‏إظهار الرسائل ذات التسميات هيثم البوسعيدي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هيثم البوسعيدي. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، مارس 05، 2010

قلم ذهبي‏

هيثم البوسعيدي
حينما يتخذ القلم الأصيل قرار الانغماس في عالم الكتابة، بطريقته العفوية يجبر خلايا العقل على شق مسيرة البحث عن مكامن الحقيقة، ويرسم بين جدران القلب فكرة التفتيش عن مواضع الخطأ، ويحفر عميقا في جذور البيئة المحيطة به لأجل التنقيب عن مواقع النقص في سياسات الدولة التي تحكمه وممارسات المجتمع الذي يحتضنه، وذلك إيمانا منه باستحالة استمرارية حياة الوطن ونهضة المجتمع وصلاح الفرد بدون وجود الرأي الآخر والفكر المعارض الذي يحرك العقول لمواجهة المشاكل المعقدة ويدفع النفوس لملامسة العيوب الخفية.

هذا شأن القلم الحر وديدن الحبر الطاهر الذي يأبى ممارسة الكتابة المرتبطة بصور الزيف وأشكال النفاق ومسارات الخداع، ولكونه يحمل صفات الشرف والحرية وخصائص الشفافية والمصداقية فهو متجاهل ومستبعد من عدة جهات وأطراف.

فذلك القلم ينفر من صراحته الكثيرون ويغضب من انتقاداته المتخاذلون لأنه يميط اللثام عن الأسرار الخطيرة ويفضح أصحاب الأقنعة ويعري أهل الإدعاءات وينبه أهل الغفلة عما يرتكب من انتهاكات في حق الإنسان والمجتمع والوطن، ويشير بأصابع الاتهام نحو مسببات الظلم وعوامل التفرقة وأبواب الباطل، ويطالب أفراد المجتمع بسرعة التغيير ويحرض فئات المجتمع على الاستمساك بطرق الصواب والتشبث بدروب الاستقامة.

ويواجه هذا القلم في مسيرته النبيلة أطياف من البشر وألوان من الناس هم أعداء وكفرة وأنذال وعشاق مصالح، تجتمع قلوبهم الخبيثة على نية واحدة وتتقاطع خططهم عند هدف مشترك ألا وهو اغتيال ذلك القلم الشريف وتغيبه في سجون وتشويه مبادئه أمام السذج وعامة الناس بمختلف الوسائل والأساليب.

من جانب آخر فإن فئة كبيرة من قراء الوقت الحاضر يتآمرون أيضا على ذلك القلم الذهبي بإهماله واضطهاده بعديد الوسائل، بل يسعون إلى قلب صفحات ناصعة امتلأت بغزارة إبداعه وبجمال إنتاجه لأنها فضحت واقعهم المرير وصدمتهم بكمية العيوب والأمراض في دواخلهم المتناقضة، ولأنها لم تمارس سياسة تخدير القارئ ولم تعتمد على التسلية والإلهاء في أغلب عباراتها الفضية وجملها الذهبية.

لذا فهذا القلم يعتبر قلم ذهبي تتساقط أمام رماحه مغريات الشهرة والمال والمصالح، وليس له صديق ولا صاحب ولا خليل يواسي أحلامه الكبرى وطموحاته الجليلة في إصلاح الوطن.

لذا فهو مكروه من أهل السياسة ورجال الدين وأصدقاء اللهو وزعماء المجتمع ورؤساء الإعلام الهابط وتجار المال الحرام وجزء كبير ممن يدعي الثقافة والفكر والأدب.

أخيرا فإن حقيقة هذا القلم وصفاء معدنه الأصيل وندرة ما يختزنه من فكر عظيم ستظهر بعد انقضاء عشرات العقود وتقادم السنوات بعدما تنقشع الغيبوبة وتزول غمامة السواد التي تسيطر على قلب المجتمع الذي يفزع هذه الأيام من سلطة الفرد ويرتعد خوفا من ديكتاتورية الفرعون مهما تعددت صوره واختلفت مواقع وجوده


السبت، فبراير 13، 2010

مفهوم الثقافة

هـيـثـم الـبوسـعـيـدي



* اختلف الناس حول أعطاء مفهوم معين للثقافة على الرغم من المؤلفات والمؤتمرات والندوات التي عقدت لتحديد المقصود من الثقافة، كما إن هذا الاختلاف امتد عبر الأزمان والأشخاص والأحوال ولم يتفق علماء اللغة وأعلام الفكر وأهل الادب على مفهوم محدد حتى اللحظة بحيث لا زالت كلمة الثقافة غامضة المعنى.



ومصطلح الثقافة حديث نوعا ما لكون نشأت جذوره قادمة من الغرب، كما إن كثير من المفكرين ربط تطور هذا المفهوم مع نشوء علوم أخرى مثل علم الإنسان وعلم النفس مما ساهم في تقريب معناه.



وبذلك تعددت تعريفات الثقافة لدى العلماء والمفكرين بحيث زادت حسب إحدى المصادر عن مائة تعريف وأصبح لها تعريفات متعددة لدى علماء النفس والإجتماع والأدب والتربية، ولكن الثقافة كما هو شائع وسائد بين الناس هو لفظ يراد به في الاستعمال الأخذ من كل علم بطرف ولا يراد به التعمق في دراسة علم من العلوم، ولذلك يقال " تعلم شيئا عن كل شئ لتكون مثقفا، وتعلم كل شئ عن الشئ لتكون عالما".



أما ثقافة الفرد فهي كل ما يتعلمه المرء لمدة زمنية ليكتسب بعد ذلك مجموعة من المعلومات والحقائق والقيم ذات العلاقة بمجالات وعلوم الحياة مما يمكنه من المشاركة الفاعلة في محيطه الأسري والمجتمعي، أما ثقافة الأمة فهو التراث الحضاري والفكري المكتسب في مختلف الجوانب والذي تمتاز به هذه الأمة عن غيرها من الأمم ليشكل هذا التراث عبر حقب وقرون إطارا يحكم الأفراد والأسر والمجتمعات والأوطان المنتمية لهذه الأمة أو تلك.



أما التعريف الشمولي حسب بعض الدراسات يعرف الثقافة بأنها عبارة عن منطومة متكاملة لكل الأفكار والمثل والقيم والمعتقدات والعادات والمهارات وطرق التكفير وأساليب الحياة والتراث ووسائل الإتصال، كما إن جزء من المفكرين والمثقفين أعطوا مفهوما أشمل للثقافة معتبرين إياها سيرورة الإنسان في نموه وتحوله وتوسعه وإزدهاره عبر الخلق والإنتاج في جميع المجالات ومختلف القطاعات والتي ينطوي تحت لوائها العقائد والطقوس، القيم والقواعد، النظم والمؤسسات، الآداب والفنون، العلوم، والفلسفات، فضلا عن الأدوات والوسائط والوسائل والتقنيات، وبهذا المعنى الواسع لا تنتج فئة من الناس الثقافة لأن من يصنع أداة أو يزرع حقلا هو بالفعل يمارس نشاطا ثقافيا يقع في صميم عالم الثقافة بقدر ما يساهم في تشكيل عالم الإنسان.



ورغم كل التعريفات السابقة لمفهوم الثقافة ورغم كل ما تمت اثارته حول الثقافة وعلاقتها بالفرد والأمة والوطن والمجتمع، فالموضوع يحتمل تفاصيل أوسع ودراسة معمقة وتحليلات متشعبة للوصول إلى معرفة العوامل الحقيقية والأسباب المكونة لهذا المفهوم الكبير.*

…………………………


Haitham_sulieman2020@yahoo.com

الأربعاء، يناير 27، 2010

صــفــحـة جـديـدة

هـيـثـم الـبوسـعـيـدي

* إنجذاب تفكير الإنسان بشكل دائما إلى الاحداث المأساوية يؤدي إلى توسيع دائرة الألم في حياته لأن إستمرارية الحزن على الماضي يلعب دور في قتل الإرادة وتبديد للحياة الحاضرة، فما قيمة أن يتعلق تفكير ومشاعر المرء بحدث طواه الزمن ليزيد ألمه حرقة وقلبه لذعا؟

الحزن أمر مشروع وحالة نفسية يمر بها الإنسان، أما أن نعيش الالآم الماضي بكل تفاصيله وذكرياته فهذا معناه أننا سنخسر في النهاية الماضي والحاضر ونقع ضحايا لسلسلة من الأمراض الجسدية والعلل النفسية فهل هذا بالأمر الطبيعي والعادي.

كما أن كلمات اليأس والقنوط والإحباط التي تلوح دائما في أوقات الشدة والمحن قد تكون في ذات الوقت مدخل نحو اضعاف النفوس وتقهقر القلوب عن مجموعة من المفاهيم كالعزيمة والطموح والثقة، أما من يعقل الأمور فهو من يدرك أن الظروف الصعبة هي مجرد غربال لثقته في دينه وربه ونفسه من جانب ومن جانب آخر فإن الظروف الصعبة تقوده إلى السؤال الآتي: هل هو قادر فعلا على الإنتاج والبناء والنهوض من جديد أم الاستسلام في أولى حروبه مع الحياة ؟

والأهم من كل ذلك كيف يصنع الفرد من الظرف الصعب والوجع الدفين محفز له للاستمرارية والبقاء ومواصلة المسيرة وممارسة أنشطة الحياة بشكل طبيعي لأن الاحداث المريرة على إختلاف صورها واشكالها ليست نهاية العالم ولا نهاية الحياة، كما إن ذلك الفرد ليس الوحيد الذي يعاني من ظروف صعبة واحداث مريرة فهناك من تمتلأ حياتهم بأوجاع كثيرة وأسقام عديدة، فلماذا اليأس والحيرة؟ ولماذا كثرة السهاد والحزن الطويل؟ ولماذا فتح الأبواب لوساوس وأفكار الشيطان حتى تغزو عقولنا وقلوبنا؟

وأخيرا فإن لحظات الألم وأوقات المصائب تكشف حقيقة الانسان ومدى تمسكه بقناعاته ومعتقداته كما إنها تظهر قوة أو ضعف شخصيته، فكم نفوس ضعيفة هوت أمام الظروف الحرجة لترتكب بعد ذلك الأخطاء وتصر على ممارسة المعاصي.

أما الإنسان الواعي هو من يحكم لغة العقل والتي تتمثل في فحص ما وقع بعد فترة من حدوثه ودراسة تأثيراته وكيفية الإستفادة منه بطريقة ايجابية، بحيث يمثل هذا الموقف نقطة انطلاقة للأمام ومرحلة مهمة لتخطي عقبات والالآم الماضي والسير نحو مبدأ التغيير والإصلاح من خلال فتح صفحة جديدة في الحياة لنستغل ما حدث لفهم حقيقة الحياة، ولنتذكر ما حدث لا على سبيل استرجاع صور المعاناة واحاسيس الوجع وإنما على سبيل العظة والعبرة والامتحان.*

Haitham_sulieman2020@yahoo.com

الاثنين، يناير 04، 2010

بـسـام الـطــعــان.. وتـجـربـتـه الــقـصـصـيـة الـرائـدة

هيثم البوسعيدي
بسام الطعان...أسم لامع في مجال القصة القصيرة ، أوجد لنفسه مكانة مرموقة في خريطة الأدب العربي بجزأيه الورقي والالكتروني، تشبث بمجاديف القصة القصيرة وأعلن غرامه لهذا الفن الحديث منذ أكثر من خمسة عشر عاما لأن بوصلة أفكاره لن تتوقف أبدا عن خدمة هذا الجنس الأدبي الذي أبحر في أنهاره العميقة أثر تعرضه لمأساة شخصية مما جعله آنذاك يلجأ للكتابة حتى تكون سبيلا لتلاشي الأحزان عن نفسه الغارقة في ظلمة الوحدة وقسوة المعاناة.

هذه الحادثة مهدت نحو ظهور قاص جديد على الساحة السورية، اعتمد في بدايات مشواره الإبداعي على بيئته الغنية في شمال سورية مما ساعده في دقة الوصف وبراعة التصوير لشخصيات قصصه ونصوصه الثرية التي ترتبط بالخيال والواقع في ذات الوقت.

كما أنه يمتلك المهارة في تقمص شخصيات نصوصه ويمتاز بالبراعة في انتقاء الاحداث المهمة ذات الصلة بالواقعية الحياتية التي تحاول باستمرار توصيف حالة المواطن العربي ورصد ما يدور حوله وما يمارس ضده من انتهاك وسلب لحقوقه.

له اربع مجموعات قصصية ، (ورود سوداء، غرفة معبأة بالنار، غزالة الغابة، ونهر الدم) حيث تتصف تلك المجموعات بعدة خصائص منها وفرة الافكار وغنى المعاني وكثرة الحكم وتنوع الالفاظ ورمزية الحروف وقوة التكوين وبساطة النثر الذي يخفي وراءه الكثير من المصداقية بقصد تلوين الواقع بألوان مبهرة ونسج الخيال بخيوط مدهشة، وغالبية نصوص مجموعاته القصصية تتناول أدق تفاصيل الوقائع وتتأمل في جزئيات المواقف، بل تتمادى في مجالات الصدق وتتمحور في مدارات الحقيقة، وتحمل إلى القلوب الكثير من الافعال وتقذف من النفوس العديد من ردات الفعل.

أخيرا فإن ما يحفره قلم بسام الطعان على الورق يتضمن الكثير من الدلالات والمفاهيم ذات القدرة الهائلة على رسم الصور التلقائية في أذهان القراء مما يحفزهم نحو تمثيل تلك الصور أكانت محزنة أو مفرحة، أضف إلى ذلك تشجيعهم نحو إستقراء مابين السطور واستشعار ما خلف القصة واستكشاف حلاوة السرد الذي يلبس النص مجموعة من الأصوات والصور والأشكال الجميلة.


الثلاثاء، ديسمبر 29، 2009

قـراءة فـي كـتـاب " الـرقـص بألـم عـلـى حـافـة مـن زجـاج" لـفاطـمـة الحـويـدر

هـيـثـم الـبوسـعـيـدي

تقدم الكاتبة " فاطمة الحويدر" للقارئ العربي مجموعة من النصوص الأدبية المتنوعة التي تنقل القارئ عبر صفحات كتاب " الرقص بألم على حافة من زجاج" من سحر الخاطرة وجاذبية القصة القصيرة إلى جدية المقال الهادف الذي يرفع من قيمة الكتابة ويتضامن مع حقوق الكاتب العربي.

تقدم الكاتبة أيضا من خلال تلك النصوص مجموعة من التجارب والأحداث التي تعكس تجربة شخصية عاشتها الكاتبة عبر فترات متباعدة وأماكن متباينة، كما أن نصوص الكتاب توحي للقارئ الواعي بنوعية التطور الذهني والعاطفي واللغوي لدي الكاتبة عبر مراحل لاحقة من عمرها الكتابي.

ومن ناحية آخرى، يمزج الكتاب بين أدوات وصور الطبيعة التي تتفاعل مع المشاعر الإنسانية المتدفقة والتصرفات البشرية المتضادة لترسم صورة آخرى للحقائق والوقائع الانسانية، فتتضح أدق التفاصيل وتفسر أبسط الأشياء.

ويمتاز الكتاب بتنوع المفردات وثراء الالفاظ وتباين الافكار وملامسة القضايا الوجودية بلغة فنية وأسلوب متقن وطريقة سلسلة تسعى من خلاله الكاتبة نحو التشبث بإهتمام القارئ وشده نحو التأمل مليا فيما يدور بين السطور والعبارات.

كما أن جزء من نصوص الكتاب ترتهن للأسلوب الرمزي بقصد تهيئة القارئ نحو إعادة القراءة مرة أخرى حتى تزول القشور وتطلع العيون على لب القضايا الهامة والمعاني العظيمة الكامنة في اعماق هذه النصوص والتي تحفر عميقا وتبحر طويلا في سر الكون وقيمة الحقيقة وأسباب الوجود وفرصة الحياة المحدودة.

أخيرا، جل النصوص في هذا الكتاب تقدم تفسيرا جديدا لكلمات عابرة في حياة البعض ولكنها ذات معاني براقة وأنوار مشعة في حياة البعض الآخر مثل كلمات الحب والوفاء والاخلاص والحزن والعدل والحق والذاكرة والنسيان.

الثلاثاء، ديسمبر 08، 2009

حـــــزب الــشــيــــطــان

هيثم البوسعيدي
حرب طاحنة يقود الشيطان دفتها ....يشعل مآسيها في قلوب الناس وعقول البشر...يحركهم كيفما يشاء...أتباعه يعبثون بالحياة، أشبه بالأفاعي والوحوش...يسرقون اللقمة من أفواه البسطاء...يستبيحون الدماء...يتربعون على كراسي السلطة ...يمتهنون الرشوة والسرقات الخفية...يستحوذون على مفاتيح الثروة..يكبلون الناس بالقيود ..فتصبح الأوطان مزارعهم الخاصة...يتحكمون بمجرى السفينة كيفما يريدون.

أغلبهم ينتمي لجيوش الشيطان...أنه قائد الفوضى العارمة التي تغتال الروح الإنسانية وتطفأ المبادئ ..ها هو ينتج مؤامرات جديدة هدفها مزيد من الجرائم الفظيعة والأنظمة المدمرة والدسائس الخبيثة... حزبه يستبسل لإكثار المحرومين وإنقاص الحق وتصعيد الاستبداد حتى نستغني عن أمل الحرية ونفتقر لقانون العدالة.

يتعامل حزبه مع باقي البشر كأنهم دمى... يمزقون بسكاكين القهر وسياط العذاب أفكارنا المستقيمة.. تتضاعف مصالحهم الشيطانية ...يتقربون لربهم " الشيطان"...تدور عجلة السنين والعقود والقرون ويستمر الصراع الطويل بين الخير والشر...لأن ربهم الأعلى القابع في أوردتهم يسعى لإسكات قوى الحق وأحزاب الطهر ورماح الصلاح..فلن ترضيه شعلة الأمل التي تحاول زراعة بذور التغيير عبر تاريخ البشرية.

لذا مبارك عليك هذا الانتصار..مبارك عليك كل ما انتهكته من حقوق وقيم.. حرض عبيدك " شياطينك الصغار" على سرقة الأموال وبناء المؤسسات المجرمة..بارك أهل الظلم وتكاثر قتلة الروح...وساند صناع الأرهاب وأصحاب المجون..هؤلاء هم عبيدك يتناسلون من كل حدب وصوب..ينهبون خيرات المجتمعات ويلعبون بمسارات الحياة ويبذرون بمقدرات الشعوب ويشبعون شهوات ليس لها حدود..ويحرضون البشر على أشكال التيه ودروب الضياع.

أما حربك المستعرة ستبقى ما دامت الحياة على الأرض مستمرة وستقذف بمزيد من البشر نحو نيرانها الملتهبة وأهوالها الكبرى...وسيظل الصراع بين قوى الخير وأحزاب الشر حتى نهاية الوجود.

الثلاثاء، نوفمبر 24، 2009

الـتـمـيـيـز بـيـن الـبـشـر

هـيـثـم الـبـوسـعـيـدي

قضية "التمييز" بين البشر قضية متأزمة في جميع الاوطان والمجتمعات والدول مع تفاوت النسبة والمقدار من بيئة لآخرى، ولا تخلو بقعة على وجه الأرض من وجود تمييز بين أفرادها مع تعدد المظاهر وتنوع الأشكال من مكان للآخر، كما أن قضية التمييز بين البشر يمكن اعتبارها جرح أصيل ومشكلة كامنة في أعماق الذات الانسانية تتناقلها الجينات البشرية عبر الاجيال ولفترات زمنية طويلة تصل ربما إلى عشرات القرون.

ويمكن تعريف التمييز بأنه "شعور باطني" يجبر الإنسان على الاحساس بالفوقية والافضلية للعنصري البشري الذي ينتمي إليه سواءً على مستوى اللون أو الجنس أو الديانة أو على أي مستوى من الخصائص الإنسانية، ويتكون عن هذا الشعور سلوك ربما يكون عدوانيا في بعض صوره لأن الإنسان قد يعزز هذ الاعتقاد بوجود تمايز بينه وبين الغير والآخر، فتتشكل بعد ذلك نظرة مرضية هي أقرب إلى نظرة التفاوت بين الاجناس فيقرر المؤمن بهذه النظره أنه الأفضل وأن جنسه أعلى من جنس الآخر فيجد المبررات التي تدفعه نحو قهر الطرف الآخر ومحاولة الانتقاص من إنسانيته والحط من قيمته وكرامته، وربما يصل الأمر إلى الاعتداء والهجوم على الطرف الآخر بمختلف الطرق والوسائل.

وهنا نقسم أنواع التمييز بين البشر حسب المراجع التخصصية والكتب الحقوقية بحيث تندرج إلى ثلاث أنواع: (1) "التمييز الفردي" ضد فرد أو شخص بعينه وخصوصا عندما تختل العلاقة بين الطرفين ويختفي مبدأ المساواة في المعاملة.(2) "التمييز القانوني" دائما يظهر في حالة المنتميين لجماعة محددة أو فئة معينة تتقاسم مجموعة من الصفات والمشتركات، لذا يتم صناعة مجموعة من القوانين التي تحرم جميع أفرادها من الحقوق مثلما حدث للزنوج في الولايات المتحدة قبل عشرات العقود عندما حرموا من كثير من الحقوق كحقوق الملكية وحقوق العمل. (3) "التمييز المؤسسي" الذي يشير إلى عدم المساواة في المعاملة المترسخة في المؤسسات الاجتماعية الأساسية فيؤدي إلى إفادة جماعة واحدة على حساب جماعات أخرى.

وبعيدا عن واقع البشر فإن أغلب التشريعات الالهية العزيزة شددت على مبدأ المساواة بين البشر ومحاربة كل أنواع ومظاهر التمييز الذي قد تتمثل معانيه في عدة تسميات كالعنصرية والطائفية والمذهبية والقبلية، وتسمية العادل هي أحد صفات المولى عزوجل المرادفة لمبدأ "العدل" ذاك المبدأ الرئيس في الإسلام الذي بتحقيقه تسود المحبة والوئام والاتفاق بين أبناء الشعب الواحد لذلك يقال دائما العدل أساس الملك، كما أن كتب الأسلام الحديثة والقديمة شاهده على كثرة النصوص المقدسة التي دعمت هذا المبدأ فقد كانت ولازالت ترسخ في أذهان الناس تساويهم في الحقوق وأنهم كأسنان المشط، ولا فرق بين العربي والأعجمي إلا بالتقوى، حيث أن قاعدة "التقوى" هي المقياس الوحيد لتصنيف البشر ومدى قربهم أو بعدهم عن طريق الصواب والصلاح.

وتأتي بعد ذلك كل القيم والمبادئ والمثل المنادية بالمساواة بين البشر وعدم التفرقة بينهم وهي ترتبط من الناحية التاريخية بمناهج الأنبياء والأولياء والمصلحين، لكن رغم ما بذلوه هؤلاء العظام من جهود كبيرة وما قدموه من تضحيات مسجلة عبر التاريخ لأجل تطبيق كل ما ينتمي لهذه المناهج الخيرة فهي لازالت في "عالم النظريات" وبطون الكتب ولم تخرج من هذه الدوائر ولم تأخذ حقها بشكل كافي على أرض الواقع.

لكن الواقع في وقتنا الحاضر يشهد بوجود أشكال متعددة ونماذج جديدة من التمييز الذي أدى في بعض الحالات إلى انتصار "التفرقة" وغلبة الخلافات بين أفراد المجتمع الواحد وتعميق أمراض مزمنة مثل الحقد الطائفي والضغينة المذهبية والكولسترول العرقي، وهذا الأمراض اللصيقة بالتمييز لا تؤدي لهدم وتمزيق المجتمع إلى أشلاء مبعثرة وطبقات متناحرة فحسب بل تؤدي إلى تعميق الانتماء الفئوي وتكاثر الفئات ذات المصالح المتضاربة.

الأمثلة كثيرة ومتعددة على أشكال العنف الناتج من "أمراض التمييز" المستشرية بين أجزاء عديدة من شرائح وفئات البشر، فالأمر لا يقتصر على بلد دون آخر فقد تجد تمييز ضد هذا الشخص لأنه اسود وقد تجد تمييز ضد ذلك الشخص لأنه مهاجر كادح قادم من بلاد بعيدة نتيجة ظروف قاهرة اجبرته على الهرب وقد تجد تمييز أيضا ضد شخص آخر لانه لا ينتمي إلى دين أو مذهب الاغلبية في هذا البلد أو ذلك المجتمع.

وهذا "التمييز المصطنع" الذي يظهر بحلل جديدة في عالم اليوم صادر من أماكن ومواقع متباينة، فمثلا بعض سياسات وأنظمة الدولة تعتبر تمييز ضد مواطنيها حيث تحلل لهذه الفئة ما تحرمه على فئة أخرى وتبيح لهذا القسم من الأفراد ما لا تبيحه للأخريين، كما أن غياب القانون الصارم واختفاء الإداري الملتزم وضمور الحس الأخلاقي واهمال الوازع الديني وترك الأمور تسير بدون تنظيم ومراقبة في جميع مؤسسات الدولة فيما يتعلق بتصرفات المسؤولين في مختلف الهيئات العليا في النظام الحاكم هي بمثابة مؤشر قوي لغلبة المصالح الشخصية وتقديم رغبة هذا الشخص على الآخريين، مما يمهد لانتشار آفات أخرى مثل المحسوبية والفساد التي هي نتائج طبيعية للتمييز في التعامل بين مختلف المواطنين في البيئة الواحدة.

وقد تأطر الدولة هذا التمييز من خلال سن "قوانين جائرة"، وتظهر تلك القوانين بشكل علني أو خفي حتى تلزم بها جميع المؤسسات والمنظمات في جميع أجهزة وخلايا الدولة، فينعكس ذلك بصورة سلبية على أفراد المجتمع فيتكون بمرور الزمان اعتقاد لدى أبناء المجتمع باتجاه تثبيت هذا الشكل من التمييز بين جنبات المجتمع، وهذا بحد ذاته يدفع نحو تكوين تصرفات فردية وسلوكيات جماعية تحمل على عاتقها مهمة تطبيق تلك القوانين في عالم الواقع.

وهذا بلا شك له آثار كبيرة وعواقب وخيمة على المدى القريب والبعيد على مستوى الروابط والعلاقات والتعاملات بين أفراد المجتمع الواحد، وفي هذه الحالة فإن الدولة تلعب دورا خفيا في "صناعة التمييز" فهي تعطي الامتيازات والهبات لأفراد بعينهم فتخلق بعد فترة ما يسمى بنظام الطبقات فهذه الطبقة غنية مرفهة وهذه الطبقة فقيرة كادحة.

وهذه الحالة دليل قوي على أن النظام المكون لهذه الدولة يعاني من نقص كبير وخلل واضح، كما أن تلك الدولة تفتقر للقادة الحقيقيون وأصحاب الإدارة الصحيحة لأن النظام المكون للدولة قائم بالتأكيد على أساس "طائفي أو قبلي أو عرقي أو مذهبي".

وفي المقابل هناك تمييز آخر هو موجود بالأساس في المجتمع يمارسه الأفراد في جميع تعاملاتهم وتصرفاتهم وهو وليد الماضي بكل عقده ومشاكله حيث يمكن اعتباره أحد مخلفات التاريخ وأحد العيوب القاتلة في نسيج المجتمع لأن الأفراد تناقلوه فيما بينهم عبر "وسائط متعددة" كالثقافة والتراث والتربية وهي وسائل تغذي التمييز وتوقد نيرانه بمزيد من الصور والمظاهر.

فالأب عندما يحابي ابن دون آخر فهو يمارس التمييز، وأفراد المجتمع من فئة الرجال عندما يضطهدون المرأة ويهضمون حقوقها فهم يمارسون شكل قاسي من "أشكال التمييز"، والمدرس الذي يقترب من طالب دون آخر لاجل منفعة شخصية فهذا هو التمييز، والمؤسسة التربوية التي تهمل المتفوقين مقابل احتضان شرائح من الطلاب أقل مستوى فهي تمارس صورة من صور التمييز، وحالة الاعتداء الناتج عن تعصب المشجعين لهذا الفريق أو ذاك في مباريات كرة القدم تعتبر حالة من حالات التمييز، كما أن فرد المجتمع الذي يحمل في أعماق نفسه كمية كبيرة من الكره والحقد ضد أخوه المواطن المخالف له في المذهب والدين والطائفة قد يترجم هذه المشاعر بعد فترة إلى سلوك وتصرف شاذ فهو بالتالي يمارس صورة من صور التمييز.

ولا ننسى الوقوف في هذا المقال أمام نوع جديد وخطير من التمييز ظهرت أنيابه على السطح منذ فترة ليست بالقريبة، ويعتبر أنتاج جديد من "انتاجات التمييز" ضد البشر ونموج للتأخر البشري في مجال الحياة الانسانية في ظل النهضة التكنولوجية ألا وهو التمييز بين البشر على أساس المال وهو يقسم البشر لنوعين فقراء وأغنياء ويسعى إلى افقار الفقراء وأثراء الاثرياء، ففي هذه الحالة قيمة الإنسان ترتبط بما عنده من أموال وثروة، أما الفقير فلا قيمة ولا قدر له ولا مكانة في هذا العالم الجديد.

وفي ظل وحشية المؤسسات المالية وتصاعد الازمات الاقتصادية بين مختلف شعوب الأرض وتزايد سيطرة رأس المال واستسلام الحكومات والمجتمعات أمام هذا "المد الخطير" فإن هذا النوع من التمييز في أزدياد ونتائجه المخزية ستفرض نفسها بقوة على أرض الواقع.

ورغم ما شددت عليه الأديان والشرائع والقوانين الإنسانية المحايدة كما ذكرنا سابقا باتجاه تفعيل معاني "المساواة بين البشر" فإن التمييز موجود وبقوة في كل بلدان ومناطق العالم حتى هذه اللحظة والقارئ الجيد لما يحدث في الواقع ولسير الأحداث وحركة الحياة يدرك جيدا أن القوانين والتشريعات الموجودة فشلت في الحد من أشكاله وصوره على الرغم من جهود كثير من المؤسسات والمنظمات الحقوقية وعدم جدوى تأثير ما يسمى باليوم العالمي لمكافحة التمييز بين البشر، لذا أمام الناشطون في مجال مكافحة التمييز أشواط ومساحات لابد من قطعها لزيادة جرعات العلاج "لآفات التمييز" مثل المساوة في الحقوق بين جميع الأفراد في البلد الواحد والسعي نحو تقزيم ما يسمى بصور الاضطهاد ضد الآخر لأن الاضطهاد واضح مهما اختلفت صوره، فتارة يكون ضد الديانة المخالفة وذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يحدث للمسلمين في الوقت الحاضر في بلدان الغرب ويتمثل في حوادث المضايقات ووقائع التحرش، وتارة ما يحدث من انتهاك لحقوق الاقليات الدينية والعرقية في كثير من الدول ومنها الدول العربية، وتارة يمنع الإنسان من الحصول على وظيفة في هذه المؤسسة لأنه من هذا الدين أو ذاك المذهب، وتارة لا يستحق المواطن هذا الامتياز لأن لونه أو عرقه مختلف عن بقية البشر المتواجدون في بقعة جعرافية محددة.

لذا "فمكافحة التمييز" تظل ممارسة ضئيلة وضعيفة على أرض الواقع ولازالت تحتل هامش بسيط من اهتمام أغلب المجتمعات والدول لانها غير مدركة للابعاد المختلفة والنتائج الايجابية لتراجع نسبة التمييز بين أفرادها وما هو الدور الحقيقي لمكافحة كافة الاسباب المؤدية لها المرض المستشري في جميع انحاء العالم.

عند هذه النقطة فإن "مسؤولية التمييز" ترجع بالأساس لأصحاب المصالح والمنافع الذاتية الذين ترعد قلوبهم وعقولهم من فكرة المساواة في الحقوق بين مختلف فئات وشرائح المواطنين لأن ذلك معناه تصدع مكانتهم المجتمعية واستلاب عوامل القوة والظلم التي يستخدمونها للتفرقة بين الناس وشق صف الوحدة بينهم حتى تنتصر مقولة فرق تسد وتبقى فترات زمنية طويلة تخدم مصالحهم الديكتاتورية.

أخيرا فإن "نسب التمييز" كما ذكرنا في أولى فقرات المقال تختلف من منطقة لآخرى فصور التمييز الذي تتعرض له المرأة والطفل وذوي البشرة السوداء وذوي الاحتياجات الخاصة والأقليات العرقية والدينية والمهاجرين في المجتمع الغربي الذي يتشكل – كما يقال- من دول قائمة على النظام والقانون والديموقراطية هي مختلفة تماما عن ما يحدث في العالم العربي، ورغم ما حققته بعض الدول الغربية فلازلت هناك جهود مستمرة ومبادارات شجاعة لتأسيس جمعيات جديدة ضد التمييز.

أما عمليات مكافحة التمييز في البلدان العربية التي لم تخرج حتى اللحظة من مرحلتها التكوينية في العقل العربي لأن العناصر الرئيسة للبلدان العربية " الفرد، المجتمع، الدولة" لازالت تستأثر بالسلطة المادية والمعنوية عند مواجهة الطرف الآخر وتستمر باداء كل أشكال التهميش والاقصاء ضده، بل تسهم في الترميم الدائم لممارسة شتى أنواع التمييز.

هذا بحد ذاته خلق صورة نمطية متدنية للواقع العربي وساهم في تكاثر "حروب التمييز" الملعنة وغير المعلنة وعطل عمليات البناء والاصلاح والنهوض والتنمية في كافة مجالات وأنشطة الحياة العربية.

