعبارات الصراع بين أبناء الفصائل المختلفة، وبالقرب من المعصرة زرنا كهف محفور كان عبارة عن صيدلية تاريخية لحفظ الأدوية، محفور فيها طاقات صغيرة كانت تحفظ بها أعشاب العلاج، وزرنا في أطراف التلة مقابر الكهوف، فمنها كهوف حوت مقابر العامة، وكهوف حوت مقابر الخاصة، وأما قبر الملك الكنعاني جبعون وأسرته، فهناك من قام بردمها بالتراب وإحالتها إلى طريق ترابية.
وعبر هذه المسالك الصعبة قمنا بالعودة للبلدة مارين بالبساتين والكروم، أكلنا من حبات التين التي تتفوق على العسل بطيبتها وحلاوتها، فالتففنا عبر البساتين والحقول وأشجار الزيتون الرومية البالغة القدم حتى عدنا للبلدة، وطوال الوقت لم يتوقف مضيفنا أحمد المصري عن الحديث عن تاريخ بلدته، عن حلمه بأن يجد من المؤسسات من يهتم بها ويرمم أثارها، عن حلمه الذي يعمل من أجله جاهداً أن يكون هناك مهرجان سنوي ثقافي وفني في بلدته الضاربة الجذور، عن أمله أن يجد ولو دعماً بسيطاً لطباعة كتاب كتبه عن الجيب وتاريخها مزود بالصور، وقلت له: لا أمتلك إلا حبي للأرض والقلم وعدسة التصوير، سأكتب عن الجيب (جبعون) وحكاية التاريخ والأجداد، سأنشر الصور وأضعها تحت تصرف المؤسسات التي تطلبها، وإن تمكنت يوماً فسيكون لي معرض فوتغرافي عن هذا التاريخ، فلعلي أساهم معك بالدق على جدران الخزان.. لعل أحداً يسمع.
صباح عمّاني جميل ونسمات ناعمة وأنا أزور أسرتي وأهلي في عمّان الهوى، وشوق يشدني بقوة لرام الله الجمال، رمضان يضفي للصبح جمالاً آخر، أجالس وخيال طيفي الشقي الحلو المشاكس دالية العنب وحوض النعناع وبعض الورود، أستمع لشدو فيروز: (لاجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن يا قدس، يا مدينة الصلاة أصلي، عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعبد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد).
صباحكم أجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق