الجمعة، أبريل 02، 2010

بلا عزاء لفاطمة المزروعي ،نار الشعر تحت رماد السرد

سلمان كاصد


يتساءل أي متلق عندما يقرأ ديواناً شعرياً منذ الوهلة الأولى، ما هي المفاصل الأساسية التي يتمحور حولها نصوص ذلك الديوان على المستويين الشكلي والمضموني/ المبنى والمتن، وعندما يصل إلى الإجابة عن هذا السؤال الذي أعتقد بأهميته يكون قد وصل ـ فعلاً ـ إلى فهم ما يريده الشاعر، ويفكك إلى حد معقول تلك الرموز التي يحفل بها النص الشعري في بنيته العميقة.
وفي محاولتنا لقراءة ديوان “بلا عزاء” للشاعرة فاطمة المزروعي الصادر عن مشروع (قلم) الذي يعتبر إنجازاً مهماً لدار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، لا بد أن ننوه إلى أن فاطمة المزروعي ليست شاعرة فقط وإنما هي روائية وقاصة أيضاً، وهذا يقودنا إلى موضوعة الديوان “بلا عزاء” الذي اتبع نمطاً بنائياً حديثاً بالنسبة إلى أنواع الشعر العربي وهو “قصيدة النثر”، وبالطبع يقودنا كل ذلك إلى استبصار أن الشاعرة قادرة على أن تقود قصيدتها باتجاه غير سردي كونها ساردة في مكونها الإبداعي الأول “الرواية” أي أنها تتكئ على كنائية اللغة بينما في قصيدة النثر تجمع هذه الكنائية بالاستعارة ما دامت الأولى “الكنائية” تمثل النثر والثانية “الاستعارة” تمثل الشعر، غير أنني أجد هذا الديوان يختلف تماماً عن البنى السردية التي تحفل فيها الرواية التي تكتبها، ولكن كيف يحصل ذلك؟
التأليف الشعري
عند تحديد المفاصل الأساسية التي يتمحور حولها نصوص الديوان أجد أن ما يقرب من 80 بالمئة من قصائد “بلا عزاء” تبدأ بجملة اسمية أي أنها استعارية وبما يعني أن نسبة السرد 20 في المئة قياساً إلى نسبة الشعرية في ديوان المزروعي، ولنقرأ من القصيدة الأولى لها وهي “وحدها”.
باحثة عن وجه
تمضي في شوارع المدينة العمياء
أما قصيدتها “الحياة على طريقتي” فتقول فيها:
لديّ بيت كبير بغرف كثيرة
وأحلام تتراقص بين جنبات الكتب الممزقة
أرنب زاهي اللون
وكذلك في قصيدتها “بقاء”:
حين تنام الأشياء
وتسبح الحياة في ملكوت الله
وتغلقين عينيك
ينتصب جسدي
ونلاحظ من ذلك أن استهلالات قصائدها ليست سردية أي ليست كنائية بل ترى فيها ابتعاداً عن الفعلية بعكس قصيدتها الرابعة “بلا عزاء”:
تتسرب الألوان من بين أصابعي
الأحمر.. الأصفر.. الأزرق
وأنا..
لوحة فاخرة من الوحدة فوق السرير
حيث نلحظ الفعل “تتسرب” كونه جملة فعلية يقودنا إلى نمط سردي يقربنا من بنية فاطمة سلطان المزروعي الحكائية التي تمتلك نفساً حكائياً، بينما تقربنا قصائدها الثلاث الأولى من شعرية الجملة الاسمية “باحثة عن وجه” و”لديّ بيت كبير” و”حين تنام الأشياء” وجميعها ظرفية لا تحمل من السرد شيئاً، وهذا الملحم مهم عند دراسة المهيمنات عند الشاعرة الذي أجد أن الاستعارية الشعرية هي المسيطرة لا كنائية النثر السردية التي ابتعدت عنها في هذا الديوان وهذا جانب مهم عندما ندرك قيمة التأليف الشعري في الانزياح عن الإغراق في السردية المطلقة.
مفاصل صغيرة
وفي قصيدة “بلا عزاء” التي تتكون من 4 مقاطع نلاحظ مقطعاً واحداً فقط اتبعت فيه الشاعرة أسلوباً سردياً بينما المقاطع الثلاثة الأخرى كانت استعارية بوضوح:
مقطع (2)
عندما يختلط كل شيء
مقطع (3)
في قلبي
أماكن مسكونة بالحب والكراهية
مقطع (4)
الجوع الذي لا يعرف المساء ولا رائحة البحر
ونلاحظ أن “الظرف” المكاني والزماني والجملة الاسمية بنى قارة في استهلالات الشاعرة مما أبعدها عن أن تكون ناثرة فقط بل قربها من بنية القصيدة الشعرية حتى لو كانت بشكل نثري.
هناك مجموعة من المفاصل الصغيرة الأخرى التي تتضح في أبنية قصائد الديوان وهي “التكرار” أولاً و”الضمائر القارة” ثانياًَ و”خطاب الآخر” ثالثاً..
في التكرار الذي هو عنصر شعري لازم قصيدة النثر العربية بشكل واضح منذ انطلاقتها بل وتعمقت فيها كونها قديمة مع الشعر وأصيلة في قصيدة التفعيلة استحسنتها نازك الملائكة في “قضايا الشعر المعاصر”واستقبحتها في نفس كتابها النقدي هذا.
أقول إن التكرار عنصر بنيوي في قصيدة النثر غير خال من الدلالة التي تتعمق عبر ما تضيفه الكلمات الساندة أو الشارحة للمكرر اللفظي من مثل قول الشاعرة:
الجوع الذي لا يعرف المساء ولا رائحة البحر
الجوع الذي أوقف الحياة فجأة
الجوع الذي يأكل كل الأعضاء
ذلك الجوع الذي يطعنني تحت اللحاف
يصرخ بي: تحديني أيتها الأنثى
التكرار البنائي هو “4” الجوع، والكلمات الساندة هي وصف الجوع “لا يعرف المساء” و”أوقف الحياة” و”يأكل كل الأعضاء” وكلها تشرح بالجملة “الذي يطعنني”.
كذلك في تكرار هذه الكلمة:
أتوق
أتوق لغابة تشع بضواريها
وكفى أن تشتعل الشهوة
إذ يأتي التكرار الثنائي “أتوق.. أتوق” ليمسك بالاشتعال وكأن التكرار تمهيدٌ ضروري لهذا الحال، وهنا أقول إن التكرار صفة بنائية لها ضرورة دالية في النص.
ليتني لم أكن المرأة التي تنتظر طويلاً
ليتني كنت الصمت وحده
وقد أتساءل هل بالإمكان حذف “ليتني” الثانية.. تساؤل يمكن للقارئ أن يحذفها ويقرأ من جديد ليجد هل اختلف المعنى.
كذلك:
مثلي
مثلي لا تزوره الأنامل الدافئة
أحادية الرؤية
ولقراءة كيفية تحكم الشاعرة فاطمة سلطان المزروعي بمفصل “الضمائر” نجد أنها تعمد إلى ضمائر ثابتة “قارة” منها استخدامات ضمير المتكلم الذي استغرق قصائدها بشكل واضح، وهذا يعيدنا إلى نسق شعرية قصيدة النثر التي تبدو أحادية الرؤية، حيث يتحكم الشعر بنظرته الذاتية إلى العالم، ففي قصيدتها “رجاء”.
لا تتركني خلفك
فأنا لا أستطيع أن أفتح عينيّ أمام الضوء الحارق لشمس يوليو
وأنتظر المساء
حتى أنام على الأريكة
وحيدة
وفي قصيدتها “خوف”:
عانقيني يا أمي
فأحشائي ممزقة بوحدتي
كما في قصيدتها “عبث”:
أنا في منتصف الدائرة
وعلى حوافها
الأسماء نفسها
وفي قصيدتها “بساطة” تقول:
أنا امرأة من العامة
تضم إلى صدرها طفلاً ولا تعرف الغناء أو الكتابة.
نلاحظ أن الضمير القار هنا هو المتكلم الذي يرتبط بـ “الأنا” بمعناه اللفظي والحسي، وهو يتجسد بشكل واضح في “الوحدة” التي هي عزلة الأنا عن العالم، ففي القصائد الأربع - ناهيك عن كثير منها في الديوان - نجد “أنا” الشاعرة متقدمة في الخطاب بشكل واضح، بل معلن، وهذا جزء من بنية مشروع القصيدة النثرية الحداثية، إذ العالم يدور حول ذات الشاعر.
وكي لا نطيل في قراءة الديوان وأترك اكتشاف المفاصل الأخرى للقارئ ربما لنا عودة إليه من جديد.
ولدت فاطمة سلطان المزروعي في أبوظبي وهي قاصة وشاعرة وروائية وتكتب السيناريو والمسرحية والمقالة، وهي خريجة جامعة الإمارات العربية المتحدة وتخصصت في التاريخ وآثاره ولها “ليلة العيد” و”وجه امرأة فاتنة” مجموعة قصصية و”زاوية حادة” رواية.