ولا وجود فعلا في واقع الحياة العربية لحركة جادة توجه الجميع نحو المستقبل والامام في ظل غرق الجميع في مستنقع النظرة الدونية للغير والذي أسفر عنه بمرور الوقت غياب الوعي العام بمبدأ "الأخوة الإنسانية"، والذي يفترض بناء حس وسلوك المساواة في الكرامة الآدمية بين الناس، الأمر الذي سيجعل الجميع في مقبولية التسامح والتعايش فيما بينهم، وأن يكونوا في الواقع والحكم والقانون متساويين...وهذا ما يعتبر اليوم من أضغاث الأحلام في الواقع العربي.

الخميس، نوفمبر 19، 2009

الـقـصـة الـقـصـيـرة ومـهـارات الـقـاص المـمـيز

هيثم البوسعيدي

تقديم القصة القصيرة على صورة منتج أدبي إلى القارئ ليس بالأمر السهل فهو عمل مجهد وصعب للغاية، فالقصة أشبه ما تكون بالمنتج الذي يقدم للزبون فأما تجذبه جودة المنتج أو يدفعه تواضع النص للبحث عن منتج جديد في مكان آخر حتى يشبغ غروره ويذكي ذائقته.

وبما أن فن كتابة القصة القصيرة من أحدث الفنون في عالم الأدب، فقد تدافع كثير من الكتاب لممارسته رغم صعوبة أدواته وكثرة العابثين بقواعده.

لذا فإن الممارسة الجيدة لهذا الفن تفرض وجود قاص ماهر صاحب قدرة فائقة على الإلمام بجوانب وخصائص القصة وصهر مكوناتها على صورة حروف وكلمات وجمل تتسلل خلسة إلى قلب القارئ وتكبل تفكيره فتلزمه بقراءة النص حتى آخر حرف في القصة.

ومقدرة القاص المميز تكمن في حياكة نسيج القصة واقتناص الأفكار والحفاظ على وحدة البناء وتقديم وجهات النظر والمعلومات التي يختزنها في ذاكرته الحية بطريقة تسلسلية وبحس عميق وبأسلوب أدبي مكثف ومثير للاهتمام.

يستوجب هذا انتباه القاص لمرتكزات القصة الرئيسة: الشخصية واللغة والحادثة والفكرة واستحضار عاملي الزمان والمكان حتى يتمهد الطريق نحو انسيابية طرح الأفكار وسريان الأحداث فتصبح عملية السرد سهلة وعميقة.

وكتابة قصة يستوجب وجود قلم مميز يستطيع طرح أعقد الرؤى وتفسير أصعب القضايا واستجلاب الدلالات اللغوية التي تمزج الخيال بالواقع فتظهر الأفكار والأحداث المنسوبة للقصة بشكل مؤثر وخلاب.

وحتى تكون عناصر مثل البداية والنهاية والعقدة والحل على درجة عالية من العناية والتكثيف والتركيز، فإن القاص الجيد هو من يمسك بعناصر الكتابة جيدًا حتى يستطيع أن يفرغ على الورق كل ما يدور بداخله، فيضمن بذلك وصول هدفه إلى القارئ في سهولة ويسر.

وما سبق يدفعنا للأقرار بالامكانيات الهائلة لمن يتقن هذا النوع من النصوص لأن التجربة الحياتية ذات أثر مهم ومصدر خصب في تشكيل العالم القصصي للقاص، كما أن اتقان كتابة القصة وضمان علو قيمتها الأدبية تأتي نتيجة الاستفادة من تجارب الآخريين من مبدعين وكتاب حتى ولو لم ينل القاص نصيبا من الدراسة الاكاديمية، إضف إلى ذلك فإن عوامل مثل ملكة التفكير العميق والقدرة على التخيل واختلاق المواضيع والأحداث وجلب الصور الراسخة في الذاكرة تعتبر خطوات هامة في تشكيل قدرات ومواهب القاص.

أخيرا هناك نجاح آخر للقاص لا يدركه القارئ أثناء قراءة القصة - كما يشدد عليه بعض الكتاب – أنه الجهد الذهني والنفسي الذي يبذله القاص - على سبيل التضحية- تأكيدا لمصداقية وشفافية النص وهذا يتطلب معايشة المشاهدات الحية والمواقف الإنسانية الصعبة، عندئذ نجد القاص الجيد يتقمص شخصية إنسانية آخرى بعيده كل البعد عن عالمه الخاص ويغوص في اعماقها ويتأثر بكل ما يحيطها من مؤثرات وتفاعلات في موقف وحدث معين، مع المحافظة على توافر كل الوسائل الضرورية لممارسة فن القصة القصيرة مما يسهل في النهاية عملية نقل الفكرة والحدث على طبق من ذهب إلى القارئ.

الخميس، نوفمبر 12، 2009

حــوار مـع الــكـاتــبــة الـســعـــوديــة فــاطــمــة الحــويـــدر

أجــرى الـحــوار: هـيـثـم البـوسـعـيـدي

فاطمة الحويدر كاتبة قديرة من المملكة العربية السعودية، تغلف نصوصها الادبية بلغة راقية، ويتميز أسلوبها الأدبي بالتشويق والامتاع، حروفها تمتلأ بالاحاسيس الرقيقة وكلماتها تكتنز بطلاقة الخيال، تمارس الكتابة الرمزية ذات الدلالات والأبعاد المختلفة، أما أعمالها الأدبية فتتوزع بين القصيدة والقصة والمقال.

هي في المقابل أدبية مهمومة بقضايا ومشاكل مجتمعها بمختلف طبقاته وشرائحه، كما أنها ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة ودائما ما تسلط الأضواء في نصوصها على هموم العنصر النسائي وما يتعرض له من صور التهميش وأشكال الأقصاء.

كان هذا الحوار الشيق مع الكاتبة فاطمة الحويدر لرصد أبرز المحطات في تجربتها الكتابية:

1- ما هو الهدف الرئيس من ممارستك الدائمة لفعل الكتابة الأدبية؟

بالنسبة لي هواء نقي أتنفسه حينَ اختناق، وصدر حنون أسكبُ آلامي وأوجاعي على عتباتهْ عند ممارسة الصعود الشاق لمناحي العيش استمراراً صبور في هذهِ الحياة.. دنيا أخرى ثانية أسافرُ فيها، وأولدُ منها جديدة متجددة وإليها أظلُ أعود.. فبدونها لا أشعر بمعنى جميل لوجودي.

2-ما مدى العلاقة بينك وبين ما نقرأه في نصوصك ؟ وإلى أي مدى ما تكتبيه يمثل تجربتك الحياتية؟

هناك علاقة في البعض منها وليس الكل فأنا أكتب عن هموم الغير أيضاً وأعيش المعاناة تفاعلاً لا شعورياً عميق وكأنها مأساتي، ولي العديد من القصائد والكتابات في هذا الصدد.. بعضها نشر وبعضها ليس بعد، أما ما يمثل التجربة .. فهو في أنواع الظلم الواقع على المرأة عامةً بتهميشها والحط من شأنها عن طريق فرض قيود رهيبة قاسية محكمة الإغلاق عليها وتكبيلها بطوقها الفولاذي دون النفاذ منها، بلا رحمة أو وازع من ضمير أو حتى صفة إنسانية.

3-ممارسة الثقافة عبر العالم الافتراضي هل تختلف نتائجها عن الممارسة التقليدية للأدب؟

نعم فهناك في عالمك الافتراضي تستطيعُ بإحساسك المرهف ملامسة وجه الشمس الحارق ومداعبة أسلاك النور الجامحة وتحقيق المبهم والخارق من الأمور دون ترمد أو تلاشي، ومن ثمَ التحليق بالشعور انسيابية متناهية الذوبان بلا ثوابت.. ارتقاءً فانعتاقاً عالياً جداً مع طيور الحُلم، ترفرفُ أجنحة خيالك المفرودةِ ورداً مضمخاً بالشغف فوق قمم جبالٍ شاهقة المجهول لقطف ندى نشوةٍ حبلى بعبق ارتواء لا ينضبُ معينهُ أبداً ولا تنضوي شعلته.. فيضهُ يظلُ أبداً هارباً منك إليك.. متجلياً فيكَ غيمهْ أفقاً غامضاً ممتداً سهوباً خضراء التطلع، سماءُ فضائها لانهائي المدى ..تنسكبُ فيها حواسك المفعمة شبقاً أسيل في تناغمٍ لذيذ حدَّ بلوغ الذروة ..دون السقوط الركيك في براثن الخجل أو الانكماش الخاضع تراجعاً وتلكؤَ خيبة، ففي عالمك الافتراضي ذاك تنحلُ الروح من قيود جسدٍ ثقيلة هي مثقِلة أبداً لرؤى النفس البشرية..صخباً ملتهب البوح..كسجيرِ جمرٍ ساكن اللهب، متضرجاً أبداً حرارة في سكونِ هباءٍ بارد.. دون خوف أو وَجل.. فهناك تنطلقُ أبعادك المعنوية والحسية بحرية كاملة وبانسيابية فائقة الخلاص تتخطى جسورَ وهم ٍقاهر الحواجز ومجاهِلَ سدودٍ بليدة النهاية..لتعلو بشفافية قصوى حدَّ بلوغك التماهي عبر دقائق الأثير.. تعانقُ خفاء المبهم.. و تعبرُ المستحيل.

4-تتميزين بتنوع في انتاجاتك الادبية فأنتي تجيدين كتابة القصة والقصيدة والمقال، فما سر هذ الالمام بمختلف الادوات المنتجة لهذه الاجناس الأدبية؟

أولاً- ُتوِجَتْ سنين عمري الخمسة عشرة بجائزة أفضل كاتبة على مستوى المنطقة وكانت هذهِ البداية، فتلك ( الجائزة النور) كانت كقنديلٍ مشع أنارَ لي طريق الاستمرارية، يظلُ فتيلهُ الوقاد يضيءُ شغافُ عشقي لسحر البيان نبراساً أسيرُ على دربه مما جعلني ذلك أستمر في الكتابة وحفزني أكثر للمواصلة والعطاء بجزالة وأنا بطبعي صادقة المشاعر جداً بعيدةٌ عن المداهنات والصعود الرخيص الذي دائماً يكون ثمنهُ بخس كحب الظهور المتسلق والمتطفل حتى على حساب نفسه، انحدارً بعزة النفس للوصول و لو على الغير أو الظهور بمظهر غير كريم ولائق، وذلك فقط للاشتهار وهوس المعرفة، لذلك لم أكتب في الممنوع والمخالف أو المسكوت عنه ولم أرق ماء الكرامة على أقدام الاستجداء المستغل لنوعية الظروف..لأجل هدف بعيد أو قريب.. وكانَ لسطوة الأقدار وصروفها حظوظٌ في المسيرة ، وتحضرني هنا حادثة حصلت معي منذُ زمن عندما عرضت علي إحدى الزميلات الكتابة في إحدى الصحف المحلية بعد أن أُعجب المسئول بما أكتب وتمت الموافقة ولكن الرفض أتى من جهتي لغرابة الطلب المرفق.. ( بمقابلة شخصية )كشرط لإجازة النشر !؟ فعجبتُ من هذا الخلط الغير مبرر والغير مفهوم أو مقبول .. ومنها لم أحاول مجدداً الكتابة في الصحف الورقية..حيثُ النشر متوفر بكثرة ( بصفحات الأدب ).. واكتفيتُ فقط بالمساحة المفتوحة في النت، ولهذا ومع أني كاتبة منذُ الصغر ومتمكنة من أدواتي الكتابية لم أصل لمستوى شهرة الكتاب الجدد ! ولكنني أدركُ جيداً أن زمام الوصول الحقيقي بيد الزمن المنصف، ترسو موانئهُ العادلة عند الضفاف فتقدر حينها حق قدرها ؛ ويبقى اعتزازي أنني عندما أكتب في أي شيء.. اكتبهُ بصدق وإخلاص متفاني ومن أعماق القلب وبتأثر عميق، ففي كل مجال أدخل فيه أعطيه كامل حقه وبكل ما أملك من قدرات، فما أن امسك قلمي حتى يتدفق الشعور غزيراً صافياً منهمراً حدَّ الإغداق.

5-الأدب النسوي في الخليج ما هو رأيك فيه وإلى أي مدى استطاع أيصال الهموم والقضايا التي تعاني منها المرأة الخليجية ؟

مزدهر وجميل، غني ومتميز، أما الإيصال كقضايا مصيرية عالمياً وحتى إقليمياً فربما إلى حدٍ ما معين لم توصل الصورة المطلوبة.

6- الثالوث المحرم : الدين ، السياسة ، الجنس ، هل من السهولة التعرض له أو تجاوز خطوطه الحمراء في أدبنا العربي؟

إذا كان الهدف هوَ معالجة المشكلة فلا بأس من الطرح، وحتى التقبل من الآخر يكون أشد تأثيراً على المتلقي ..إذا كان موضوعياً ويسلط الضوء على الحلول..أما إذا كان الهدف من تجاوز الخطوط الحمراء ( الترويج للشهرة ) وللوصول السريع فقط بحيثُ يكون خادش للحياء في مسألة الجنس أو مثير للفتن في مسألة الدين ومؤججاً للحروب عبر المصالح الشخصية .. اتكاءً على أشلاء الآخر كما في مسألة العبث السياسي الحاصل وهلم جر .. فهو فاقد للمصداقية ولا يفتأُ أن ينطفئ قمره ويتلاشى مهما أضاء و استمر على الساحة.

7-ما هي أوجه الشبه والاختلاف في الرؤى والأفكار بينك وبين الكاتبة وجيهة الحويدر؟

أوجه الشبه بيننا نحمل نفس الهموم الأنثوية..

وأوجه الاختلاف هيَ واقعية وبقوة وأنا شاعرية حدَّ التناهي.

8-نشاط الملحوظ في مجال الدفاع عن حقوق المرأة ماذا اضاف إليك كأمرأة؟ وما تقييمك لواقع المرأة في الخليج؟ وهل نالت حقوقها أم لا زالت في أول الطريق؟

في الحقيقة لم يغير من الواقع المر شيئاً يذكر.. لأنهُ لم يؤطر بالقوانين الصارمة والعقوبات الرادعة للمهمِّشين والمضطهدِين لحقوق النساء، أما واقع المرأة في الخليج فأفضل بكثير وفي تطور مستمر كما المرأة العمانية التي تقود السيارة ونرى تواجدها في كل مكان حتى في المطارات وبالشرطة النسائية والفنادق كقوى عاملة وكفرد فاعل في المجتمع وكذلك المرأة الكويتية فقد نالت الكثير من حقوق لا نزال نحلم بها في عالم الخيال كحصولها مؤخراً على حق السفر واستخراج الجواز لها ولصغارها دون إذن من محرم أو هبة من ولي.

9-حياتك في الولايات المتحدة واختلاطك بأشخاص ينتمون لثقافات متعددة، وتعرفك عن قرب على بيئات مختلفة هل مثل لك ذلك حافز كبير نحو طرق أبواب مغلقة في عالم الكتابة ؟

نعم فدراستي جزء من الثانوية والجامعية هناك بمثابة من يشعلُ مصباحاً ساطعاً بقوةٍ شديدة الوهج، وبلا حدود أو مساحات على ظلام غرفةٍ سجينة العزلة،كانَ مُسدَلاً على ضعفها حصاراً مقيت يظلُ ديجور ليلهِ المدلهم.. يقتاتُ نور رؤاه ُ المُراقب تداعيات بصيص ٍواهنٍ لشمعةٍ صغيرة جرحها إصبع الثقاب فأشعلها انطفاء، تسكنُ أبداً زوايا ظلمة الحياة لأنثى عربية أتت من بلاد الشرق، هذا كفِكر وتنور، أما ككتابة فلقد كان تنوع مشاهد الطبيعة الخلابة المبهرة واختلاف التأثيرات المناخية الفريدة على طقس البلاد هناك هو بمثابة الفردوس الفاتن لدنيا ساحرة منشودة البهاء جمالاً آسر ، سبباً لإثراء الخيال ونبع القريحة.

10-منذ فترة كانت لك زيارة خاصة للسلطنة؟ كيف وجدتي عمان وأهلها؟

نعم كنتُ في عمان أيام فكأنها ثوان.. وليتني ما زلتُ هناك فقد تيمتُ بها عِشقاً ولهان .. وسأعودُ إليها دون توان .. فبرغم سفري المتعدد للكثير من دول العالم العربية منها والغربية إلاَّ أني فتنتُ جداً وبقوة بجمال عُمان فتشربتها العروق حدَّ التعلق .. بل وبهرتُ بمنتهى الدهشة بجبالها الشاهقة السمراء.. الراسيةِ في خشوع جليل خلاب آسرٌ للنظر.. والمحيطِ شموخها الجميل المنبسط ملِكاً على معظم معالم المدينة "مسقط"، باعثاً منظرها المُهيب رهبةً وخشية، مدينةٌ تحتضنُ الصلابة بحب حاني.. ويحرسُ حدودها مزيج من صمتٍ متدفق الحماية حدَّ التمكن وانبساطٍ بديع مترامي الأطراف.. يمنحها طابع الحِصانة بود حميمي وملامح الصرامة بأنفة صمود تراثي عريق، وبالجانب الآخر تستلقي في دلال شواطئها الساحرة كعقدٍ ماسي مجدول، تتخللُ سكونه سفنٌ كبيرة تزينُ جيد الماء.. محملة بغنائم الصيد الكثيرة، تشاركها بهجة العوم قوارب صغيرة تلقي بحبال شباكها الرمادية هنا وهناك في عبورها المائي الرشيق.. مما يجعلُ المكان يتدفقُ حيوية حركة نابضاً أبداً بثراء الحياة، في حين يسري بينهم بجمال هادئ دفءَ خضارٍ صافي اللون.. ساحر الجمال.. طرزتهُ أعناق نخيلٍ طويلة باسقة، سامقة الارتفاع، مشرئباً فيها العنفوان كبرياءَ فتنة.. ممتدةً أعناقها ظلالاً وارفة الإغواء على طول الطريق.. يطلُ عليكَ حسنها المورق زهواً بهيج.. متمايلاً فيئها الحالم خيلاءً بهي هوَ محبب للنظر جاذبٌ للعين ( كغيدٍ حِسان) يمثلن طبيعتها الوادعة الحلوة ، فكنتُ أحبُ منظر الشروق عندما تلقي الشمس ببواكير نورها الفضي على زرقة البحر لديكم فيزدهرُ الماءُ بموجٍ عاجيُّ البريق.. متساقطاً حبات ثريا على وجنة البحر الكبير، تكسرُ لآلئهُ الساطعة عيون الضياء، ُمزيحاً الغيم وشاحهُ الأبيض الهفهاف عن غفوة الصبح المستيقظِ لتوِّه ولهاً محب.. مأسور الهيام بمفاتن هذهِ المدينة الغيداء، متجدداً صِباهُ لها حضن عودة.. غاسلاً نداهُ الرطيب أجنحة نورسٍ يحلقُ مع خيوط الفجر الأولى، وما أن تعانق زرقتهُ الداكنة شهب الضياء..حتى يسرع مدهُ الفيروزي الدفيء عدواً جانحاً نحو ثرى السواحل ينثرهُ قلادة زبدٍ صافٍ، متلألئاً ذُراهْ لهباً ساطع الحسن على صدر الرمال، مداعباً فيضهُ المقتربِ بلطف رقيق المراوغة أطرُفَ قدماي المدفونة في رطوبة تلك الرمال البيضاء، وبسلاسةٍ ناعمة يغدقُ انحسارَ طفوهْ على وحشتها نشوة سعادةٍ لذيذة ودغدغةِ لدونهٍ باردة.. ثم يغادرُ جزراً هارباً مسرع الرحيل نحو مجهولِ فراغ، تاركاً أثرهُ الآسر مطبوعاً في أعماق الذاكرة ؛ وقد شدَّتني نظافة البلد الملحوظة بقوة وترتيب شوارعها المنظمة والجسور المنورة المتناسقة مما يدل على حضارة ورقي أهلها والطيبة الشديدة النادرة التي لمستها في أهل عمان بل وعشتها هناك ، ( فللعمانيين تنحني الأخلاق العالية الرفيعة ).

11-هل من كلمة أخيرة لقراءك ومتابعي أعمالك في السلطنة؟

كلمتي الأخيرة.. أصدرت كتاب ( الرقص بألم على حافة من زجاج ) عام 2006 .. موجود بمكتبة جرير بالسعودية وبمكتبة النيل والفرات وبصدد رواية قيد الإنجاز، وكذلك التفكير بجمع وطباعة أشعاري في كتاب شامل ؛

( تحياتي الخالصة إلى الشعب العماني الأصيل وإلى الكاتب المبدع المتميز هيثم البوسعيدي )

الثلاثاء، أكتوبر 20، 2009

هيثم البوسعيدي: النقد حلقة مفقودة في منظومة الأدب العربي

الزمان
حوار: بسام الطعان
هيثم البوسعيدي كاتب وقاص وباحث عُماني،أبحاثه تتناول المواضيع الفكرية والأدبية والنفسية،وقد بدأ يسير علي طريق الإبداع بخطوات بهية،حاصل علي ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كوفنتري البريطانية، ينشر نتاجه في الصحف والمجلات العُمانية والعربية
û من أين تشكل عالمك القصصي، وما دور البيئة المحيطة بك في ذلك؟
- عدة عناصر تساهم في تكوين عالمي القصصي فمن القراءة المكثفة إلي التجربة الحياتية الزاخرة بالأحداث الصعبة والمشاهدات الحية والتنقلات المتكررة من المدينة إلي القرية، أضف إلي ذلك وجود نعمة التأمل وملكة التفكير العميق والقدرة علي التخيل في تطوير المواضيع والأحداث وتحويلها بسهولة إلي نصوص أدبية تمزج بين الواقع والخيال، كما إن جلب الصور الراسخة في الذاكرتين المختزنة والمتخيلة إحدي الخطوات الهامة في تشكيل النواة الأولي للقصة ثم تأتي أدوار اللغة والثقافة في إنتاج القصة وتقديمها بشكل مميز ومؤثر للقارئ العربي، أما البيئة فهي مصدر خصب في حياة القاص ودورها هام جدا فالمدرسة والقرية والمدينة والجامعة وبيئات العمل المختلفة تعتبر في ذاكرتي أماكن متفرقة استطعت من خلالها معايشة كثير من التجارب واللحظات والقضايا التي أفادتني كثيرا في تجربتي القصصية.
ûما هي إنجازات القصة العُمانية، وماذا أضافت للقصة العربية؟
- القصة العمانية قدمت اسماء جميلة وحققت بعض المنجزات مثل الفوز بجوائز عربية ومسابقات خليجية،كما إن تزايد أعداد الكتاب يبشر بأن القصة العمانية بخير وعطائها قادم بقوة...ولكن حتي اللحظة لا زالت القصة في السلطنة ترواح المنطقة المحدودة وتخشي الخروج من الأبواب المغلقة بحيث إنها لم تتطرق للقضايا المهة والمواضيع الحساسة التي تلامس هموم الانسان وقضايا المجتمع ولم نشهد لمسيرة القصة العمانية في العقود السابقة مواكبة حقيقية لمختلف الظروف والأحداث التي مرت بها منطقة الخليج وعمان خصوصا، وربما يرجع ذلك لوجود قطيعة بين فئة القاصين وشرائح متعددة من المجتمع.
كما أن هناك حلقة مفقودة بين من يكتب في الصحافة الورقية ومن يكتب في الصحافة الرقمية، أضف إلي ذلك كسل القاص العماني عن المشاركة بفعالية وقوة في المواقع الإلكترونية والمجلات الورقية العربية .
أما ماذا قدمت القصة في عمان للقصة العربية؟ فأقول قدمت القصة العمانية أعمال جيدة ونصوص مميزة ولكن علي الرغم من ظهور ملامح التميز ووجود أقلام متميزة فالقصة العمانية ينقصها دعم المؤسسات الإعلامية ودور النشر، كما أن الجرأة في طرح المواضيع وحضور قضايا الإنسان الحقيقية سيسهم في إعلاء مكانة القصة العمانية وبروز موقعها بشكل أوضح في خارطة القصة العربية.
û هل تفضل أن يكون البطل في قصصك الفكرة أم اللغة؟
- القارئ يحتاج دائما إلي موضوع ممتع يجذب انتباهه ويجبره علي القراءة حتي آخر جملة في القصة، وهذا الأمر يتطلب اختيار فكرة جميلة ومؤثرة، كما إن القارئ تهزه المفردات وتبهره الكلمات التي تدخل إلي قلبه بدون استئذان فتجده يستمتع في ظل وجود لغة شاعرية وعبارات رشيقة تنساب بين جداول الكلمات وأنهار الحروف.
لذا فإنني أري أن الفكرة واللغة يتقاسمان البطولة فهما عنصران رئيسان في بناء القصة المميزة فاللغة مهمة لإيصال الفكرة فهي بمثابة القلب النابض والرئة التي تتنفس من خلالها القصة، كما أن ابتكار الأفكار واختلاق المواضيع لن يكون سبب رئيس في نجاح النص الأدبي مالم يرافقه لغة ماتعة ذات أثر انطباعي في نفسية القارئ.
û تنشر نتاجاتك في المطبوعات العربية اكثر مما تنشر في المطبوعات العُمانية، ما السبب في ذلك؟
انشر بعض نصوصي في بعض الملاحق الثقافية في الصحافة العمانية، ولكن اطمح دائما لنشر نصوصي في أماكن متفرقة وأتمني الوصول إلي أكبر شريحة من الناس وذلك من أجل تعزيز التواصل مع القراء والأدباء والمثقفون العرب لذا فأنا أشارك بإستمرار في العديد من المواقع والمنتديات والجرائد الالكترونية العربية.
û مة اقرأ ، هل مازالت تقرأ، أم تخلت عن ذلك؟
- وضع القراءة مأساوي جدا كما تشير الإحصائيات كما أن أعداد القراء في تناقص، وهذا يعود لعدة عوامل منها قصور مناهج التعليم ودخول وسائل اعلامية آخري علي الخط سهل وجودها الحصول علي المعلومة بطريقة سريعة وتقديمها علي طبق من ذهب، كما إن ظروف الحياة العامة وما يتخللها من صعوبات وعوائق ساهمت في تقليص فترات القراءة لدي الفرد.
لذا نحن بحاجة لمشروع ضخم يعيد القراءة لمكانتها الحقيقية في حياة الأمة حتي نعود مثلما كنا " أمة أقرأ "، وبطبيعة الحال فإن المثقفين رغم ما يواجههم من صعوبات وعوائق هم الأحق بقيادة المشروع الذي لابد أن يبدأ أولا بإصلاح مناهج التعليم مرورا بتوجيه أفراد الأسرة نحو القراءة الفاعلة والمطالعة المفيدة حتي ننتهي بمعالجة القصور الواضح من قبل وسائل الاعلام تجاه القراءة.
û الأدب العربي لا يطعم خبزا، بينما المبدع في الغرب يجني الملايين من إبداعه، لماذا؟ هل نحن أمة لا تقدر الإبداع والمبدعين؟
- هذا الرأي صحيح، وربما يعتبر صورة من صور الانحطاط والتردي الذي تعيشه الأمة منذ قرون، فالمبدع في عالمنا مغيب ومهمش ومبعد، قد فرضت عليه نوع من العزلة أو القيد، بل إن كثير من أصحاب القرار والسلطة والمال والاعلام في عالمنا العربي اليوم لا يريدون مثقف واعي أو مبدع مرفه، أنما يجتهدون في توجيه الناس نحو اتجاهات أخري قد تكون بعيدة عن عوالم الثقافة والأدب والعلم لأنهم يدركون تأثيرات الابداع وعمق نتائجه فهو الشرارة الأولي نحو الإصلاح والتغيير وهو إحدي العوامل المهمة في تشكيل الوعي الفردي والجماعي في كثير من المجتمعات.
أما علي الصعيد الشخصي فممارسة الأدب مصدر متعة ووسيلة رائعة لتفريغ الأفكار ولم أري الكتابة يوما ما مصدرا للراحة المادية.
û غالبا ما نري إقبال الناس في عالمنا العربي علي الكوميديا والتراجيديا أكثر من الإقبال علي الثقافة الحقيقية ، بماذا تفسر ذلك؟
- الاتجاه نحو الكوميديا والتراجيديا وأصناف اللهو وأشكال التسلية هروب من الواقع وبحث غير مجدي عن حلول جاهزة، بل هو أشبه بإبر المخدر، في حين أن ممارسة الثقافة الحقيقية هي عملية مكاشفة لما نمر به من ظروف ، نستطيع من خلالها البحث عن حلول جذرية لكل مشاكلنا وأوضاعنا حتي لو تطلب الأمر فترات زمنية وجهود جبارة عندئذ سنصل لما نريد وما نطمح وسنكون اقرب إلي الصلاح والتغيير الذي يهدف في النهاية إلي الكمال في التصرفات والسلوكيات.
û المحسوبية والشللية موجودة كدمّلة قبيحة في وجه المشهد الثقافي العربي، هل توافق علي هذا الرأي؟
- لا أنكر أن الشللية ساهمت في تلميع كتاب هم بالأصل كتاب متواضعين ثقافة وفكرا وإنجازا، كما أن الشللية أدت إلي إهمال أعمال إبداعية وأدت في نفس الوقت إلي الاهتمام بإعمال دون المستوي، ولكن ليست العبرة بالعلاقات أو تقاطع المصالح الشخصية أو امتلاك مهارة العلاقات العامة وليس المهم للأديب فقط الظهور في وسائل الإعلام أو اكتساب الشهرة، ولكن السؤال الأهم: كيف بإمكان الكاتب المحافظة علي مكتسباته الأدبية لفترة أطول؟ هنا تتضح حقيقة الكاتب الحقيقي والكاتب المصطنع.
û يلاحظ أن القصة المكتوبة بلغة شعرية عالية لها جمهور لا يستهان به عكس القصة المكتوبة بلغة السرد البسيطة، فهل تكتب باللغة الشعرية المكثفة أم باللغة البسيطة؟
- فعلا أتفق معك حول أهمية اللغة الشعرية وأنا شخصيا أسعي نحو إتقان اللغة الشعرية فهي مخزن للعبارات المؤثرة والصور الخيالية ومحفز قوي لظهور عنصر الإبهار وتفعيل خاصية السرد عبر نسيج القصة المترامي الأبعاد، وبالتالي قد يحقق القاص بامتلاكه أدوات اللغة الشعرية جزء من مهمته في إمتاع القارئ وإشباع ذائقته.
û كباحث وكمنتج للنص الأدبي، هل لك غني عن فعالية النقد، وكيف تصف الحركة النقدية في سلطنة عُمان؟
- أعتقد أن العلاقة بين الكتابة والنقد علاقة مطردة وتفاعل النقاد يأتي نتيجة وجود نصوص راقية وأعمال إبداعية، لذا ليس بمقدوري شخصيا الاستغناء عن عملية النقد الهادف.ولكن دعني أتسائل أين هم النقاد الحقيقيون؟ للأسف النقد هو الحلقة المفقودة في منظومة الأدب العربي، أما بالنسبة للحركة النقدية في السلطنة إن صح تسميتها بهذا الاسم فرغم بعض الكتابات النقدية المتواضعة والندوات القليلة التي أقيمت عبر فترات زمنية مختلفة فإن تزايد أعداد الكتاب في السلطنة لا يعادله حركة نقدية فاعلة أو اطراد في أعداد النقاد، وربما الغالبية من فئة الأدباء والمثقفين تغرد نحو سرب الكتابة استسهالا للفعل الكتابي، أما عدد المتخصصين في مجال النقد قليل لا يتعدي أصابع اليد الواحدة.
أما إذا أردنا تشريح سلبيات النقد في السلطنة لوجدنا أن الساحة لا تخلو من المجاملة أو التعاطي بشكل شخصي مع الأعمال الإبداعية، كما إن التعامل مع النصوص ينم بعض الأحيان عن المستويات الضحلة التي لا تتطرق إلي الأبعاد الفنية والفكرية في الأعمال الأدبية ويتضح الخلط بين النقد وعنصر الانطباعية، ولا أنسي التذكير أن المحظوظ من كتاب السلطنة هو من تقع نصوصه بين أعضاء المنتدي الأدبي أو النادي الثقافي في مسقط ، فيجد من يقدم دراسة نقدية عن نصوصه أو مجموعته القصصية، ولكن حتي هذه الدراسات تعتبر دراسات قاصرة غير متكاملة ليست ذات أثر في المستوي الأدبي المنثور في الصحافتين الورقية والرقمية في السلطنة، بل لا نشهد لها أي أثر ملموس في مسارات أو اتجاهات القصة العمانية أما المتبقي من الكتاب وإن صح تسميتهم باللامحظوظين فإن مصير كتاباتهم إلي الإهمال والنسيان وسلة المهملات.
û الأدب العربي من المحيط إلي الخليج هل يعاني من أزمة، أو حالة من الفوضي؟
- في الحقيقة هناك أزمة أدباء لا أزمة أدب في العالم العربي وهذا الأزمة جعلت الأديب العربي يعيش علاقات متوترة غامضة المعالم مع أطراف عدة كالسلطة السياسية والسلطة الدينة والسلطة المجتمعية التي تدعي الدفاع عن الموروث الأخلاقي وبالتالي لا زال الكاتب العربي يجد نفسه أمام ثالوث محرم لا يستطيع تجاوزه أو تخطي عقباته لأنه سيصبح عند ذلك متمرد علي الأخلاق والقيم والقانون وهنا تبرز القيود والحدود التي صنعت بالأساس هذه الأزمة المستمرة.

السبت، أكتوبر 17، 2009

حـــوار مع الـقــاص والـصـحـفـي العــراقـــي هــيــثـــم الـشـويــلــي

أجـرى الـحـوار: هـيــثــم الـبـوســعــيـــدي

هيثم الشويلي قلم جميل وحرف ممتع من بلاد الرافدين وصاحب مسيرة مميزة في عالم الكتابة والصحافة، تتنوع نصوصه بين كتابة القصة القصيرة والمقال الادبي والخاطرة...يحاكي في نصوصه الأدبية الكثير من القضايا الشائكة والمواضيع الحساسة، مآسي العراق وعذاباته الدفينة ليست بعيده عن فكره الراقي وقلبه النابض فهي ساكنة بين حروف مقالاته وكلمات نصوصه....يثري قصصه دائما بالقيم الإنسانية ويهتم بجذب القارئ نحو المبادئ النبيلة.

عوامل عدة وأسباب مختلفة ساهمت في صقل تجربته الكتابية وتنمية وعيه الفكري والمعرفي، منها عمله في الصحافة العراقية واطلاعه على الأحداث الساخنة ومخالطته لأبرز الكتاب، كما إن إتقانه لكتابه القصة وتفوقه الصحفي جعل منه قلما ناجحا تسعى العديد من الصحف والمجلات العراقية للفوز بإبداعاته الأدبية والظفر بتحقيقاته الجريئة.

في هذا الحوار اقتراب من الأديب العراقي هيثم جبار الشويلي وتجربته الكتابية :








*حدثنا عن بدايتك في كتابة القصة؟
منذ أن ارتشفت الألم وشاهدتُ أبناء مدينتي يسقطون الواحد تلو الآخر في اتون حرب لا طائل منها على مدى ثمانية أعوام ، أحسست برغبة جامحة تجتاحني تغلي في داخلي وتفورُ كفوران التنور ، لم يكن أمامي سوى الورقة البيضاء لافرغ عليها كل همي وما في داخلي ، فكنت كلما أختلي بورقتي البيضاء اتذكر تلك المقولة التي تقول لايجتمع اثنان إلا وثالثهما القلم ، فكنت اكتب بحرقة وألم شديدين ، كل حرف كنا نكتبه في العهد السابق ، كفيل بأن يسوقك إلى سجون مظلمة ، رثة ، رطبة ، أو إلى حفيرة صغيرة لاتحاكم فيها بعدالة لتدفن في الصحراء بلا ذنب يذكر ، بإستفراغ بسيط لعوالمك الخفية ، تساق إلى عالم مجهول تموت بأشهى وألذ أنواع العذاب ، كل تلك الصور بل أكثر منها وأشد مأساوية ، ففي ذاك العهد كان الكتاب حكراً علينا ، كان كصواع الملك ، من وجد في بيته فهو جزاؤه ، فما أن تنضج كتاباتنا وتصبح مادة سائغة عذبة للقراء حتى نمزقها أو نعمد إلى حرقها ؛ لئلا تقع في أيدي من هم اشد بطشاً وتنكيلا ، كانت الكتابة مصدر قلقهم وخوفهم فهم يدركون تماماً أن الكاتب يهدد عروشهم سواء كانت بسيطة أو ذات مغزى ، من هنا تحركت لدي عوالم القصة القصيرة كونها تعبر عما يدور في خلجات النفس العميقة والتي لايدركها إلا كاتبها ، كانت أول قصة كتبتها ونشرتها فعلاً تحت عنوان (يتيمُ في مقتبل العمر) كانت هي الانطلاقة الحية لاجتياح عوالم القصة القصيرة لاني عرضتها على قرائها وما أن قرئها بعض القراء حتى تلألأ الدمع في أعينهم ؛ أدركت بأني أتعامل مع النفس البشرية الحية ، وانفذ حيث شغاف الروح تكمن هناك ، كانت القصة الأولى لي هي الدافع الحقيقي للتمسك بقضبان القصة.

*ماذا عن تجربتك في عالم الصحافة؟
الدخول لمعترك الصحافة كان صعبا ، فبعد انتهاء زمن الخضوع والخنوع تعددت الصحف وأصبحت كثيرة لكثرة الأدباء والكُتاب ، فكنت كباقي الكُتاب أعمل بصفتين مصمم صحفي وكاتب وقاص وفي بعض الأحيان تجدني ناثراً.
*من أين تشكل عالمك القصصي، وما دور البيئة المحيطة بك في ذلك؟
بيئتان ... لي أشكل منهما عالمي القصصي ، بيئة محيطة بي أستقي منها كل شيء ، فهي بيئة حقيقية أتقمص شخوصها وأبطالها فالبيئة الحقيقة واضحة لاتحتاج سوى للترجمة القصصية بالنسبة للقاص ، وبيئة أخرى مصطنعة أوهمُ بها نفسي أحلق بها كيفماء أشاء ، فأبطالها كالدمية بيدي أحركهم متى ما أشاء لأكون أكثر حرية ولأفك كل القيود الحقيقية التي تفرضها الواقعية ، ولتكون أقرب للامألوف لتكتسب جاذبية ولتستقطب نقد القراء، وهذا ما أطمح وأصبوا إليه في أغلب قصصي

*لمن تكتب؟ ولمن تتوجه بقصصك؟
أكتب للجميع ، لكل القراء ، لعشاق القصة ، لمن يبحث في ثنايا الروح عن لوعة الوجدان ، أكتب لتأوهات تخرج من قلب مجروح ، أكتب للجمال ، أكتب للعشاق ، أكتب لأنثى تجهلني لاتعرفني ؛ لاتعرف بأني أعزف على ذات القيثارة التي كانت تعزف عليها (شبعاد) ، وأخيراً أكتب لي ، لنفسي ، لذاتي ، لمن يبحث في داخلي عني ، لمن يعلم بأني أنا.
*في رأيك الى أي مدى تساهم أدوات القاص اللغوية في تطوير أسلوبه القصصي؟
التمكن من اللغة وتراكم الصور الذهنية وتزاحمها ، تشبع تلافيف الخيال بصور جمة ، أضف إلى ذلك تشعب اللغة وجمالها وبوجود الفكرة القصصية تجتمع كل هذه الأمور تسكب القصة في قارورة أشبه بقارورة النبيذ ليحتسيها القارئ وصولاً إلى نشوته بتلذذ القراءة ، فمتى ما أمسكت بزمام الأمور حتى تصبح قاصاً بارعاً تتفنن بمفاتن اللغة وزخرفها.
*من وجهة نظرك : ما هي مكونات القصة القصيرة الناجحة؟
عدة أشياء تجعل من القصة القصيرة ناجحة أهمها
1- الفكرة : فهي محور القصة والمرتكز الحقيقي الذي ترتكز عليه وتستند القصة القصيرة.
2- الشخصية : هي من تضفي على القصة مبادئ الجمال ويجب أن تكون ذي دراية تامة بأسس تكوينها وترتبط أرتباط وثيق بالبيئة المكونة لها ، فهي كما يقول علماء النفس تتأثر بالبيئة المحيطة بها تأثراً كبيراً كونها تجعل منها شخصية قوية أو ضعيفة وهما بدورهما أي الشخصية والبيئة يتوقفان على الفكرة التي ينشأها القاص في مخيلته بالاعتماد على الافق الواسع في عالم الخيال للقاص ذاته.
3- اللغة : التمكن منها يجعل القصة أجمل وأروع.
4- الصور الذهنية : تُمكن القاص من التنقل بحرية تامة في أجواء القصة القصيرة.

* كيف تقييم وضعية القصة القصيرة في العراق؟
باعتقادي ؛ لئلا أكون منحازاً إلى كتاب القصة بالعراق ، مع اعتزازي وتقديري لكل كُتاب القصة العرب المبدعين ، أن القصة في العراق جاءت من مخاضٍ عسير فهي نتاج للحزن والألم والقهر والكبت وكل تلك العوامل تجعل من القاص كالقنبلة الموقوته ما ان تسنح لها الفرصة للانفجار حتى تتشظى بألوان قصصية رائعة ، وتجعل من كاتبها يتربع على عرش الإبداع وفي قمة مملكة القصة ، فحرب الثماني سنوات والحصار الاقتصادي والاحتلال الامريكي ، تعطي للقاص خيالاً أوسع وأكبر وسأذكر لك قصة قصيرة جداً في محل الشاهد ، تحت عنوان (انفجار) ((كان بالقرب مني يكلمني، يمازحني، فاغراً فاه صوب السماء، يطلق قهقهات عالية، افترقنا كلانا وباتجاهين متعاكسين، غصت أنا في زحمة المركبات الهاربة برجليها فوق الاسفلت الحار واللاهثة صوب العالم المجهول، بينما غاص هو في أكوام الشظايا المنبعثة من مركبة لاتفقه ُ من جمال الحياة شيء)).
فنحن في بلد ابتلي بالويلات والنكبات ، وهذا الألم هو من يجعل من القاص مشروعاً حقيقياً للإبداع.
*حدثنا عن معاناة المثقف العراقي في ظل الاحتلال والازمات التي عاشها العراق العزيز؟
فعلاً للمثقف العراقي معاناة كبيرة ، كنت سابقاً أيقن بمن قال لي بأن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين ، لكني اليوم أيقن بان لاحرية لي إذا تجاهرت بالحقيقة لاتهجماً ولاتهكماً لكني أخشى على نفسي القتل ، فقد يؤدي بي قلمي إلى عوالم ما وراء الطبيعة ، فحياة المثقف مرهونة بالأحرف المجتمعة فوق الورقة البيضاء التي مازالت تهد عروش الظلمة وتفتك بمملكتهم ، لكني لا أخفيكم سراً ؛ الاحتلال شجع الكثيرين على الكتابة وتعددت الروايات والقصص القصيرة والجميع كتب في هذه الفترة وفي ظل الحرية المتاحة لنا.
*ما هي مشارعك الأدبية الآنية منها والمستقبلية ؟
بالنظر لقلة ذات اليد فقد عكفت على الكتابة من دون الاصدار فلدي مجموعة قصصية مخطوطة بعنوان (ما تبقى من القرون الوسطى) ولدي أيضاً مجموعة أخرى عكفت على أن تكون ذات منحاً خاص ، تتضمن قصصاً تحمل فكرة واحدة فقط ولكن بأساليب متنوعة ، اعكف على إكمالها واتمامها بعنوان (للموتِ وجه آخر) ولدي رواية مخطوطة (اعترافات شبه مشبوهة) كُتبت في ظل الاحتلال لمجندة امريكية في العراق ، سعيتُ لأن تكتسب الشخصية سمة الحقيقة والواقعية ، لدي أيضاً مسرحية (رسالة ماجستير) عرجت بها على شخصية الإمام علي (ع) برؤية حداثوية جديدة لانتقد من خلالها الاداء الحكومي في عدم عدالته ، أما مشاريعي المستقبلية فلدي الكثير من الرؤى والأفكار بحاجة الى الوقت الكافي للكتابة ، لا أستطيع الافصاح عنها إلا حالما انتهي من كتابتها.

*في نهاية الحوار...هل من كلمة أخيرة؟
أخيراً لايسعني إلا أن أتقدم بالشكل الجزيل لكم أيها الأحبة في سلطنة عمان وللأخ مجري الحوار هيثم البوسعيدي ، لانه انتظر طويلاً حتى افصحت له عما في داخلي من شجون وشجون.

الثلاثاء، سبتمبر 01، 2009

يــوم بــكــى أبـي

هيثم البوسعيدي
قـصــة قــصــيــرة

نيران الإنتظار تشتعل في قلبي وقلب أبي، نترقب مرور الدقائق أمام غرفة العمليات في الطابق الثالث، لا يهمنا وهن الأرجل ووجل النفوس، نتلهف لصوت عطوف يروي ظمأ النبضات وخبر عاجل يطفئ فزع النظرات.

لحظات صعبة تمرّ برتابة قاتلة، ثواني حرجة تتسارع بكثرة الداخلين والخارجين لجناح العمليات، أفكارنا مشدودة نحو رأس أمي الممدد بعيدا بين مشارط الجراحين، لم يقطع هذه الأفكار عدا اتصالات أختي " غالية"، البعيدة عنا بجسدها الالآف الأميال ...الحاضرة معنا بقلبها في هذه اللحظات.

تتلبد السماء بالغيوم، غمغمات الرعد تداعب زفراتي، أسرق نظرة خاطفة عبر النافذة وأنا أسأل نفسي: ماذا يجري هناك برأس أمي الطاهر؟، تتنامى في داخلي الظنون، تحثني على اقتحام المكان لأخوض معها هذه الرحلة، لكن هيبة المكان تقيدني، كم أبهرتني شجاعة " أمي " وصرامة موقفها؟ ..لازلت أتذكر ابتسامتها الدائمة التي أحيت نبضاتي ونحن في طريقنا لغرفة العمليات.

يتسلل الهدوء إلى المكان، قلوبنا ترتعد، تصارع الهواجس في ظلمات الغربة، تصطدم بوحشة الوحدة بين جنبات المستشفى الامريكي وسط " بانكوك"، تنبعث من ممراته الواسعة أدخنة الوجع ونيران اللهفة لترسم بخاطري جملة أفكار مشتتة:

لماذا كل هذه المخاطرة؟ لماذا قطعنا كل هذه المسافات؟ لماذا نحن هاهنا؟ أهو الأمان المفقود في مستشفياتنا؟ وما الذي قذف بنا نحو الطرق الموحشة؟ هل هي الثقة التي نزعت من نفوسنا بعدما أجهدنا التعب ونحن نبحث عن علاج؟ أم إن اقوال من انحلت عللهم هي من قادتنا إلى صقيع الغربة؟

يتوقف شرودي الطويل، أهرب قليلا من صراع الأفكار وحرب الهواجس، أتلمس وجهي الممتلئ بالشعر، وأحك عيني التي تشتاق للنوم وهي تئن تحت وطأة الحيرة، أشيح ببصري بعيدا، قطرات المطر تتساقط بغزارة على الزجاج المقابل للممر، كأنها تشاركني عمق الجراحات ..كأنها تطفئ لهيب الآلام، ليتفائل قلب أبي ويلهج لسانه بالدعاء وسط المكان الذي يعج بتماثيل بوذا.

تتلاطم صور متنافرة في ذاكرتي، يختل توازني، أتوق لحـضن أمي، أتمنى قرض الباب بأسناني حتى أدنو من رأسها فأمسح العرق الساقط من جبينها، يخفت ويعلو أنين أطفالها الأربعة..هناك بعيدا في مسقط، ينتظرونها بفارغ الصبر، ها هي روائح الصمت تنتشر بين جدران الغرف، تشدني خطوات أبي التي كانت تجوب الممر، لماذا توقفت فجأة؟ أين تمتماته؟ أين توسلاته بالله ...لقد هيجت أحشاء قلبي الراكدة.

أتأمل والدي... كهل في نهاية الخمسينات من عمره، أغوص في أعماقه السحيقة، يتضخم شيئا في وجهه، أتحسس الألم بداخله، تختلط أحاسيس قلبه وتتزاحم الذكريات في عقله، شريكة حياته في خطر وكأنه يعيش اللحظات معها ثانية بثانية، تبوح شفتاه ببعض كلمات غير مفهومة، تسيل الدموع من عينيه، يصعقني المشهد، وتضاجعني الجروح، يدك المطر الزجاج بقوة ..أرتعش من وحشة البرد وقسوة المنظر، تدفعني دموعه للهروب سريعا من كآبة المكان حتى لا ينكشف لي ضعفه القاتل.

تتزايد نبضات قلبي، يلتهم بكاء أبي شجاعتي، تتلعثم الحروف، ويتصاعد فوران الدم في دماغي..أخطو خطواتي بدون انتباه، أبحث عن مكان يأوي هروبي، أريد اخفاء وجعي، لعلي أعصر قهري ..لعلي أغسل همي، مشيتي تتخللها ذكريات جميلة، لأجد نفسي بعد دقائق عدة أركن إلى كرسي قصي في أحد الزوايا البعيدة في حديقة المستشفى.

أغمض عيناي، وأنكفأ على نفسي، لتمر صور أمي على ذاكرتي البعيدة، تنساب دموعي، أتساءل: كيف سأعيش في بيتا لن تكوني فيه؟ كيف سأتنفس هواء الحياة بدونك؟ من للصغار بعدك؟

أرفع رأسي بعدما سافرت في ظلمة أوجاعي، أتأمل المكان الغريب، أنظر إلى النوافذ البعيدة والطوابق العليا، تهاجمني الأفكار من جديد، هل اقتلع الجراحين الأفعى الساكنة في دماغ أمي؟ وما هذا الماء الذي تغرق به دشداشتي؟

يداي ترتعشان، أزيح جبال الهموم من كاهلي، أهرول ...أركض، أنادي: أمي...أبي، أتخبط في مشتي، كأني أتوسل العطف، وجوه الناس تتصفح يأسي، اجتاز الأماكن والصور والملامح لأصطدم أخيرا بوجه ابي ورطوبة دموعه التي لم تجف، يفضحني الخجل من دموعه ليبادرني بسؤال حزين: أين أنت؟ لماذا تركتني وحيدا؟

تروادنا أحاسيس مختلطة، يطول الصمت، في اثناء ذلك يخفق قلبي لرؤية الجراح وهو يخرج من الباب، ترتسم ابتسامة على وجهه لتبشرنا بنجاح العملية، أتأمل صورة الورم الملونة، هالة من الأمان تلفني وتلف أبي..تنتعش الأحاسيس، وتنتشر بذور الحياة في كامل عروقي، أرفع يداي إلى السماء مبتهلا: شكرا يا الله، تنفرج أسارير وجه أبي بعدما خطف الخوف تفكيره...تزول المحنة ويبقى هذا اليوم يوما مشهودا لأنه يوما بكى فيه أبي.

الاثنين، أغسطس 17، 2009

رحـلــة الوجود برفقة لقاء مع الكاتب



انقر على الصورة لتكبيرها وقراءة اللقاء


هيثم البوسعيدي
تمر سنوات العمر كلمح البصر بين أمور تافهة وحاجات زائلة ويعيش الانسان ردحا من الزمن دون إدراك لحقيقة وجوده وما هي الغاية التي خلق من أجلها ولماذا عاش كل تلك السنوات وبماذا قضى ذلك العمر؟ وهل أدرك حقيقة الوجود وما هي الغاية وراء خلق جميع الكائنات؟، وهل خلق هذا الكون عبثا أم كل ما في الكون من مخلوقات وأنظمة وأشكال متعددة للحياة تسير حسب مخططات زمنية منظمة؟ لماذا أعطانا الله فرصة الحياة ؟ ما هو الغرض من هذه الفرصة المحدودة والفترة القصيرة؟ وهل أدركنا الحقيقة الكبرى في هذا الكون الا وهي حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى؟ ومراقبته لكل الافعال والأحداث التي تدور في الأرض.

عند التفكر طويلا، تستثيرنا مسارات ومراحل الحياة ففي البداية لا يمشي الإنسان بل يحمل، ثم يزحف حتى يتعلم المشي ثم يمشي على قدميه فيعمر، ويتزوج، ويعمل، ويربي، ويناضل ثم في النهاية يحمل إلى عالم الموت، صور متعددة تجر تفكيرنا للحديث عن واقع مريرحيث أغلب البشر حاليا يعيشون الحياة دون إدراك لحقيقة الحياة والوجود، فالشعارات التي يتداولها الناس عن تفاهة الدنيا ليست سوى عبارات لا تعكس حقيقة ما يدور في ذواتهم الملتصقة بالدنيا، لأن الأكثرية لايدركون هذه الحقيقة إلا بعد ما يصلون إلى مرحلة متقدمة من العمر بحيث إن أوراق شجرة العمر تساقطت ولم يظل سوى عدد يسير من الأوراق، بل لا يخطر في تفكيرهم هذا السؤال الرهيب: من هم أول الواصلون إلى بر الامان ومن هم الذاهبون إلى طريق الهلاك هناك في العالم الآخر؟ ..قليل من يتأمل في حقيقة الحياة والموت والكثير من يتناسى أن الحياة على الارض هي مجرد رحلة قصيرة وأيام يسيرة بها اختبارات وامتحانات كثيرة، الهدف منها التمييز بين المتناقضات: بين الكفر والايمان وبين القبح والجمال وبين الكمال والنقصان وبين الخير والشر.

لتبدأ رحلة أخرى بعد نهاية هذه الحياة بما فيها من مراحل وخبايا فهي نقطة النهاية لرحلة الإنسان على الأرض بحيث يمثل الموت مرحلة رجوع الروح إلى الله..هذه الحتمية تخالج الروح الواعية بعدة أسئلة متعلقة بحقيقة الموت: متى سنموت؟ وكيف سنموت، وماذا تعني لنا سكرات الموت؟ وكيف ستخرج الروح من الجسد وإلى أين ستذهب؟ وماذا يعني القبر للميت؟ وما هي حقيقة البعث والحشر والحساب والجنة والنار؟ متى يبدأ موعد الرحلة الأخرى؟ ومن أول الراحلون في محيط الإنسان إلى عوالم المجهول؟ هل أبوه هل أمه هل أخاه هل أخته هل هو نفسه؟ وهل أدركت نفوسنا باننا سنتذوق طعم الموت الصعب؟ وكيف ستكون تلك الحياة؟ وماذا عن زاد ومتاع هذه الرحلة ..كل تلك الاسئلة تجبرنا للبحث عن أجوبة لأسئلة أخرى: أين الطغاة؟ أين الانبياء؟ أين الاولياء؟ أين الظالمين والجبابرة؟ أين الاخيار والصالحين؟
أين ملايين الناس ومن عاشوا خلال القرون الماضية أين هم؟ أين أرواحهم؟ أين أجسادهم؟ هل أصبحوا مجرد ارقام مرت عبر التاريخ؟
أين ولماذا وكيف: أسئلة تضطرد بازدياد في فكر الفرد الواعي وتزداد حدة في وجدانه وعقله مع ذهاب كل يوم من عمره الذي يعني انه يقترب خطوة نحو الدخول إلى عالم الغيب، عالم لا نعرف عنه عدا اليسير من كتب الأولين وصحف الاقدميين.

إذا هذه الرحلة تكشف لنا جليا أن الانسان هو بالاساس روح موهوبة من عند الخالق، وبعد ان تنفصل الروح عن الطين ليستفيد القادمون في الأرض من آثاره مستقبلا، تشق الروح بعد الموت رحلة آخرى في هذا الكون، معتمده على مافعلته من اعمال خيرة أو شريرة في الحياة الدنيا فهو الزاد الوحيد والامل الكبير فيما تبقى وما هو قادم.

أخيرا وجودنا في الحياة هي بمثابة مسابقة بها منتصر وخاسر، فالمنتصر هو من انتصر على الهوى والغواية واشكال الشهوات وسار بكامل خطاه الواثقة نحو تحقيق الاستقامة وتنفيذ معاني الخلافة في الارض من أجل الوصول إلى الفلاح الطلوب، والخاسر من تجنب الحقيقة وطريق الصواب ومارس أنواع الرذيلة والفساد والتخريب وانتهك أسمى القيم والمعاني.

الأربعاء، أغسطس 12، 2009

شـكـرا للآلام

هـــيثــم البوسـعــيدي

الألم الناتج عن الفقر أو المرض أو الفشل أو المصيبة وما يخلفه من وجع دفين ومعاناة مستمرة يحمل معه كثير من الأسى والمعاناة والتعب، لكنه في ذات الوقت نعمة لا يدرك قيمتها إلا العارفون لفائدة ما معنى أن تصاب بالفاقة او تبتلى بعلة الجسد أو تختبر في أغلى الناس، إنها بالنسبة لقواميس المؤمنين إحدى الطرق الممهدة نحو الإيمان الذي لا يشترى بالأموال وهي أيضا أسهل السبل نحو اليقين الذي يداوي الأمراض الثقيلة الملتصقة بحياة الأثرياء والأقوياء.

فالألم رغم فضاعته وقسوة وجوده في حياتنا هو المحرض نحو اللجوء الى الله لطلب المغفرة، وهو من يربي القلوب على الصبر وانتظار الفرج، وهو من يثير في النفوس الإحساس بمعاناة من حولنا حتى نلامس اوجاعهم وما يمرون به من أهوال، وهو من يكشف الحقائق جلية وواضحة أمام العيون فنعرف العدو من الصديق والصالح من الطالح والصادق من الكاذب.

هذا الألم يرشدنا إلى مفهوم الحياة وأسباب الوجود وأخلاق البشر فعندما تغزو حياتك الآلام ستظهر نفوس البشر على حقيقتها كما هي بدون زين أو خداع أو نفاق وسيحررك الفقر من الجور رغم ما يجره من هوان وذل وستحميك مرارة الحرمان من الوصول إلى غطرسة الاقوياء وستريك قسوة المصيبة وحوش البشر ومن هم أصحاب الأقنعة المزيفة وستفضي بك الهموم نحو اكتشاف صفات الناس القذرة وسيمنحك الفشل فرصة اخرى للبحث عن النجاحات حتى لو كانت مستحيلة... عندئذ ستطهرك الآلام من الضعف في عالم لا يعرف سوى لغة الأقوياء وأسلحة الجبابرة.

إذا الا يستحق كل ذلك شكر الآلام فهي المرآة التي يتضح معها كل شي في هذه الحياة لنقول في النهاية شكرا...شكرا أيتها الآلام.

الأحد، أغسطس 02، 2009

عندما تصبح الإبتسامة غالية

هيثم البوسعيدي
قرأت في عدة كتب عن الإبتسامة
وإنها حكاية معقدة تبين بصورة
جلية ما يدور بداخلنا من أفكار
وأحاسيس، ولغة نفتح بها قلوب
الناس الموصودة.

ولازلت أذكر جيدا الحديث النبوي
الذي يقول: " تبسمك في وجه أخيك
صدقة"، أضف الى ذلك تفنن الأطباء
والمختصين في مدح الإبتسامة وذكر
محاسنها ودورها المهم في تحريك
العضلات والأعصاب.

كل ذلك جميل، لكن هل ممكن نتوقف
عن الإبتسامة قليلا بسبب قسوة الحياة
وتكالب الظروف؟.
هل ممكن تعجز نفوسنا عن توليد الإبتسامة؟
هل نغصب أرواحنا على اختلاق الإبتسامة؟
أم ننتظر ابتسامة الدنيا حتى تنفرج الوجوه عن ابتسامة مزيفة.

في المقابل يقال أن الأمل والإيمان بالله يصنعان في النفس مساحات القناعة والرضا
مما يجبر الروح البشرية
على خلق الإبتسامة الحقيقية التي تقتل الكآبة والضيق والتوتر.
ويقولون أيضا أن الإبتسامة وصفة علاج مجانية
تعقب لحظات الصفاء والإطمئنان
يقدمها الإنسان كهدية
لكل من حوله
في الأسرة والعمل والمجتمع
ليكون ذلك شكل من أشكال العطاء والكرم والتضحية
فتصبح ابتسامة هؤلاء الناس
مرآة تعكس ما تحتويه نفوسهم الطيبة
من حب وخير وطهارة...
وحتى لا تصبح الإبتسامة غالية
فيأتي الزمان الذي تجبرنا ظروفه
على شراء الإبتسامة بأغلى الأثمان
أو التفتيش عنها في كل الأماكن
أو تصنع الإبتسامة المزيفة
ادعوكم لنشر
الإبتسامة
حتى لو كانت قلوبكم تقطر ألما
ونفوسكم تضيق بالهموم...

الأحد، يوليو 19، 2009

القراءة ....أقوى الأسلحة

هيثم البوسعيدي

القراءة هي السبيل نحو الإيمان والعلم والمعرفة، بها نفتح الأبواب المغلقة ونتحدى الجهل والقمع والإستبداد، وبفعلها الجميل نحول الأفكار الراكدة في العقول إلى أفعال مفيدة وسلوكيات نافعة يستفيد منها المواطن والوطن والمجتمع والأمة بحيث يتحول الخيال والحلم بفعل آثار القراءة إلى حقيقة ثابتة وواقع ملموس.

ولو تصفحنا التاريخ بمختلف مراحله سنجد أن الطغاة وأهل الظلام هم من حاربوا القراءة الهادفة وحاولوا أشاعة الجهل والفوضى في صفوف الناس وبذلوا قصار جهدهم لاحتكار الحقيقة، وعززوا تلك الحروب بأختلاق ممارسات عدة كانت تهدف بالأساس لاقتلاع حب القراءة ووأد روحها من نفوس الناس كحرق الكتب وتشويه صورة العلماء وتغييب المفكرين في غياهب السجون وإهمال طرق التدريس الصحيحة وإشغال المجتمع بقضايا السحر والشعوذة وأسباب اللهو والمجون، والأنكى من ذلك اختراع بعض الممارسات الدينية الشاذة وصناعة صور مزيفة للدين والحياة حتى تتناسب مع مخطاطتهم الخبيثة وأهدافهم التدميرية، لأن القراءة الواعية كانت عبر التاريخ بمثابة مصدر تهديد قوي لكل من يريد إذلال البشر وحجر عثرة في طريق كل ماضوي ودكتاتوري يسعى لتسيير البشر نحو أوهامه الذاتية ومصالحه الشخصية وثقافته الأحادية.

وما الحالة التي تعيشها اليوم الأمة من تردي وانحطاط وانكسار إلا لعدة أسباب من ضمنها تراجع نسب القراءة بين مختلف الشرائح والتي أكدتها كثير من الدراسات والأبحاث على الرغم من توافر كمية هائلة من المعلومات وتعدد مصادر ومشارب القراءة، حتى أصبح التوصيف المناسب لهذه الظاهرة التي أصابت روح الإنسان العربي في الصميم " بمفهوم موت القراءة "، والتي حدثت نتيجة عدة عوامل من ضمنها سوء تعامل الأسرة مع مفهوم القراءة وخلو المناهج التعليمية من الطرق المحببة للقراءة وتخاذل الدول عن الإهتمام بالقراءة وإهمال إبداعات المفكريين وإنجازات المثقفين بالإضافة إلى ظهور عصر القنوات الفضائية بما تقدمه من برنامج ثقافية ومواد ترفيهية، مع الأخذ بعين الإعتبار بعض القضايا الهامة مثل ضيق الظروف المعيشية وتهافت الناس بشكل كبير في هذا الزمان نحو صور وأشكال اللهو والتسلية والترفيه.

والحل رغم صعوبة تحقيقه يكمن في بذل جهود كبيرة من أجل غرس حب القراءة في عقلية الطفل والمراهق والطالب ، وهذا الحل يعتبر مسؤولية شاملة ومهمة صعبة تتحملها جميع الأطراف فليس سهلا تحويل النظرة السلبية للقراءة في الوقت الحاضر إلى نظرة إيجابية، بحيث تصبح بمرور الأيام عبارة عن متعة ولذة ورغبة عكس ما هو سائد اليوم بأنها مصدر للملل والكآبة ومضيعة للوقت.

أخيرا فالقراءة هي أولى الطرق نحو النجاح والإبداع وبناء الاوطان، وهي المحفز الأول نحو الفكاك من عقم العقول وتحجر القلوب وقيود المتطرفين على أختلاف مشاربهم، والمرشد نحو تلافي الأخطاء المرتكبة والمآسي المتكررة عبر التاريخ فردية أكانت أم جماعية.

وحتى تكون القراءة أقوى الأسلحة في حياتنا لابد أن نقرأ أفرادا وجماعات مئات الكتب ونتصفح عشرات المجلات ونقضي مئات الساعات في عملية المطالعة بشقيها الورقي والرقمي، عندئذ سيتكاثر أعداد المنظمين لحزب القراء في كل بلد عربي وسيتمهد الطريق نحو ثورة فكرية شاملة لتزول أسباب الإنحطاط ودواعي التخلف وسنحطم كافة القيود بل سنعود مثل ما كنا سابقا " أمة أقرأ "التي تقدس الورق والقلم والفكر.

السبت، يوليو 18، 2009

دقائق التأمل

هيثم البوسعيدي
الـتأمل هو سباحة في فضاءات التفكير، نفكر في نفوسنا، نفكر في حقيقة الوجود، ولماذا خلق الله الإنسان؟ ولماذا سخر الله لنا الارض بما فيها من خيرات ونعم؟ ولماذا يجب أن نمعن النظر في تكوين السماوات والنجوم وما هي علاقة البحر باليابسة؟ ولماذا يجب أن نفكر في تكوين جسم الإنسان الذي يتركب من أنظمة متعددة وأجهزة متفرقة؟ وهل تدبرنا الحقيقة المرتبطة بالموت؟ وهل فشلنا أو نجحنا في تحقيق التصالح المطلوب بين عقولنا وقلوبنا وأجسادنا وكل ما يحيط بنا في هذه الحياة ؟

كل ذلك يكشفه لنا التأمل الذي هو في حقيقة الأمر نعمة قليل من البشر يدرك قيمتها العظيمة، وممارسة يومية لفترة محددة يبتعد فيها الإنسان عن الكثير من الأفكار والمشاعر المرتبطة بحياته اليومية ليسلم نفسه للحظات استرخاء يستطيع من خلالها تصفيه ذهنه وتنقية مشاعره من الشوائب بحيث يذهب به التأمل إلى ما هو أبعد من المشاعر والذكريات والأفكار.

والتأمل هو إحدى الممارسات الروحية والدينية الموغلة في القدم، وعادة موجودة في الكثير من الأديان وخصوصا في ديننا الاسلامي فهي عادة الأنبياء والأولياء والصالحين فقد كان هؤلاء العظام يمارسون التأمل عبر جلسات طويلة وصور مختلفة كما حصل للنبي إبراهيم عليه السلام وهو يتأمل النجوم والكواكب والأفلاك، وأيضا ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم من التحنث الليالي الطوال وذهابه للغار في الجبال وعملية تفكره بخلق الله، وذلك التفكر بطبيعة الحال يشمل التفكير بمكونات الارض ومخلوقات السماء حتى يتحقق للإنسان ما هو أهم من التأمل الا وهو اتصال النفس البشرية بالكون وخالقها عزوجل.

والتأمل أيضا ممارسة مستمرة تمهد نحو دقائق تشعر الإنسان بالسكينة والهدوء والصفاء، وبتكرار هذه الممارسة على فترات متباعدة وبطريقة منتظمة يستطيع الفرد استرجاع ذاته التي سلبت منه بفعل شتى الظروف والأوضاع، ويكتسب المرء شعور بالانسجامية بين روحه وعقله وجسده، فيتحقق التوازن المطلوب في حياته ويكتشف المعاني العميقة للذات ويترفع عن سفاسف الأفكار ويتجنب العثرات والزلات والاخطاء، بل يوجه أهتماماته نحو أشياء أخرى ذات جدوى له ولعائلته ومجتمعه ووطنه، والأهم من كل ذلك أن روحه ستبحر في هذا الملكوت طالبه القرب والتودد من ملك الملوك وسيد الكون عزوجل.

وهذه الفوائد والمنافع أثبتتها كثير من الأبحاث والدارسات الكثيرة التي أجريت في شتى بقاع العالم حيث كشفت الدراسات عن فوائد التأمل الكثيرة على صحة الإنسان بكونها إحدى وصفات التقليل من درجة الضغط النفسي والبدني، ووسيلة لتقليص أو تخفيف الآلام الناتجة من مختلف الأمراض .

وفي وقتنا الحاضر كثر الحديث عن التأمل وكتبت مؤلفات ودونت أبحاث عن أشكال وصور التأمل، واكتشفت تمارين وطرق ذات صلة بالتأمل مثل الإسترخاء والتنفس العميق والتماريض الرياضية المعروفة مثل السباحة، أما أنواع التأمل فهي تنقسم لنوعين فهناك التأمل الداخلي الذي يدفع الإنسان لتخيل ما يحدث داخل جسده وقلبه وعقله، وهذا النوع ليس سهلا لأنه يؤدي لحدوث الحوار الذاتي داخل النفس الإنسانية مما يمهد نحو إحداث تغييرات تساعد في نهاية الأمر نحو تحقيق التوازن المطلوب بين مكونات الإنسان من روح وعقل وجسد لينعكس بعد ذلك على الفعل والسلوك.

وثانيا هناك التأمل الخارجي الذي يشتمل على استحضار مجموعة من الصور بحيث تلعب المؤثرات الخارجية دورا في جذب المرء نحو مظاهر التأمل مثل الإنصات إلى التلاوة الخاشعة للقرآن الكريم وكذلك الإستماع إلى الموسيقى الهادئة أو الجلوس على الشواطئ الرملية المعزولة أو محاكاة عناصر الطيبعة كصوت الماء وأصوات الطيور ومنظر الأشجار والنباتات.

وفي النهاية يتبادر للذهن سؤال مهم: لماذا لا يأخذ التأمل وقته الكافي في حياتنا؟ لماذا نبخس لهذه اللحظات والدقائق حقها الطبيعي ونحرم أنفسنا من فائدة ستمكننا بمرور الوقت من مصارحة الذات؟ ولماذا نتكاسل عن البحث عن أشكال وصور وطرق التأمل؟، لأن الحقيقة تقول أن التأمل هو صنعة الأقوياء ومهارة الفائزين وهبة الله لكل الحكماء والفلاسفة عبر مختلف العصور.

السبت، يوليو 11، 2009

اضطهاد المبدع

هيثم البوسعيدي

وجود المبدع في هذا الزمن يمثل حالة شاذة وسط محيط وصل إلى أدنى درجات الانحطاط في الفكر والذوق والفن، فكل الظروف تقف ضد المبدع وكل الأمور عكس اتجاهه، أمنياته ميته وطموحاته مقتولة، الأمواج عاتية في حياته خصوصا في عالم العرب المظلم حيث دائما تكون الغلبة للأمواج وهو الخاسر بجدارة لأن قاربه ضعيف متهالك، يحاول البحث دائما عن قشة النجاة بين أمواج الظلام والانغلاق والتخبط والتيه والضياع، وليس باستطاعته تحمل تبعات الرياح وأهوال الأمواج فهي تحمل له هدايا متنوعة وهموم ثقيلة: قمع، اضطهاد، نسيان، إهمال، معاناة، فقر.

وفي الجانب الآخر يتمرغ الفاسدين والمفسدين والجهلة في أشكال النعيم وأنواع الرخاء، ويلتف الناس حول ذوي العقول المتحجرة وأصحاب التسالي والمغنى وكل من له غاية في تلويث مسامعهم وطمس قلوبهم وتغييب قيمهم، أما المبدع الذي يبني الأوطان بفكره وعلمه وأدبه ويعمر المجتمعات بعصارة جهده وتعبه فسبيله إلى الغربة والتشتت والتمزق بين البحث عن القوت اليومي والغرق وحيدا في عوالم الإبداع، بل يعيش مجهولا بين الناس ولا يجد من يقدر قيمته وما تحمله من إرهاق فكري وتعب نفسي لتوصيل أفكاره وقضاياه، أما إنتاجه وثروته الفكرية فطريقها نحو سلة الإهمال وعباءة النسيان لأن الناس في هذا الزمن الرديء يزرعون في قلب المبدع كل أشكال الإحباط وأنواع اليأس وخصوصا حينما يعزف جلهم عن القراءة ويتحاشى معظمهم كل ما له صلة للإبداع بل يقفلون آذانهم أمام كلماته خوفا من عدوى تصيبهم بالملل والضجر والاكتئاب، لذا لن يصبح بإمكان المبدع سوى العيش غريبا وسط أمة لا تقدر غير الجهلة والفاسدين وأصحاب اللهو والتسالي.

بل إن مصيره سائر باتجاه الأزمات خصوصا عندما يصبح في عشيه وضحاها عدو الوطن في نظر أعوان ومؤسسات السلطة فالويل والثبور له ليصبح كل شئ في حياته منتهك: عرضه، شرفه، تاريخه، أما قلمه ستناله اللدغات وأنياب الإهمال من القريب والبعيد وربما من ناحية الفئة التي لا يتوقع غدرها والتي تسمي نفسها بأهل الأدب والعلم والثقافة، وإذا كان محظوظا قليلا في حياته الصعبة سيرزقه الله بعائلة تقدر سمو فكره وتحترم رفعة أدبه وتتبنى قضيته وهمومه.

فالخلاصة إذا لم يعد للمبدع بعدما تنقضي حياته بين انكسارات متكررة وأزمات مستفحلة سوى التاريخ ليقول كلمة الفصل في حقه المهضوم، والأكيد أن حقه لن يضيع هدرا لأن التاريخ سيكون لأهل زمانه بالمرصاد فهم الزائلون، سيذكرهم التاريخ بأنهم مجرد أرقام في زمن القبح والانحطاط، أما هو سيبقى الجوهرة الناصعة والدرة المعلقة على صفحات التاريخ ، وليعلم المبدع أن هذا الاضطهاد هو اضطهاد مقصود ومنظم يتشارك فيه الجميع وهو بمثابة مؤامرة محبوكة سيدفعون ثمنها لاحقا، لذلك لا تحزن يا عزيزي المبدع ولا تستصرخهم فهم السابحون في أنهار الفوضى وهم الضائعون في بحور الضلال، ستحل عليهم لعنة تغييبك، وسيذرفون الدموع على تقصيرهم في حقك، ولن يجدوا الحلول إلا في إبداعاتك المهملة وإنجازاتك العظيمة مهما طال الزمن أو قصر.

الجمعة، يوليو 10، 2009

حلم صعب

هـــيثــم البوسـعــيدي

يقذف قلبي أرقام المسائل، أحس بهدوء صوتي الذي يملأ غرفة الفصل، ويخاصم الانتباه عقلي، أتأمل وجوه الطالبات، تلمع عيونهن بالحيرة، وترسل براءة الوجوه أسئلة صامتة: لماذا تغيرتي يا أستاذة شمس؟ أين كلمات التودد؟ أين ابتسامتك الناصعة؟

تحرجني الأسئلة الخفية وتمتلأ عيني بالضيق، أتهرب من أسئلة العيون، أشاغل الطالبات بأحدى المسائل، تتباطأ خطواتي بل لا تتجاوز طاولة الفصل لأسبح في رحلة تفكير أخرى، ها هي الساعات تعلن اقتراب عودة " زوجي" من شركة البترول الكائنة وسط الصحراء.

أغصب ذاكرتي على استحضار جملته الشهيرة التي رقص قلبي على نغماتها: " أنت أغلى أنسانه في حياتي"، لكن الكلمات الحلوة تبخرت، واللحظات الرائعة تلاشت، لأنها اصطدمت بكابوس خطير وهم طويل يرافقني في كل الأوقات، فقد مضت ثلاث سنوات ولم نرزق بطفل، بحثت عن العلاج في مختلف الأمكنة وفتشت عن الحلول في كل الوجوه.

أصبحت في نظره شجرة يابسة بعدما كنت شجرته المثمرة التي تغذيه بالحنان، إنها الأبوة المفقودة التي سلبت الابتسامة من وجهه، وتسلق الوهن سفوح قلبه، أتذكر جيدا حرارة غضبه وسخريته من أمومتي المسلوبة، أحسست بعدها أن قلبي يتفتت..يتحطم..يتبعثر.

تقترب الساعة من الثانية ظهرا، أتسائل: أين مراعاته؟ أين أهتمامه؟ لم أصبح وعاء تفريخ، هذا الفشل ينذر بسقوط أجنحتي الهشة في فضاءات حياته، ويبشر بتأجيج وجعي.

يجبرني جرس المدرسة على إنهاء رحلة التفكير، تنطلق البنات إلى خارج الفصل، تتسلل الراحة إلى خلايا عقلي، أهم بالخروج، وأتثاقل في المشي، ألمح أما تداعب ابنتها عند باب الفصل، ترغب نفسي اختطاف الطفلة، تغالبني الدموع وأتصدى لها بقوة..أتابع خطواتي في الممر، أصوات الأطفال المتداخلة تقودني نحو دوائر القلق...أصطدم بالعجز ... ليغيب عن وجهي نظارته المعهودة وتزداد الحمرة الظاهرة أسفل عيناي.

لم أهتم في غرفة المعلمات بثرثرة زميلتي " فاطمة " عن شقاوة أولادها، أحسست أنها تخدر مشاعري بهذه الكلمات، يطفح قلبي مستعطفا: أريد طفل ، يتكاثر حديث المعلمات عن اقتراب عيد الأم وعن هدايا الأبناء، أشعر بالضجر ويتعمق النقص في داخلي، أتهرب من فكرة أنني بلا طفل أو طفلة ويدور في بالي سؤال: من سيدغدغ مشاعري بكلمة ماما في هذه المناسبة ؟

يتعاظم الارتباك، ألملم عوطفي المتفرقة وأمسك الشنطة الوردية، أخرج من الغرفة وتعلو لمحة الاستغراب وجه "فاطمة"، أسعى نحو السيارة، تقسو علي قطرات الماء القادمة من الحديقة...لتتبلل عباءتي بالعرق والماء، تزرع رطوبة الجو في وجهي تقاسيم الذبول وتنغرز في صدري نصال الانكسار، يمر على بالي سؤال: من سيهتم بي عندما أصبح عجوزا ؟....يلمع وجه أمي في ذاكرتي، فهي شريكتي في هذا الحلم الصعب.



تتوقف عجلات السيارة أمام بيتنا العتيق، منظر البيت يعيد ذاكرتي لمواقف صعبة، تتشائم نبضات قلبي من قسوة زوج " أمي" الذي هربت من جوره، يتصاغر الخوف في وجهي بمجرد رؤيتها وهي جالسة على سجادة الصلاة، أشكو لها خوفي وأدس وجهي بين أحضانها، تمسح على رأسي، أناملها تحارب اليأس المسكون بداخلي، تلاطفني ببضع كلمات، أقاوم بها هوس الانتظار...أتمنى البقاء لفترة أطول، لكن أخاف من عصا سجاني الغائب..أتحاشى كذلك فضول الجارات وسؤالهن الدائم عن الطفل القادم في الطريق؟ أنسحب من تلك اللحظات الجميلة، أنحني وأطبع قبله على رأس أمي الجليل.

أطوي مسافة الطريق هربا من حرارة الجو وسخونة السيارة، تعترض طريقي عشرات الأسئلة عنه وعن الغياب الطويل واللقاء المرتقب، في البيت أغدق حبات الشكولاته على أبناء أخيه، أحب الجلوس معهم ومداعبتهم لأنني أعشق الاطفال، والدته تهيأ الغداء في صالة الطعام، يتصيد وجهها الألم المحفور في داخلي، تتلمس ذاتي الغربة بين جنبات المكان، أسمع صوت والده: أحضروا الطعام...نداءات العجوز تذكرني بوجهه العابس...نظراته صباحا كانت تتوعدني بالويل والثبور .

أقذف بنفسي نحو غرفتي الضيقة رغم تضوري من الجوع، أداعب العصورفين في القفص، وأوزع نظراتي بين أدوية الأطباء والأدوية الشعبية، لم أنتفع من كل تلك الادوية، راتبي كله في أيدي الحكماء ومحال العطارة، ألمح اللعب الموضوعة على الرف..إنها هدايا الطفل الموعود..أرمي الشيلة بل أرمي بنفسي على الفراش..تدور في رأسي فكره: من حقه ومن حق والديه الفوز بطفل.

يتسلل الخوف لقلبي، أسمع صوت زوجي وهو يحادث والدته، لقد وصل، يتلقفه أباه وأمه...برمجوا عقله على الإقتران بأخرى ...والآن يقع فريسة بين صوت أبيه الخشن ونميمة والدته.

تساورني الشكوك لعدة دقائق، يدخل الغرفة، يلمع وجهه بالضعف وترسم شفتاه إشارات النفور...ندخل في حوار طويل...توحي نظراته بجملة قاسية: " لقد انتهت فرصتك "، أقاوم احتدام الكلمات بين شفاتي ..أدير ظهري له، أتأمل شكله المستسلم في المرآة، ليطعنني بخنجر الصراحة: سأتزوج بـأخرى.

يمزق الاعتراف حلمي الصعب وتنكسر أجنحتي الضعيفة، تمور الحمم في أعماقي وتنطلق نيران واسعة من حنايا القلب...يتصاعد لهيبها حتى تصل وجهي الأبيض، أريد أن أشهق شهقة مدمرة..تسرع يدي اليسرى لكتمها: أقول بصوت حزين لا يسمعه : أصبحت أمرأة عاقر..وأمسيت أرض قاحلة ..سأبحث بمفردي عن حلمي الصعب.

السبت، يونيو 27، 2009

حـيـاتـنـا ونمـوذج المرسـيـدس

هـيـثـم البـوسـعـيـدي
الحياة البشرية عبارة عن مزيج من الأفكار والعواطف والمواقف المتباينة، والحياة تفرض على الإنسان أن يدير بوعي وإدراك كل أنشطة ومهام حياته، وهذه الإدارة تتطلب تنظيم سليم وتخطيط فعال وتنفيذ محكم، كما إن إدارة الحياة ترتبط ارتباط وثيق بإدارة العقل البشري المنقسم إلى العقل الواعي والعقل اللاواعي ( العقل الباطن).

فالعقل الواعي أو ما يمكن تسميته بفترة الوعي يتكون بصورة رئيسة من التفكير والذي لديه قدرة واسعة في إستيعاب الكثير من المعلومات في لحظة ما، أما العقل اللاواعي يحتوي على جميع الذكريات والبرامج الخاصة بالمرء منذ أن كان جنينا في رحم أمه، كما لديه قدرة استيعابيه لا محدودة على الإطلاق ويحتوي على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك، ويعتبر مقر الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية ومخزن الذكريات والمحرك الرئيس للعواطف والمشاعر، بالإضافة إلى استضافته للخبرات المكبوتة والصور القديمة والخلفيات السابقة.

ومما سبق تتضح حقيقة المكونات الرئيسية للحياة وهي التفكير والمشاعر والسلوك، كما إن كلا من المشاعر والتفكير ركنان رئيسان في عقل الإنسان ولهما صلة قوية بالسلوك الظاهري والخارجي للإنسان، ولقد توصل كثير من الباحثين في حقل البرمجة اللغوية العصبية لوجود نموذج شبيه بالأجزاء الثلاث المكونة لشعار سيارة المرسيدس يدعى بنموذج المرسيدس يهتم بالجوانب الثلاث الأساسية في حياة الإنسان: التفكير، المشاعر، السلوك، وهو نموذج مبسط لإدارة العقل أو إدارة الحياة يعكس كيفية إدارة مختلف الأشياء في العقل البشري، ويشير النموذج إلى أن الأفكار تؤثر بالمشاعر والمشاعر تؤثر بالسلوك ومن ناحية معاكسة فإن السلوك يؤثر بالمشاعر وتؤثر المشاعر على الأفكار.

والنقاط التالية تتناول الأجزاء الرئيسة المكونة لنموذج المرسيدس بداية من التفكير وإدارته مرورا بكيفية التعامل مع مختلف المشاعر والعواطف ليكون في النهاية الحديث عن أنواع التصرفات وأشكال الأفعال البشرية:

(1) التفكير : التفكير عملية عقلية تدور في العقل الواعي يتم من خلالها استخلاص المعاني وإعادة تشكيلها، وتعمل على تشغيل المعلومات في الذاكرة، واستنتاج معاني أخرى تساعد في حل المشكلات أو اتخاذ القرارات، وقبل وصول المعلومات إلى أبواب التفكير فإنها تصطدم بالمرشحات والفلاتر التي تقلل من كمية المعلومات المنقولة لتصل في النهاية غير مكتملة إلى العقل الواعي.

والتفكير كما هو في حقيقة الامر نوعان، تفكير إيجابي وتفكير سلبي، فالتفكير الايجابي هو نوع من التفاؤل الذي يغزو عقل الإنسان ليحثه على النظر إلى الأشياء بأنها جميلة وإجباره على التعامل بحيوية وسلاسة تامة مع مختلف الامور الحياتية، يرافق ذلك ظهور الأمل حول مختلف القضايا المستقبلية في حياته. هذا بحد ذاته يدفع الانسان للتأمل والجلوس مع النفس واكتشاف الكثير من المواهب والقدرات، فتتكون الآثار الفاعلة في تفكير الإنسان.إضافة إلى وجود عوامل تحفز بروز التفكير الايجابي في حياتنا مثل: الثقة بالنفس، الإبتعاد عن كلمات الاحباط، الابتعاد عن الاشخاص المحبطين،استحضار الافكار الايجابية،تحديد الهدف والغاية من الوجود.

لكن في المقابل يصر عدد كبير من الناس على رؤية العيوب وتضخيم المواقف والتعلق بمجموعة من الأفكار السلبية مثل: أفكار الخوف، أفكار القلق، أفكار التردد، أفكار تتعلق بضعف الثقة وهذا هو ما يسمى بالتفكير السلبي الذي ربما يؤدي الى إلحاق الضرر بصحة الإنسان عندما يتم اجهاد العقل بكثرة التفكر بالأفكار الخاطئة.

(2) المشاعر: المشاعر هي حالة الإنسان الشعورية أو المزاجية أو بمعنى آخر جملة أحاسيس تنتاب الإنسان قد تكون مرغوبة أو غير مرغوبة وتصاحب الأحاسيس تعبيرات جسدية متعددة تتفاوت فترة وجودها فقد تستمر لمدة لحظات وقد تبقى لمدة سنين وشهور، كما إن الذاكرة تستحضر المشاعر وتفرض وجودها لان كل موقف وحدث في حياة الإنسان له ملف متجذر في الذاكرة البشرية ذو شقين الأول متعلق بفكرة الحدث والآخر متعلق بالأحاسيس المصاحبة لهذا الموقف.

والمشاعر بطبيعة الحال تنقسم إلى نوعين فأولا هناك المشاعر الإيجابية وهي باختصار تغذية عقولنا الباطنة بقيم ومبادئ الايمان والسعادة والحب والرضا لتكون أداوات التواصل مع انفسنا ومع الآخريين، ولكن خلق هذه المشاعر ليس بالامر الهين فكيف نحث نفوسنا على تلك القيم والمبادئ وقد نمر بظروف متنوعة وحالة من الإخفاق المتكرر، وكيف نغذي نفوسنا على كل ما هو ايجابي وما هي الطرق والوسائل التي تحثنا على بذل جهود مضاعفة لاحتواء المشاعر الإيجابية.

ثانيا المشاعر السلبية: فقد يمر المرء في حياته اليومية بعدة ضغوطات وتوترات وانفعالات ناتجة عن مواقف يومية في ميدان العمل أو على الصعيد الأسري والمحيط الاجتماعي، وعندما تلازم هذه الأحاسيس الإنسان لفترات أطول فإنها تحجز تفكير الإنسان في أطر سلبية وتحول حياته إلى سلسلة من الانكساريات والأخطاء التي تشيع في حياته الإحباط والاستياء واليأس وقد تصل آثارها إلى تشكيل صورة سيئة له أمام الآخرين.

فمثلا قد يفقد أحد الأشخاص أعز أحبابه ومن الطبيعي أن يعيش جملة من المشاعر السلبية لفترة قصيرة محددة، ولكن أن تطول مشاعر الحزن لفترات طويلة ليعتبر الإنسان أن حياته لا طعم لها موحيا لنفسه إن وفاة ذلك العزيز هو نهاية الحياة، بحيث لا يتمكن من التمتع بحاضره لان جل وقته يقضيه ساهيا يفكر بالماضي وتتصارع في داخله مشاعر متباينة وينشغل ذهنه وتفكيره بهذه الحادثة مما يترتب عن ذلك تعطيل لقدراته ومهاراته الأخرى.
(3) السلوك:السلوك هو فعل يرافق الإنسان منذ الطفولة، فالطفل يشاهد في بداية حياته ما يفعله أبويه وأقاربه ثم يقوم بتقليدهم دون إدراك أن ما يفعله صواب أو خطأ، وهناك سلوكيات خارجية تتعلق بعلاقات الإنسان مع بيئته ومحيطه وهناك سلوكيات داخلية تعتري جسد الإنسان مثل الرعشة وزيادة ضربات القلب واحمرار الوجه، وأيضا هناك في المقابل سلوكيات سلبية وسلوكيات إيجابية، فعلى سبيل المثال الموظف قد يمارس بعض السلوكيات الخاطئة مثل التأخر عن مواعيد العمل والإهمال في تأدية المهام الوظيفية المرتبطة بعمله.

وقبل التطرق إلى أحد الأمثلة التي تبرز العلاقة بين التفكير والمشاعر والسلوك لابد من ايضاح أن كثير من مشاعر وأفكار الانسان هي نتائج مؤثرات وعوامل تؤدي لوجود هذه الافكار والأحاسيس في داخلنا، لكن نحن فقط من نملك إدارة الأفكار وغربلة المشاعر مهما كان دور المؤثرات الخارجية كالمستقبلات الخارجية ( الحواس الخمس) التي من خلالها ندرك ما يدور حولنا ونستقبل ما يحدث خارج عقولنا نتيجة التفاعل مع الأحداث والمواقف والمعلومات والأشخاص.

هناك الكثير من الأمثلة الدالة على علاقة التفاعل بين التفكير والمشاعر والسلوك فعلى سبيل المثال يدمن كثير من الأشخاص على عادة التدخين ويصبحون غير قادرين على الفكاك من هذه الممارسة السيئة بل يستسلمون بسهولة بمجرد رؤية حبة السيجارة.
ذلك يدفعنا للتساؤل عن تفسير هذا الأمر، فالحقيقة تقول أن المعلومات المنقولة بشكل مباشر إلى عقل الإنسان خصوصا إلى " الذاكرة"من خلال الحواس الخمس هيجت المشاعر المتكررة التي تشعر الإنسان بالراحة والإنتعاش وانضباط المزاج بمجرد رؤية السيجارة وهذا يدل على أن حجم تلك المشاعر ذا حيز كبير في ذاكرة الإنسان، وهي تجر معها فكرة جمالية التدخين والقدرة على نسيان الأحداث والمشاكل سواء في العمل والبيت بمجرد ممارسة هذا العمل ومن ثم يندفع المرء سريعا إلى الإمساك بالسيجارة وفي نفس الوقت يخلو العقل الباطن من وجود مشاعر الندم والتأنيب وكذلك يتناقص وجود الأفكار التي تبين أضرار وسلبيات التدخين.

كذلك فإن للتخيل الذي يعتبر أحد مكونات العقل الباطن دورا في استحضار الأفكار وتشكيل المشاعر ومن ثم القيام بعدة أفعال سواء أكانت إيجابية أو سلبية، فعلى سبيل المثال الشخص المتقدم لأي وظيفة فإنه يستعد لتلك الوظيفة بعدة وسائل ومن ضمنها تخيل ما هي الأسئلة والنقاط التي سيطرحها فريق المقابلة، فيعمل المتقدم على التفكير واكتشاف العديد من الأسئلة والنقاط، ثم يستعد استعداد كبير ويكثف جهوده نحو التركيز على المقابلة قبل فترة الامتحان، فيشعر مع اقتراب موعد المقابلة بالراحة والطمأنينة والانتباه والثقة بالنفس والتفاؤل لأنه على استعداد تام لهذه المقابلة مهما كانت الأسئلة ومهما كان فريق المقابلة، هذا ينعكس بدوره على سلوكه وتعامله مع فريق المقابلة من خلال تصرفات إيجابية عدة مثل الإبتسامة عند لقاء أعضاء اللجنة، المرونة في الإجابة على الأسئلة والقدرة على الإجابة السريعة وبثقة على تساؤلات اللجنة.

إذا المشكلة التي يكتشفها هذا المقال هو عملية الخلل الدائرة في عقل الإنسان والتي يعاني منها الناس لأن كثير منهم غير قادرين على الموازنة بين الأجزاء الثلاثة المكونة لنموذج المرسيدس: التفكير والمشاعر والسلوك، وهناك الكثير من الأمثلة التي تبين اختلال عملية الموازنة لدى كثير من الناس بين المشاعر والتفكير والسلوك ، فجزء من رجال الأعمال ينفقون جل حياتهم في التفكير بالمشاريع والاستثمارات مهملين أسرهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وجزء آخر خصوصا فئات المراهقين والنساء يستنفذون كميات كبيرة من مشاعرهم وأحاسيسهم في العديد من المواقف الحياتية والأحداث اليومية دون الرجوع إلى التفكير والاعتماد على ما يشير به العقل الواعي، وهذا الخلل يعود بالأساس إلى جهل الناس وعدم وعيهم بكيفية التعامل مع مكونات العقل البشري من مشاعر وتفكير ومعرفة دوافع ومبررات هذه الأحاسيس أو تلك الأفكار.

إذا نحن بحاجة إلى إدارة واعية للمشاعر والتفكير والسلوك حتى ندفع بحياتنا إلى النجاح ونتجاوز كل العوائق والصعوبات وذلك من خلال امتلاك مهارات السيطرة الكاملة على المشاعر والافكار والسلوك والتعامل مع الأجزاء الثلاثة بصورة متجانسة، لأن كل جزء يؤثر في الجزء الآخر بالسلب أو بالإيجاب فإذا كانت المشاعر والأفكار باتجاه واحد فإن ذلك سينعكس على السلوك بحيث تصرفات الشخص ستكون في نفس الاتجاه وهذا يؤكد تبعية السلوك للتفكير والمشاعر، فلن يستطيع الإنسان عندئذ تحقيق النجاح أو الوصول إلى الهدف المنشود إذا لم يسعى لإحداث التوازن بين هذه الأجزاء وعندما يحدث الخلل في إحدى الأجزاء فذلك معناه فشل الإنسان في تحقيق ما يصبو إليه وما يتطلع لإنجازه.

كما إن الموازنة بين الأجزاء المكونة لنموذج المرسيدس ستمكن الفرد من إتقان عملية تحويل المشاعر السلبية إلى مشاعر ايجابية، بالإضافة إلى إدراك عملية تحويل الأفكار السلبية الى أفكار إيجابية والبحث عن حلول للمشاكل الناشئة وتسخيرها بما يحقق لنا ولمن حولنا الاستقرار والسعادة والإبتعاد عن المعاناة والخسائر المتكررة.

ولنفهم عملية تحويل المشاعر وتبديل الأفكار لابد من الإستناد على أحد الأمثلة الحية من واقع الحياة، فعلى سبيل المثال قد يتعرض أحد الأشخاص لحادث سير شنيع يخرج منه بأعجوبة، ولكن بمجرد تذكر الحادث رغم مرور فترات طويلة على وقوعه، تطغى على تفكير الإنسان مجموعة أفكار ومعاني ذات طابع سلبي حيث يتم استحضار الأزمة النفسية المفاجئة التي رافقت الحدث وما ترتب عليها من خسائر سواء اكانت مادية او جسدية، تلك الأفكار سيترافق معها مشاعر سلبية مثل الضيق والحزن على ما حدث والإحباط واليأس، وإن تكرار هذه الأفكار والمشاعر السلبية سيؤدي بمرور الزمن إلى انعكاسات خطيرة تتجلى في سلوك الإنسان الداخلي والخارجي وتظهر آثاره على الصعيد الاسري والمهني والمجتمعي.

وفي هذه الحالة يحتاج الإنسان لصياغة تفكيره من جديد حول هذا الموقف وإيجاد حلول مناسبة لما فعله ذلك الحادث من صدمات وأحاسيس متفرقة والسعي الحثيث نحو تصفية الذهن من الصور والرسائل السلبية، بالإضافة إلى استبسال الإنسان في عميلة دحر وتبديل المعتقد الخاطئ الذي نشأ وتكون مع مرور الزمن في خلايا العقل اللاواعي، وكل ذلك سيحتاج إلى قرار صارم وإجراء حازم.

وذلك لن يكون سهلا فلابد أن يبدأ الفرد أولا في عقد جلسة مصارحة طويلة مع النفس مليئة بالحوار والنقاش الداخلي وتجاذب الأسئلة وتنافر الأفكار واستخدام القلم والورق لتدوين ما هي سلبيات الحادث وما هي أضراره وما هي الخسائر بالتفصيل.

ومن الجانب الآخر عليه أن يحاول أيضا اكتشاف شئ مهم قد يغيب عن ذهنه في زحمة تفكيره ومشاعره السلبية ألا وهو إمكانية وجود إيجابيات لهذا الحدث الصعب، وربما يحاور ذاته مذكرا إياها بحدوث الخسائر، ولكن كان بالإمكان أن تصبح هذه الخسائر أكثر مما يتصور وربما حدوث الموقف سبب صدمة مكنته من معرفة الكثير من الحقائق الغائبة عن عقله والتي جعلته يدرك الأشياء بشكل أفضل وأحسن، ومن المحتمل أن يكون الحادث كشف لهذا الفرد عدة نقاط ومنها أن السرعة الطائشة والتهور وعدم الالتزام بقواعد المرور أسباب رئيسة لما حدث من أضرار وخسائر.

وتلعب عملية تسجيل تلك المعلومات على الورق دورا إيجابيا حتى تتلاشى معها أضرار وذكريات الحادث، بحيث يقوم هذا الشخص بإلغاء الورقة المحتوية على النقاط السلبية من خلال علامة اكس على الورقة وتقطيعها وتمزيقها وتكرار هذه الطريقة لعدة مرات، ومن جانب آخر عليه الاعتناء بالورقة ذات النقاط الإيجابية من خلال قراءتها بشكل مستمر ولفترة طويلة وتكرار فوائد الحادث وتعويد النفس على المراجعة الدائمة لهذا الموضوع .

بالإضافة إلى ذلك فإن مناقشة الآخرين حول الموضوع يعتبر نوع من الفضفضة النفسية والإستفادة من تجارب الآخرون وماذا حدث لهم من أحداث مشابهة حتى يستخلص الإنسان الصفات الإيجابية من الموقف الصعب ويغرس الأفكار الإيجابية في العقل ويقتلع الأفكار السلبية ويستبدل بأخرى إيجابية وندرك في النهاية بأن لا فائدة من الحزن والضيق عدا الأزمات وسلسلة من الأخطار القادمة فتتضخم بذلك المشاعر الإيجابية وتتصاغر معها المشاعر والأفكار السلبية، عندئذ يستغل ذلك الشخص وقته ويتجاوز الأزمة ويندفع نحو معترك الحياة بقدرات افضل أقوى ويصبح تفكيره وسلوكه في الطريق الصحيح، وبمرور الزمان سيجد ذلك الشخص تلك المشاعر والأفكار السلبية المتعلقة بالحادث تنكمش وتغدو ذات حجم صغير جدا في عقله وسيبقى الحادث مجرد ذكرى ماضية ودرس من دروس الحياة.

أخيرا يحتاج الإنسان إلى وسائل كثيرة ليتمكن من إدارة عقله وما يحتويه من مكونات وأيضا لبناء التوازن المطلوب في الحياة، لأن هناك مجموعة من الأشخاص تتضخم في حياتهم المشاعر فتطغى على الجزأين الآخريين: التفكير والسلوك، كذلك يتأزم مستوى التفكير في حياة بعض الاشخاص لينعكس على حالة الإنسان الشعورية مما يمهد نحو إستبعاد الأحاسيس وإنكماش المشاعر في حياة الإنسان.

عندئذ نلجأ إلى نموذج المرسيدس لإحداث المعادلة بين المكونات الثلاث الرئيسية في حياة الإنسان : التفكير، المشاعر، السلوك، لأن هناك أشياء كثيرة في حياتنا تحتاج للتفكير والتدبر وليس لتضخيم المشاعر وتأزم العواطف، وأيضا ليس كل ما حولنا يعتمد على التفكير بل وجود العواطف أمر ضروري في بعض الحالات، أما وسائل تعزيز إدارة المشاعر وإدارة التفكير وإدارة السلوك فهي تعتمد على عدة مصادر منها القراءة المستمرة، دراسة الشخصيات وأنواع الصفات وكيفية التعامل مع المشاعر والأفكار، ودراسة اختلاف صفات الناس في مشاعرهم وتصرفاتهم وأخلاقياتهم، والتأمل في النفس وأحوالها والربط بين الأحاسيس والأفكار وما يرافقهما من علامات جسدية وسلوكيات متعددة.
haitham_sulieman2020@yahoo.com