‏إظهار الرسائل ذات التسميات نبيل عودة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نبيل عودة. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، أبريل 16، 2010

ليس عضوا في النادي

نبيل عودة

قصة

وقعت حادثة غريبة في نادي للسباحة ، فجأة عبر بسرعة رجل عار كما ولدته أمه ، يخفي وجهه ويهرول نحو غرف الرجال. كانت الصديقات الثلاث يجلسن على حافة البركة يتبادلن انطباعاتهن وتعليقاتهن التي لا تنتهي، حول مشاهداتهن وأخبارهن وما وصل لمسمعهن ، او ما يسمى بلغة الرجال " حديث نسوان " . وكانت ضحكاتهن تلعلع وكأن لا أحد غيرهن يتسفع على جوانب البركة ..
- انظري لتلك الشقراء .. أمس جاءت بمايوه أزرق سماوي.. اليوم مايوه أبيض ، يكشف من مفاتنها أكثر مما يخفي
- اوه .. لو سارت بدون مايوه لكانت مستورة أكثر.
- لا ينقصها شيء .. لديها ما تفخر به .. ليتني مكانها .
- ولكني أعتقد انها ممتلئة قليلا .. يجب ان تنقص من محيط خصرها 10 سنتيمترات على الأقل.
- الا توافقين معي انها كما هي .. تشد انظار كل أعضاء النادي الرجال .. وحتى النساء ؟
- انظري لذلك الرجل .. ظل يلاحقها بعينيه حتى ارتطم بعمود الإضاءة.. يا له من مخبول.. كأنه لم ير مفاتن امرأة في حياته .
- هو دائما هكذا .. نهم لا يشبع .
- هكذا كل الرجال .. التي لا يصلوا اليها هي المشتهاة .
- هل ترين تلك السمراء.. كل اسبوع مع صديق جديد ..
- ربما حان الوقت لتُغير نادي...
- الله عليك .. تغارين منها ؟ الا تذكرك بأيامنا الماضية ؟
- ليت أيامنا تعود ..
- نعود عشر سنين الى الوراء ؟
- ما هذا التخريف.. لا يمضي يوم دون ملاحقتنا ..
- انظري لصديق الشقراء .. كنت أعرفة منذ سنتين على الأقل..
- يا لها من صائدة جيدة ..
- بل هو صائد ماهر..
وانطلقت الضحكات ..
- انت لا تشبعين يا صاحبتي .
- ماذا تعنين ؟
- نحن أيامنا تمضي .
- ايامك أنت .. يا عجوز .. انا دائما مرغوبة
وينفجر الضحك مرة أخرى..
- أمس لاحقني سعيد مرة أخرى . انه ملحاح .. لصقة انكليزية .. اراد ان يشدني لتواليت الرجال ... يا له من معتوه ..
- ارسليه لي.. لأجعلة يزحف على بطنه أمام الجميع ..
وانفجر الضحك قويا مرحا ... ولحظتها وقع الحادث الغريب..
ظهر رجل عار كان يغطي وجهه ويركض نحو غرف الرجال.. وعورته مكشوفة ، لافتا انظار الجميع .
علا الصفير والضحك من كل أطراف البركة ، ولفت خاصة أنظار الصديقات الثلاث ... وغمر الضحك المرتفع كل من شاهد تلك الحادثة النادرة وعلا اللغو ، وتبادل الجميع التفسيرات ..
قالت الصديقة الاولى وهي تتأمله قبل ان يختفي :
- هذا ليس زوجي ..
قالت الثانية.
- بالتأكيد ليس زوجك .
تفرست فيه الثالثة وقالت :
- هذا الشخص ، من المؤكد تماما ، ليس من أعضاء النادي .
وانفجرن بضحك صاخب جعل الدمع يملأ عيونهن ...

نبيل عودة – كاتب ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

الخميس، أبريل 08، 2010

نجح الدفاع.. وفشل المتّهم

نبيل عوده

قصة :
وجهت لصالح تهمة قتل مراد عمداً. كانت التهمة واضحة ومثبتة بالتأكيد في الكثير من تفاصيلها. وهناك شهود ادعاء سمعوا التهديد وشاهدوا الضحية برفقة المتهم في ليلته الأخيرة.. بعدها لم يعد مراد إلى لبيت، واختفت آثاره.

المشكلة التي واجهت المحكمة ان جثة مراد، الذي من المفترض انه قتل حسب الإدعاء.. لم يعثر عليها. مراد اختفى والجثة غير موجودة. وليس من عادة مراد ان يتأخر عن البيت بدون اتصال للتبليغ عن سبب تأخره، كما يقول أبناء عائلته.

اذا وقعت جريمة قتل فأين الجثة؟

أين أداة القتل؟

كل الدلائل والشهادات المجموعة تشير الى ارتكاب جريمة قتل.. ولكن لا أثر لارتكاب جريمة، لا الأداة ولا الجثة... ولا اعتراف من المتهم!!

صالح قال انه سيخفي مراد عن الوجود. وهذه الأقوال مؤكدة من عدد من شهود الادعاء.. وكانت محاولة من صالح لقتل مراد في السابق.. عوقب عليها صالح بالسجن لمدة سنة ونصف السنة.. تحت بند الاعتداء العنيف. ولكن رغبة صالح بإخفاء مراد من الوجود لا تعني تلقائياً انه قتله.

أين اختفى مراد اذا كان حياً؟

كل الإعلانات في الصحف، والبحث عنه في الأماكن التي اعتاد على ريادتها لم تسفر عن شيء.

وجد مع صالح مسدس، تبين انه مرخص، أثبت الكشف المخبري انه استعمل قبل فترة تقع ضمن الفترة التي اختفى فيها مراد. بل ووجدوا بقعة دم صغيرة جداً على ملابس صالح، بين فحص الحمض النووي انها من دم مراد.

اذن شبهة ارتكاب جريمة قتل مسألة واردة.

هل تكفي الأدلة التي بيد الشرطة؟

الشرطة تدعي انها إثباتات كافية لارتكاب جريمة، خاصة وان المتهم صالح، وحسب كل الأدلة، هو آخر من كان برفقة مراد.

صالح يصرّ انه أطلق رصاصتين اثناء الصيد عندما هاجمه خنزير برِّي. وشهد على صحة أقواله صيادان كانا برفقته.

هل يمكن محاكمة قاتل بلا جثة بالاعتماد على دليل، لم تثبت جهة استعماله؟

لست رجل قانون لأجيب على هذه الأسئلة. انما يهمني ما حدث فعلا في سير المحاكمة.

صالح حافظ على صمته وموقفه انه لا يعرف شيئاً عن مصير مراد بعد ان تركه في تلك الليلة، بعد ان تصافيا عن خلافات الماضي، وقد شاهدهما الكثيرون سويةً يتضاحكان، كما أصر صالح في أقواله... وأوكل الدفاع عنه لأحد أفضل محامي الجنايات.

الادّعاء عبر الدلائل التي يملكها، وعبر الشهود كان واثقاً بأن المحكمة ستدين صالح بالقتل عمداً.. حتى بدون وجود الجثة، اعتماداً على وجود بقعة الدم على ملابس صالح... التي ادعى صالح انه لا يعرف كيف وصلت قميصه، لأن مراد كان معصوب الأصبع مسبقاً من جرح، وان وجودهما معا في تلك الليلة، التي شوهدا فيها سوية، كان إشارة واضحة الى انتهاء الخلاف بينهما.

محامي الدفاع أصرّ انه بدون جثة كل الدلائل بلا قيمة.. وتعتمد على تأويلات وليس على حقائق مثبتة.

في جلسة التلخيص لجأ محامي الدفاع الى مقلب معين ليثبت براءة موكله صالح. قال في مرافعة دفاعه:

- المحكمة الموقرة.. اليوم سأفاجئكم.. خلال دقائق سيدخل قاعة المحكمة من بابها السيد مراد الذي يتهم موكلي بقتله.. رجاء انظروا إلى مدخل القاعة.

ونظر الى مدخل القاعة، كذلك نظر القاضي.. ووقف ممثل النيابة ونظر نحو المدخل.. ونظر الحضور في المحكمة نحو المدخل..

وبعد لحظة تابع محامي الدفاع :

- بالطبع لن يدخل أحد.. أوهمتُكم بأن مراد سيدخل الى القاعة، لأنكم غير واثقين من مقتله.. كلكم نظرتم نحو باب المدخل.. كلكم توقعتم ان يدخل مراد.. لذا أدعي أمامكم، انه في هذه المحكمة، يوجد شك معقول بأن أحدا ما قتل. وانا أصر ان تصدر المحكمة قراراً ببراءة موكلي.

وجاء يوم إصدار قرار الحكم. دخل القاضي، جلس مكانه، قرأ تفاصيل الملف ورقمه، ثم قال انه قرر إدانة المتهم صالح بقتل مراد عمداً...

ولم يستطع محامي الدفاع الصبر:

- كيف يجوز يا سعادة القاضي ذلك ، ألم تنظروا جميعكم الى باب المحكمة توقعاً بدخول مراد؟

رد القاضي :

- حقا.. هذا صحيح. كان لدينا شك في القتل، ونظرنا نحو باب قاعة المحكمة. ولكن المتهم صالح هو الوحيد الذي لم ينظر نحو الباب!!

نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com


الأربعاء، مارس 24، 2010

أنت صادق أيضا

نبيل عودة

وقع خلاف بين أصحاب المزارع . كانت المزرعة الأولى تقع على شاطئ النهر ، وبقية المزارع لا طريق لوصول قطيعها الى الماء الا بالعبور عبر المزرعة الأولى . وكان عبور القطيع عبر الأراضي المزروعة يترك دمارا كبيرا للمزرعة الأولى .صاحب المزرعة المتضررة حاول منع قطيع الأخرين من عبور أراضيه الى النهر ..ووصلت القضية للقضاء.
جلس القاضي ينظر في الشكوى وفي الرد على الشكوى.. وكان مساعده بقربه يدون تفاصيل الجلسة. اعطي الكلام لصاحب الدعوى ليشرح مشكلته:
- سيدي القاضي .. أملك مزرعة على ضفاف النهر.. ورثتها أبا عن جد .. ولكن قطيع المزارع المجاوره يدمر زرعي كلما عبر الى النهر.. وهذا أمر يسبب لي الخسائر الكبيرة ولم يعد محمولا... ومن حقي ان احافظ على زرعي وأمنع قطيعهم من العبور في أرضي.
فكر القاضي وأجاب:
- انت صادق .. هذا حقك .
وتوجه لأصحاب المزارع الأخرى
- لماذا تصرون على المرور من أرضه وتسبيب الأضرار الكبيرة له ؟
انتدبوا متحدثا عنهم . وقف وقال:
- سيدي القاضي ، قطيعنا سيموت عطشا اذا لم يصل الى النهر ليشرب الماء . أجدادنا وأباءنا ونحن من بعدهم نستعمل هذا الطريق منذ مئات السنين. وهذا يعني انه يحق لكل راع الوصول مع قطيعه الى مصادر المياه عن طريق المزرعة الأولى كما كان متبعا دائما. ومنعنا يعني موت قطيعنا وافلاسنا .
قال القاضي بعد تفكير:
- حقا .. انتم صادقون .
واجلت الجلسة لموعد آخر لاصدار الحكم .
كان مساعد القاضي يستمع ويسجل ، وسؤال كبير يجول في خاطره . قال بعد ان اختلى بالقاضي:
- يا سعادة القاضي ، لا يمكن ان يكونوا جميعهم صادقين ؟!
نظر اليه القاضي وقال:
- أجل .. أنت صادق أيضا !!

نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

الثلاثاء، مارس 23، 2010

اضمحلال الثقافة من مجتمعنا العربي - اضمحلال للمجتمع المدني

نبيل عودة

هل يمكن وصف المجتمعات العربية بأنها مجتمعات ثقافية؟
يبدو السؤال من البديهيات ، فمن يجرؤ على انكار الثقافة العربية ؟ و نشوء مثقفين عرب ، وانتاج ثقافي عربي بعضه يترجم للغات الأجنبية ، ويعتبر ضمن الابداعات الثقافية الهامة في عالمنا المعاصر ؟
حقا توجد تفاوتات واضحة وعميقة بين المستويات الثقافية في مجتمعات العالم العربي ، تفاوتات بين المراكز والضواحي ، اذا صح هذا التعبير ، اذا اعتبرنا ان القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد تشكل المراكز ، فسائر العواصم العربية ما تزال تدور في فلك مراكزها .
ما هو المعيار لمدى ثقافية المجتمع؟ لمدى مشاركته في النهضة الثقافية لأفراده ؟ وانا أستعمل الثقافة مجازا للتعبير عن كل ما يمت لابداع الانسان الاجتماعي، من فنون وعلوم وأداب وتقنية واقتصاد ورفاه اجتماعي .
الغرب يستعمل اصطلاحين للدلالة على الثقافة ، اصطلاح الثقافة واصطلاح الحضارة . الثقافة تدل على الابداع الروحي من فن وقصة وشعر ومسرح وسينما وموسيقى ورقص ، والحضارة تدل على الابداع المادي من تطوير صناعي وعلمي وتقنيات رفيعة تعطي لمجتمعها اسباب القوة والرفاهية والأمن في جميع المجالات ، الاجتماعية والغذائية والصحية والعسكرية.
نحن العرب نستعمل الثقافة للدلالة على شكلين من الابداع ، الابداع الروحي ( الابداع الأدبي والفني ) والابداع المادي ( ما ينتجه المجتمع من خيرات مادية – علوم وتكنلوجيا واقتصاد ). ولكن كثيرا ما نفهم الاصطلاح بمفهومه الروحي فقط ، خاصة في ظل غياب دائم للانتاج المادي في العالم العربي أو تدني مستواه والاعتماد على استيراد الضروريات المادية من الغرب..
ان استعمالنا لمفهوم الحضارة ، لوصف حالتنا الاجتماعية فيها الكثير من عدم المطابقة. ببساطة أنا لا أرى حضارة . لا أرى ان مجتمعاتنا العربية أنجزت ولو القليل الذي يضعها على خارطة الابداع العلمي والتقني ( الحضاري ). لا أر ان مجتمعاتنا ساهمت في حركة النهضة والتنوير ، التي غيرت وجه اوروبا ، ومن ثم وجه العالم ، رغم ان فلسفة ابن رشد ( التي تطورت في العصر الذهبي للحكم العربي في الأندلس ) تعتبر فلسفة تنويرية عقلانية تركت أثرها على الفكر التنويري والعقلاني الأوروبي، وان لاننسى ان العرب في وقته ، اعتبروه كافرا ، وما زالت حتى اليوم تيارات الفكر الماضوي والديني المتعصب تعتبر ابن رشد كافرا وزنديقا. فهل من المستهجن ان وجه مجتمعاتنا العربية وما يعرف بدول العالم الثالث ،ظلت متحجرة في مكانها ، عدا بعضها الذي بدا يلحق بحركة النهضة الحضارية والثقافية ، مثل الهند والصين والبرازيل وبعض دول جنوب شرق ؟!
لا أرى ان مجتمعاتنا العربية ، أضافت شيئا للنهضة الاوروبية التي انتشرت في العالم الواسع ، والتي بدأت منذ عصر الرنيسانس في القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر ، محدثة نقلة عظيمة لأوروبا من عصر القرون الوسطى وسيطرة عقلية محاكم التفتيش الكنسية ، الى العصر الحديث وبناء الأنظمة الدمقراطية الليبرالية التي حررت الانسان من عقلية العصور الوسطى الغيبية المغلقة . ولم تتوقف مسيرة النهضة الانسانية ، وراء عصر الرينسانس جاء عصر النهضة الاوروبية الأول ، نهضة أخرى متمثلة بالثورة الصناعية ومن ثم الثورة العلمية ، وصولا الى ثورة المعلومات والتكنلوجيات بالغة الدقة ، وما زلنا نواجه كل يوما مزيدا من الاكتشافات العلمية والتقنية والرقي للعقل البشري.
هل سألنا أنفسنا لماذا نحن في قاع الركب الحضاري ؟ لماذا نحن لا نساهم الا في الاستهلاك الحضاري ؟ لماذا نحن لا دور لنا في التصدير العلمي والتقنيات ؟ لماذا نحن لا نؤثر في برمجيات وسياسات عالمنا ؟ لماذا لا يحسب حسابنا من دول تعتمد في الطاقة على مصادر في بلادنا نملكها شكليا على الأقل ؟
هل سألتم أنفسكم لماذا تقبل الرواية الاسرائيلية وترفض الروايات العربية ؟ لماذا يقبل الخطاب السياسي الاسرائيلي ولا يستمع أحد لخطاب العرب السياسي ؟
هل سأل أحدكم نفسه كيف يصل الاسرائيليون للحصول على جوائز نوبل في العلوم والاقتصاد والطب والأدب ولا نجد اسما عربيا نرشحه ، الا اذا كان مغادرا لوطنه ويقوم بابحاثه ويعيش في بيئة غير عربية ؟
اذن هل يمكن وصف مجتمعتنا العربية بالمجتمعات الثقافية لآننا ننتج الأدب ، شعرا وقصة ومسرح ؟
حسنا ، الواقع العربي مخجل ، هناك 350 مليون عربي بينهم 60 % - 70% أميين ، وهذا لا يعني ان الآخرين يقرأون ويكتبون أو يفهمون المقروء. هناك أطفال لم يصلوا للمدارس بعد ، وهناك من يفكون الحرف ولا يدرجون ضمن الأميين . وهناك من لا يقدرون على تعبئة نموذج بسيط ، هم أيضا غير أميين ، وهل من يقرأ 100 كلمة في السنة ، يعتبر متعلما غير أمي؟
ما اريده هنا اثارة التفكير بماهية الثقافة العربية ، وقدرتها على التأثير الاجتماعي على المواطن العربية ، بغض النظرعن اسم الدولة او موقعها الجغرافي ؟
ان تأثير الثقافة العربية الروحية له مساحة ضيقة جدا ، وهذا نابع من غياب حركة نهوض حضاري في المجتمعات العربية. ومن غياب فلسفة عربية . لماذا لم تتطور فلسفة عربية ؟ كيف يمكن تطوير مجتمع وعلوم بدون فلسفة ؟ للفلسفة قيمة تتجاوز الثرثرة التي تفهم فيها الفلسفة حتى في أوساط بعض المثقفين.
الفلسفة هي القدرة على التفكير وفهم العمليات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وما شئتم ، اقرأوا ما يقول فيلسوف الثورة العلمية والحضارية الحديثة، الفرنسي رينيه ديكارت ::"لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما، والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر ، لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة".

حسنا ، نثرثر كثيرا حول تاريخنا الحضاري ، عدا الابداع الأدبي في العصر الجاهلي ، ثم في العصر العباسي ، وصولا الى الأندلس ، لا أجد ان العرب أنتجوا حضارة . ان تطور العلوم والموسيقة والفنون والترجمة ، في العصر العباسي الذهبي ، عصر هارون الرشيد وابنيه ، الأمين والمأمون ، كان عصر الانفتاح والحريات والتحرر من الكبت الديني ، واشراك القوميات والديانات الأخرى في النهضة الحضارية للدولة العباسية ، ومن ثم لدولة الأندلس ، اي ان الحضارة لم تكن نتاجا عربيا بقدر ما كانت استمرارا للحضارات التي ظهرت في ارض العراق عبر تاريخه الطويل ، من العصر الوثني ثم العصر المسيحي – الأشوري. والمتتبع للأسماء التي برزت في العلوم والطب والموسيقى ، وحتى في الشعر ، لا يحتاج الى مرشد مثلي ليعرف من أين جاءوا . ونفس الأمر ينسحب على الأندلس ، الحرية الدينية والانفتاح على حضارة الأسبان التي انتجت قبل الغزو الاسلامي ، هو وراء الانجازات الرائعة في كل مجالات العلوم والفنون والبناء والأدب والفلسفة والطب للدولة الأندلسية ، والتي انهارت مع تحولها الى دول طوائف ( 22 – 23 دولة متعادية ) منغلقة دينيا.
اذن المسألة تتعلق بالماهية الاجتماعية ، ومساحة الحرية التي يوفرها النظام لمجتمعه وانسانه.
هل يمكن ان تتطور حضارة مثلا في دولة مثل السعودية ، التي تضاعف دخلها عشرات المرات من ارتفاع أسعار النفط ؟
يمكن ان تظهر أعمال روائية جيدة ، هذا ممكن ويحدث فعلا .. اما ان تنشأ حضارة في جذورها تطوير الابحاث العلمية والتكنلوجيا وتحول الجامعات السعودية الى مراكز علمية وتعليمية مرموقة عالميا ، وتطوير اقتصاد معاصر لا يعتمد على بيع النفط ، الذي سيزول بعد عقود قد تطول وقد تقصر ، وتحول السعودية الى دولة تنتج بعض التكنلوجيات التي تستهلكها ، او نشوء جيل من الباحثين في مختلف مجالات العلوم والتكنلوجيا والتصنيع فهو الأمر المستحيل ، حتى لو وجدت العقول القادرة .
اذن لماذا نستهجن هجرة العقول العربية ؟ لماذا نستهجن وجود أكثر من 500 عقل مصري ، من أبرز الاختصاصات وأهمها في العالم ، في الدول الغربية وليس في مصر أو الدول العربية؟
هل اكتفينا بما نسمه بثرثرتنا :" حضارتنا العربية" ؟ أين هي جذور هذه الحضارة التي لم أجد عليها ولو شاهدا واحدا ، الا اذا اعتبرنا ان تراثنا الشعري والأدبي هو معيار حضارتنا الوحيد ؟
أين الحضارة العربية في مواجهة حضارات العراق القديمة ؟ في مواجهة حضارة مصر القديمة ؟ في مواجهة حضارة سوريا القديمة ؟ في مواجهة حضارة الكنعانيين القديمة ؟ في مواجهة حضارة اليونان القديمة ؟ في مواجهة حضارة الرومان القديمة ؟ في مواجهة حضارة الفرس القديمة ؟
أين الحضارة العربية في مواجهة عصر الرنيسانس في البندقية بين القرن 14 – 16 ؟ في مواجهة الثورة الصناعية الاوروبية ؟ في مواجهة الثورة العلمية والتكنلوجيا وثورة المعلومات التي تعصف بعالمنا وتتجاوز مجتمعاتنا ؟
أين الحضارة العربية من مجاراة الانطلاقة الحضارية العاصفة لدولة الصين الحديثة .. ودولة الهند الحديثة ؟ حتى سنغافورة الفقيرة تتطور وتنطلق نحو آفاق حضارية . وكوريا الجنوبية تتحول الى منتج تكنلوجيات راقية . وتايوان المحاصرة من الصين تتفوق على العالم العربي كله بانتاجها ؟
اسبانيا (المستعمرة العربية السابقة) يتجاوز انتاجها القومي الاجمالي انتاج كل الدول العربية. ايطاليا الصغيرة تصدر أكثر من 1.5 % من التصدير العالمي ، والعرب لا يتجاوز تصديرهم مع كل مليارات نفطهم ال 1.25% من التصدير العالمي.
لا اريد ان اقدم اسرائيل نموذجا حتى لا اتهم من قليلي العقل وفاقدي المنطق بمدح العدو، ولكن أكتفي بالقول ان مستوى حياة الانسان ، بما في ذلك العربي المواطن في اسرائيل ، يتجاوز بعشرات المرات مستوى حياة المواطن في سوريا مثلا ، أو في مصر ، او المواطن العادي حتى في دول النفط . هذا عدا الحقوق المدنية والاجتماعية والتأمينات الصحية وتأمينات العجز والشيخوخة ...
هل هذا نتيجة الحضارة أم التخلف الحضاري؟
وهل يساعد "التاريخ الحضاري المجيد" ، الذي يعيش الغيبيين على وقع أنغامه ، على اطعام الجياع العرب ومحو اميتهم ؟
وهل يساعد "التاريخ الحضاري المجيد " على تطوير اقتصاديات الدول العربية ومستواها التكنلوجي ؟
استمعت قل فترة الى حوار من قناة "الجزيرة " بين مفكرعلماني عربي ( لا أذكر اسمه ) والمفكر الاسلامي المصري محمد عمارة . محمد عمارة ثرثر حول الحضارة العربية وتجاوزها للحضارة الغربية الساقطة .. الخ . المفكر العلماني سأله : قل لي كيف وصلت من القاهرة الى قطر لتشارك في برنامج " الجزيرة " ؟ هل وصلت بواسطة الحضارة العربية أم بواسطة الحضارة الغربية ؟ واوضح ، حضارتنا العربية لم تتجاوز الجمل والحمار .. لو جئت على ظهر حمار لما وصلت خلال شهر ، بل جئت بطائرة من انتاج الحضارة الغربية ، لذلك وصلت خلال ساعتين .
نعود للسؤال الأول : هل يمكن وصف مجتمعاتنا العربية بانها مجتمعات ثقافية ؟
وما هي شروط نشوء مجتمع ثقافي أو مجتمع حضاري ؟
من الواضح ، من التجربة التاريخية للشعوب المختلفة ، و تجربتنا المريرة في السنوات الأخيرة ، داخل المجتمع العربي في اسرئيل ، ان غياب المجتمع المدني ، والعودة لسيادة العقلية العائلية - القبلية ، والطائفية ، او الدينية السلفية المغلقة ، هو في صميم غياب الحضارة وغياب الثقافة بمفهومها الاجتماعي وليس الفردي.
نحن أيضا لم نصل بعد لنكون شركاء كاملين في النهضة الحضارية داخل اسرائيل ، بعضها عوائق سلطوية وبعضها عوائق ذاتية أيضا ، ولكن الحقيقة المجردة ان بعض العقول العربية في اسرائيل تساهم في الكثير من مجالات تطوير الابحاث العلمية والاجتماعية والتقنية ، وبابحاث لها قيمة عالمية نادرة . وهناك أسماء تعتبر رائدة في الابحاث ، وتقدم لها من المؤسسات العلمية ، كل الامكانيات المادية ، وبمقاييس ضخمة جدا .
ولكن ما يقلقني ليس هذا الجانب الذي نتقدم فيه ببعض الصعوبات ، انما قضية واقعنا الاجتماعي كما يرتسم في السنوات الأخيرة.
مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل اسرائيل لم يكن في تاريخه القصيرالممتد منذ ستة عقود ، مفسخا مجزءا متعاديا مثل ما هو عليه اليوم .
ان التجزئة في مجتمعنا ليست سياسية فقط ، التجزئة السياسية لا تخيفني ، بل من المفروض ان تطلق الحوار الفكري والاجتماعي وتحقق نهضة ثقافية سياسية فكرية اجتماعية نقدية واسعة ، غير ان ما حدث هو العكس تماما .
لم تتكاثر الأحزاب في مجتمعنا على قاعدة تطور مجتمعنا المدني الثقافي ، انما تكاثرت على قاعدة عائلية وطائفية بغيضة ، همشت مدنيتنا واعادتنا الى فكر داحس والغبراء *.
ان يقول شخص يدعي الماركسية والوطنية ، في جسم سياسي اساسي ، ان ارتفاع شأن العائلية في قرانا ، يفرض علينا التعاون معها ، فهذه جريمة أخلاقية قبل ان تكون جريمة سياسية . هذا يعني ان أحزابنا ، الماركسية والوطنية على الأقل ... التي تعتبر منظمات للمجتمع المدني ، تشطب قاعدة وجودها الشرعية ، حين ترى بالطائفية قوة سياسية يجب بناء تحالفات معها لتحقيق مكاسب سياسية "؟؟!!"
ان الثقافة لن تتطور الا في المجتمعات المدنية المتحررة من الطائفية والعائلية . والحضارة لن تقوم لها قائمة في مجتمعات دينية طائفية متصلبة او عائلية قبلية متعادية.
هل من المستهجن اذن ركودنا الثقافي وفراغنا الفكري ، وفقرنا للابداع الأدبي بالمستوى الذي عايشناه في سنوات الستين والسبعين ، بل وما قبل الستين أيضا؟ وحتى في المدن الفلسطينية قبل عام النكبة نشأت قاعدة للمجتمع المدني المتماسك ، وتطورت الصحافة والنشر وانتشرت النوادي الثقافية والمسرحية والنقابات والأحزاب .
ان المجتمع القبلي لن ينتج ثقافة أو حضارة ولم ينتج سابقا حضارة تذكر.
المشكلة ليست في الدين ، الحضارات البشرية القديمة كلها انتجت أديانا عديدة ، لخدمة نهضتها الحضارية ، اليوم ننتج الدين لخدمة ركودنا الثقافي والحضاري . هذا هو الواقع العربي اليوم .
ما اراه ان المدينة العربية تخفض الرأس امام زحف الصحراء .. حسنا ، الكتابة الابداعية لا تحتاج الى مؤسسات للبحث العلمي ، ولا الى تكنلوجيات دقيقة . الكتابة الابداعية قد تتأثر سلبا أو ايجابا بالواقع المدني ، لذا ليس بالصدفة أن أبرز الأسماء الأدبية جاءت من اليسار ، واليسار الأكثر التزاما بايديولوجية ثورية ، والمنفتح على التراث الثوري العالمي بكل تياراته وامتداداته الكونية ، ورفضا لزحف الصحراء وما تمثله من فقر فكري ومدني.
ان مجتمعنا ، بتراجعه مدنيا ، يتراجع ثقافيا أيضا ، وهو تراجع بالغ الخطورة ليس على الابداع الأدبي ، على القصة والشعر ، انما على تطوير الفكر وتطور انسان المستقبل . ان من ينشأ في ظل الفكر العائلي المغلق أو الفكر الطائفي المتزمت ، سيواجه اشكاليات عويصة للغاية في شق طريقه نحو حياة مدنية راقية. وفي الوصول الى المساهمة في الانجازات الحضارية للمجتمع البشري.

* داحس والغبراء :هي حرب من حروب الجاهلية ( قبل الاسلام ) كانت بين قبيلتي عبس وذبيان.
و داحس والغبراء، هما اسما فرسين لفارسين من القبيلتين.


نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com


الثلاثاء، مارس 09، 2010

ملاحظات ثقافية حول القصة القصيرة جدا

نبيل عودة

أعترف ان بعض ما قرأته مما يسمى قصص قصيرة جميل .. ولكنه جمال سريع العبور والتلاشي ، لحظة بعد قراءة النص . وبعض النصوص مجرد ثرثرة بلا معنى ولا فكرة ولا رؤية ، ولو اراد كاتب متمرس مثلي لأنتج مجموعة قصصية من القصيرة جدا كل يوم ، وربما بمضمون وروح دعابة ، وفكرة فلسفية ، ونص شاعري ، أجمل من كل ما قرأت من قصص قصيرة جدا.
انا لست مقتنعا من أمرين بكل ما يسمى القصة القصيرة جدا ، اولا من كون هذا اللون ينتمي لعالم القصة ، وثانيا من رؤيتي ان التسمية قصة قصيرة جدا هي تسمية دخيلة على عالم القصة،القصة القصيرة هي قصة قصيرة وقد تكون ومضة حقا ولا ارى ان المساحة هي المقررة ، انما المضمون ، وما يسمى بدون وجه حق قصة قصيرة جدا ، القليل منه فقط ، يمتلك عناصر القصة... والباقي ليس قصة وليس أدبا حتى..!!
هل هذا يعني ان قصة قصيرة مصوغة بكثافة روائية تصير ، حسب هذا المنطق " رواية قصيرة جدا؟ " . قناعتي ان هذه التسمية عبثية!!
القصة القصيرة جدا تفتقد للمبنى القصصي بحكم مساحتها ، وغياب عناصر هامة مثل الخطاب التاريخي والخطاب الفني ، وبناء الحدث ، وبناء سيكولوجية الحدث وأبطاله، أي بمفهوم أوضح دراسة العوامل النفسية للفكرة الدرامية ولشكل تصرف الأبطال . ربما ينفع نص ما يسمى قصة قصيرة جدا ليكون حالة معينة داخل قصة.
أعرف ان موقفي سيثير رفضا واسعا ، لأن الكثيرين من الذين فشلوا في صياغة قصة قصيرة يبحثون عن تغطية ثقافية .. ولكني لم أتعود ان ابقي رأيي طي الكتمان .

لا أطرح ما أطرحه لأنتقص من قيمة اي كتابة أدبية ابداعية. وكما قلت بعض ما يسمى القصص القصيرة جدا قرأتها بمتعة ، رغم اني لم أدخل في نوسطالجيا القصة القصيرة ، او أجواء الدهشة والاحساس بالحدث ، وشعور التواصل والرفض لمواقف ابطال النص القصصي ، او القناعة الفكرية بموقف او نهاية . وخلافي ليس حول قدرات ابداعية لبعض كتابها ، لأن الأكثرية المطلقة من كتاب هذا اللون ، صاروا تماما مثل شعراء آخر زمان ، الذين هبطوا على الشعر بدون فهم ادوات الشعر ، ولغة الشعر وصياغة الصور الشعرية ، ووجدوا بالمنثور غطاء تنكريا ، بينما الشاعر الوحيد الذي اثبت نفسه في الشعر المنثور هو الشاعر محمد الماغوط . وقد نجد القليل عند غيره من المنثورات الجيدة .. ولكنها لا تشكل حالة ثقافية .
لذلك نرى الكثير من حاملي صفة شعراء وكتاب قصة قصيرة جدا ، او حتى قصة قصيرة ، ولا نجد بينهم الا عدد نادر من الشعراء والكتاب ، وبالكاد لديهم روح أدبية تستحق الالتفات .
يقلقني تماما ان حالة من التسيب والسهولة التي وجدها البعض في هذا اللون من الكتابة ، قد تقود الى تعميق أزمتنا الأدبية .. بحيث تصير الكتابة القصصية القصيرة جدا ملعبا للكثير من الفاشلين قصصيا ، تماما كما ان الشعر المنثور أضحى لعبة يمارسها الفاقدون حتى للحس اللغوي وليس لبحور الشعر وأوزانه فقط . .
أفهم ان شاعرا مجيدا مثل محمود درويش او نزار قباني كتبا قصائد النثر ، او ظهرت نثريات في قصائد بعضها موزون . لدرجة ان القارئ العادي ، او المثقف أكثر ، يستصعب أحيانا الفرز بين الموزون والمنثور او فهم ان بعض الشعر ، رغم انه على المسطرة من ناحية الوزن الا انه يبدو لغير الملمين بالأوزان الشعرية ،نثرا .
أحد الأدباء العرب داخل اسرائيل ، الدكتور فاروق مواسي أصدر مجموعة قصص قصيرة جدا حملت عنوان " مرايا وحكايا" قرأتها وأعجبتني روحها الأدبية .. ولكني لا أستطيع قبولها كقصص ، لا قصيرة ولا قصيرة جدا . تفتقد لمبنى القصة . ربما كتابة ذكية ببعضها روح الدعابة . لذا امتنعت من الكتابة عن مجموعته رغم رؤيتي انها لوحات كتبت بذكاء وحس أدبي جميل . واليكم نموذج ، وهي القصة الأولى في المجموعة:

سمك

سألته وهي تهاتفه : أي الطعام أحب اليك ؟
أجابها بلا تردد : سمك .. !
ولم تكن تحب السمك ...
والفت نفسها بعد ايام تكثر من شراء السمك للعائلة ، تقدمه مقليا ومشويا وتاكله بشهية ..
وتساءلت العائلة: ما سر شراء السمك بهذا القدر ... ترى هل رخص السمك ؟!

****

أعترف انها فكرة جميلة ، وهي أجمل قصة برايي في المجموعة ، ولكن السؤال ، الم يكن من الممكن تطوير عقدة قصصية من نفس هذه الفكرة السريعة ، وجعلها أكثر جمالا وأكثر اندماجا بجو قصصي يعيش لفترة أطول في ذهن القارئ ، ويخلق انفعالات درامية تدوم في ذاكرة القارئ لفترة أكثر امتدادا ؟
سيقولون لي عصر السرعة .. هذه حجة تولد ميتة. اذن تعالوا نجعل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلاج الطبي يخضع لفكرة السريع جدا، أو القصير جدا ..؟
فكرة القصير وارتباطها بعالمنا السريع ، هي تدمير للأدب .
ربما تكون قصة قصيرة لا تتعدى الخمسين كلمة. أو أقل ، ولكنها ليست قاعدة اطلاقا. وتحويلها الى قاعدة يبنى عليها تحمل في داخلها ميكروبات قاتلة للأدب .
الأدب متعة نفسية وجمالية وفلسفية وأخلاقية وتطويرية ونقدية .. ورحلة في عالم الانسان والطبيعة والجماليات ، لا يمكن اختصاره الى قصة قصيرة جدا ، تكتب خلال دقيقتين .
من هذا الشكل مثلا قصة كتبتها خلال دقيقتين بدون فكرة مسبقة، من أجل ان أثبت لنفسي أولا عبث فكرة القصة القصيرة جدا . وقدرة كاتب متمكن من مهنته ، ان يصوغ عشرات من النصوص ، من هذا النوع ، خلال جلسة واحدة قصيرة. واليكم النموذج :

أضف الى رجائك ورقة ياناصيب

كان يصلي لربه ان ينقذه من تدهور حالته الاقتصادية ، بأن يجعله يفوز بمليون دولار بسحب اليانصيب . وتمضي الأيام والأسابيع ، والله لا يستمع لندائه. أخيرا وقف يصيح بأعلى صوته: الم تقل على لسان ابنك اقرعوا يفتح لكم ؟ ابحثوا تجدوا ؟ اكاد اموت جوعا وانت لا تسجيب لندائي بأن أفوز ياليانصيب!"
وجاءه صوت مجلجل من السماء: " عليك ان تقوم بخطوة كي تساعدني على مساعدتك ، اشتر اولا ورقة يانصيب .

وقصة أخرى :

كتابة تافهة ..؟

جلس يهودي متدين في عيد الفصح في حديقة ، وكان يأكل المصة . جلس بقربه رجل أعمى ، قدم له اليهودي قطعة من المصة ، تلمس الأعمى المصة باصابعه من الجهتين وسال بحيرة : " من كتب هذه التفاهات ؟"

وقصة أخرى:

من تصدق ؟

دخل بيته ووجد زوجته وافضل اصدقائه عاريان في السرير. قبل ان يفتح فمه قفز صديقه من السرير قائلا : " قبل ان تقول شيئا أخي ، فكر جيدا ، من تصدق ، صديقك ام عينيك ؟ "

هذه القصة قد تبدو نكتة عابرة ولكنها فلسفيا تطرح موضوعا هاما :" على أي نوع من المعلومات عن عالمنا يجب ان نعتمد ؟"

هل تريدون ان اواصل ؟

انسانية
"الانسانية ؟
ليست ان يبصق صدرك دما من طلقة مدفع في يد عدو.
الانسانية؟
ان تزغرد رصاصاتك فرحا بالنصر !!"
هل يمكن وصف هذا المقطع بالقصة؟

مقاومة

انت في مهمة ، ومهمتك تطبيقية ، مهمتك ان تضغط باصبعك الى الوراء ، بعد ان يكون الصليب المنبعث امام عينك عبر منظار البندقية ، قد تعلق كوسام الشرف فوق صدر الذي احتل ارضك "

غضب أيوب

فقام ايوب ومزق جبته وجز شعر راسه وخر على الآرض ساجدا.
قال ايوب : عريانا خرجت من بطن امي وعريانا اعود الى هناك ، الرب أعطى والرب أخذ ، فليكن اسم الرب مباركا ."
وقتلت فلسطين!!

بعد نكسة 1967 كتبت مجموعة "ٌقصص جو " تحوي عشرت المقاطع المستقلة في اطار قصصي واحد ، بامكاني تحويلها الى أكثر من 50 قصة قصيرة جدا . ولكني لا أشعر بأني ابدع كتابة قصصية ، انما فذلكة نصية لا أكثر.
وانهي بهذا المقطع :
الموجات الثلاث
وصلت قبل ايام ، كنت في رحلة الى بحر هائج . أضعت هناك ثلاث موجات ، وعندما وصلت ميناء النهار اكتشفت اني أضعت ايضا نصف البحر وحبيبتي التي كانت تحتضنني بين وديانها وجبالها .. آه من ألمي . حملتني الريح بعيدا عنها.. وها انا أبحث عنها حتى اليوم .
****


مثل هذه القصص لا تحتاج الى الدخول في مشكلة التكنيك القصصي ، وضبط الخطابين الأدبي الفني من جهة والتاريخي الأيديولوجي من الجهة الأخرى ، لصياغة قصة فنية متوازنة ، وانتاج نص يشد القارئ ويثير دهشته.. مثل هذه "القصيرة جدا " لا تحتاج الى التفكير بخلق عالم البطل وشخصيته ، ودراما واقعه ، مثل هذه القصة لا تحتاج الى خلق أحداث حياتية ونص متماسك يأسر بدهشته القارئ ، وتكريس تفكير وجهود فنية لجعل الفكرة أكثر كثافة في ذهن القارئ ، وأكثر عمقا اجتماعيا ، وأبعد في صياغتها من مجرد خبر كتب بروح الدعابة السوداء او البيضاء.
لاحظت ان بعض الزملاء يعلقون على القصص القصيرة جدا بكلمة مكررة " كثافة " هل حقا يدركون مفهوم التكثيف في الأدب او في النص اللغوي او في الطرح الفكري؟ رجاء لا تدمروا هذا التعبير باستعماله في غير مكانه ، يكفينا ان مفهوم الحداثة صار يطبق على كل كتابة مفككة وهابطة لغويا وفنيا .. وبجهل كامل لمعاني التعابير والاصطلاحات ومضامينها ومصادرها الفكرية .
القصة القصيرة جدا ليست تكثيفا لشيء ، بل اختصارا لفكرة وتجزيئها . لا افهم ما هو التكثيف في النص القصصي ، الا اختراعا لإصطلاح للتغطية على الفقر القصصي.
هذا رأي .. لست متمسكا ومتعصبا له ، او لأي رأي آخر ، لأن عالمنا متحرك متغير متطور ، عاصف بأفكاره ومعاييره ، ممتد بعمقه واتساعه بكل الاتجاهات ، وفقط الملقّنون ( بفتح القاف ) يتمسكون برأي ثابت لا يتغير..
هذه هي قناعتي ، حتى هذه اللحظة على الأقل.. !!

نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي – الناصرة
Nabiloudeh@gmail.com

الخميس، مارس 04، 2010

قصة" نهاية الزمن العاقر" لنبيل عودة كمخاض الوطن الفلسطيني الحر

محمد توفيق الصواف

(عن كتابه : الانتفاضة في أدب الوطن المحتل)


ما من مفكر أو أديب أو باحث، فلسطيني أو غير فلسطيني، توهم أن تكون الانتفاضة الفلسطينية ( انتفاضة الحجارة ) ، نهاية المطاف، أو غاية الانتظار الطويل الذي استمر أكثر من عشرين سنة متواصلة، قضاها الإنسان الفلسطيني قلقاً مقهوراً، في وطنه المحتل... قضاها على رصيف الأمل مفعماً بالرغبة الجامحة في إعلان ثورته، ومترقباً لحظة الخلاص من كابوس الاحتلال العنصري، تأتي تتويجاً لنضاله الثوري ومكافأة مجزية لتضحياته وصبره ومعاناته، في آن معاً... بل إن كل من عرض لأي جانب من جوانب الانتفاضة، ثم وقف محاولاً استشراف ما سيعقبها، خرج مقتنعاً، قناعة أكيدة، بأن هذه الثورة على أهميتها البالغة وعظمتها، لا تعدو كونها مخاضاً صعباً يبشر بولادة الزمن الفلسطيني المأمول... بولادة الوطن الفلطسيني الحر، أرضاً وإنساناً..
وعلى خلفية القناعة/ الأمل، بأن الانتفاضة هي المخاض الذي سينتهي بولادة ذلك الوطن/ الحلم... الوطن الذي لما يولد بعد، يمكن توصيفها، بتعبير آخر أكثر موضوعية، أنها مجرد مرحلة نضالية متميزة.. أو أنها مرحلة متقدمة وهامة ومصيرية يؤمل أن تكون آخر مراحل السعي إلى إطلاق شمس الحرية من عقالها، لتعود مشرقة في سماء الغد الفلسطيني الآتي، وليس غاية تلك المراحل...
وبالعودة إلى المتوفر من قصص الانتفاضة، نلاحظ أن كثيرات... هنا، قد اكتفى مؤلفوها، بالإشارة إلى مرحلية هذه الثورة العظيمة، إشارات عابرة، بهذا الشكل الفني أو ذاك، وعلى نحو غير مباشر غالباً... وربما ذلك، من منطلق الاعتقاد بأن هذه المسألة، من البدهيات التي لا يمكن أن تثير جدلاً، أو خلافاً في الرأي حولها...
وعلى الرغم من أن مضمون قصة (نهاية الزمن العاقر)* يوحي بأن مؤلفها نبيل عودة لا يخالف الاعتقاد ببدهية النظر إلى الانتفاضة كمرحلة، فإن تناوله لها بتفصيل أطول مما يحتمله أسلوب الإشارة العابرة، يوحي بأنه يوليها من الأهمية، أكثر مما يوليها غيره.. ولعل هذا ما جعل وعيه يقود موهبته إلى إبداع نص قصصي طويل، يتمحور جزء كبير من مضمونه حول التركيز على مرحلية الانتفاضة...
وبداية، يمكننا الاستدلال على مرحلية الانتفاضة من عنوان القصة ذاته... فنهاية الزمن العاقر... زمن ما قبل الانتفاضة، هي ما تشهده الساحة الفلسطينية اليوم من أحداث مصيرية وكبيرة، تبشر باقتراب بداية الزمن الفلسطيني الجديد... الزمن المغاير... زمن الحرية.. وعلى هذا، فالانتفاضة هي بشرى الميلاد، وهي مخاضه الصعب... هي الاخصاب بعد انتظار ممض استمر أكثر من عشرين سنة.. وبتجاوز عنوان القصة إلى نصها، يمكننا العثور على ما يؤكد مرحلية الانتفاضة، في تلك المساحة المتألقة والمنيرة التي استطاع نبيل عودة أن يبقيها؛ بين المدلولات الرمزية والمدلولات الواقعية، لشخصيات قصته وأحداثها..
فنحن في (نهاية الزمن العاقر)، أمام عالم غني بالإيحاءات، كونه عالماً ملوناً، متعدد الأبعاد، يمتزج فيه الرمزي بالواقعي، ويتفاعلان، ضمن شروط خاصة، لينتجا أحداث القصة وشخصياتها... وعلى هذا، ثمة ما يغري القارئ بتتبع الدلالات الرمزية لهذه الأحداث والشخصيات، وعدم التوقف عند دلالاتها الظاهرية المباشرة، والإكتفاء بها، ذلك أن مثل هذا التتبع، لا شك يبسط أمام بصيرة القارئ وعقله، عوالم زاخرة بالمعاني والإرهاصات.. عوالم ينبض الرمز فيها موحياً بمعادله الواقعي، دون غموض أو تعقيد، ودون حاجة إلى ممارسة السباحة في الخيال، بحثاً عن تأويل يقرب ذاك الرمز، أو عن تكهن يجلو غموضه..
فوهيب، بطل القصة، لايعدو ظاهرياً، كونه ذلك المواطن الفلسطيني العادي، وكذلك زوجته.. وما مرا به من أحداث، على الرغم من إثارته للتعاطف، لا يملك القدرة على إثارة الدهشة، لو لم تتزامن بدايته مع بداية نكسة عام 1967، ونهايته مع انطلاقة الانتفاضة.. أي لو لم يكن بينه وبين مسار الأحداث الفلسطينية، بصعوده وهبوطه وتعرجاته، تلك العلاقة العضوية الوثيقة، لظل، على قلة ما يماثله، مجرد حدث عادي... ذلك أن الإثارة كامنة في تلك العلاقة، ونابعة منها... لنتابع، تالياً، تطور هذا الحدث، محاولين رصد ما يصدر عنه من إيحاءات قوية الدلالة على أنه مجرد معادل موضوعي لتطور الحدث السياسي الفلسطيني، عبر عشرين سنة، بدأت منذ عام 1967، واستمرت حتى1987..
لقد شاء الحظ التعس لهذين الزوجين أن تكون ليلة زفافهما، "قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة". * وهكذا انقلب فرحهما تعاسة، وتحولت فترة (عسلهما) إلى أسبوع قاسٍ، تشردا خلاله" في الخلاء هروباً من القتال الذي حاذى قريتهم..." * وكان من الممكن، أن يصير حالهما إلى ما صار إليه حال الأغلبية، بعد ذلك، وأن لا يتميزا بشيء عمن حولهما، لو لم يطاردهما سوء الحظ، فيحرمهما القدر من الأولاد، عشرين سنة متواصلة "مضى عقدان من الزمن وبطنها قاحل" *
ومن تزامن العرس مع بداية الاحتلال واستمرار حرمانهما من الأولاد مع استمرار بقاء ذلك الاحتلال، تشع أولى الإيحاءات إلى رمزية شخصيتيهما القصصيتين، ورمزية ما يمران به من أحداث... إذ يبدو الزوج رمزاً واضح الدلالة على الشعب العربي الفلسطيني، أما الزوجة فهي رمز للأرض الفلسطينية المحتلة. وأما مانع الإخصاب والحمل، فهو الوجود الاحتلالي الغريب..
ولعل مما يسوغ توهم الدلالات الرمزية الآنفة، في شخصيات القصة وأحداثها، احتواء النص القصصي على العديد من القرائن التي ترقى بذلك التوهم إلى مرتبة اليقين... وأول هذه القرائن، وربما أهمها وأقواها، على الإطلاق، ذلك العشق الصوفي الذي يربط بين الزوجين، محيلاً ذاتيهما إلى ذات واحدة.. "عشرون سنة من اندماج الذاتين في ذات واحدة.." * ذلك أن هذا الاندماج، يقف حائلاً قوياً دون إقدام وهيب على ترك زوجته العاقر، أو الزواج عليها من أخرى تنجب له ولداً تكتمل به رجولته.. بل إن هذا الإندماج الصوفي، يتحول، على العكس، إلى دافع قوي يشحذ وهيباً بالإصرار على التجول مع زوجته، ساعياً بها، بين عيادات الأطباء، على أمل أن تحدث المعجزة، فتخصب بطنها القاحلة، بعد طول انتظار وترقب..
وإلى هنا، يظل بالإمكان القول: إن كل هذا الحب المتوهج، لا يكفي مسوغاً للتوهم بأن البطلين يرمزان للشعب الفلسطيني وأرضه وبالتالي، لا بد من دلالات أكثر مباشرة ووضوحاً... وهذا يعني وجوب العودة إلى النص ثانية، بحثاً عن تلك الدلالات التي سرعان ما تتبدى للقارئ واضحة، تارة في لغة الحوار بين الزوجين الحبيبين، وتارة أخرى في جملة التعليلات التي يسوقها الزوج، مصبراً بها نفسه وزوجته، ومسوغاً أمامهما إصراره على التفاؤل بحدوث معجزة الإخصاب والحمل يوماً، على الرغم من اصطدامه بالخيبة تلو الخيبة، كلما خرج مع زوجته من مراجعة طبيب جديد...
فإثر كل خيبة، نراه يخاطب نفسه، محاولاً تبديد إحساسها باليأس، ومجدداً فيها الشعور بالتفاؤل: "هذه طبيعة النفس البشرية، مترددة، متقلبة، ولكنها على العموم تتفاءل بالخير، تطفح بالأمل وهي في ذروة الخسارة، تيسر الهدف وهو في ذروة العسر والامتناع". * وفي المرات النادرة التي يداهمه فيها اليأس قوياً، وتعذبه معضلته، و"يضنيه الأمل" * نراه خائفاً من مجرد التفكير باحتمال أن يقوده يأسه إلى الإبتعاد عن زوجته... ذلك أنه "لا يرى حياته بدونها، يرتاح لحبها ووجودها بقربه، ينفر من دنياه إذا ابتعدت بالخيال عنه، يرتعد من أحلامه إذا خلت من طلعتها، تتسامى ذاته بقربها، يتجدد عزمه بعناقها." * وبهذا، يعود أكثر إصراراً على الإحتفاظ بها، أخصبت أم لم تخصب... ترى ألا يوازي هذا... الإصرار، على المستوى الرمزي، إصرار الإنسان الفلسطيني على الاحتفاظ بأرضه على الرغم من كل العنت والاضطهاد الذي يلاقيه على يد محتلها..؟
ويبلغ هذا الإصرار أعلى ذرى الإيحاء باندماجية هذا الإنسان بأرضه، وذوبان ذاته في ذاتها، عبر نص الحوارية التي يديرها نبيل عودة، بين بطلي قصته، وذلك في سياق مقطع اختار له عنوان (دخائل).* ونظراً لما يتمتع به هذا المقطع من قدرة على إقناع القارئ بأن وهيباً وزوجته ما هما إلا رمزان للإنسان الفلسطيني وأرضه، ربما يبدو من المفيد، اقتباس أجزاء مطولة من هذا المقطع الذي يبدأ بخطاب وهيب لزوجته، قائلاً:
"أنت حبي. أنت عالمي، بدونك أذوي..." *
ويكون هذا الخطاب فاتحة خلوة عشق جديدة، تجمع الحبيبين، جسداً لجسد، في نهايتها... وفيما ينسى وهيب "أمنيته بطفل من صلبه" * حين يحتضنها، نراها وهي في قمة نشوتها "ترجوه أن يأخذ عليها من تستطيع تحقيق أمنيته، فيردها خائبة:
-تطلبين البعد وأنت في ذروة القرب؟
-أشعر بالخيبة والقصور.
-ما عليك، الموضوع يخصني فلا تلجيه.
-ويخصني.
احتضنها بقوة، ضغط عظامها بين ذراعيه، عضت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان، وهمس بأذنها:
-حبي لك هو الجذور، أنا أحبك لنفسك، لذاتِك، أحببتك لأنك أنت، لا تخلطي بين مشكلة الحمل وحبنا. حبنا قدس الأقداس، فهمت؟!" *
إن همسته الأخيرة واضحة الدلالة على نوعية العلاقة بين الفلسطيني وأرضه، إذ ليس ثمة أي مشكلة بقادرة على المساس بحبهما لبعضهما... فهذا الحب هو الجذور، وهو قدس الأقداس... ذلك أنه حب منزه عن الغاية والغرض... حب يسمو فيه المحب والحبيب معاً... حب ينبع من الذات متجهاً إلى الذات، دون أي تفكير بأي ثمن...
وكان لا بد لدورة الرمز أن تكتمل، ببلوغ الحدث القصصي ذروته...فكما ابتدأت هذه الدورة، بث أولى إشاراتها الدلالية، بتزامن ليلة الزفاف مع ليلة دخول الاحتلال إلى وطن العروسين، نراها تكتمل حين تتزامن بشارة الأطباء لوهيب وزوجته بحدوث معجزة الحمل، مع انطلاقة الانتفاضة..
فكما حدثت معجزة الحمل فجأة، بعد عشرين سنة، من الانتظار المبركن بالترقب والخوف والقلق، قضاها الزوجان مراوحين بين اليأس والأمل، صابرين" حتى صار الصبر علقماً" * كذلك انطلقت الانتفاضة من ذروة الإحساس باليأس، وبعد نفس الفترة من الإنتظار المرهق... لنتأمل ازدواجية الدلالة في كلمة (حامل) التي زفها الأطباء بشرى في أذن وهيب: "حامل... لهذه الكلمة أكثر من معنى، ولها أكثر من نتيجة، تشمل أكثر من أفق، تتسع لعالم كامل متكامل من المشاعر والرغبات والأحلام والإنبعاث والتجدد..." *
إنها الأرض... الأرض الفلسطينية هي الحامل، وليست زوجة وهيب فقط... بل كلتاهما، وقد صارتا واحداً... وكيف لا، وهما معاً دخلتا طقس الاحتلال، ومعاً قاستا الجدب في زمنه العاقر، عشرين سنة متواصلة، ومعاً صبرتا، وثبتتا على تفاؤلهما بحدوث المعجزة، وها هما معاً تحملان؟!!
وتبدأ رحلة انتظار جديدة... ليست طويلة هذه المرة، وليست غائمة بالكدر والخوف والقنوط، بل قصيرة ومعبأة بتوقعات الفرح القادم.. إنها مرحلة وتمضي... صحيح أن فيها من العذاب ومعاناته الكثير، ولكنه كثير محتمل... ومصدر القدرة على احتماله أنه سينتهي بما سيغير حياة الإثنتين معاً... سينتهي بتجلي عصر مختلف...
وتمر فترة الحمل بسلام، وها هو المخاض الصعب يبدأ.. والمخاض ألم وأمل، في آن.. فرح وعذاب.. قلق يمتزج بالسعادة على نحو فريد... وها هو وهيب يتهيب من طول الانتظار أمام باب غرفة المخاض، وكذلك الشعب الفلسطيني يقف متهيباً منتظراً معه النتيجة نتيجة مخاض الأرض... ولكن دون يأس...فمن استطاع طرد وساوس الاستسلام لليأس والقنوط عشرين سنة، لن يتركهما يتمكنان من نفسه الآن.." تأمل الباب المقفل، واعترته طمأنينته. دفق من التفاؤل ملأ صدره، انتشر الفرح في كيانه، وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا الزمن المتفجر. هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر؟ كيف لا تتوغل السعادة بكيانه، والخصب يجيء مع الانفجار؟ مدد مبارك. ثمر بعد انقطاع أمل. خير بعد جدب. ثورة بعد صبر.". *
وفي القصة، كما في الواقع، لا يختم نبيل عودة الحدث القصصي، بل يُبقي مجاله مفتوحاً على مختلف الاحتمالات، السيء منها والجيد... وذلك حين يتركنا في نهاية قصته، نقف مع وهيب، وأقربائه وأقرباء زوجته، مبركنين بالترقب والقلق، أمام باب غرفة المخاض، ننتظر متلهفين، ما ستلده زوجته... إنه حرص واعٍ على التزام الواقعية، في نسج الحدث القصصي، وعلى توفير أكبر قدر من الانسجام بينه وبين معادله الموضوعي في الواقع...
فكما أن الانتفاضة ما تزال مخاضاً مجهول النتيجة، حتى الآن، كذلك ظل مخاض زوجة وهيب مجهول النتيجة، في نهاية القصة، حيث لم يخبرنا المؤلف بنوع المولود أو شكله أو حالته، بل اكتفى بتركنا وعيوننا متعلقة بباب غرفة المخاض "حيث الخبر والأمل * وستظل عيوننا متعلقة بذلك الباب، حتى يبشرنا صوت المولود بولادته، ليطلع علينا جميعاً، بعد ذلك، فجراً فلسطينياً حراً، يبزغ في سماء الوطن الفلسطيني الحر..

تتميز قصة (نهاية الزمن العاقر) ، ببنائها الدرامي الذي تمتزج فيه تنويعات كثيرة، تتضافر جميعاً، لترسيخ فكرة القصة، ولإضاءة الأبعاد الرمزية لشخصياتها وأحداثها، في نفس القارئ ووجدانه ، ونزوع إلى شاعرية العبارة .


القصة منشورة في مدونة نبيل عودة:
http://nabiloudeh.maktoobblog.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصة : " نهاية الزمن العاقر " – لنبيل عودة



الأحد، فبراير 21، 2010

الندوات السرية والأسماء التي لا بديل لها

نبيل عودة


عقدت في مركز أشكول بايس في المغار بدعوة من الشاعر الصحفي كمال ابراهيم وبالتعاون مع جمعية نيسان لدعم الثقافة والفنون ، ندوة أدبية حول دور السياسة في الشعر ، بمشاركة عدد من الأدباء ...

المؤسف ان الندوات أضحت "مشاريع سرية" لا يعلم بها الا البعض القليل ، لذا كشفت الصور قاعة شبه فارغة.

قرأت الخبر الذي اكتفى بالاشارة الى من يؤيد ومن يرفض العلاقة بين السياسة والشعر. وكأن السياسة موضوعا لا علاقة للمجتمع البشري به ، لا علاقة لها بالثقافة ، مع ان كل الفلسفات التي نعرفها عبر التاريخ ، عالجت السياسة ورأت بها حالة لا حياة للثقافة بدونها.بل واجتهد أعظم فيلسوف انساني في التاريخ البشري ، افلاطون ، بطرح رؤيته السياسية ، لجمهوريته العادلة ، نفس الأمر كان مع الفارابي في مدينته العادلة .. أي ان الثقافة ، بكل فروعها ، المادية والروحية ، لم تكن عبر التاريخ البشري كله ، الا جزءا لا يتجزأ من الفكر الثقافي .

ومع ذلك الطرح هام . ولكن ....

هنا لا بد من سؤال جوهري: لماذا لا يجري دعوة ادباء من خارج الحلقة المغلقة التي تطل علينا عبر كل الندوات ؟

هل هناك ظن ان الأسماء المشاركة في هذه الندوة ، وفي جميع ما يعقد من ندوات تقريبا ، مهما اختلف أسم الجهة الداعية ، ومع احترامي لهم جميعا ، هم التيار الثقافي المؤثر وصاحب القول الفصل في كل القضايا الثقافية وغير الثقافية ؟

انا عشت مراحل ثقافتنا في صعودها وهبوطها.. ونحن الآن نواصل الهبوط باصرار عجيب رغم كثرة الخيم والقاعات والمراكز والجمعيات التي جعلت من الثقافة ثيابها الفضفاضة.

عشت مراحل النقد المحلي المأزوم منذ يومه الأول بسبب جوهره المبني على الزمالة والقرابة العائلية والتودد للكبار من أصحاب التأثير السياسي وتغليب العلاقات العامة على النقد وعلى الأدب .. وجعل مقاييس الابداع تبنى على ارتجال نقدي مزاجي ساقط فكريا ، وفارغ من أي رؤية جمالية او فلسفية او ثقافية بسيطة ، ونوعا من التسلية لبعض "النقاد" االذين اكتشفوا انهم ادباء بعد أن أصبحوا يمثلون الماضي السياسي والاجتماعي في واقعنا ،وكل معرفتهم بثقافتنا لا تتعدى الإصدارات الجديدة فقط . وأجزم انهم يكتبون صفحاتهم النقدية ، بدون قراءة على الأغلب الا بالتصفح ، او بدون فهم "الناقد" للمقروء.. وليس غريبا ان أضيف ان بعض الأدباء منهم لا يعرفون تفسير ما يكتبون. ولا اسجل مواقفي عبثا ، بل عن تجربة شخصية ، جعلتني انتبه لفوضى النقد ومخاطره على ثقافتنا ...

أمر مضحك ؟

وهو كذلك !!

نعود الى دور السياسة في الشعر او علاقة السياسة والثقافة عامة .

كنت اتوقع ان يحضر سياسي او اديب مخضرم عاصر معركتنا لصيانة لغتنا وثقافتنا وهويتنا القومية ، يوم كان موقف القيادة الطليعية ( واضح انها قيادة الحزب الشيوعي التاريخية ) ترى بالثقافة مكملا للسياسة وبالسياسة درعا ثقافيا ، حيث تحولت القصيدة بالأساس ، الى سلاح سياسي هام في نضالنا، وهل ننسى ما لايعرفه المشاركون في الندوة المذكورة ، بأن مهرجانات الشعر التي نظمت في سنوات الخمسين والستين ، كانت سلاحا سياسيا للمقاومة والتمسك بالهوية والتراث والوطن امام الموجات الهوجاء للإرهاب والقمع السلطوي .

مثلا معركة الهويات بعد اقامة دولة اسرائيل ، الم نوظف الشعر فيها من أجل دعم مواقفنا السياسية ؟ الكاتب والشاعر والمناضل حنا ابراهيم يذكر في كتاب مذكراته : " ذكريات شاب لم يتغرب " معارك الهويات التي خاضها الحزب الشيوعي ومحاميه حنا نقارة الذي أطلق علية الناس لقب "محامي الشعب" ، وكانوا ينشدون له الأهازيج الوطنية فرحا بتحصيله للهويات عبر المحاكم الأمر الذي كان يعني البقاء في الوطن وعدم اعتبار الفلسطيني "متسللا" يجب قذفه وراء الحدود ، وتحديا أيضا للحكم العسكري الذي فرض على العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم .
ومن تلك الأهازيج :
طارت طيارة من فوق اللية ( اسم مكان في الجليل ) الله ينصركو يا شيوعية
حنا نقارة جاب الهوية غصبا عن رقبة ابن غريونا
ويروي الشاعر والمناضل حنا ابراهيم انه كانت تمنح هويات حمراء لمن يعتبروا " ضيوفا " بالتعبير الاسرائيلي ، أي المرشحين للطرد من الوطن . أما غير الضيوف فكانوا يحصلون على هوية زرقاء. ويذكر حنا ابراهيم أغاني التحدي التي كانت تنشد في حلقات الدبكة ، ومنها:
يا أبو خضر ( اسم شرطي عنصري ) يللا ودينا الزرقا والحمرا ع صرامينا
هذا وطنا وع ترابه ربينا ومن كل الحكومة ما ني مهموما
يقطع نصيب ال قطع نصيبي لو انه حاكم في تل أبيب
توفيق الطوبي واميل حبيبي والحزب الشيوعي بهزو الكونا
ويتلقف الشبان الكرة ويعلو نشيد المحوربه :
لو هبطت سابع سما عن حقنا ما ننزل
لو هبطت سابع سما عن أرضنا ما نرحل

هذا نموذج صغير من دور الشعر في السياسة . وهل ننسى دور قصيدة محمود درويش " سجل انا عربي " التي أصبحت صرخة تحد ضد القوائم السوداء ؟ وهل ننسى قصيدة سالم جبران : " سجل اسمي في القائمة السوداء / سجل اسم ابي امي اخواني / سجل حتى حيطاني / في بيتي لن تلقى الا الشرفاء ".

وهل ننسى كأننا عشرون مستحيل / في اللد والرملة والجليل لتوفيق زياد وقصائده سجناء الحرية وعمان في ايلول ؟ الم تكن القصيدة اهم من خطاب سياسي مهما كان ناريا ؟ وهل ننسى سميح القاسم في ابدا على هذا الطريق التي أضحى عنوانها شعارا سياسيا مجندا ؟ هذا نزر يسير . ولا يبدو لي ان ندوتكم ، من قراءة الخبر والمواقف ، قد دخلت للمضامين ولفهم ان سقوطنا السياسي واضمحلال قوتنا السياسية ، كان مرافقا لغياب الجيل الطليعي الذي رأى بالثقافة معلما نضاليا مجندا ، ووصول قيادات لا تقيم اعتبارا للثقافة في العمل السياسي مع الأسف الشديد ، والا ما كانت تسمج بغياب مجلات الجديد والغد والدرب وهبوط الاتحاد ثقافيا وسياسيا .

الملاحظة الأخيرة ، من الواضح ان الشعر اكثر وأسرع استجابة من أجناس الأدب الأخرى في الفعل السياسي، ولكن من الخطأ الوهم ان السياسة تأثرت او أثرت على الشعر فقط ، بل النثر الأدبي أيضا لعب دورا كبيرا في رسم معالم فكرنا السياسي ، واكتفي بذكر أعمال اميل حبيبي مثلا.

ان الفصل بين السياسي والثقافي هو مثل فصل المخ الأيمن عن المخ الأيسر.

هذه ملاحظات عابرة وليست دراسة . وآمل ان ينتهي عهد السمسرة الثقاقية والندوات السرية والأسماء التي لا تتبدل ، مثل الزعماء العرب!!


نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة

nabiloudeh@gmail.com


الجمعة، فبراير 19، 2010

قراءة في قصة "الزمن الجديد" لنبيل عودة

محمد توفيق الصواف

الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر : الانتفاضة... كثورة إنسانية...

من كتاب : " الانتفاضة في ادب الوطن المحتل"

من أي نواحيها نظرنا إليها وتمعناها، باحثين ومحللين، نخرج بقناعة ثابتة تؤكد أن الانتفاضة ثورة إنسانية، بكل ما تحمله كلمة (إنسانية) من معنى... فهي إنسانية في منطلقها وبواعثها؛ إنسانية في أهدافها وغاياتها... وإنسانية حتى في أساليب ممارسة أبطالها لفعلهم النضالي اليومي..
وبالطبع، لا يمكن اتهام هذا التوصيف بأنه من قبيل المبالغة التي قد يوحيها إنسياق الباحث العربي وراء مشاعره القومية، ذلك أنه -أي التوصيف- يستمد مصداقيته وموضوعيته وقوة اشعاعه، كحقيقة وواقع من استقراء سيرورة وقائع الانتفاضة وأحداثها، منذ انطلاقتها وإلى اليوم..
فمن ناحية البواعث، نلاحظ أن انطلاقة الانتفاضة جاءت، بالدرجة الأولى، تعبيراً عن رفض الإنسان الفلسطيني لاستمرارية وجود المحتل الإسرائيلي فوق الأرض العربية، بأي شكل، وتحت أي ذريعة... أي كانت الانتفاضة تعبيراً عملياً عن الرغبة الفلسطينية الكامنة والمصممة على تحقيق الحرية للأرض الفلسطينية، وللإنسان الفلسطيني، في آن واحد معاً... هذه الرغبة التي ولدت لحظة وضع المحتل قدمه فوق الأرض العربية، معلناً اغتصابه القسري لها...
وبالتأكيد، ليس ثمة من يستطيع الزعم بأن سعي الإنسان، أي إنسان، لتحرير أرضه من غاصبها، وتحرير نفسه من نير هذا الغاصب وسيطرته وممارساته، يعدّ سعياً لا إنسانياً.. ذلك أن الحرية، وبأي المعايير قيمناها، هي مطلب إنساني مشروع ومسوغ... وكيف لا، والحرية تعني قضاء على الظلم والاضطهاد، وخلاصاً من كابوس القهر الذي يجثم على صدر من يتعرض لهما ولما يدفعان إليه من ممارسات، يتناقض، حتى أهونها، مع أبسط حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية؟ كيف، وعلى الصعيد الفلسطيني تحديداً، تعد الحرية الشرط الأول والأخير والوحيد، لاعادة اللحمة إلى الكيانية الفلسطينية المتشظية، والمبعثرة هنا وهناك، في شتى بقاع الأرض...؟ وهل يمكن للشعب العربي الفلسطيني أن يمتلك القدرة على تقرير مصيره بنفسه، أو أن يحقق حلمه بإقامة دولته المستقلة على كامل تراب وطنه، إلا إذا نجح أولاً، في تحرير هذا التراب تحريراً كاملاً، يتيح له لملمة شظاياه المبعثرة، وإعادة تركيب كيانيته من مجموعها...؟

من هذا المنظور المحدد، وحسب معاييره، تبدو بواعث انطلاقة الانتفاضة ودوافعها، ذات اتجاهات وأهداف إنسانية واضحة، لا لبس فيها... ومن هذا المنظور المحدد أيضاً، طرحها نبيل عودة في قصته الرائعة (الزمن الجديد) *، مؤكداً هويتها كثورة إنسانية مشروعة، تستمد مسوغات انطلاقها واستمرارها، من كونها محاولة لتجسيد تطلع الإنسان الفلسطيني إلى تغيير واقعه المأساوي القاسي الذي عانى فيه، ما عانى، من عيش باهظ مرهق، خلال عشرين سنة، في ظل الاحتلال الإسرائيلي العنصري، بواقع آخر جديد، أهم ما يميزه هو كونه نقيض واقع الاحتلال الذي انطلق منه، في المعطيات والسمات والآفاق، على حد سواء...
ويقدم نبيل رؤية الفلسطيني الخاصة لواقعه الجديد المأمول، عبر شريط الحلم الذي يكبر في نفس أحد أبطال القصة أمنيات، ولهذا نراه يسلط الضوء على مخيلة هذا البطل، ليمكننا من قراءة ما يتشكل على صفحتها : " كان يحلم بزمن مختلف يخلص الإنسان من غربته، ينقذه من وحشته... زمن يعطي للثمر طعمه الحقيقي، وللكلمة وقعها الصحيح، وللحب معناه الإنساني الأصيل. فيه تنتهي المعاناة وتمتد السعادة. يتضاءل القهر وتفيض النشوة." *
بشيء من الجرأة، يمكن الزعم أن هذا الحلم الطيب البسيط والعادل هو وإلى حد ما، الجانب الأكبر من الوجه الإنساني للانتفاضة، وهو أساس رسالتها... وانطلاقاً من مفردات هواجسه، يبدو واضحاً أن الإنسان الفلسطيني لم ينطلق في ثورته، يطلب مستحيلاً، أو يسعى إلى هدف غير مشروع... بل انطلق طالباً أبسط حقوقه كإنسان... انطلق حالماً بالخلاص من كابوس غربته ووحشته، وراجياً عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية في حياته... كيما يتمكن من تذوق الطعم الحقيقي للثمر في فمه، وكيما تلتقط أذناه الوقع الصحيح للكلمات... انطلق ليشعر بالمعنى الإنساني للحب في قلبه المتعب... انطلق جائعاً للسعادة والفرح اللذين حرمته منهما قسرية معاناته للقهر في ظل الاحتلال...
إن مجمل هذه الأهداف /الرؤى، هي بواعث الثورة الفلسطينية الحالية، وهي، في نفس الوقت، نقيض بواعث الإسرائيليين في سعيهم الهستيري الرامي إلى قمعها والقضاء عليها... إن ثمة توحداً مثيراً، يقدمه نبيل عودة، في المقطع الآنف بين الباعث والهدف في نفس الفلسطيني... وهو توحد يعطي لثورته دفقاً رائعاً، وقدرة مذهلة على الاستمرار، على الرغم من كل الصعاب والعوائق.. لأنها، في نظره، ثورة الإنسان لاستعادة إنسانيته، ولرفض كل ما من شأنه محاولة إلغاء هذه الإنسانية أو تحطيمها..
ولكم تتأكد إنسانية هذه الثورة، وتزداد ألقاً وروعة، حين نتمعنها من زاوية السلاح الرئيس لأبطالها... هذا السلاح البسيط والبدائي جداً، ما كان يمكن له أن يكون فعالاً ومجدياً في مواجهة أعقد أنواع الأسلحة الحديثة، وأكثرها تطوراً وقدرة على الفتك، لو لم يكن معبأ بإرادة إنسانية صادقة، همها الرئيس أن تعيد للسماء زرقتها وشمسها، ولعيون الأطفال ألقها وحيويتها وإنعكاسات الاطمئنان والحبور في نظراتها... لم يستورد الإنسان الفلسطيني سلاحه هذا من الدول الصناعية المتقدمة، ولم يصنعه من مواد لا حب فيها، بل أخذه جاهزاً للإستعمال من الأرض التي أحبها، ويسعى إلى تحريرها من غاصبها وظالمه... حتى ليتهيأ للوهم أحياناً، أن هذه الحجارة الرائعة ليست سوى قلب الأرض الذي فتتته همجية الغاصب، فانتثر على السطح، فحمله ابن الأرض سلاحاً وقرر به، وبه وحده، إعادة الأمور إلى نصابها... والأفلاك التي تاهت سنين إلى مداراتها الأصلية... وعبر هذه الرؤية تتوحد الانتفاضة /الثورة ... ثورة الأرض وإنسانها، في كلّ لا يتجزأ...
ولعل من المثير حقاً، ثقة الإنسان الفلسطيني بجدوى حجارة أرضه كسلاح فعال، وبقدرة هذا السلاح على هزيمة البنادق والقنابل وغيرها، أي على انتزاع النصر... ويمكننا استشفاف هذه الثقة عبر متابعة ما يعرضه شريط الأمنيات على مخيلة /وليد/ أحد أبطال قصة (الزمن الجديد)
ففي لحظة استشراف للمستقبل المرتجى، يرى هذا الطفل الفلسطيني نفسه، وقد صار طاعناً في السن، يجلس بين أحفاده، ليقص عليهم معجزة النصر الذي صنعه جيله بحجارة الأرض...: "عندما يبلغ من العمر أعتاه ويجلس مع أحفاده، سيحدثهم عن أيام زمان. حاول أن يصغي لصوته. أن يكون فكرة عن هيئته عجوزاً طاعناً يحدث أحفاده عن زمانه الكبير السابق، يوم صار الحجر أسلوباً سياسياً." * ومن اللامعقول الذي صيرته إرادة التحرير الصلبة، في نفس الفلسطيني، معقولاً، ينطلق خيال وليد في محاولة لإضاءة المعجزة، "ثورة حجارة في عصر الفضاء. ينظر إليه الأولاد مشدوهين بحديث العجائب، غير قادرين على التصديق، محاولين استخراج الحقائق من جدهم الذي تعتعه الكبر. ولكن الجد يبتسم، ويهز رأسه متأملاً أحفاده، قائلاً بصوته الخشن:
"- الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر." *)
هذا هو العنوان الإنساني لهذه الثورة الشعبية الجبارة... إنها ليست إرهاباً أو عصياناً، أو فوضى وعدوانية متطرفة، كما يصفها أعداؤها، وإنما هي حوار، ولكن بلهجة أخرى وأسلوب آخر... وحتى حين يثور القلق في نفس وليد الصغير سؤالاً حول جدية الحوار بالحجارة وجدواه، وحول واقعية المواجهة بين الحجر والبندقية أو القنبلة، ما يلبث أن تزيل ثقته.بحجارته ما ثار في نفسه من قلق عابر... : "والذي لا يفهم بالحجر؟ احتار بعض الشيء... وفكر في السؤال الذي طرحه على نفسه، ثم اشرقت ابتسامة خجلى على وجهه، وتمتم نفسه مجيباً نفسه على سؤاله: سيفهم بالمزيد من الحجارة.." *
وهذا الاصرار على بلوغ النصر بالحجارة وحدها، يفتح المجال أمام إشراقة إنسانية الانتفاضة، ورؤيتها من زاوية ثالثة، هي زاوية موقف الثائر الفلسطيني /الإنسان/ من عدوه العنصري ومحتل أرضه... وهو الموقف الذي عرضنا الجانب الأكبر منه، في الفقرة السابقة من هذا الفصل...
فمن خلال إعادة القراءة للحوراية التي أدارها نبيل عودة على مسرح وعي بطل قصته (الحاجز) – ( راجع دراسة عنها تحت عنوان : " قراءة في قصة الحاجز ) ، بين ذلك البطل ونفسه، في لحظة صراع فريدة وحرجة بين نداء واجبه الإنساني، كطبيب، تجاه جريح ينزف دماً، ويجب اسعافه، وبين نداء واجبه القومي والوطني، كفلسطيني، يعد هذا الجريح عدواً له وغاصباً لأرضه من خلال هذه الحوارية، والموقف (الهاملتي) الذي تجسده، ومن خلال إصرار /وليد/ وغيره من ثوار الانتفاضة على أن يكون الحجر سلاحهم الوحيد لتحقيق أهداف ثورتهم، يمكننا إضاءة إنسانية الموقف الفلسطيني، وإنسانية الرسالة الثورية المبنية عليه والمنبثقة منه، أكثر...
إن أبطال هذه الثورة، لم يخرجوا مقاتلين بحجارة أرضهم انتقاماً، وإنما رغبة في التغيير... وبالتالي فليس هدفهم القتل وإنما الدفاع عن أنفسهم، وعن أجيالهم القادمة، من التعرض للقتل، بسبب وبدون سبب على الغالب.. وإذا كان ثمة ما يؤكد هذا التوصيف، فهو موقفهم من عدوهم الساعي إلى قتلهم حين يتمكنون منه، وقد فقد حوله وقوته، بوقوعه جريحاً، أوأسيراً في أيديهم...
ففي مثل هذه الحال، لا نراهم يحاولون قتله، تشفياً وانتقاماً، بل على العكس، يعزفون عن استغلال فقدانه القدرة على حماية نفسه والدفاع عنها، ويتعالون عن الإضرار بمن غدا عاجزاً عن إلحاق الضرر بهم... لا، بل أكثر من ذلك، نراهم- كما في قصة (الحاجز)، يمدون له يد المساعدة، ويحاولون انقاذه، دافعين عنه كأس الموت التي كان يريد تجريعها لهم... كل هذا من فيضان نبع الحب الإنساني وطهارته ونقائه في قلوبهم.. فبمجرد فقدان هذا العدو لقدرته على مواصلة العدوان، يتحول، في نظرهم، إلى مجرد إنسان... إنسان "لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام..." ** ولهذا، لا يرون كبير ضير في إنقاذه.... ولا يشعرون، لحظتذاك، بأي تناقض بين موقفهم الوطني والقومي وما يحتمه عليهم تجاهه، كعدو، وبين مشاعرهم الإنسانية تجاهه أيضاً، كجريح ينزف... "أكرهه كعدو... لا جدال في ذلك، لكنه ينزف." **
إنه امتزاج عميق ورائع بين مشاعر قوية... امتزاج بين الوطني والقومي والإنساني، في إطار رؤية نبيلة وشاملة، رؤية تمتد جذورها عميقاً في أرض التاريخ العربي والرسالة العربية الإنسانية التي حرمت على جدّ هذا الفلسطيني الثائر اليوم، أن يتعرض لامرأة أو شيخ أو طفل أوأن يقتل جريحاً أو مسالماً، أو يقطع شجرة، مع أن ذلك الجد العظيم لم يكن، وقتها، في موقع المستضعف، بل في موقع الفاتح المالك لكل مقدرات القوة والبطش...
نعم، فمن صلب هذه الفلسفة، من معين هذه الرؤية النبيلة، حددت الانتفاضة هدفها وموقفها تجاه عدو الإنسان الفلسطيني وأرضه، وحددت ما تريده من هذا العدو، بشكل واضح... إن فعالياتها تتجه رأساً إلى محاولة تحطيم عدوانيته، وإلى القضاء على ممارساته العنصرية اللاإنسانية، إلى قتل الذئب الكامن فيه... أي إلى محاولة القضاء على وجود الاسرائيلي كمحتل للأرض ومضطهد لانسانها، وليس إلى محاولة القضاء على وجوده كإنسان... بل، وربما ليس في هذا أي مبالغة، يمكن القول: إن الانتفاضة تدافع عن الإنسان في نفس الإسرائيلي، وتحاول أن تنقذه من براثن ذئبيته العنصرية، حين تحاول منعه من ممارسة هذه الذئبية ضد الإنسان الفلسطيني..
وهذا كله يعني: أنه لا يجوز، بحال من الأحوال، النظر إلى الانتفاضة كعدوانية مضادة لعدوانية المحتل العنصري، بل كثورة إنسانية هدفها التصدي لتلك العدوانية وتعطيلها، والحيلولة بينها وبين بلوغها ما تهدف إليه، وذلك عن طريق وصول هذه الثورة إلى هدفها الاستراتيجي الأخير، إلى تحرير الفلسطيني وأرضه...
وفي القصة، كما في الواقع تقريباً، نلاحظ اهتمام عديدين من مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، بالدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والنضال حتى تبلغ الثورة كامل أهدافها... وهم، في معرض طرحهم لهذه الدعوة وتأكيدها، لا يغفلون ما تكلفه تلبيتها من تضحيات باهظة جداً، ولكنهم يحاولون تسويغ احتمال تلك التضحيات بالإشارة إلى أنها مهما بهظت، يظل احتمالها أهون وأقل بما لا يقاس، من احتمال نتائج اخفاق الانتفاضة في الوصول إلى أهدافها... وعلى أساس قناعتهم بصوابية هذه الرؤية، نراهم يرفعون اصبع التحذير، معلنين أنه من الممنوع على من شقوا الطريق أن يتوقفوا في منتصفه، أو أن ينكصوا عائدين مسربلين بيأسهم وإخفاقهم...
ولأن التزام هذا الممنوع ضرورة، لا جدال فيها، برأيهم، نراهم يحرصون على تجنب تقديم ثائر الانتفاضة، إلى قارئهم، كبطل فرد، كلي القدرة، بوجوده وبقائه تستمر الثورة، وبانقصامه أو استشهاده تتوقف وتنتهي... وهذا يعني، اقتناعهم بضرورة نفي البطولة الفردية، في القصة والواقع، على حد سواء، والتأكيد بالمقابل، أن الانتفاضة هي فعل جماعي، وأن نموذج البطل فيها، هو مجموع الشعب وليس أي فرد من أفراده، حتى وإن تهيأ للوهم احتمال أن يكون هذا الفرد خارقاً...
ومن الملاحظ أن طرح مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، لموضوع الدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والثورة، لم يكن طرحاً خطابياً مباشراً، كما أنه لم يشكل، في أيّ من القصص، محوراً موضوعياً مستقلاً، بل كان متضمناً في سياق التأكيد لنفي مفهوم البطولة الفردية، في صنع أحداث الانتفاضة ومنجزاتها، وبالتالي، نفي احتمال توقف استمرارية الانتفاضة بسقوط أيّ من أبطالها أو القضاء عليه...
ومن أكثر قصص الانتفاضة احتفالاً واهتماماً بهذين الموضوعين، ومن أكثرها وضوحاً في طرحهما، قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة. ففي نهاية هذه القصة الغنية، يسقط قائدها الفذ (سليم) شهيداً، قبل أن يكمل ما بدأه من تغيير في قناعات أهل قريته ومفاهيمهم ومواقفهم، وقبل أن تكتحل عيناه برؤية نتائج التغييرات التي أحدّثها واقعاً ملموساً.... ولكن استشهاده لا يعني توقف أهل قريته عن مواصلة الثورة التي هيّأهم لتفجيرها والاستمرار فيها، سواء بقي هو الذي يقود خطواتهم فيها، أو صار القائد غيره.. فالثورة ليست هذا الفرد أو ذاك، حتى وإن كان صانعها ومفجرها... وبالتالي، فإن استشهاد القائد لا يهم كثيراً، ما دام يوجد بين أتباعه والمؤمنين بنهجه وأفكاره، من يستطيع حمل المسؤولية بعده..
بل إن أي ثائر صادق، يرفض أن تنتهي ثورته وتنطفئ بانتهائه قائداً لها... ذلك أن مثل هذا الثأئر لا يعنيه كثيراً أن يشهد بعينيه نتائج ما بدأه، بل يعنيه استمرارية السعي إلى تحقيق ما خطط له، في حركية من يليه /النابعة من إصرارهم على إكمال الدرب التي بدأها.. لأنه، وبهذه الإستمرارية فقط، يتحول استشهاده إلى حياة، فيسطيع أن يرى ثمار نضاله وانتصار رسالته بعيون الذين تابعوا حملها بعده، ونجحوا في تحقيق أهدافها واقعاً.. أي يتحول موته إلى معبر لخلوده...
وإيماناً من سليم نفسه بهذه الحقيقة، نجد أن جوهر الوصية التي يتركها لأتباعه هو دعوتهم إلى ضرورة مواصلة الثورة بعده، فيما لو سقط شهيداً وبالفعل، ما يكاد خلفه (وليد) يتيقن من استشهاد ذلك القائد الفذ، حتى ينطلق في أزقة القرية وحواريها، ناشراً تلك الوصية، ليحضّ أهل القرية على متابعة الثورة التي فجرها سليم، صارخاً بأعلى صوته:
- "سليم لم يمت... سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد. سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر سليم لا يموت... لا يموت... لا يموت.". *
من الواضح أن سليم في الصياغة السابقة، قد خرج من محدودية كينونته المادية الضيقة، ليصير رمزاً تتجسد فيه روح الثورة الشعبية التي فجرها في أهل قريته، وليصير رمزاً لكل الشهداء الذين ضحوا بحيواتهم الدنيا من أجل إيصال مبادئ الرسالة التحريرية لثورة شعبهم إلى أهدافها، ومن أجل تجسيد هذه الأهداف كحقائق، على أرض الواقع... ولهذا، فهو لا يموت، ولا يمكن للموت أن يجد سبيلاً إليه... لأن موته، على مستوى الرمز الذي يجسده، يعني انطفاء شعلة الثورة بعده، واستحالة وصولها إلى تحقيق أهداف رسالتها...
وعلى افتراض صحة القراءة السابقة لنهاية قصة (الزمن الجديد)، يمكن القول إن الدعوة إلى ضرورة مواصلة الثورة، متضمنة في كل جملة دخلت في تركيب تلك النهاية... وتكاد هذه الدعوة تتخذ صيغة الخطاب المباشر، في دلالات الجملة الأخيرة التي يوصي فيها سليم أهل قريته بأن يدفنوه في تراب وطنه المحرر... إذ كيف لهذه الوصية أن تنفذ، إن لم تستمر الثورة بعده، حتى تحقق كامل أهدافها، وخاصة هدفها /الغاية... أي تحرير تراب الوطن الذي أوصاهم أن يدفنوه فيه...؟
الدعوة إلى تطهير صفوف الشعب الثائر من العملاء
إلى حد ما، يمكن القول: إن إطلاق هذه الدعوة قد تزامن مع إطلاق الدعوة السابقة... وإذا كانت الدعوة السابقة هي نداء موجه للفلسطينيين، في الوطن المحتل، من أجل المبادرة، ذاتياً، إلى التطهر من رجس العمل في مؤسسات العدو وأجهزته، لما يجلبه هذا العمل من العار لصاحبه، فإن الدعوة الثانية هي أشبه ما تكون بإنذار تهديدي موجه إلى المتورطين، من أبناء الوطن المحتل، في التعاون مع سلطات العدو، ضد أبناء شعبهم... وعلى هذا يمكن توصيف الهدف من اطلاق هذه الدعوة بأنه محاولة جادة لتطهير هذا الشعب من عملاء العدو المندسين، بين صفوف أبنائه الثائرين..
ومن مراجعة مضمون هذه الدعوة التطهيرية، يتبين لنا أن قيادة الانتفاضة لم تقف عند مطالبة أولئك العملاء، بمجرد الكف عن الاستمرار في ممارسة عمالتهم للعدو، وإنما دعتهم، إضافة لذلك، إلى الإعتراف العلني بجرمهم، ثم طلب الصفح من الشعب، وإعلان التوبة والالتزام بها، على رؤوس الأشهاد فمن استتاب منهم وأقلع، تاب الشعب عليه، وصفح عمّا سلف منه، أما من أبى، فقد استحق عقاب الخائن، أي الإعدام..
وبين المتوفر من قصص الانتفاضة، وردت إشارة قصيرة إلى هذا الموضوع في قصة (الزمن الجديد)، لنبيل عودة. وكان ورودها، في سياق صراع بطل القصة سليم، بعد أن زعمّه أهل قريته عليهم، مع المختار القديم الذي كان -كما توحي القصة- متعاوناً مع سلطات الاحتلال، ومستزلماً لهم...
فوسط حشد من كبار القرية، وأهلها، توجه سليم إلى المختار القديم، داعياً إياه إلى الاستتابة عن التعامل مع العدو، تحت أي ذريعة، وبأي صيغة وإلى إعلان التزامه بهذه التوبة، أمام الملأ جميعاً.. ثم منذراً إياه، في ذات الوقت، بأن الأمور قد خرج زمامها من يده، وآل إلى الثوار؛ وعلى هذا، فليس أمامه، وأمام أمثاله، سوى خيارين لا ثالث لهما: إما إعلان التوبة، ويعفو الشعب عما مضى، وإما مغادرة القرية، دون إبطاء: "نحن نرحمك ونقبل توبتك. ونحن لا نفرق بين أحد. نظمنا كل شؤون البلد. الشباب أمسكوا بزمام الأمور. وليعلم الجميع أن الذي لا يتوب لن يكون له موطئ قدم بيننا.". *
وفي القصة، كما في الواقع، يدرك المختار، ومن ترمز إليهم شخصيته القصصية، أن التغيرات المستجدة، والأوضاع التي نجمت عنها، لا تساعدهم على تحدي هذه الدعوة التحذيرية الجادة الموجهة إليهم... ولهذا، فإن من الحكمة والخير لهم، كما قدّروا ، أن يبادروا، إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم. أي، أن يبادروا، فيحنوا رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ريثما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث، وتستقر وهذا ما رمى إليه نبيل عودة، في صياغة جملته الإخبارية التي ضمنها إعلان المختار لتوبته: "وبعد أن أيقن المختار أن البلد لم تعد تلك البلد قبل تفجّر الأحداث، أعلن توبته، ولكنه بقي بنفس العقلية.". *
وواضح، في المقطع الأخير من الجملة السابقة، أن المؤلف قد قصد، من صياغتها، الطعن بصدق توبة المختار، والإيحاء، بالتالي، أن معظم الذين استجابوا لدعوة قيادة الانتفاضة، من أزلام الاحتلال وأعوانه وعملائه، وأعلنوا توبتهم، لم يتوبوا توبة نصوحاً وصادقة، وإنما تظاهروا بالتوبة فقط، مداراة وتقية، ولفترة، بانتظار ما ستسفر عنه فعاليات الانتفاضة، من نتائج في المستقبل القريب أو البعيد... وهذا يعني أنهم، في قرارة نفوسهم، ما تزال قناعاتهم المهترئة على حالها، لم تتغير، وأنها ستظل، مما يستوجب الحذر الدائم منهم..
ويبدو أن موضوع التحولات التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، في نفسية الإنسان الفلسطيني، قد استقطبت الكثير من اهتمام القاص نبيل عودة، الأمر الذي أغراه بإعادة الإشارة إليها، في قصته (الزمن الجديد) ولكن من منظور آخر، وعلى نحو أكثر تفصيلاً ووضوحاً.. فاستعادة ثقة الفلسطيني بنفسه وبشعبه، في هذه القصة، ليست وليدة إحساس مفاجئ، يداخل إنساناً فرداً، بل هو إحساس جماعي يداخل أبناء قرية بطل (الزمن الجديد) الذي ينجح في إعادة وعيهم الوطني إليهم، وفي إشعارهم بضرورة الانتماء إلى الثورة والمشاركة في فعالياتها، لا بهدف تحرير أرضهم فقط، وإنما بهدف تحرير أنفسهم، أيضاً، من ذل الخضوع لمحتل تلك الأرض، ومن خوف التعرض له وتحديه.. ولايصالهم إلى هذا المستوى من الوعي، كان على بطل القصة، أن يخوض، أولاً صراعاً مريراً مع أعوان سلطة الاحتلال وأذنابها، ومع رموز الإحباط ودعاة اللامبالاة والتجابن في القرية... وهؤلاء وأولئك، جسدهم نبيل عودة، تجسيداً رمزياً، في قصته، بشخصية مختار القرية وأبناء أغنيائها..
ولنعد إلى بداية الحدث، لنستطيع متابعة تطوراته ونتائجها... لقد شدت بطولات ثوار الانتفاضة ونتائج أفعالهم العظيمة، أنظار بعض شباب القرية وأطفالها، وأثارت اهتمامهم..ثم ما لبثت هذه البطولات أن دفقت في نفوس أولئك الصغار رغبة جامحة بالمشاركة، في الفعل النضالي الساعي إلى بناء غد التحرير... وكانت ولادة هذه الرغبة هي أول التحولات الهامة التي أحدثتها الانتفاضة في نفسياتهم... وتحت تأثير الالحاح القوي لهذه الرغبة على نفوسهم، اخترقوا حاجز التردد، وخرج نفر منهم لاعتراض دورية إسرائيلية مرت بالقرية... رموها بالحجارة، ونجحوا في طردها..
كانوا ثلة من التلاميذ الصغار، لم يحبطهم الخوف بعد، ولم يشل إرادة الفعل فيهم توجسُ انتقام العدو منهم، بوحشيته المعروفة... ولكن بعض كبار السن، في القرية، ممن خبروا الماضي، وكلسهم الخوف من تكرار ما تعرضوا له فيه، هم وقريتهم، والكثير من القرى المجاورة والبعيدة، سارعوا مبادرين إلى المختار/ رمز العمالة التقليدية مع المحتل، ورمز الزمن الاستسلامي الذي مزقته حجارة الانتفاضة، فيما مزقت، سارعوا إليه راجين تدخله لدى أسياده، كي لا يأخذوا القرية كلها بجريرة (طيش) بعض صغارها. وهنا، اغتنمها المختار فرصة، فراح يتشفى، ويمعن في إهانة كرامة المستجيرين بـ(جاهه)، في محاولة منه لتضخيم دوره الهزيل، ولتثبيت مركزه الذي بدأ يخاف تضعضعه..
"المختار فقع من الغضب والنرفزة، وهدد السكان بكبائر الأمور وعظائم ردود الفعل حين يصل الجيش ويفعل ويترك بأهل البلد... انقسم السكان على أنفسهم بين منخرس لما حدث، وبين متوجس خائف مرتعب لما سيحدث.
-دبرها يا مختار.
-يلعن أبو هيك بلد وأبو هيك أهل وأبو هيك أولاد وأبو هيك تربية.
-ايدينا بزنارك يا مختارنا.
-ربوا أولادكم يا بهائم.
-يا رجل المحن أنت يا مختار.
-تفو عليكم وعلى أولادكم. ماذا أقول لأصحابي؟ ما هذه المسخرة؟ أنتم قدهم؟
-سنربيهم ونكسر أيديهم وأيدي من يفعلها مرة أخرى.
-أنت سيد البلد.. ووجيهها.
-كلمة منك تزن رطلاً.
-أنت سيدنا وتاج راسنا.
-والله حيرتونا معكم... سنذهب نترجى من يسوى ومن لا يسوى؟
-دبرها يا مختار.
-هل نهون عليك؟
-دبروا أولادكم بالأول... إذا عجزتم عن تربيتهم.. الشرطة تربيهم ...الجيش يربيهم.. الحكومة تربيهم..." *
وما إن وصل المختار إلى هذا الحد، وبدأ يستشعر نشوة الإحساس بالأهمية، ولذة خضوع أهل قريته لسلطانه، حتى حدث ما لم يكن متوقعاً من أحد، على الإطلاق... فقد نهض شاب مغمور من فقراء القرية، يتحدى المختار وأسياده المحتلين، في آن معاً، غير هيّاب من أحد..، ولا ملتفت لاستنكار أحد أو مهتم بتعجبه... وفي ذات الجلسة، خطف اهتمام الحاضرين بالمختار وكلامه، وجعله ينصب على ما يقوله هو، حين راح، وتحت بصر المختار وسمعه، يشرع في تثوير أهل قريته، وإعدادهم لدخول الزمن الجديد، زمن الانتفاضة...
كان هذا الشاب المفاجئ هو سليم النجار بن عطا، خباز القرية الفقير.. وقد ركز نبيل عودة على شخصيته وأسهب في رسم ملامحها وأبعادها، وهو يقدمها، للقارئ، بوصفها شخصية بطل ثوري إيجابي، استطاع بصبره وذكائه وإخلاصه وشجاعته أن يعيد أبناء قريته إلى وعيهم، وأن ينتشلهم من بؤرة إحساسهم بالخوف واليأس والإحباط، معيداً إليهم الثقة بالنفس، والشعور بالقدرة على الفعل أيضاً..
وقد تأتى له أن يفعل هذا كله، وينجح في تحقيقه، إثر انتصاره على المختار العميل، في ذلك الاجتماع نفسه الذي كان التفوق للمختار، في بدايته... فبعد أن فاجأ سليم الجميع بتحديه للمختار، دخل الرجلان في مشادة حامية، انتهت بانتصار سليم... ولعل أبسط توصيف لما يمكن أن توحي به الدلالة الرمزية لهذه المشادة، هو أنها تمثيل للصراع بين فريقين من أبناء الوطن المحتل، كل فريق منهما ينتمي لجيل، ولكل منهما وجهة نظره الخاصة، والمختلفة عن وجهة نظر الآخر..
فالمختار، ومن استجاروا به من كبار السن، في القرية -مع تأكيد الفارق في الخلفية والأهداف بينه وبينهم- يمثلون فريقاً من جيل الفلسطينيين القدامى الذين رهلهم الركون إلى قدوم الفرج والخلاص من الخارج، وبفعل الآخرين لا بفعلهم هم. وقد كان بين الأسباب الرئيسة لاصابتهم بهذا الترهل، استمراؤهم للعبة المراوحة اللامجدية على أرضية انتظار ذلك الفرج الوهمي... هذه اللعبة التي جعلتهم، بمرور الأيام، يستكينون للاحتلال، ويكيفون أنفسهم مع وجوده، دون أن ينتبهوا إلى أنهم، بهذا الفعل، إنما كانوا يمرغون كرامتهم بالوحل، ويلقون بمستقبلهم في غياهب المجهول... أما سليم، رمز الطليعة الواعية والمثقفة للجيل الفلسطيني الشاب، فقد أيقن أن النصر هو ثمرة الفعل الذاتي، ثمرة النضال والتضحية والصمود، وليس هبة مجانية تأتي من الخارج... لنتأمل الفارق النوعي الواضح والكبير، بين وجهتي نظر الجيلين، عبر المقابلة التالية:
" في البداية، حدث صراع مع بعض كبار السن. أرادوا أن يفرضوا سلطتهم على الأحداث. افعلوا كذا وكذا. إياكم والاصطدام مع الجيش. نحن لسنا قدهم.. صحيح نحن مع الجماهير، ولكنا هنا في البلد معزولين. إذا دبكوا فينا فلن يخرج منا مخبر. إنهم وحوش كاسرة لا يقيمون حساباً لعرض أو احتراماً لعاجز أو شفقة على ولد... لا تضيعونا في آخر العمر. ما عاد لنا قد ما مضى.. وهكذا دواليك.. كلام من هذا النوع يهبط العزائم، ويترك في النفس شعوراً من المرارة والهزيمة والكآبة والإحباط.". *
إنه حاجز الخوف الذي ارتفع بنيانه على مدار عشرين سنة، ليصير يأساً وهمياً من إمكانية مواجهة العدو واحراز النصر عليه.. لكن هذا الحاجز، على سماكته المفرطة وعلوّه الشاهق، كان حاجزاً هشاً، قوامه الوهم، والوهم فقط، ومكانه بعض نفوس كبار السن، وليس جميعهم..." ولكن، والحق يقال... إن معظم كبار السن لم يرضوا عن هذا الكلام.".*
ويقينا من سليم، ومن شاكله من أبناء جيله، بهشاشة بنية حاجز الخوف هذا، ووهمية اليأس التي يوحي بها لبعض ضعاف النفوس والقلوب، نراه -أي سليم- لا يتردد في محاولة اختراق هذا الحاجز، وتبديد إشعاعات التيئيس المنبعثة منه، تمهيداً لتثوير أبناء شعبه..
"وقف سليم النجار وأبلغ أهل البلد المتجمعين في الجامع بأن أكثرية أهل القرية يرفضون هذا الكلام - يقصد كلام التخويف والتيئيس الوارد آنفاً- وتمتم بصوته الرنان:
- زهقنا الخنوع، وعفنا حياة الذل. وأتبع هذا بقول عبد الرحيم محمود الشهيد، فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى.."*
وبعد، واضح أن وجهتي النظر السابقتين تتناقضان، تمام التناقض فأولاهما التي يتبناها مترهلو الجيل القديم، ويحاول المختار وأتباعه تأكيدها وإشاعتها، تدعو إلى الذل والاستسلام والخنوع، عبر الاستمرار في موقف العطالة عن الفعل، أما ثانيتهما التي يتبناها سليم وكثير من أبناء جيله الشاب، فتدعو إلى النقيض... ولأن الثانية هي الأقوى حجة والأكثر منطقية وإقناعاً، فقد نجح سليم، عبر إيصال فحواها إلى أبناء قريته، في إحداث التحول النفسي المطلوب... نجح في تحطيم منظومة المعايير القديمة المهترئة، وفي التمهيد لتغييرها بأخرى جديدة.. أو حسب تعبير (وليد) أحد أبطال القصة: "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ وحرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه.". *
ولكن، كيف تسنى لسليم أن يفعل ذلك كله؟
يشير نبيل عودة، معللاً موضحاً، إلى أن بطله سليم قد أتى أهل قريته، من الباب الذي لا يقدر أحد على نكرانه أو تجاهله أو الاعتراض عليه... أتاهم من صدمهم بحقيقة الواقع المهين الذي يتناسون اضطرارهم للقبول به، ويهربون من التفكير في الثورة عليه، خشية توهمهم اللاجدوى في ثورة كهذه، وخشية ما سيجره عليهم احتمال اخفاقها من التعرض لمعاناة ما هو أسوأ من واقعهم الذي كان قبلها، وما هو أشد قسوة وعذاباً.. كما أتاهم، أيضاً، من تذكيرهم بكرامتهم التي مرغت بأوحال خوفهم وأوهام يأسهم، ومن تذكيرهم بأرضهم التي أوشكت أن تنحل وشائج ارتباطهم العريق بها، نتيجة تقاعسهم عن تحريرها من جهة، ووقوفهم مكتوفي الأيدي من العدو الذي يبتلع، كل يوم، أجزاء جديدة منها، من جهة ثانية... وأتاهم، أخيراً، من باب تنبيههم إلى ضرورة المشاركة في ثورة شعبهم، على خلفية تحريك عواطفهم القومية بالعزف على أوتار القناعة التي لا ينكرها أحد منهم، القناعة بأنهم كفلسطينيين، ليسوا أفضل من أولئك الذين يضحون ويستشهدون، وهم يحاولون صنع غد الحرية لهم ولأرض وطنهم، في آن معاً...
وقد صارح سليم أبناء قريته بكل هذه الحقائق، وفتح عيونهم عليها، في سياق المشادة الحامية التي دارت بينه وبين المختار، تحت سمعهم وأبصارهم...
فبعد أن بالغ المختار في تحقير من جاؤوا يرجون وساطته لدى (أصحابه) من سلطات الاحتلال، كي لا يعاقبوا القرية كلها بـ (طيش) بعض صغارها الذين حاجروا دورية من دورياته، وبعد أن ظن بلوغه ما أراد، إذا بسليم يقطع الطريق عليه، ويتصدى له هازئاً به، مسترخصاً وساطته، ومستهيناً به وبمن سيتوسط لأهل القرية عندهم :
- " أصحابك من الادارة المدنية لايخوفونا، أنا أقول بشكل واضح، نحن جزء من هذه الأرض. نحن هنا في وطننا. أهل البلد، لأمر لا أفهمه ولا أقبله، يترجوك من الصبح، وأنت تلاعبهم لعبة شد الحبل، تهينهم وتمسح بهم الأرض هل تريد أن يعطوك نصف محصولهم حتى تحل لهم ما تسميه مشكلة؟ نحن لا نريد أن نحلها. نحن نريد أن نؤزمها. ولا توجد مشكلة اسمها قذف حجارة. توجد قضية اسمها الاستقلال. قضية اسمها الكرامة.. دم الشهداء النازف في مدننا وقرانا المحتلة ليس أرخص من دمنا...".*
بهذا المنطق النابع من موقف ثوري صادق، والمؤشر إلى اكتمال وعي الجيل الفلسطيني الشاب بأبعاد قضيته، وحقه، وبضرورة شمولية ثورته، استطاع سليم - رمز هذا الجيل في القصة- اسكات المختار الذي هو رمز الترهل والعمالة، وبهذا المنطق نفسه، استطاع تهيئة أهل قريته للثورة... فقد أقنعهم بأن التذلل والخنوع لا يجديان في مقاومة شهوة المحتل لسرقة المزيد من أراضيهم، ولا في الحيلولة بينهم وبين ممارساته العنصرية ضدهم. وعلى هذا، فإن المواجهة لا التذلل، هي التي يمكنها أن تضع حداً لاستمرارية تلك الممارسات وتصاعدها..
وبالفعل، ما إن استقرت هذه القناعة في عقولهم، حتى بادروا إلى اختراق حاجز الخوف الوهمي من عدوهم، ثم ما لبثوا أن بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على الحركة والفعل المؤثر الموصل إلى النصر... ولا أدل على تحولهم النفسي هذا، إلى نقيض ما كانوا عليه، من خروجهم جميعاً إلى ساحة المواجهة، غير عابئين بعدوهم وآلته الحربية المتطورة؛ ومن استعدادهم الرائع للتضحية بكل ما لديهم، حتى بحيواتهم، في سبيل تحرير أنفسهم ووطنهم... وقد رمز نبيل عودة إلى هذا التحول من النقيض إلى النقيض، بتصويره لطريقة استقبالهم نبأ أول من استشهد منهم، بالزغاريد...
أما المختار وأمثاله، فقد اندفعوا، مرغمين، إلى الانحشار في الزاوية المهملة، على هامش الأحداث التي أفلت زمامها من أيديهم، بعد عشرين سنة، أو يزيد..
من المحتمل أن لا تقوض الزلازل القوية جميع ثوابت الأرض التي تضربها، ولكن، ربما يكون من المستبعد أن لا تتعرض هذه الثوابت كلها للإهتزاز، بهذه الدرجة من العنف والقوة أو تلك... وعلى افتراض صوابية تشبيه الثورات الشعبية الكبيرة والشاملة بالزلازل القوية، فإن هذا يعني : تعرض المعايير السائدة، كمسلمات ثابتة في المجتمعات التي تنفجر فيها تلك الثورات، إلى الاهتزاز، كما يعني تغيرّ معظمها، غالباً..
وانطلاقاً من الاعتقاد بأن الانتفاضة، كيف نظرنا إليها، وبأي الوسائل والمقاييس حاولنا تقييمها، تعدّ بين الثورات الشعبية الكبيرة التي ستظل تنبض بها ذاكرة التاريخ البشري، يمكن القول: إن زلزالها قد هزّ الكثير جداً مما كان ينظر إليه، قبلها، كمسلمات ثابتة، في المجتمع الفلسطيني، داخل الوطن المحتل وخارجه، بل حتى في أوساط تجمعّ المستوطنين اليهود أيضاً... كما غيرّ هذا الزلزال العنيف الكثير من تلك المسلمات التي كانت سائدة بوصفها معايير اجتماعية وفكرية وسياسية.. وما شابه، مما لم يكن يظن، إلا قليلون، أن يرقى الشك إلى صوابيتها، لا من بين يديها ولا من خلفها... بل إن قاصاً مثل نبيل عودة، وعلى لسان (وليد)/ ثاني الأبطال الرئيسين في قصته(الزمن الجديد)، لا يجد حرجاً أو مبالغة في إطلاق التعميم بأن الانتفاضة قد غيرّت كل ما كان سائداً قبلها من معايير، على مختلف الصعد والمستويات، وفي المجالات كافة... يقول (وليد) معمماً:
- "في هذا الزمن تغيرت كل المعايير..." *
ومن مراجعة المتوفر من قصص الانتفاضة، الصادرة داخل الوطن المحتل، يتبين أن بعض مؤلفيها، قد ركزوا، في إضاءتهم لما أحدثته هذه الثورة من تغييرات، على عدد من أبرزها.. وفي مقدمة ما ركزوا عليه منها، التغييرات التي طرأت على منظومة المفاهيم والقناعات الاجتماعية والسياسية القديمة التي ضرب زلزال الانتفاضة نمطيتها السائدة، بعنف شديد، مقوضاً جزءاً مهماً من مسلماتها التقليدية...
وبين أبرز تلك المسلمات التي قوضتها الانتفاضة، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي معاً، اشتراط المستوى الطبقي العالي، أي الثراء، إضافة إلى اعتبارات الحسب والنسب، وماشاكلهما، كمؤهلات لمن يسعى إلى الزعامة والجاه والسيادة، سياسياً واجتماعياً، على حد سواء... فقد قوض زلزال الانتفاضة دعائم هذا الاشتراط، بعد أن أثبتت أحداثها مدى خطئه وبطلانه... وذلك حين لاحظ الناس أن من فجرّ الثورة على العدو المحتل، وتصدى لغطرسته، وسعى للحيلولة دون استمرارية الوضع المذل الذي فرضه هذا العدو على أبناء الوطن المحتل، لم يكن من الأثرياء أو من أبنائهم، كما لم يكن سليل حسب ونسب، بل كان، غالباً، من طبقة الفقراء المغمورين... أما أبناء الجاه والغنى الذين كانوا يتسيّدون بالأمس ثوار اليوم، ويتشدقون بالشعارات الكبيرة التي يمارسون نقيضها، في حياتهم الخاصة، ويتاجرون بقضايا الشعب ومصيره، كل هؤلاء لم يبدُ أثرٌ لأحدهم، بعد انفجار الثورة وأثناءها... فقد تواروا عن الأنظار، وصمتوا مبتلعين ألسنتهم، تاركين من استغلوهم لمصيرهم، وكأن لا دخل لهم بما يجري، على ساحة الصراع، بعد انطلاق الانتفاضة، من أحداث دامية ومريعة...
لقد عرض نبيل عودة لهذا النموذج من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، في قصته غنية المضمون (الزمن الجديد)، وذلك في سياق المنولوج الداخلي الذي رصده في وعي (وليد) البطل الثاني للقصة بعد (سليم)... يحادث (وليد) نفسه متسائلاً، بسخرية مفعمة بالمرارة والغيظ، في آن معاً:
- "أين أولاد المرسيدس؟.. أولاد النعيم... أين اختفى المتفلسفون الذين يفهمون في كل الأمور. أصغرها وأكبرها؟ أبسطها وأخطرها؟ حين يتكلمون عن فتيات المدن، تظن أن لهم في كل شارع معشوقة أو أكثر، فتقتلك الغيرة والحسد للنعيم الذي كان من نصيبهم. وحين يتحدثون في السياسة، يجيبون لك رأس (ريغين) على طبق من ذهب، يفهمون في حرب بيروت، ويتحاورون ويتصايحون وكأنهم أبطالها وصانعو مجدها. لهم نظريات في الطائرات الشراعية، وتحاليل في الوطنية، وانتقادات بلا نهاية حين يجعصون في المرسيدس، بالكاد يشعرون بالخلق من حولهم.
أين اختفى أولئك العباقرة؟" *
ما من جواب على هذا السؤال الاستنكاري النابض بالغيظ، سوى أن أمثال هؤلاء، ومن على شاكلتهم، قد تواروا عن مسرح الأحداث، إثر انطلاقها، وقبعوا في قصورهم ينتظرون مرور العاصفة، وقد أحنوا رؤوسهم لهبوبها الشديد، كي لا تكسر هيكلية تمظهرهم الثوري المزيف، أو تنتزع ورقة التين الدعائية عن عورة مواقفهم، فتكشف حقيقتها... وهم، في حجور انتظارهم، يترقبون تلك اللحظة التي تهدأ فيها حركة الأحداث ونشاطات صانعيها، وتتبلور نتائجها النهائية، ليقفزوا على ما حققه الفقراء بدمهم وتضحياتهم الكثيرة الأخرى، فيدعوه لأنفسهم، كالعادة، ويجيّروه لاسمهم، زوراً وبهتاناً..
وبالطبع، ليس هذا مستغرباً ولا مفاجئاً.. فالانتفاضة، شأنها شأن معظم ثورات شعوب العالم، يخطط لها المفكرون الرياديون، عادة، ويدعون لها، ثم يأتي دور الشرفاء من بسطاء الناس وفقرائهم ليفجروها، مضحين من أجل إيصالها لأهدافها، بالدم والروح، وبالقليل الذي يملكونه من عرض الدنيا... ولكن، ما إن تلوح بشائر النصر، ويحين موسم قطاف النتائج والمنجزات، حتى يقفز الجبناء والمدعون، خارجين من جحورهم التي لبدوا فيها، زمن المعارك ومواجهة الأخطار وبذل التضحيات، ليستولوا على ثمار الثورة، وليتصدروا مواكب انتصارها، وكأنهم هم الذين صنعوا ذلك الانتصار..
لقد أراد نبيل عودة أن يكشف نموذج مُدّعي الثورة هؤلاء، سلفاً، وأن ينبه إلى ما يخططون له، محذراً ومؤكداً في آن معاً، عبر سياق محاولته هذه، أن مخططاتهم ستبوء بالفشل، هذه المرة... وذلك لأن الفلسطيني الذي فتحت الأحداث، وما سبقها من تجارب ومعاناة، وعيه، وأنضجته، لن يسمح للأدعياء بأن يسرقوا منه ثمار ثورته ومنجزاتها..
من جهة أخرى، حاول نبيل عودة، وفي ذات السياق السابق أيضاً، أن يلقي حزمة ضوء على جملة الأسباب والعوامل المستجدة التي غيرت معظم السائد من المعايير القديمة، لتتيح المجال رحباً، أمام شاب فقير ومغمور اجتماعياً، كسليم النجار، مثلاً، أن يغدو زعيماً.. كما حاول أن يبين أيضاً، كيف تجاوزت تلك العوامل بسليم إلى الزعامة، من كانوا الزعماء التقليديين لقريته، مع أنه لا يملك أيّاً من مؤهلاتهم التي تسيّدوا بها القرية، في السابق..
فسليم هذا، وحسب القصة، لا مال ولا حسب ولا نسب... أي في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي/ الطبقي... ومع ذلك، تجاسر على المختار الثري، والقائد التقليدي للقرية، سياسياً واجتماعياً، وتصدى له متحدياً، في ذات الوقت الذي كان فيه وجهاء أهل القرية وكبارها يتصاغرون له ويرجون عونه..:
_ "أصابت اللخمة معظم الحاضرين في ديوان المختار الرحب. عشرات العيون نظرت باستهجان لهذا الشاب المتناسي أصله بأنه شحاذ بن شحاذ، المتناسي مقامه، والمتطاول على عصمة المختار في بيته وبين أهل بلده".*
وحسب إيحاءات سياق القصة، فإن مبعث (لخمة) الحاضرين واستهجانهم، كان تفاجؤهم برؤية ما ألفوه من معايير يتداعى وتختل منظوماته السائدة، على حين غرة، ودونما توقع... وقد كان من الممكن أن ينقلب الموقف، برمته، ضد سليم وما يمثله، لولا قدرته على الثبات، وعلى الاحتفاظ بهدوئه ورباطة جأشه، في مواجهة المختار، وما ولدته هذه المواجهة من إحساس بالمفاجأة في نفوس أهل القرية.
أما مصدر ثبات سليم، فقد كان، بالدرجة الأولى، ادراكه لأهمية الصراع الذي فتحه المختار وأعوانه، واستشفافه لأهمية النتائج التي سيتمخض عنها انتصاره في هذا الصراع... تلك النتائج التي كان، من أبرزها، تغيير مسار تفكير أهل القرية وموقفهم، إلى الجهة النقيض... فطيلة فترة اشتباكه مع المختار، لم يزايله الإحساس بالأمل في أن ينجح بتفتيح وعي أهل القرية، وبدفعهم إلى الخروج من دائرة العطالة التي تشل إرادة الثورة فيهم، وتجعل رد فعلهم على إهانة كرامتهم معوقاً..
وبعد انتصاره في أولى جولات صراعه مع المختار، وصوناً لهذا الانتصار، عمد سليم إلى انتهاج أسلوب عملي، أوصله في النهاية، إلى الصيرورة زعيماً... وكان قوام هذا الأسلوب وأساسه، هو تأكيد الأقوال بالأفعال، وتجسيد الطروحات النظرية وقائع ملموسة... وهكذا، فبعد أن اطمأن الجميع : "لاتزانه وفطنته وصواب رأيه" * وبعد أن : "بات مرجعاً ومستشاراً في كل الأمور" * سلّموا له بالزعامة... وما كادوا يفعلون حتى :
- " فاجأهم ابن الخباز هذا أنه قدها، وأنه لم يضيع وقته في الماضي سدى. فرغم أنه خرج للعمل في سن مبكرة، لمساعدة والده الخباز في إطعام الأفواه الكثيرة، إلا أنه واصل تثقيف نفسه... ربما هو الوحيد الذي كان يسافر للمدينة للبحث عن كتب ومجلات فقط، يقال إنها تملأ خزانة ملابسه وتفيض، ولا يبخل بها على أحد، وماذا كانت النتيجة بعد أن صار "سليم الزعيم غير المتوج للقرية في عهدها الجديد."؟.*
في نظر شاهد عيان كوليد، تلميذ سليم وراوي قصة بطولته واستشهاده، قلب سليم عالم القرية... ذلك أنه :
- "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ. حرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه". *
تُرى، أليس واضحاً، من مجمل ما سبق، إلى أي حد تغيرت منظومات المعايير والقناعات والمفاهيم الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة، قبل الانتفاضة، عما آلت إليه بعدها، وبسببها؟ ثم، أليس واضحاً، أيضاً، إلى أي حد كان كبيراً وعظيماً، دور أولئك الأبطال الواعين والمخلصين في إحداث ذلك التغيير الذي دفعوا حيواتهم ثمناً لنجاحه؟
وبعد، فهنا، وقبل المضي في إضاءة متغيرات أخرى هامة صنعها سليم وأمثاله، ثمة ضرورة للتوقف ملياً، والإشارة إلى ملاحظتين على جانب من الأهمية.. الأولى، تتضمن الإيماء إلى ذلك التداخل العضوي بين أسباب حدوث معظم المتغيرات الحاصلة وبين نتائجها، في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد، مما يؤكد صحة توصيف الانتفاضة، بأنها ثورة شعبية متكاملة، شاملة.. أمتد تأثيرها إلى مختلف البنى المجتمعية الفلسطينية، في الوطن المحتل، وإلى الكثير من القناعات والمفاهيم السياسية القديمة... ومن الأمثلة الواضحة على ذلك التداخل، ما نلمسه، في قصة (الزمن الجديد)، من تداخل بين المتغيرت الاجتماعية والسياسية، بشكل خاص..
فسليم الثائر الملتزم بمبادئ ثورته، والمخلص لوطنه وشعبه، لم ينجح في تنحية الزعامة التقليدية عن موقعها القيادي، على المستوى الاجتماعي، فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً... وذلك حين استطاع إخراجها من دائرة التأثير والفعل، على مختلف المستويات الحياتية، وإصابة دورها، في سائر المجالات بالعطالة التامة... وبالمقابل، نلاحظ أن العوامل التي هيأت لصعود سليم إلى موقع الزعامة الاجتماعية، كانت نفسها التي رشحته لقيادة أبناء قريته سياسياً.. وعلى ضوء هذه الملاحظة، نتبين أنه من المتعذر فصل الحديث عن متغيرات اجتماعية وأخرى سياسية..
الملاحظة الثانية، تتضمن وجوب الانتباه إلى أن سليماً، بمن ترمز إليهم شخصيته القيادية، في القصة، لا يمكن توصيفه كقائد أوزعيم تاريخي..بل هو قائد مرحلة تاريخية متميزة، لا أكثر، تخبئ، في رحمها، زمناً جديداً مغايراً للذي ثار عليه سليم وأمثاله، كما تخبئ، أيضاً، القيادة التاريخية البديلة للقيادة الفلسطينية التقليدية التي نحاها سليم، في القصة، عن موقعها..
وعلى خلفية افتراض صحة هذه الرؤية، فإن المرحلة الراهنة، بكل ما تزخر به من أحداث ومواجهات مصيرية حاسمة، لا تعدو كونها، كما ورد في بداية هذا الفصل، مرحلة المخاض الصعب التي لابد أن تسفر عن زمن جديد بقيادة جديدة... وعلى هذا، فما أشبه دور القيادة الحالية للانتفاضة بدور القابلة... وواضح أن نبيل عودة كان واعياً لهذه الحقيقة، الأمر الذي جعله لا يتردد في ترك بطله سليم يسقط شهيداً، في نهاية القصة... فلو كان يرى فيه رمزاً للقيادة الفلسطينية التاريخية المفترض أن تظفر بعد الانتفاضة وتبقى، لكان من الخطأ موضوعياً، أن يتركه يستشهد... لأن استشهاده يعدّ، عندئد، إشارة مثبطة لمن هم بقيادته من ثوار المرحلة الراهنة...
وبعد، فانطلاقاً من القناعة بأن تغيراً كبيراً قد طرأ على منظومة المعايير والقيم والمفاهيم والقناعات القديمة، على المستويين الاجتماعي والسياسي، وبأن هذا التغير قد أدى إلى تراجع الزعامات التقليدية، عن ساحة الفعل والتأثير، وإلى تضاؤل دورها في شتى المجالات، ربما ليس خطأ التوهم بصيرورة العلاقة بين الجيلين الفلسطيني القديم والجديد، علاقة تداخلية، يذوب في شروطها التفاعلية الخاصة، الجيل القديم في الجديد، ذوباناً تدريجياً... وصحيح أن مثل هذا الذوبان ما يزال جزئياً، لما يكتمل بعد، إلا أن دلائل كثيرة تؤكد قابليته لبلوغ تلك المرحلة... ومثل هذا التوهم، على افتراض صحته، يفسح بدوره، مجالاً للاعتقاد باستحالة احتمال عودة الأوضاع، في الوطن المحتل، إلى ماكانت عليه، قبل انطلاقة الانتفاضة ؛ ليس على هذا الصعيد أو ذاك، وإنما على الصعد والمستويات كافة...
وبين يدي هذه الدراسة قصتان، كلتاهما جعلتا من موضوع ذوبان الجيل القديم في الجيل الجديد، واحداً من محاورها الرئيسة... وهاتان القصتان هما: (الملثمون)( ) لجمال بنورة، و(الرجل الصغير)( ) لناجي ظاهر... وبداية، من الضرورة ملاحظة أن كلتا القصتين قد طرحتا العلاقة بين الجيلين، وماطرأ عليها وعلى منظومة المعايير المتعلقة بها، من تغيير بتأثير الانتفاضة، من منظور مختلف تماماً عن ذاك الذي اعتمده نبيل عودة، في قصة (الزمن الجديد)... بتعبير أوضح، لم تطرح القصتان هذه العلاقة ومتغيراتها، كعلاقة صراعية، مشحونة بتوترات الكراهية والضغينة، شأن أي علاقة صراع يجري بين ضدين متخاصمين، بل طرحتاها كعلاقة إيجابية، يحكمها منطق الرغبة الصادقة في التعاون بين أبناء الجيلين، لإيصال الانتفاضة إلى أهدافها... وتغيب، في طيات هذه الرغبة، حكماً، أثرة الأنا الفردية التي تحرك الزعامات التقليدية، في العلاقة الصراعية التي لحظنا مثالاً عليها، في (الزمن الجديد).
والحقيقة أن خلود الثائر الحق، بعد استشهاده، في ضمير من يليه من أهله ورفاقه، ليس جديداً، بل هو قديم... قديم قدم المعركة الأزلية التي وجد الإنسان نفسه يخوضها، على ظهر الأرض، ضد قوى الظلم والشر، بشرية كانت هذه القوى، أم كانت خرافية، كما هي في بعض أساطيره الغابرة.. ومصدر هذا الخلود بالدرجة الأولى، تقدير الناس لمن ضحى بحياته من أجل أن يعيشوا حياتهم، بعده، أحراراً كراماً ومطمئنين..
وبالطبع، لا توجد وسيلة لتخليد ثائراً استشهد، أعظم من التزام رسالته، ومن متابعة درب نضاله الساعي إلى تحقيق أهداف هذه الرسالة التي قضى قبل أن يراها وهي تتحقق فعلاً.. وهذا ما كثف نبيل عودة الإشارة إليه، في خاتمة قصته (الزمن الجديد)... وذلك في صيغة النداء الحار الذي وجهه وليد لأهل قريته، عقب تيقنه من استشهاد رفيق دربه وزعيمه سليم فقد راح وليد يجوب أزقة القرية مؤكداً:
- " سليم لم يمت.. سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد... سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان.. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر... سليم لا يموت. سليم لا يموت.. لا يموت.. لا يموت..".*
لعل من الواضح أن مضمون هذا النداء الذي ختم به نبيل عودة قصته، يشف بما حواه من دلالات رمزية عن الشرط الذي لا بد منه لاستمرار الشهيد حياً.. وهذا الشرط هو التزام من يليه برسالته التي استشهد وهو يسعى إلى إيصالها لأهدافها، إن لم تكن قد وصلتها بعد، أو الالتزام بالحفاظ على ما وصل إليه الشهيد من تلك الأهداف، والعمل على بلوغ الباقي منها... فبهذا الالتزام أولاً، يكون إكرام الشهيد، وبه وحده يتمكن أي ثائر من عبور حدود الفانية إلى رحابة الخلود الأبدي..
وربما، وانطلاقاً من هذه الإعتبارات التي يؤكد جميعها أن الشهيد حي خالد، يدرك الفناء جسده، ويبقى عاجزاً عن المساس بفعله وآثاره، استقر في روع الناس ووجدانهم، أن من الخطأ استقبال خبر الشهادة أو جثمان الشهيد، بذات طقوس الحزن والحداد والتفجع التي يستقبلون بها خبر الموت العادي وجثمان الميت العادي... فقد درج معظم الناس، وخصوصاً في الإطار المجتمعي للفلسطينيين، داخل الوطن المحتل وخارجه، على عدم البكاء والعويل والندب، لدى سقوط أحدهم شهيداً.. إذ كيف يُبكى ويندب من استطاع اختراق الفناء، وصار خالداً؟ أليس الأجدر أن يستقبل خبر معجزة كهذه، وكذلك جثمان صانعها، بالزغاريد؟
بلى.. ولهذا، وبذات الطقوس التي يقوم بها الناس حين يزفون عريساً منهم إلى عروسه، يستقبلون جثمان شهيدهم ويشيعونه... وهذه المقاربة بين العريس والشهيد، ليست مجرد تعال على صراخ الألم وتباريحه، أو مكابرة على أوجاع الفراق وجراح الثكل واليتم، بل هي تعبير رمزي، عن وعي جماعي عميق، يربط بعلاقة وثيقة بين الشهادة والحرية والخير والسلام... إن هذه المقاربة تعبير عن اعتقاد شعبي راسخ بأن الشهادة هي إعلان عن الخلاص القادم وبشرى تؤكد قرب صيرورته واقعاً... هذا الخلاص الذي ضحى الثائرون بأرواحهم من أجل أن يعيشه أهلهم وشعبهم وأرض وطنهم... وثمة بعد ثالث لهذه المقاربة بين الشهيد والعريس، تتمثل في وعي الناس، بعلاقة وثيقة أخرى بين الشهيد وأرض وطنه.. فالأرض في المعتقدات والمفاهيم العربية الأصيلة هي عرض المرء وعنوان شرفه.. ومن لا يضحي من أجل عرضه إذا اغتصب..؟ ومع التطور الدلالي لهذه العلاقة الرمزية، صارت الأرض هي الحبيبة، وصار الشهيد هو عريسها الذي افتدى حريتها وخلاصها بدمه لنتأمل هذا المقطع الصغير من قصة (الزمن الجديد):
- ".. فجأة تنطلق زغردة من سماعة الجامع:
-عريسكم حسن استشهد يا شباب..
عشرات الزغاريد في كومبارس غريب الأطوار... تصفيق رتيب وغناء للعريس من قلب الجامع. هل هي القيامة؟ هل اختار الله هذه اللحظات لقيام الساعة؟
-مبروك يا أم الشهيد.
وزغاريد.. وغناء.. وزغاريد.."*
إنها صورة مثيرة للدهشة والإعجاب، في آن معاً. صورة تثير القشعريرة في بدن القارئ انفعالاً وتأثراً.. ومصدر الإثارة فيها، لا يكمن، فقط، في كونها نقيض الصورة المألوفة لاستقبال خبر الموت العادي، في المجتمع العربي، بل في كونها، أيضاً مؤشراً قوي الدلالة على إمكانية استمرار عرب الوطن المحتل في ثورتهم، حتى تحقق القسط الأكبر من أهدافها، إن حالت الظروف التآمرية القاسية دون تحققها كلها.. ذلك أن شعباً له مثل هذه القدرة على العطاء اللامحدود، من البدهي أن تزداد امكانيات استمرار ثورته ونجاحها، كلما ازداد عدد ضحاياه وشهدائه..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قصة :" الزمن الجديد " لنبيل عودة
** قصة : " الحاجز " لنبيل عودة ، راجع مقال ( قراءة في قصة الحاجز لنبيل عودة ) .

الأربعاء، فبراير 10، 2010

قراءة في قصة "الحاجز"* لنبيل عودة

محمد توفيق الصواف

(عن كتابه : الانتفاضة في أدب الوطن المحتل)

يقود تحليل مضامين بعض القصص التي ألفت، داخل الوطن المحتل، عن الانتفاضة ( القصد انتفاضة الحجارة ) ، إلى امكانية الزعم بأن مؤلفيها، قد أدركوا عمق الصلة بين ممارسات السياسة الاضطهادية التي نهجها الاحتلال الاسرائيلي/ وما يزال، ضد العرب في الوطن المحتل، وبين حتمية انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية، وتحولها إلى ثورة شعبية شاملة، ضد نتائج تلك السياسة العدوانية، وضد الأساليب العنصرية الوحشية التي تنفذ بها... لقد أدركوا أن تلك الثورة العارمة كانت، بالدرجة الأولى، وليدة تراكم سلبيات تلك النتائج والأساليب، على مختلف صعد الحياة التي أكره الإنسان الفلسطيني على أن يحياها في ظل هيمنة استعمار استيطاني لا يرحم... "فالتراكم يولد الانفجار"، كما يقول القاص نبيل عودة، في قصته "الحاجز"‏

ففي هذه القصة القصيرة الرائعة التي تعدّ من بواكير النتاج الأدبي الذي استلهم أحداث الانتفاضة، حسبما يستدل من تاريخي كتابتها ونشرها(1) ، وأثناء جولان مؤلفها في العقل الباطن لبطلها -الطبيب الشاب أحمد، نلاحظ شروع الأديب الفلسطيني في تلك المحاولة التساؤلية الشاقة والمعقدة.. شروعه في رحلة البحث عن أسباب الثورة العارمة التي انتظر وشعبه ميلادها، منذ عشرين سنة..‏

ومن الخطوة الأولى، في مسيرة هذه الرحلة، يتجنب نبيل عودة تأكيد الايحاء بعفوية انطلاقة الانتفاضة، هذا الايحاء الذي يثيره في الوهم، حادث الإعتداء الاستفزازي الذي قام به جنود الاحتلال الإسرائيلي ضد مجموعة من تلاميذ المدارس في مخيم جباليا بقطاع غزة، صباح يوم التاسع من شهر كانون الأول عام 1987، خرجوا يرجمون السيارات الإسرائيلية بالحجارة، تعبيراً عن احتجاجهم على حادث الشاحنة الإسرائيلية التي دهست، قصداً، في اليوم السابق، عدداً من العمال العرب، على مفرق جباليا -بيت حانون، وأودت بحياة أربعة منهم على الفور، في حين جرحت سبعة آخرين، على مرأى من عشرات العمال والأهالي العرب الذين كانوا متجمعين عند المفرق نفسه.. فقد هاجم جنود الاحتلال التلاميذ العرب بوحشية، وحين لم تفلح هذه الوحشية في تفريقهم، أطلق قائد القوة العسكرية الإسرائيلية الرصاص على التلاميذ الذين طوقوا عساكره، فقتل شاباً صغيراً، وجرح ستة عشر آخرين، استشهد أحدهم، بعد نقله إلى المستشفى.. وحين هرع سكان المخيم جميعاً، غاضبين، ليحملوا جثمان الشهيدين من المستشفى، في موكب ضخم، ردت قوات الاحتلال باطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع عليهم، ثم فرضت نظام حظر التجول.. وكان هذا إيذاناً بإنطلاق شرارة الانتفاضة التي امتد لهيبها من غزة إلى الضفة الغربية فالقدس....(2)‏

لقد أدرك نبيل عودة، وبعمق أن حادث الاعتداء على التلاميذ بكل ما فيه من وحشية وإثارة للاستفزاز، ما كان بقدرته أن يصنع، وحده، ثورة شاملة وعظيمة كالانتفاضة، لو لم يكن المناخ مهيأً لاستقبال شرارة انطلاقتها.. وإذاً فالذي صنعها ووفر لها امكانية الاستمرار، كان تراكم الحوادث المشابهة، على مدى عشرين سنة.. "والمؤكد أيضاً أن انفجار التلاميذ سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد.. إنما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة..(3)‏

وكالباحث الموضوعي الذي يؤيد نتائج بحثه ويدعمها بالشواهد والوثائق، يقدم نبيل عودة نماذج من تلك الاهانات، ومن صور الممارسات القاسية الأخرى التي عاناها شعبه، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتي تحولت إلى ضغوط أدى تراكمها، في النهاية، إلى انفجار الانتفاضة... "أن تعيش تحت طقطقة الأعقاب الوحشية، أن تعيش طفولتك وشبابك أمام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة.. أن تبلع كل يوم مرارة انتظار الفرج الذي لا يبدو أنه قريب.. أن تعيش حالماً بالفرج الإنساني، بينما واقعك مليء بالترقب المقيت لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لاضابط له..(4)‏

نعم، إن ديمومة الإرهاب، وكابوس التهديد الدائم، والاذلال العنصري المتواصل للكرامة، مع ما يصاحبه من نظرات استعلاء وحقد واحتقار، على المستويين الشخصي والقومي، والخوف من قدوم الموت المجاني برصاصة لامبالية، دون أي مسوغ جرمي معقول، واليأس من قدوم الفرج دون تضحيات؛ كل هذا، وكثير غيره مما يشبهه، يتجمع، في النهاية، ليشكل منظومة الأسباب والعوامل التي تجعل الانفجار على استمرارية هذا الجو الكابوسي، حتمياً، لا مناص من حدوثه، مهما كانت العوائق والعقبات كثيرة وقوية، ومهما كان حجم التضحيات المحتملة كبيراً.. وذلك، متى بلغت القدرة على الاحتمال زباها... متى طفح كيل الصبر وفاض...‏

وإذا أضفنا إلى ذلك كله، الرفض الفلسطيني القاطع لوجود الاحتلال الإسرائيلي منذ حدوثه، بأي صورة كان، وأياً كانت سياسته وممارساته، لأدركنا أن الثورة قد تفجرت، أصلاً، من كينونة هذا الرفض نفسه، وجاءت ممارسات الاحتلال القمعية لتغذي عوامل انفجارها...‏

******

ومن الرجوع إلى ما أمكن الحصول عليه من قصص الانتفاضة، يتبين أن عديدين من مؤلفيها قد أثار اهتمامهم موضوع تعرض الفلسطيني للقتل العنصري، على أيدي سلطات الاحتلال والمستوطنين... لكن أكثر من شغل هذا الموضوع المساحة الأكبر من اهتمامه، اثنان: نبيل عودة، في قصته "الحاجز"، ومحمد نفاع، في قصته"الجنرال"..‏

في قصته "الحاجز" (5) التي سبقت معالجة جوانب من مضمونها، في الفقرة الأولى من هذا الفصل، يطرح نبيل عودة هذا الموضوع، من زاوية رصده للحظة التحول التاريخية الحاسمة التي مرّ بها وعي الإنسان الفلسطيني، قبل أن ينطلق ثائراً، معلناً رفضه القاطع لاستمرارية العيش في كابوس الاحتلال العنصري... فبعد سنوات طويلة مرهقة من معاناة هذا الإنسان لشتى ضروب العسف والقمع والإرهاب، محتملاً ما يحل به من ويلات، على أمل أن يأتيه الفرج ذات يوم من خارج الحدود، يدرك، متأخراً، عبثية استمراره في موقف المنتظر لذلك الفرج... ثم يبدأ بمراجعة حصاد انتظاره خلال السنوات الطويلة الماضية، فإذا بالنتائج فادحة مرعبة... فانتظاره الطويل لم يمكنه، بعد عشرين سنة، إلا من قبض الريح،... والاستهانة بحياته وعذاباته ومستقبله، إلى درجة تكاد لاتصدق... فقد أضحى قتله، مجرد حادث عادي، لا يهز ضميراً ولا يثير عصباً، في كيان أحد... أما عذاباته وآلامه الكثيرة، فما أهونها على الناس، وكذلك مستقبله ومستقبل أجياله القادمة... وهنا، أدرك الفلسطيني، بوضوح فاجع، أن مايعنيه ويعانيه لا يهم أحداً غيره... وبالتالي، لن يغيّر أحد غيره، أيّ وضع من أوضاعه المأساوية، أو من واقعة المتخم بالخوف والقلق، جراء عيشه في مناخ احتمالات التعرض لشتى ممارسات الارهاب والقمع والإذلال، وبشكل خاص، احتمال التعرض للقتل، في أي لحظة، برصاصة حاقدة يطلقها أي عنصري إسرائيلي، جندياً كان أو مستوطناً عادياً...‏

بتعبير آخر محدد الدلالة أكثر، أدرك الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، أن انتقاله من موقف المتوقع لاحتمال أن يقتل مجاناً، وسط إذلالات الترقب والخوف من غدر القاتل العنصري، إلى موقف الإقدام الإرادي على الموت، ليس انتقالاً ضرورياً، من أجل غد أفضل فحسب، وإنما هو ضروري أكثر للحيلولة دون استمرار هزلية القتل المجاني، بالنسبة للأجيال الفلسطينية القادمة... تلك الهزلية التي صار قتل الفلسطيني، حسب معاييرها، مجرد حادث عادي، لا يعبأ به أو يهتز له أحد... وهذا ما قصد إليه بطل قصة الحاجز، حين قال، في معرض تعليله لحتمية انطلاقة الانتفاضة، ولضرورة استمرارها: "يجب أن لا نسمح بتحويل قتلنا إلى عادة... إلى روتين يومي.."(6)‏

وبالطبع، ليس المقصود بانتقال الفلسطيني إلى موقف الإقدام الارادي على الموت، أن يمارس الانتحار، بل أن يضع حداً لمجانية موته... أي أن يتحول الموت، في وعيه، من كونه تلك النهاية المرعبة لحياته، إلى التصيّر بداية لحياة جديدة... وهذا يعني أن يصير موته وظيفياً، أي فعلاً إرادياً هادفاً إلى تحقيق غاية نبيلة، أي استشهاداً... ذلك أن حيوات الشهداء الذين يقضون على دروب الوصول إلى شمس الحرية، تتحول إلى رصيد ثمين، ينمو وينمو، في خزانة المستقبل الفلسطيني، ليبزغ، في النهاية، فجر خلاص تضيئه تلك الشمس، في سماء وطن جديد، تعيش فيه الأجيال الفلسطينية القادمة، بحرية وأمن واطمئنان...‏

وهكذا، وأدراكاً من ثوار الانتفاضة لوظيفية موتهم الاستشهادي نراهم "يواصلون التحدي في الشوارع رغم الجند المدججين بالسلاح.."(7) "، أي على الرغم من عدم التكافؤ المذهل، بين حجارة وطنهم المحتل، وأحدث آلات القتل والتدمير التي يقارعهم بها عدوهم العنصري... وهم، في خضم هذا التحدي الصعب، يرفضون أن يقبضوا ثمن صمودهم... بل يدفعون دمهم ثمناً..."(8) للغد المأمول... لخلاص الإنسان الفلطسيني القادم... لميلاد الوطن الحر..‏

****
من متابعة تطور أحداث القصة، وتحليل محتوى مضمونها، وحتى نماذج الشخصيات الرئيسة فيها، يتبين أن مؤلفها قد قصد قصداً، إلى محاولة نفي مقولة التعايش السلمي التي يروج لها البعض، من عرب ويهود... مؤكداً عبر النهاية التراجيدية التي ختم بها قصته، أن نفي هذه المقولة يمكن أن يُعد بين أبرز بنود رسالة الانتفاضة، لأنه المرادف الوحيد والمطلق لهدف هذه الثورة العظيمة، هدفها/الغاية المتمثل بالسعي إلى التحرير الكامل للأرض الفلسطينية وشعبها...‏

ولعل من المثير للإهتمام والإعجاب، في آن، محاولة نبيل عودة اقناع قارئه بموضوعية نفي تلك المقولة ومصداقيته، بأسلوب يعتمد الإيحاء بدل المباشرة، وذلك من خلال عرض الموقف الهاملتي المتردد لبطل قصته / الطبيب الشاب أحمد الذي وجد نفسه، فجأة، أسير حيرة قاسية، بين رغبته في تلبية نداء واجبه الإنساني، كطبيب، أمام حالة اسعافية يعانيها عدوه، وبين الاصغاء والإنصياع لصوت واجبه الوطني والقومي، كفلسطيني، في حالة حرب مع ذلك العدو المحتاج لنجدته الإسعافية... فقد عمد عودة إلى عرض هذا الموقف الصعب والحساس، في إطار حوارية، تدور بين بطل القصة ونفسه، في تلك اللحظة الحرجة.... لننصت إلى صوت هذا الحوار الصراعي الذي أداره المؤلف، على مسرح وعي بطله أحمد؛ بين نداءي واجبين، كلاهما جليل ومقدس...‏

"...التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكابوي* منبطحاً في منتصف الشارع ينزف دماً، ويكاد يكون بلا حراك... احتار بين أن ينطلق بسيارته مبتعداً أم يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دماً... واستمر أحمد في حيرته...‏

-هل أسعف ذلك الكابوي الثخين؟!‏

تردد مرة أخرى هذا السؤال. ورد على نفسه:‏

-إنه عدو حاقد..‏

-إنه مجرد إنسان ينزف.‏

-أنت ضعيف أمام منظر الدم البشري؟‏

-أكرهه كعدو... لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟‏

-ليذهب إلى الجحيم.‏

-ليس ذنبه أنه وحش!!..مساعدة إنسانية قد تغيره.‏

-وهل يتحول الذئب إلى شاة؟‏

-لا تخلط..‏

-التلاميذ الجرحى بالشوارع... الدم المسفوك في المخيمات. أحذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم... أطفالنا المقتولون بلا رحمة...‏

-الوقت لا يسمح بالجدال... أسعفه وبعد ذلك نرى..‏

-هل كانوا هم يسعفونني، لو كنت أنا المصاب؟‏

-أنت طبيب... والطب مهنة إنسانية!‏

-ولكنني فلسطيني، والحديث هنا عن عدو... وليس مجرد عدو... أربعون سنة ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا!!‏

-كفى، كفى!!سنعالج قضية فلسطين فيما يعد. إنه ينزف ولا ننسَ أنه بشر مثلنا "إنسان!‏

-إنسان..؟ كم يضحكني هذا الوصف.‏

-الوقت لا يسمح للسخرية.. انقذ الإنسان الذي فيه..‏

-لوكان فيه بقية إنسان، لرفض الاحتلال. لرفض أن يمارس العنف ضد شعب مشرد أعزل.‏

-ليس ذنبه..‏

-وهل ذنبنا أننا نطالب بحقنا؟‏

-لا تفقد إنسانيتك. تذكر أن قوتنا في إنسانيتنا.‏

-أعرف... ولكني لا أستطيع أن أنسى أنه عدو شرس، لا يرحمنا... وما يحدث الان يثبت ما أقول..‏

-أنت طبيب، وهو مجرد جندي مأمور..‏

-بأي حق أساعد جندياً عدواً... ليقف مجدداً ويوجه سلاحه نحو شعبي؟!‏

-لو كان حل المأساة يتعلق بهذا الملقى ينزف دماً، لقلت لك ساعد على أن يموت، ولكن لا تنسَ الإنسان الذي فيه؟‏

-بأي وجه سألتقي زوجتي، بأي يدين سأرفع ابني... ماذا أقول لجيراني... ماذا أقول لمن ثكلوا عزيزاً عليهم..؟‏

-إنسانيتنا هي قوتنا، إذ فقدناها... فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا.‏

-وهل يصح لهم ما لا يصح لنا؟!‏

لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي.‏

-الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل!‏

-نتجادل فيما بعد... أنت طبيب، وهو ملقى ينزف دماً. لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام.‏

-أعرف ذلك، وأعرف أكثر أنه عدو لا يرحم يضحكه لون دمي، جراحي تزيد شراسته، وعذابي يثيره هزأ، وفلسطينيتي تثير أدنى مشاعر السادية في نفسه.‏

-الجدال الآن عقيم... تبقى حقيقة واحدة كبيرة. لن نسمح لأحد بأن يسرق منا إنسانيتنا، وأثبت ذلك الآن... أسعفه!(9)‏

وينتصر نداء الواجب الإنساني، في القصة، فيسعف بطلها عدوه المصاب وينقذه من الموت... ولكن ماذا يكون جزاؤه على هذا الصنيع النبيل، هل حفظه له عدوه جميلاً، راح يتحين الفرص ليرده له بمثله أو بأحسن منه، أم كان جزاؤه، مماثلاً لما لقيه مجير أم عامر الضبع) في التراث العربي؟‏

قبل الإجابة عن جملة هذه التساؤلات، لا بد من الإشارة إلى أن ثمة مسوغين أباحا، في نظر الباحث، إيراد الحوارية السابقة، بنصها الكامل، على طوله... وأول هذين المسوغين: كون تلك الحوارية وحدة عضوية متماسكة، من الناحية الفنية، بمعنى أنها، بنيوياً، تبدو غير قابلة للتجزيء أو الحذف أو الاختصار. أما المسوغ الثاني، فيتمثل بكون مضمونها زاخراً بالعديد مما يمكن أن يضيء جانباً من فحوى رسالة الانتفاضة، على أكثر من مستوى... فهي إضافة إلى قدرتها الإيحائية الرائعة على إضاءة موقف الإنسان الفلسطيني من العدو الإسرائيلي العنصري، على المستويين الوطني والقومي، تمتلك، مضمونياً، قدرة مماثلة على إضاءة الموقف الإنساني لبطل الإنتفاضة... وهو الموقف الذي يعد واحداً من أبرز خصوصيات رسالة هذه الثورة، ومن أوضح السمات المميزة لفعالياتها كافة، على نحو ما سنلمسه، مفصلاً، في الفقرة التالية من هذا الفصل...‏

وعودة إلى وصل ما انقطع... إلى الإجابة المؤجلة عن التساؤلات الآنفة... عن الجزاء الذي ناله الطبيب الفلسطيني أحمد لقاء صنيعه الإنساني بعدوه..‏

في الواقع نجح نبيل عودة في بناء المفارقة الصارخة بين إنسانية الإنسان الفلسطيني، وبين عنصرية عدوه الإسرائيلي، وكان نجاحه في بنائها بطاقة عبور قناعته التي انطلق منها، كأديب، إلى قناعة قارئه وعقله... فعن طريق هذه المفارقة، ابتعد عن المباشرة في طرح قناعته باستحالة التعايش السلمي بين العنصري والإنساني، وبابتعاده هذا، ترك لقارئه حرية محاكمة الفكرة، وحرية الحكم عليها أيضاً... وذلك حين وضع أمام باصرته حدثاً مختاراً من صميم واقع الحياة التي يحياها الفلسطيني، في جو الاحتلال الإسرائيلي، وكابوسه العنصري المستمر...‏

فعلى الرغم من كل ما لاقاه الإنسان الفلسطيني، من عنت التمييز العنصري، على يد المحتل الإسرائيلي، بل في ذروة تعرض هذا الإنسان لممارسة القمع بحقه، ولاذلال كرامته، لم يملك، حين رأى مضطهده، ملقى على الأرض ينزف دماً، إلا أن يتخلى، ولو مؤقتاً، عن كراهيته لهذا العدو، والتعامل معه كإنسان، "لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام"(10) ومن هذه الزاوية الدقيقة، في الرؤية، مدّ من كان قبل دقائق عرضة للإذلال والإهانة، مدّ يده لينقذ الإنسان الكامن في كيان عدوه..." أنقذ الإنسان الذي فيه"(11)‏

وبانقاذه، أتم نبيل عودة الطرف الأول من معادلة المفارقة التي صمم بناءها باتقان...ثم جاء دور الطرف الثاني... دور رسم صورة ردّ الفعل الإسرائيلي، على نبالة الفعل افلسطيني وإنسانيته... كيما يضع القارئ أمام الحقيقة، وجهاً لوجه، دون أن يقولها له بصياغة مباشرة...‏

ففي نهاية القصة، يجمع واقع الاحتلال واستمرارية ممارساته العدوانية، بين الطبيب الفلسطيني وعدوه الذي أنقذه هذا الطبيب بالأمس القريب، في موقف مشابه.. أي أمام حاجز عسكري أقامه ذلك العدو للإيقاع بأبناء الأرض التي اغتصبها... ومن أعماقه الإنسانية الصافية، تهيأ للطبيب أحمد الذي كان يقود سيارته برفقة زوجته التي يحبها، أن الكابوي الإسرائيلي قد أمر جنوده بالسماح لسيارة الطبيب أن تعبر الحاجز دون تفتيش، كنوع من رد الجميل... وفي ذات الوقت الذي راح عقل الطبيب يحاكم هذا الرد على ضوء قناعاته الوطنية والقومية، ويرفضه ثمناً لصنيعه الإنساني السابق مع عدوه، "يرفض هذا الشكر والإعتراف بالجميل"،(12) لأنه يتنافى مع الدافع الإنساني الذي كان وراء انقاذه لحياة عدوه، عدوه الذي "لم ينقذه لأنه ضابط، بل لأنه إنسان"،(13) في ذات الوقت، ومن خلال الينبوع الإنساني الصافي المتدفق في أعماقه، لمح النقيض... عبر وجدانه كبرق خاطف مثير، أيقظه من سباحته في أوهام الطيبة والنقاء، ورده إلى قناعته التي كوّنها بتجربته المرة في معاناة الاحتلال، قناعته التي صاغها وعيه الوطني والقومي، في الحوارية السابقة سؤالاً حاداً، طرحه على ضميره الإنساني" وهل يتحول الذئب إلى شاه"؟(14)‏

للوهلة الأولى، رفض ما خطر له، رفض تصديق ملامح الذئب الذي يتهيأ للإنقضاض على منقذ حياته، والتي رآها في وجه الضابط الإسرائيلي... رفضها متسائلاً بدهشة: "هل يعقل أن يكون الإعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز أن يتصور ذلك."(15) لكن التصرف الوحشي الحاقد سرعان ما اضطر عقل الطبيب إلى التخلي عن عجزه، والصيرورة إلى القناعة بالبرهان الحسي، عما كان عاجزاً عن تصوره... كان ذلك، حين اخترقت سمعه " أصوات طلقات تخترق زجاج سيارته"(16) وفي لحظة رهيبة، تنتاب الإنسان الحائر بين التصديق والتكذيب لما يظنه، في تلك اللحظة التي تفصل بين التصور والحقيقة بإدراك الواقع الملموس، التفت الطبيب، لا إرادياً إلى الوراء، مستطلعاً مصدر النار، فإذا به يرى "الضابط إياه يقف أمام الحاجز، شاهراً مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية "(17) ولكي يكمل نبيل عودة إحساس قارئه بالصدمة الفاجعة، وإثارته بها، يضع إحدى تلك الرصاصات العنصرية الحاقدة، في رأس الزوجة المسكينة... "أثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما حدث، توسعت حدقتي عينيه وصعق لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته.".(18)‏

وهنا، في هذه اللحظة، تداعت كل الأوهام دفعة واحدة، في رأس الزوج المفجوع، الزوج الإنسان الذي أنقذ بالأمس حياة قاتل زوجته اليوم.. ومع تداعي الأوهام التي هيأت له بالأمس إمكانية صيرورة الذئب شاة، عبر معالجة ذئبيته بصنيع إنساني، انطلق خياله في رحلة مرهقة من التصورات التراجيدية، "فرأى طفله يركض وراء النعش ينادي بأقوى صوته "ماما"..‏

لغم ينفجر بالصغير فيرتفع عمود دخان. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي، يبحث عن طفله فلا يجد إلا بقية رجل بحذاء طفولي ممزق.".(19)‏

وهربا من هذا التصور وأمثاله، وإيماناً قوياً بضرورة منع صيرورته واقعاً، بأي ثمن، يقرر أن يدق بنفسه، أول المسامير في نعش ذلك الذئب العنصري، وأن يسدل بيديه اللتين أنقذتاه يوماً، الستار على استمرارية هزلية قتل الفلسطيني مجاناً ... ففي واقع تسوده شرعة الغاب وقوانينه، لا مجال للتسامح، أو الطيبة، أو الإنسانية الزائدة مع الذئاب... لأن "الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل"(20) أحياناً..‏

ومن منظر زوجته المغدورة، وحيلولة دون أن يلقى ابنهما نفس المصير يوماً، نراه "يشغل موتور السيارة، ويأخذ المقود إلى أقصى اليسار، وينطلق بالسيارة مبعثر الذهن، دمه يسح على وجهه، نحو الحاجز، والألم يكاد يمزقه من الداخل، والضابط الكابوي أمامه.."(21) وإلى أين، ولماذا؟ عقله مشلول، عاجز عن الإجابة... الإجابة تصوغها الآن مشاعره المهتاجة، وألمه الفاجع، وترسمها على صفحة مخيلته المضطربة صوراً مرعبة... "طفله يضحك، ومع ضحكه يتدفق الدم... تعابير عقيمة تتصارع في ذهنه، زوجته لا تزال تبتسم... وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي..."(22) ومحاولة يائسة منه لنفي هذه الخطيئة عن نفسه، لنفي الإحساس الرهيب بأنه السبب في قتل زوجته، ولجعل القاتل العنصري يدفع ما لا يتوقع دفعه من ثمن لجريمته" يضغط بقدمه على دواسة الوقود حتى يجعلها تلامس أرضية السيارة... يديه تتسمران فوق المقود، ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط .. الكابوي الذي يلوك سجائره ... النظرات التي تحمل الكراهية خلقة..."(23) ويحصل اللقاء الوحيد المعقول والمنطقي بين الضدين... بين الإنسان الفلسطيني وعدوه العنصري..‏

وبهذه النهاية التراجيدية، يكون نبيل قد وضع أمام بصيرة قارئه وعقله، الطرف الثاني من المفارقة... ودون أن يقول له ما حدث بعد انطلاق بطله بالسيارة تجاه الضابط القاتل، يتركه، وكأنما عجز عن متابعة القص، لشدة حزنه وتأثره وانفعاله، يتركه ليحكم بحرية على ما يتوهمه البعض من إمكانية تعايش الذئب الإسرائيلي العنصري مع الإنسان الفلسطيني، تعايشاً سلمياً، ليصل -أي القارئ- بنفسه إلى القناعة باستحالة تجسد هذا الوهم واقعاً.‏

بتعبير آخر، نجح نبيل عودة، من خلال عرض الموقف الإنساني لبطل قصته، ومن خلال عرض رد الفعل الإسرائيلي النقيض على هذا الموقف، ومن توظيف العرضين في سياق حدثي معقول ومتماسك، نجح في تفجير مقولة التعايش السلمي) كاحتمال ممكن، وفي دفعها إلى حدود المستحيل، مهما يكن الإطار السياسي المقترح لتطبيقها.‏

وعلى خلفية افتراض صحة القناعة باستحالتها، يمكن قراءة عنوان القصة، على مستويين: ظاهري ورمزي... على المستوى الظاهري، البسيط والمباشر، لا تتعدى دلالة العنوان الحاجز العسكري الإسرائيلي الموصوف، في القصة، شكلاً وأهدافاً... أما على المستوى الرمزي، فيصبح ذا دلالة أبعد وأعمق... إنه الحد الفاصل والثابت بين المعتدي والمعتدى عليه، بين العنصري والإنساني... وبالتالي فهو حاجز قوي بين ضدين... حاجز مادي ومعنوي في آن معاً..‏

وبالطبع، سيظل هذا الحاجز قائماً بينهما، ما دام وجود أحدهما يشكل عدواناً مادياً مستمراً على وجود الثاني، وهضماً لحقوقه المشروعة، ونكراناً ونفياً لحريته وإنسانيته... وبالتالي، فإن الحالة الوحيدة التي تسمح بزوال هذا الحاجز، هي زوال حالة العدوان أولاً... أي تحرير الأرض الفلسطينية من غاصبها... أما لقاء الضدين تحت مظلة استمرارية العدوان، فلا يمكن أن يتمظهر على شكل تعايش سلمي، وإنما على شكل صراع عنيف، وهو ما انتهى نبيل عودة إلى تأكيده في خاتمة قصته، ليؤكد من خلاله لا معقولية السلام بين الذئب العنصري والإنسان...‏

اعترض الطبيب أحمد لتفتيشه. والمؤلف يشبهه بـ كابوي أمريكي متغطرس، في اكثر من موضع عبر سياق القصة... وهو، ولا شك، تشبيه مقصود، من السهل فك الدلالة الرمزية لشيفرته...‏
، ثمة جانب آخر للشهادة، أشار إليه نبيل عودة في قصته (الحاجز) وهذا الجانب، يبرز القدرة الكبيرة لفعل الشهادة، في تغيير قيم الواقع.. كما يبرز لوناً معروفاً من ألوان إكرام الناس لذكرى شهدائهم، ومن ألوان تقديرهم لفعل أولئك الشهداء ونضالهم... يقول عودة على لسان بطل قصته الطبيب أحمد..
".. والشهداء يكرّمون بشتى الوسائل، فأسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة قد تسمى بأسمائهم، ومواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة، تصارع الضياع، تصارع من يدفع ثمناً للقيم البشرية.".(24)
واضح أن الربط بين إطلاق أسماء الشهداء على المواليد الجدد وعلى شوراع ومواقع، وبين التغييرات الكثيرة الهامة التي أحدثها أبطال الانتفاضة بنضالهم، إنما هو ربط دلالي يشير إلى أن إطلاق الأسماء هو جزء من محاولة تغيير رموز واقع ما قبل الانتفاضة وثوابته، برموز جديدة، وليس محاولة إكرام الشهداء فقط... فأسماء هؤلاء الشهداء قد تحولت في وعي الشعب ووجدانه إلى رموز قوية الدلالة على فترة ناصعة من فترات صموده، وعلى منظومة جديدة من القيم والمفاهيم والأفكار هي نقيض منظومة (العفونة) السابقة.

أولاً البناء الفني/ الدرامي:
باستثناء بعض القصص، مثل (الزمن الجديد، الحاجز، نهاية الزمن العاقر ( لنبيل عودة ) والجنرال ( لمحمد نفاع ) وطبق حلوى ( لمصطفى مرار )، فإن البناء الدرامي للقصص التي نوقشت مضامينها، يبدو شاحباً ويعاني بعضها من اضطراب في الحبكة، ومن ضعف في القدرة على الايصال وصحيح أن حديث الباحث عن بعض هذا الضعيف، ربما أوهم القارئ بجودة القصة فنياً، كما هو الحال لدى قراءة ما كتبه عن دلالات خاتمة قصة (الرجل الصغير) لناجي ظاهر. إلا أن الحديث الذي كتب عن تلك الخاتمة، يظل قراءة لمضمونها وإيحاءاته، أكثر منه اعترافاً بفنية رفيعة المستوى لبناء القصة الدرامي.
وثمة ملاحظة أخرى حول البناء الدرامي، من ناحية نوعيته. وهذه الملاحظة تزعم أن غالبية القصص المدروسة ذات بناء درامي تقليدي.. لكن تقليديته ليست مطلقة، بمعنى أن القارئ يستطيع أن يلمس اقتراباً، في بعض القصص، من الحداثة ومحاولة لتطويع الأساليب الحداثية لادخالها في تقليدية المعنى الدرامي، كي يبدو في شكله النهائي، نسيجاً ممزوجاً من التقليد والحداثة. كما هوالحال، في قصة (الحاجز) لنبيل عودة، حيث نلمح في سياق السرد التقليدي للحدث القصصي، أساليب كالمنولوج الداخلي، والخطف خلفاً، وما شابه.. وتتميز قصة (نهاية الزمن العاقر)، لنفس المؤلف، ببنائها الدرامي الذي تمتزج فيه تنويعات كثيرة، تتضافر جميعاً، لترسيخ فكرة القصة، ولإضاءة الأبعاد الرمزية لشخصياتها وأحداثها، في نفس القارئ ووجدانه... وكذلك تخرج قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة أيضاً، عن إطار التقليدية، في كثير من مواضعها، حيث نلاحظ تحطم الحواجز المكانية والزمانية، في أكثر من موضع.. هذا فضلاً عما تتمتع به من قدرة على إيصال مضمونها أو معظمه، لقارئها...
ثانياً اللغة:
ما خلا بعض القصص، للمعروفين من كتاب القصة القصيرة في الوطن المحتل، فإن هناك ضعفاً في لغة الغالبية من القصص المدروسة، وضعفاً في تركيب العبارة أحياناً.. ثم هناك نزوع إلى استخدام العامية. في بعضها،. وثمة نزوع آخر، معاكس، إلى شاعرية العبارة، كما في قصة (نهاية الزمن العاقر – لنبيل عودة) وقصة (الجنرال – لمحمد نفاع ).

* القصة منشورة في مدونة نبيل عودة:
http://nabiloudeh.maktoobblog.com
/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نشرت قصة الحاجز ( في صحيفة الاتحاد) اليومية التي تصدر، في حيفا العربية