يتساءل أي متلق عندما يقرأ ديواناً شعرياً منذ الوهلة الأولى، ما هي المفاصل الأساسية التي يتمحور حولها نصوص ذلك الديوان على المستويين الشكلي والمضموني/ المبنى والمتن، وعندما يصل إلى الإجابة عن هذا السؤال الذي أعتقد بأهميته يكون قد وصل ـ فعلاً ـ إلى فهم ما يريده الشاعر، ويفكك إلى حد معقول تلك الرموز التي يحفل بها النص الشعري في بنيته العميقة.
وفي محاولتنا لقراءة ديوان “بلا عزاء” للشاعرة فاطمة المزروعي الصادر عن مشروع (قلم) الذي يعتبر إنجازاً مهماً لدار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، لا بد أن ننوه إلى أن فاطمة المزروعي ليست شاعرة فقط وإنما هي روائية وقاصة أيضاً، وهذا يقودنا إلى موضوعة الديوان “بلا عزاء” الذي اتبع نمطاً بنائياً حديثاً بالنسبة إلى أنواع الشعر العربي وهو “قصيدة النثر”، وبالطبع يقودنا كل ذلك إلى استبصار أن الشاعرة قادرة على أن تقود قصيدتها باتجاه غير سردي كونها ساردة في مكونها الإبداعي الأول “الرواية” أي أنها تتكئ على كنائية اللغة بينما في قصيدة النثر تجمع هذه الكنائية بالاستعارة ما دامت الأولى “الكنائية” تمثل النثر والثانية “الاستعارة” تمثل الشعر، غير أنني أجد هذا الديوان يختلف تماماً عن البنى السردية التي تحفل فيها الرواية التي تكتبها، ولكن كيف يحصل ذلك؟
التأليف الشعري
عند تحديد المفاصل الأساسية التي يتمحور حولها نصوص الديوان أجد أن ما يقرب من 80 بالمئة من قصائد “بلا عزاء” تبدأ بجملة اسمية أي أنها استعارية وبما يعني أن نسبة السرد 20 في المئة قياساً إلى نسبة الشعرية في ديوان المزروعي، ولنقرأ من القصيدة الأولى لها وهي “وحدها”.
باحثة عن وجه
تمضي في شوارع المدينة العمياء
أما قصيدتها “الحياة على طريقتي” فتقول فيها:
لديّ بيت كبير بغرف كثيرة
وأحلام تتراقص بين جنبات الكتب الممزقة
أرنب زاهي اللون
وكذلك في قصيدتها “بقاء”:
حين تنام الأشياء
وتسبح الحياة في ملكوت الله
وتغلقين عينيك
ينتصب جسدي
ونلاحظ من ذلك أن استهلالات قصائدها ليست سردية أي ليست كنائية بل ترى فيها ابتعاداً عن الفعلية بعكس قصيدتها الرابعة “بلا عزاء”:
تتسرب الألوان من بين أصابعي
الأحمر.. الأصفر.. الأزرق
وأنا..
لوحة فاخرة من الوحدة فوق السرير
حيث نلحظ الفعل “تتسرب” كونه جملة فعلية يقودنا إلى نمط سردي يقربنا من بنية فاطمة المزروعي الحكائية التي تمتلك نفساً حكائياً، بينما تقربنا قصائدها الثلاث الأولى من شعرية الجملة الاسمية “باحثة عن وجه” و”لديّ بيت كبير” و”حين تنام الأشياء” وجميعها ظرفية لا تحمل من السرد شيئاً، وهذا الملحم مهم عند دراسة المهيمنات عند الشاعرة الذي أجد أن الاستعارية الشعرية هي المسيطرة لا كنائية النثر السردية التي ابتعدت عنها في هذا الديوان وهذا جانب مهم عندما ندرك قيمة التأليف الشعري في الانزياح عن الإغراق في السردية المطلقة.
مفاصل صغيرة
وفي قصيدة “بلا عزاء” التي تتكون من 4 مقاطع نلاحظ مقطعاً واحداً فقط اتبعت فيه الشاعرة أسلوباً سردياً بينما المقاطع الثلاثة الأخرى كانت استعارية بوضوح:
مقطع (2)
عندما يختلط كل شيء
مقطع (3)
في قلبي
أماكن مسكونة بالحب والكراهية
مقطع (4)
الجوع الذي لا يعرف المساء ولا رائحة البحر
ونلاحظ أن “الظرف” المكاني والزماني والجملة الاسمية بنى قارة في استهلالات الشاعرة مما أبعدها عن أن تكون ناثرة فقط بل قربها من بنية القصيدة الشعرية حتى لو كانت بشكل نثري.
هناك مجموعة من المفاصل الصغيرة الأخرى التي تتضح في أبنية قصائد الديوان وهي “التكرار” أولاً و”الضمائر القارة” ثانياًَ و”خطاب الآخر” ثالثاً..
في التكرار الذي هو عنصر شعري لازم قصيدة النثر العربية بشكل واضح منذ انطلاقتها بل وتعمقت فيها كونها قديمة مع الشعر وأصيلة في قصيدة التفعيلة استحسنتها نازك الملائكة في “قضايا الشعر المعاصر”واستقبحتها في نفس كتابها النقدي هذا.
أقول إن التكرار عنصر بنيوي في قصيدة النثر غير خال من الدلالة التي تتعمق عبر ما تضيفه الكلمات الساندة أو الشارحة للمكرر اللفظي من مثل قول الشاعرة:
الجوع الذي لا يعرف المساء ولا رائحة البحر
الجوع الذي أوقف الحياة فجأة
الجوع الذي يأكل كل الأعضاء
ذلك الجوع الذي يطعنني تحت اللحاف
يصرخ بي: تحديني أيتها الأنثى
التكرار البنائي هو “4” الجوع، والكلمات الساندة هي وصف الجوع “لا يعرف المساء” و”أوقف الحياة” و”يأكل كل الأعضاء” وكلها تشرح بالجملة “الذي يطعنني”.
كذلك في تكرار هذه الكلمة:
أتوق
أتوق لغابة تشع بضواريها
وكفى أن تشتعل الشهوة
إذ يأتي التكرار الثنائي “أتوق.. أتوق” ليمسك بالاشتعال وكأن التكرار تمهيدٌ ضروري لهذا الحال، وهنا أقول إن التكرار صفة بنائية لها ضرورة دالية في النص.
ليتني لم أكن المرأة التي تنتظر طويلاً
ليتني كنت الصمت وحده
وقد أتساءل هل بالإمكان حذف “ليتني” الثانية.. تساؤل يمكن للقارئ أن يحذفها ويقرأ من جديد ليجد هل اختلف المعنى.
كذلك:
مثلي
مثلي لا تزوره الأنامل الدافئة
أحادية الرؤية
ولقراءة كيفية تحكم الشاعرة فاطمة المزروعي بمفصل “الضمائر” نجد أنها تعمد إلى ضمائر ثابتة “قارة” منها استخدامات ضمير المتكلم الذي استغرق قصائدها بشكل واضح، وهذا يعيدنا إلى نسق شعرية قصيدة النثر التي تبدو أحادية الرؤية، حيث يتحكم الشعر بنظرته الذاتية إلى العالم، ففي قصيدتها “رجاء”.
لا تتركني خلفك
فأنا لا أستطيع أن أفتح عينيّ أمام الضوء الحارق لشمس يوليو
وأنتظر المساء
حتى أنام على الأريكة
وحيدة
وفي قصيدتها “خوف”:
عانقيني يا أمي
فأحشائي ممزقة بوحدتي
كما في قصيدتها “عبث”:
أنا في منتصف الدائرة
وعلى حوافها
الأسماء نفسها
وفي قصيدتها “بساطة” تقول:
أنا امرأة من العامة
تضم إلى صدرها طفلاً ولا تعرف الغناء أو الكتابة.
نلاحظ أن الضمير القار هنا هو المتكلم الذي يرتبط بـ “الأنا” بمعناه اللفظي والحسي، وهو يتجسد بشكل واضح في “الوحدة” التي هي عزلة الأنا عن العالم، ففي القصائد الأربع - ناهيك عن كثير منها في الديوان - نجد “أنا” الشاعرة متقدمة في الخطاب بشكل واضح، بل معلن، وهذا جزء من بنية مشروع القصيدة النثرية الحداثية، إذ العالم يدور حول ذات الشاعر.
وكي لا نطيل في قراءة الديوان وأترك اكتشاف المفاصل الأخرى للقارئ ربما لنا عودة إليه من جديد.
ولدت فاطمة المزروعي في أبوظبي وهي قاصة وشاعرة وروائية وتكتب السيناريو والمسرحية والمقالة، وهي خريجة جامعة الإمارات العربية المتحدة وتخصصت في التاريخ وآثاره ولها “ليلة العيد” و”وجه امرأة فاتنة” مجموعة قصصية و”زاوية حادة” رواية.
http://www.alittihad.ae/details.php?id=18006&y=2010

ليست هناك تعليقات: