‏إظهار الرسائل ذات التسميات ناجية بوبكر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ناجية بوبكر. إظهار كافة الرسائل

السبت، يونيو 21، 2008

أرض الصّفر ليوسف رزوقة: قاموس شعريّ، جديد



بقلم: روزا مارتينث / جامعة أوتونوما – مدريد
عرّبته عن الإسبانيّة : ناجية بوبكر/ تونس

منذ أن زجّ بنا أمبرتو إيكو في ما اصطلح عليه بالأثر المفتوح، بات بوسعنا، ونحن نقرّ ، من ثمّة، بقابليّة أيّ أثر في البوح بأكثر من تأويل، أن نقارب واقعا بعينه انطلاقا من زوايا نظر مختلفة وأن نقتحم قصرا منيفا أو غير منيف، عبر أبواب شتّى.
شيء من هذا القبيل يتجلّى مع الدّيوان الأخير للشّاعر التونسيّ المثابر يوسف رزوقة (من مواليد زردة، 1957).بل هو أكثر من ذلك، في الواقع، هو أثر في حدّ ذاته يفتح لنا، قبل انبهارنا الثابت والمتنامي والعميق لدى قراءته، طريقا تمرّ بنا عبر ألف مسلك ومسلك سرّيّ، عبر ألف درجة ودرجة صاعدة ونازلة، عبر ألف متاهة ومتاهة تفضي ولا تفضي، مبدئلّا، إلى خروج.
فالبناء ذاته يرهص، إذا جاز لنا القول، بأنّ لديوان الحال منواله الكلاسيكيّ وهو أنّه جاء عبارة عن أنطولوجيا شعريّة ذات 26 قصيدة ( مع مقدّمة وردت بمثابة مقاربة تضيء جوانب من شعره) حيث يقودنا الخيط القادح، كما نستنتج من العنوان، إلى الحدث الهائل الّذي جدّ في الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياته الكبرى.
وهذا يمكن بالتّأكيد أن يمثّل نقطة انطلاق بل إنّ الشّاعر، يتمثّل في الواقع حدثا كهذا كنقطة انطلاق نحو أشياء أخرى، شتّى.
لكن أهمّيّة ما هو بصدده تتجلّى في وضع قاموس شعريّ جديد وشعرّيّة جديدة، شأنه في ذلك شأن أصوات عربيّة أخرى يأتي أدونيس على رأسها.
ومن ثمّة، تنجم شعريّة جديدة تذهب في تشكيل فرادة شاعرها انطلاقا من زمان صفر ومن فضاء صفر.
ولا نستغرب أن يكسب رزوقة مثل هذا الرّهان فتجاربه في هذا المجال كثيرة ومتنوّعة بطبعها.
يكفي أن نشير مثلا إلى تجربته مع الشّعر الفرنسيّ( يكتب بالفرنسيّة أيضا) حيث طعّمه بأوزان الخليل ، الإيقاع العربيّ بامتياز.
وبالتّالي، يتأصّل المشروع شكلا ومضمونا بل يتحفنا الشّاعر، عبر هذه الشّعريّة الجديدة، بملامح أخرى، عديدة، منها: ميتا – الشّعر، اللّعب مع وبالكلمات، إقحام معجم الإعلاميّة، استعمال النيولوجيا عبر كلمات جديدة يبتكرها هو نفسه والقائمة تطول.
على أيّة حال، عاليا وبعيدا أو ربّما بالتّوازي مع كلّ هذا، فإن القارئ الوفيّ لنهجه الموغل في كلاسيكيّته لواجد هو أيضا ضالّته في هذا الدّيوان. أعني القارئ الذي لا يني يبحث عن الشّعر العميق، المتجاوز والشّفيف وكذلك، المتوسّطيّ الأصيل، وعليه من ثمّة أن يقرأ "أرض الصّفر" لشاعرنا التّونسيّ، على خلفيّة أنّ رزوقة هو، أساسا وقبل كلّ شيء، شاعر متوسّطيّ، شاعر الأزرق والأخضر، شاعر البحر من على اليابسة. هو شاعر متوسّطيّ لا يني يلعب، وهذا، ختاما، أكثر ما يدهشنا، مع الزّمان ومع المكان، على إيقاع الأمواج، أمواج البحر الأبيض المتوسّط.
وكمثال نستحسنه، قصيدة مختزلة، مكثّفة وجميلة عنوانها تحديدا:

الأزرق الهادر

يهزأ اللاحق بالسابق
و السابق بالأسبق
و الأسبق بالقوم القدامى
لكأن الموت، هذا الموت
غير الموت، ذاك الموت
موت الكائن الهش و ما جاوره من حيوام
أو كأن الوقت، هذا الوقت
غير الوقت، ذاك الوقت
وقت الحنظل المحض و ما خالطه من صبوات
أو كأن الصوت، هذا الصوت
غير الصوت، ذاك الصوت
صوت الظالم النذل و ما حف به من هفوات
أو كأن اللون، ذاك اللون
غير اللون، هذا اللون
لون الضحكة الصفراء من خلف القناع
يهزأ الشاعر بالقارئ
و القارئ بالنص الذي بين يديه
و بنا يهزأ هذا الأزرق الهادر : بحر اللحظة الهوجاء بحر الكلمات

هوامش:

- هذا النصّ نشرته "أوراق"، مجلّة إسبانيّة، 400 صفحة، تعنى بالبحث العلميّ والدراسات حول العالم العربيّ والإسلاميّ الحديث، انظر: ص 343 من المجلّد XXIII.
(*) رزوقة، يوسف : أرض الصّفر، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس،2005
(**) من ضمن نتاجه الشعريّ نذكر: برنامج الوردة وأزهار ثاني أوكسيد التّاريخ ، قمت بترجمتهما إلى الإسبانية في انتظار نشرهما قريبا.

- روزا مارتينث، مستعربة إسبانية وأستاذة بجامعة أوتونوما بمدريد
تنقّلت بين مصر وتونس ، اليمن، العراق، سوريا، ليبيا،إيطاليا
أعدّت رسالتها الجامعية عن صلاح عبد الصبور ثم أطروحتها عن أمل دنقل
تعنى بالأدب العربي الحديث ولها في هذا السياق كتب ودراسات، نذكر منها:
أربعة من الرابطة الأدبية: جبران، نعيمة، أبو ماضي وعريضة
العالم العربيّ قبل سنة 2000 ( بالاشتراك).
الأندلس الفينيقية لدى محمود درويش، قرطبة المقطوعة
الشعر التونسيّ الجديد: التجربة الإبداعية لدى يوسف رزوقة
شاعر، مترجم وقارئة: تجربتي مع نزار قباني
مصر في ثلاثة أبعاد
جناح الأندلس المهيض
الرؤية الكونية لدى علي أحمد سعيد ( أدونيس)
من هنا وهناك، نظرة شرقية على المدينة
أغاني مهيار الدمشقي لأدونيس (ترجمة)
الكتاب لأدونيس (ترجمة بالاشتراك مع بدرو مارتينث)


الأحد، ديسمبر 23، 2007

يوطاليا أو مدينة الشّعراء ليوسف رزوقة وهيرا فوكس


بقلم : شانتال موركرات * ، ترجمة ناجية بوبكر


شاعران يلعبان بجدّيّة صارمة
- يوطاليا هي مدينة الشعراء يلتقي فيها الغرب والشّرق.
هذا الكتاب (صادر مؤخرا عن سوتيبا)،هو ثمرة رؤية ثنائيّة، تجاوزيّة لشاعرين، أحدهما تونسيّ، من الشّرق والطّرف الآخر فرنسيّة من الغرب. معا تبادلا من الأفكار حول الشّعر والحياة والجنون الإبداعيّ ما جعلهما يشتبكان باتجاه إيقاع مختلف.
إيقاع تبدو فيه هيرا فوكس، على سبيل المجاز، الصّوت الأنثويّ، المجهول. لم التّخفّي؟ لأنّ هيرا فوكس هنا امرأة أيقونة فهي أمّ وزوجة، تعير هنا صوتها لمسرح الأضواء والظّلال حيث لا معنى إلاّ للكلمات بشتّى حواسّها، للرّموز، للّعب الشّعريّ وللميم، ميم المرأة الّتي لا توصف.
إنّه معجم ذو مفارقة ، يتجاوز الفضاء، وفيه يمتزج الإنسانيّ والحميميّ، كي تنصرف اللّغة، النبع الحيّ ليوسف رزوقة، إلى مطلق حرّيّتها، لغة منثالة من كلّ مكان،عبر الجسد والأفكار، تخترق ما هو ثنائيّ، الصورة الشّعرية وفوضاها لتستقرّ في النّهاية حيث النّبع.
"الأنا" هنا تأخذ شكل مكعّب بشتّى زواياه وأوجهه، شكل شاشة أو كشّاف نور ذي سعة انتشاريّة، فائقة: هي لعبة للبناء تركيبا وتفكيكا في زحمة الانزياحات المختلفة.
هما صوتان، ثقافتان، أسلوبان، ذاتان تقولان الحياة، في بعدها الافتراضيّ ، بطريقة مختلفة وتسمّيان من جديد مدوّنة الأشياء.
ونحن نمعن في المقول الشّعريّ للوقوف على جوهر المعنى، تطالعنا لوحة متعدّدة المصاريع، على سطحها شاعران يلعبان، ينسابان، يتساءلان، يستفزّان، يصدمان، يتراضيان، يغريان أو، بكلّ بساطة، يحكيان.
ماذا لو استحالت الكلمة شيئا؟ لو استوت الفكرة مدينة؟ لو انتهى الحلم جسدا، عيونا مفتوحة؟
يوطاليا هي مدينة، هي طريق حيث الغرب والشّرق يلتقيان. هما يلتقيان في نقطة "الوثوب الحيويّ" حيث الجوع والظّمأ يعبّر عنهما بكلمات كلّ يوم.
باللّعب في الآن نفسه على تيمات التّثاقف، المراجع الثّقافيّة، الطّبيعة، الجسد والقلب، اليوميّ، انتهت يوطاليا فضاء للأقلمة تنحلّ فيه أنغام الإيقاع البشريّ. إيقاع منحه الشاعران صوتهما في محاولة منهما للاستحواذ على عالم الرّموز ولقول ما يهمّهما كي يكونا معا في هذه "القرية الكونيّة" حيث يستوي الإنسانيّ مع الكونيّ من أجل الاستئثار بالمعنى المجازيّ للأمّ ، كي يصار، في حفل من الكلمات النّائسة، إلى تفكيك شفرة عالم ينأى عن الجوهر: أصل الحياة والينابيع الدّغليّة الأولى.
لا يعني أبدا هذا أنّنا إزاء قصيدة مرآويّة أو قصيدة هجائيّة، بل نحن إزاء بهجة ما، حيث ينهض الصّوتان معا كي يكونا، من ثمّ، ناطقين باسم أيّ ثنائيّ، في الواقع.
تصاعديّا وطبيعيّا، يذهب الحوار بين شرق وغرب، بين شمال وجنوب، بمنأى عن كلّ اعتبار نزاعيّ يقول بصدام الحضارات.
اثنان من "يتامى الخارطة" يذهبان إلى أقصى العالم، يحاولان معا محو الأبجديّة، الفضاء والزّمان، يلاحظان ثمّ يعودان إلى نقطة الانطلاق كي يسمّيا الأشياء من جديد: الرّيح، المطر، الضّجيج، الجسد، المعلّم والإنسان الآليّ، الحبّ، الثّورة، الجنون والعصفور، العجلة... وماذا لو أنّ اللّغة لم تتمكّن من التّوقف، وهي تذهب من المألوف إلى حيث المجهول؟
إنّه إيقاع: نشيد للطّبيعة وللفرح.
كلمة السّر في هذه القصائد هي عودة الخطاف.
إنّه إيقاع: نشيد للإخاء وللحلم القائم بين شرق وغرب
كلمة السّرّ في هذه القصائد هي تهريب ألف ذاكرة وذاكرة
هي لغة الإنسان على مستوى جزء ما، من الكوكب : هذان الصّوتان، لمن يغنّيان؟ وأيّ الذّاكرات يهرّبان؟
ماذا لو أمكن للغة يوما أن تعطي دفعا للنبع من جديد؟
* شاعرة فرنسية.

الخميس، ديسمبر 13، 2007

رزوقة في "أنثى القصّة والقصيد" بصفاقس: الشعر أسلوب حياة




ناجية بوبكر
تونس
سبع نحلات عاملات في خليّة "أنثى القصّة والقصيد" بصفاقس، ثاني أكبر المدن التّونسية، استضفن مؤخّرا، في أوّل نشاط لفضائهنّ الأدبيّ الشّاعر التّونسيّ يوسف رزوقة بمناسبة صدور أعماله الشّعريّة " الهلال يتّجه شرقا".
استهلّت اللقاء رئيسة الخليّة، الشّاعرة سميرة الشّمتوري بكلمة قدّمت من خلالها بطاقة تعريف الخليّة التي تتكوّن من سبع أديبات هنّ، إلى جانب رئيسته، الشاعرة مفيدة المستوري، القاصة والشاعرة يسر الزّمّال، الشاعرة فاتن الحفيان، الأديبة سنية النّاصري، القاصّة مبروكة بوحاجب والشّاعرة فاطمة السلاّمي.
و تهدف هذه الخليّة إلى إبراز الدّور الإبداعيّ للمرأة التّونسيّة في مجالي الشعر والقصّة وسائر الأنماط الثّقافيّة ، عبر التّواصل مع رموز المرحلة الفاعلة وضمان التّلاقح مع مختلف القرائح الأدبيّة الواعدة، مشيرة إلى أنّ هذه الخليّة متفرّعة عن الخليّة النّواة للمجلس الوطنيّ للمرأة بتونس، تعمل تحت إشرافه وبدعم منه وتتّخذ من لجنة التّنسيق بصفاقس، حيث المجلس الجهويّ للمرأة، مقرّا لها، تحت إشراف المثقّفة المناضلة نجوى الشّعري التي تناولت الكلمة لتركّز على دور المرأة المثقّفة في تحريك سواكن راهنها الثّقافيّ والنّضاليّ، من أجل امتلاك حضورها عن جدارة إلى جانب شريكها الرجل وباركت في الآن نفسه ميلاد هذا الفضاء ليكون رافدا آخر يسهم بقسطه ولو أدبيّا، مع سائر الفضاءات الثقافيّة الأخرى.
العالم امرأة
وكان الشّاعر يوسف رزوقة أثث اللّقاء بقراءات شعريّة متنوّعة أرادها من وحي عوالم المرأة استهلّها بمقولة ابن عربي "المكان الّذي لا يؤنّث، لا يعوّل عليه" ومن مناخات الأمسية هذه المقاطع:
العَالَمُ امْرَأَةٌ / تَعَالَقَ نَبْضُهَا / مَعَ كُلِّ نَبْضٍ فِي الخَرِيطَةِ كُلِّها / لَمْ تُشْرِقِ الشَّمْسُ الَّتِي هِيَ شَمْسُهَا / إلاَّ لِتَغْرُبَ حَيْثُ فَائِضُ ظِلِّهَا.
أو قوله:
العالم امرأة، بحيث إذا بكت، حلّت بظالمها المصيبة كي يعيش معلّقا في حبل مشنقة له، بشعور من يخشى النهاية: أنّها ستخونه.
أو قوله:
العالم امرأة وإنّ مجرّد التّفكير في تجريدها من حقّها في أن تكون، جريمة في حقّها.
أو قوله:
العالم امرأة، بحيث إذا رأت في شكلها ما لا تريد، تهشّمت مرآتها.
أو قوله:
العالم امرأة ويكفيها الشّعور بأنّها امرأة لينهض خلفها رجل تعاظم حلمه حتّى بكى.
ليستعرض ضيف اللقاء إثر ذلك محطّات من مسيرته الزّاخرة في مجال الكتابة الأدبيّة وردّا على سؤال حول أسباب تسويغه الشّعريّ للمنجز العلميّ والتكنولوجيّ والرّقميّ عبر مجموعاته الشّعريّة الأخيرة : أزهار ثاني أوكسيد التاريخ، إعلان حالة الطّوارئ، الفراشة والديناميت، كتاب اليوغا الشّعريّة وأرض الصّفر، أجاب رزوقة بأنّه لم يفعل ذلك إلاّ لتحقيق المعادلة العادلة بين ما يبدو حكرا على العلماء وهو ليس كذلك وما يبدو حكرا على الأدباء وهو ليس كذلك أيضا، فكلاهما، هاوي الأدب وغاوي العلوم، في رأي رزوقة واحد وعليهما من ثمّة أن يلتقيا في القاسم المعرفيّ والإنسانيّ المشترك، من أجل شيء استثنائيّ، قادم له مواصفات الإنسان الجديد الّذي بوسعه أن يرقص مع المتنبّي في قلب اللّيزر، ذلك أنّ الشّعر، يستطرد ضيف اللّقاء، ليس فقط مجرّد تهويمات ذاتيّة أو تجلّيات وجدانيّة مفرغة من إيحاءاتها أو نبات شيطانيّ، مجتثّ أو هروب من واقع أو جنوح إلى ما وراء الأسوار حيث المدينة الفاضلة، بل هو إلى ذلك، أسلوب حياة نمارسه جميعا، كلّ على طريقته وبالشّكل الّذي يقتضيه الموقف والحال والواقع، فأن تكون شاعرا، بالممارسة النصّيّة أو بشاعرية السّلوك، يعني أن تكون إنسانا كما ينبغي فلا تتأذى بجهل أنت مصدره ولا تخون ذاتك فيخونك أقرب الناس إليك وأنت آخر من يدري.
وفي ختام اللقاء الذي تخللته أطباق المرطّبات والحلويّات الصفاقسيّة، أهدت خليّة "أنثى القصّة والقصيد" ضيفها باقة ورد، عربون إكبار له وللّشعر من خلاله.

الخميس، نوفمبر 29، 2007

رزوقة في افتتاح الأيام الشعرية بتونس: اقتلوني إن استطعتم


ناجية بوبكر / تونس

* لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرون كي يدجّجوا بأسمائهم ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء ، أمّا الأسماء الأخرى القريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها فهي تضيء في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
انطلقت الثلاثاء 27 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية بتونس "الأيّام الثقافية والشّعريّة" التي جاءت تحت عنوان "لو أنّ للريح جوربا" بتنظيم من الشاعرين فريد السعيداني وجميل عمامي وقد قدّم هذا الأخير الشاعر يوسف رزوقة، ضيف الافتتاح، بكلمة جاء فيها : لو أن للريح جوربا أو هكذا تشتعل الحرائق لإثارة ضجّة ما، لكسر إيقاع صمت، نحتاج لأكثر من ناي ومطرقة لنغنّي...المسألة تحتاج لأكثر من ذاكرة وجرح من أجل إعادة اللون إلى طبيعته والحقيقة إلى بئرها..لكننا سنبقى أحفاد فجر لا يشيخ وفي هذه اللحظة الحاسمة تحديدا، ستولد قصيدة على تماس هاويتين، هناك حيث كلّ شيء أحمر، تضيئه نجمة لا يخفت ضوؤها.. سنبني للريح بيتا وسندعوه لحفل شاي وسنمشط بالحكايا ليلة.. هكذا هو الشعر دائما، وليد الساعة الصفر، لا يهادن ولا يصالح وإن خبّأ أنيابه وراء المجازات والاستعارات وهل من سلاح للشعر غير اللغة؟ لا بدّ من تربة صالحة إذن لنجفف عرق الولادة. لو أن للريح جوربا، لكان الإيقاع مختلفا وفي إطار بحثنا عن الاختلاف دائما وعن خلق لغة بديلة، بلّوريّة الأفق، لا خشب في أحشائها ولا بوليس، استضفنا اليوم شاعرا لا يكتب إلاّ واقفا".
بعد هذه الكلمة، افتتح رزوقة اللقاء بقصيدة " حكومة ظلّ" من ديوانه " أرض الصفر" : تلك المنطقة المحظورة من مدينة ذات الأبراج: يورك الجديدة، جاء في مطلعها : " ما أكتبه، ليس الشعر الموزون أو الشعر المنثور / و ما هو بالإعجاز / فقد ولى زمن الشعراء المنتفخين بأنفسهم - زعماء النظم الزائف و الزلفى- / ما أكتبه بالفحم - هنا و الآن – / محاولة للحلم و للتحريض عليه / و فلسفة للثأر من امرأة ...ولدت هذا الأسطول الهائل من حمقى العالم / و انتظرتهم حتى أثموا !" ليقتحم الشّاعر جمهوريّة ميكروسوفت ويرقص في قلب الليزر، على ضقاف وادي السّيليكون، رقصة الإنسان الجديد بأكثر من قناع.
من مناخات هذه المطوّلة الشّعريّة، هذا المقطع وفيه تجسيد لمحاورة بين سقراط وأفلاطون:
في القرن الخامس قبل الميلاد، استدعى سقراط محاوره المتألق أفلاطون..
و قال له بالحرف الغائب :
حاورني و كأنك مجنون !.
لكن محاوره المتألق أفلاطون..
تعلق بامرأة في القرن الحادي و العشرين
فلم يأبه برؤى سقراط
و لا بفلاسفة الماضي و الحكمة و القانون..
رأى المستقبل في كلمات تكتبها امرأة :
رقصا في قلب الليزر
حتى استرخاء مفاصلها و النوم عميقا في عينيه..
.. و كان يراودها من زاوية الزمن القاصي
و يردد :
كيف تعملق ميكروسوفت و أعدم فلسفتي..
لتراقصه امرأة الأضواء بكامل أحرفها..
عوضا عني ؟..
آه مني !
كم كنت بعيدا عن شفتي !
ووحيدا في لغتي !
الآن فقط
ستعاودني في القرن الخامس قبل الميلاد، الحمى..
لأعود إلى سقراط و من معه : أعمى
أعمى، أعمى ..
فارأف بي يا سقراط
أنا لم أقفز من زمني..
إلا من أجل محاورة أسمى
لكني خبت و خابت فلسفتي
لم ألق مكانا لي في جمهورية مكيروسوفت
و لم أجد امرأة تحبوني يدها كي ألثمها..
و أعود إلى نفسي
مرتاح البال و ممتلئا بشذى الأنثى/
بأظافرها في فلسفتي ‍.
لم أحظ بغير الليزر
يدفق مؤتلقا من عينيها، كالسيف..
(أقلت " السيف"؟..)
أأقصد أن الليزر أكثر إنباء في الشاشة..
من سيف يزن الـ..
بل يلزمه في الواقع، كي يزن الآتي بالماضي
آلاف الجزر الضوئية و السنوات…
كن نفسك.. كي تعفى
من وضع العبد و خذ ما يكفي من حلم
كي تشفى
من منفاك…
دمك المتدفق.. أسرع من ضوضاء الطابعة المجنونة،
غير بعيد عنك..
تقوس ظهرك أكثر مما يلزم
و الأكتاف ؟
تلاحمت الأكتاف/ تصلبت الرقبه
اجلس في وضع آخر :
في كرسي دوار مثلا…
لا‍! لا تخش المنفى ‍!
و اطرد فوبيا الكمبيوتر / كل الخوف المتراكم فيك
و لا تخش المنفى:
و اطرد متلازمة الكومبيوتر :
لا تقلق :
دع عنك نقاط الشاشة / لا تهتم بها
و اترك كومبيوترك..
كي تتفسح في البستان قليلا
لا تخش المنفى
و اطرد متلازمة السيليكون
و لا تهرب للداخل، مما يحدث أحيانا، في
الخارج..
لا تخش المنفى ‍!
لا تخش الإجهاد البصري
و هذا الماء الأزرق في عينيك!..
زمن الحمى و.. الكوليرا :
طفل يبكي ، يبكي ، يبكي..
تتناسخ صورته عبر الأصقاع بآلاف النسخ..
الكون بأكمله أعذاق نخيل خاوية..
و يد تمتد لتخمش أقصى الأرض، أظافرها…
أين الخنساء ؟
هل ابتلت في القبر بدمع الطفل، ضفائرها؟…
بعض النقده
من ديناصورات الزمن الحجري
جثوا في الشارع تحت الشرفة…
ينتقدون العالم :
كيف ترقمن ؟
و الأنموذج كيف طغى ؟
و الشاعر من عدمه ..
و الشاعر وهو يرى ما لم يره النقده
أغواه الشيطان
و لم يك- وهو يبارزه بالليزر و الكلمات- من العبده..
أغوته اللعبة :
وهو يدير حكومته العملاقة ..
من ردهات المكتبة الرقمية
يستدعي البواب ، مراجعه المتقاطعة، الموسوعة، كل فهارسها و خرائطها و بنوك المصطلحات
(وقد) تدعوه إلى المستقبل عبر الألياف الضوئية فائقة السعة امرأة من أنسجة و دم..
فيبادلها في الوقت الضائع دردشة خضراء بدردشة..
تتمدد صورته عبر المسح الضوئيّ …
ليرسلها للتو إلى معشوقته…
و أنا في الموقع ..
في صلب الترويج المتقاطع للـ"بستان"،
لـ"ثاني أوكسيد التاريخ"، لـ" أعمالي الشعرية"، لي …
ثمّ مهّد لقصيدته الثانية "ملحمة الخاتم" بما مفاده أنّ " تدحرجنا إلى ما نحن فيه اليوم، من أزمات باتت مزمنة قد تكون بدأت عوارضه، حسب الاحتكام إلى وقائع التاريخ، مع ثالث الأجداد الرّاحلين، بضياع خاتم الرسول (صلعم) في بئر أريس واندلاع "واقعة الجمل" الشهيرة وما إليها، والخاتم كما تعلمون هو رمز هويّتنا التي بضياع الخاتم، ضاعت، يقول رزوقة:
هو خاتم ضيّعته
أو ضيّعته يد من الأيدي الطّويلة
ذات زهو
ذات لهو
ذات سهو
عند بئر أريس
حتّى أنّني غادرت صحرائي
وجئت إلى هنا...
الوضع ليس ملائما أبدا
لأيّ تلاعب
بمشاعر امرأة
تعاني منذ "بئر أريس"
وضعا خارج الموضوع
ضاع الخاتم
الأجداد ضاعوا كلّهم
وكذلك الأحفاد
ضاعت جنّة أولى وثانية وثالثة
وضاع البحر بين يدي وحيد القرن
ضاع المنجنيق
وضاعت البصمات
ضاعت في الحريق مدينة أولى وثانية وثالثة
وضاع الخاتم، الإنسان والتّاريخ
ضاع الخاتم، القسمات والينبوع
ضاع الخاتم، المعنى الذّي فينا وفي الموضوع
ضاع الخاتم، الكلمات والجغرافيا
امرأة فقط
ظلّت على قيد الحياة
و منذ بئر أريس
وهي تعيش وضعا خارج الموضوع
بل هي تلك زرقاء اليمامة
أمعنت في سمل عينيها
لترحل بين عاصمة وعاصمة وعاصمة وعا...
عمياء
ذاك أقلّ فداحة
من رؤية امرأة تعسّر وضعها
حتّى انحنى لصراخها نخل العراق
وذاك، ثانية...
أقلّ ضراوة
من رؤية "السّيّاب" في تمثاله
وقد انحنى ليلمّ بين شظيّة وشظيّة أشلاءه
بل ذاك ، ثالثة...
أقلّ شراسة
من رؤية الإنسان : "رعد مطشّر" والآخرين
فريسة التّمساح والمارينز".
لغة مشفرة
مباشرة بعد فراغه من إنشاد القصيدتين، تلقّفه جمهور الطلبة بفيض من الأسئلة المربكة والمحرجة أفاض رزوقة، على امتداد أربع ساعات كاملة، في الإجابة عليها بأريحيّة الشّاعر الذي لا يهمّه، حسب تعبيره، إلاّ النّصف الفارغ من زجاجة الواقع، أمّا الجزء الملآن بما ينطوي عليه من مآثر وانتصارات، إن وجدت، فلا يهمّه على الإطلاق، داعيا في الآن نفسه محاوريه إلى ضرورة قتله، إن استطاعوا، كما يفعل هو مع نظرائه الشعراء الذين هيمنوا منذ قرون على ذائقة الجمهور المستهدف بإيقاع متخلف عن عصرنا هذا وبمضامين موغلة في القدامة وفي التغني المبالغ فيه بالأنا المريضة فقد آثر منذ البداية أن يقتل، من باب الحبّ، المتنبي وأبا تمّام ومن لفّ لفّهما حتّى يظلّوا على قيد الحياة، على خلفيّة أن شاعر أية مرحلة لا يمكنه أن يكون المتنبي أو غيره في النصّ أو في الحياة، فلكلّ شاعر يولد كبيرا خصوصيته وصوته وإيقاعه الخاصّ المتناغم مع عصره. ويتساءل:هل بإمكان شاعر من هذا الزمان أن يشهر سيفا وأن يتغنى بالناقة أو بالفرس كما فعل الشعراء القدامي وهو يعيش واقع الآلة بضغطها العالي وما يداخل الحالة البشرية من هبوبات التشيئة والهستيريا والعولمة الشرسة؟
لذلك، يضيف رزوقة، من واجبنا، كي نحقق ذاتنا وتوازننا في عصرنا هذا، أن نهدم ما بناه الآخرون، شرط أن نبني على أنقاضهم بدائل أخرى وأن نجهز من ثمّ على إحساسنا المتوارث فنصهر تراث الأجداد صهرا فلا نبقي منه للأجيال المتعاقبة إلاّ ما يبدو مضيئا، يخدم الإنسان في تطلعاته الراهنة.
وحول كيف نفهم مدى ثوريّة النصّ الإبداعيّ من عدمها ، أفاض رزوقة في تبيان البعد المتعدّد لدى شاعر المرحلة، مضيفا أنّ شاعر اليوم يمارس السياسة بالعمق الذي أعلنه نيتشه ذات فلسفة حين قال " كفى! سيجيء زمن يصبح فيه للسياسة معنى آخر" بمعنى أنّ السياسة لم تعد فن التعاطي مع الممكن كما لدى القائلين بها عادة ممارسة وخطابا بل أضحت، بالتوازي مع ذلك، لغة مشفرة يلهج بها الشاعر والفيلسوف ورجل الشارع أيضا ومن ثمّة انتهى كلّ شيء سياسة، حسب الطرح السيميائيّ والبعد المتعدد للظاهرة.
وليس صحيحا أنّ إبداعنا ظلّ رهين محبسه المغاربيّ، يدحض رزوقة ما ذهب إليه أحد المحاورين، فمع قيام "القرية الألكترونية" التي بشّر بها مارشال ماكلوهان، تلاقت الأطراف وقام واقع تواصليّ، جديد ليصبح المغمور مشهورا والقاصي في متناول العين. بل إنّ هذا الواقع الجديد قلب المعادلات ليصبح الواحد منّا عابرا للحدود بإبداعه الذي كان قديما محكوما عليه بالنوم طويلا في الدهليز.لكن مع ذلك، تظلّ مقولة "لا نبيّ في قومه" أو "زمّار الحيّ لا يطرب" قائمة لدينا على نحو مرضيّ، فادح لأسباب يعرفها ذوو القلوب الصغيرة المنتصرة بحكم العادة والانعكاس الشرطيّ البافلوفيّ للآخر المكرّس على حساب مبدع المكان ولو كان هذا الأخير "فلتة زمانه".
شخصيّا، أربأ بنفسي عن الانخراط في أيّ عمل دعائيّ من شأنه أن يحسّس أبناء وطني الكبير بمدى أهميتي، مكتفيا باستراتيجية الإبداع في صمت مع ابتسامة ملجومة على الوجه الباكي في الوقت الذي يراني فيه آخرون بأمريكا اللاتينية مثلا بعين الانبهار إلى حدّ جعل كاتبة مكسيكية تكتب ثلاثية روائية من وحي ما نشرته من شعر بالإسبانية وتجعلني بطلا محوريا فيها.
لكنّ هذا التغاضي من أهل المكان الذي ننتمي إليه روحيا وتاريخيا وجغرافيا، لا يزيدنا في الواقع إلا إصرارا على التحليق عاليا وبعيدا وضحكا على ذقون الجهلة من صغار النفوس، تاركين لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرين كي يدجّجوا بأسمائهم في كلّ مناسبة ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء دون أن تكون لهم أدنى موهبة في تحيين ما بالذاكرة لاستيعاب أسماء أخرى، قريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها لكنها طليعية ورائدة في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
تشعبت أسئلة المحاورين حول الهدم والبناء، طقوس الكتابة، المرأة كمصدر إلهام دائم، الكتابة والعري،إلى جانب أسئلة أخرى، حارقة أجاب عليها يوسف رزوقة بكلّ تلقائية لتسلّمه في ختام اللقاء إحدى الطالبات رسالة جاءت في شكل قصيدة تقول في أحد مقاطعها" قد رأيتني مصلوبة في هيكل شعر ورأيت أحد عشر قربانا والحرف والأبجدية لي يسجدان، فكيف لي بنبوءتك وأنت قابع في كهف أفلاطون تسبح بالعشق لظل اله؟" لتختمها بتمنياتها بقتله، بناء على دعوة ضيف المكان إلى ذلك في بداية اللقاء..
شعر ورسم ومحاضرة حول التخلف الآخر
هذا والتقى الجمهور الطالبيّ في اليوم الثاني مع الشّعراء التونسيين المنصف الوهايبي الذي قرأ قصائد جديدة من ضمنها قصيدة "المائدة" مهداة إلى شوقي أبي شقرا، فتحي النصري، صلاح بن عياد إلى جانب الشاعر اليمنيّ أحمد السلاّمي الذي رافقه الشاعر يوسف رزوقة إلى الأمسية حتي يتواصل مع نظرائه من الشعراء التونسيين ومع الجمهور من خلال قراءات شعرية له.
وفي اليوم الثالث، ألقى عالم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي محاضرة بعنوان " التخلف الآخر: أزمة الهويات الثقافية في تونس والوطن العربي" مع فسحة موازية للشعر والرسم.
وبرمج اليوم الختامي، الجمعة 30 نوفمبر / تشرين الثاني2007، للشعراء شاكر اللعيبي من العراق، هادي دانيال من سوريا ومحمد الهادي الجزيري من تونس.

الأحد، نوفمبر 18، 2007

يوسف رزوقة: من لا يحترم الشّعر وأهله، ستخونه نفسه وزوجته والآخرون!



ناجية بوبكر/ تونس
في لقاء نظّمته دار الثّقافة / ابن زيدون بالعمران، إحدى ضواحي تونس العاصمة، الجمعة 16 تشرين الثّاني 2007، أدان الشّاعر التونسيّ يوسف رزوقة، أمام جمع من التّلاميذ والطلبة، شرائح معيّنة من المجتمع العربيّ لا ترى للشّعر، فنّ العربيّة الأوّل، أهمّية في حياتها ولا تقيم لأهله، من ذوي الثّقافة المنفجرة، وزنا على افتراض أنّ أهل الأدب لا يرجى منهم غير الفقر ومشتقّاته وقلّة الأدب وهو العكس تماما، حسب رزوقة ليستدرك أنّ الّشعراء يتبعهم الواعون من جماهير المرحلة وهذا يكفي، في رأيه، للقطع مع تلك النظرة العدائيّة السّائدة الّتي ما انفكّت تنتصر، على حساب الأدب وبمعزل عنه، لحقول معرفيّة، أخرى كالرّياضيّات وغيرها، بدعوى أنّها الأهمّ في حياة الواحد منّا، وهي معادلة خاطئة بالتّأكيد، يؤكّد رزوقة، لا يقول بها إلاّ الجهلة من ذوي العقول الإسفنجيّة، الرّاكدة، مركّزا في الآن نفسه، وهو يقرّ بما يراه خلفيّة معرفيّة لا بدّ منها، على ضرورة المراوحة بين سائر الحقول ومن ضمنها الأدب للإفادة منها جميعا، لا فضل لأيّ حقل على آخر لكن شرط اعتبار الّشعر، بما ينطوي عليه من رسائل مشفّرة هي خلاصة امتلاء نوعيّ بتلاوين الوجود، اعتباره ركيزة النّفس ذات الزّوايا الشّائكة وهي تبحث في حيرتها عن أسلوب حياة يجنّبها الموت والتّأكسد والاغتراب.
وكان الشّاعر يوسف رزوقة استهلّ اللّقاء باستعراض مسيرته الطّويلة في مجال الكتابة الأدبيّة، مشيرا إلى أنّ أوّل نصّ شعريّ كتبه بالفرنسيّة كان بعنوان " من أكون؟"، نشرته مجلّة "الطّموح" الّتي كان يصدرها المعهد الثّانوي بقصور السّاف، حيث يدرس، بإيعاز من أستاذته الفرنسيّة روز ماري جوري، تلاه نصّ قصصيّ نشرته له مجلة " الإذاعة والتّلفزيون" التّونسيّة وقتها تحت عنوان "شيء اسمه الحرمان" وكان عمره إحدى عشرة سنة وقد عانى طويلا من أجل أن يرى محاولاته القصصية والشعريّة منشورة إلى جانب نصوص المتقدّمين من أدباء المرحلة، في المجلاّت والصحف التّونسية ويتوجّه رزوقة إلى الحضور من التّلاميذ والطّلبة ليعرّج على أنّ ما كان يزعجه آنذاك هو عدم اهتمام زملاء الدّراسة وحتّى المجتمع بما كان يكتبه من أشياء ذات صبغة أدبيّة، معتقدين أن لا مستقبل إلاّ للمتّجهين غربا، حيث اينشتاين ونيوتن ومن هو في حكمهما، وهم بذلك " قد سقطوا من عينه" وفي الفخّ فلم يزده ذلك الاتّجاه المعاكس إلاّ اعتدادا وامتلاء بما يكتب وانصرافا عن زملاء " البيوت المكيّفة" إلى حيث يسكن الشّيطان فالشّيطان أرحم، على حدّ تعبيره، من الّذين يدّعون في العلم فلسفة وأشياء أخرى.
وردّا على سؤال حول أسباب تسويغه الشّعريّ للمنجز العلميّ والتكنولوجيّ والرّقميّ عبر مجموعاته الشّعريّة الأخيرة : أزهار ثاني أوكسيد التاريخ، إعلان حالة الطّوارئ، الفراشة والديناميت، كتاب اليوغا الشّعريّة وأرض الصّفر، أجاب رزوقة بأنّه لم يفعل ذلك إلاّ نكاية في أصدقائه من المتعصّبين للعلم دون غيره، في محاولة شعريّة منه لتحقيق المعادلة العادلة بين ما يبدو حكرا على العلماء وهو ليس كذلك وما يبدو حكرا على الأدباء وهو ليس كذلك أيضا، فكلاهما، هاوي الأدب وغاوي العلوم، في رأي رزوقة واحد وعليهما من ثمّة أن يلتقيا في القاسم المعرفيّ والإنسانيّ المشترك، من أجل شيء استثنائيّ، قادم له مواصفات الإنسان الجديد الّذي بوسعه أن يرقص مع المتنبّي في قلب اللّيزر ليخلص في هزل كأنّه جدّ إلى نتيجة مفادها أنّ الّذي لا يحترم الشّعر وأهله، ستخونه نفسه أوّلا وزوجته ثانيا والآخرون!، ذلك أنّ الشّعر، يستطرد ضيف اللّقاء، ليس فقط مجرّد تهويمات ذاتيّة أو تجلّيات وجدانيّة رجراجة أو إيقاع شيطانيّ للإيقاع بامرأة غير واقعيّة أو هروب من واقع أو جنوح إلى ما وراء الأسوار حيث المدينة الفاضلة، بل هو إلى ذلك، يكرّر رزوقة ما قاله سابقا، أسلوب حياة نمارسه جميعا، كلّ على طريقته وبالشّكل الّذي يقتضيه الموقف والحال والواقع، فأن تكون شاعرا، بالممارسة النصّيّة أو بشاعرية السّلوك، يعني أن تكون إنسانا كما ينبغي فلا تتأذى بجهل أنت مصدره ولا تخون ذاتك فيخونك أقرب الناس إليك وأنت آخر من يدري. إنّ عالما كبيرا، على سبيل المثال، أعماه علمه عن زهرة جميلة في متناول نظرته فلم يرها كما ينبغي ولم يشعرها بأنها جميلة، ستخونه هذه الزهرة بالتأكيد يوم لا يجدي ندم أو تكفير عن تقصير، إلى غير ذلك من السلوكات اليوميّة المماثلة والتي لن تستوي لتؤتي أكلها على الوجه الأكمل والأمثل والأجمل إلاّ بشاعريّة الحركة قولا وفعلا وبكلّ شيء جميل كالابتسامة في غير زيف، كالنّظرة العميقة للأشياء، كشاعريّة الشّعار، كفنّ الصّمت والكلام، كالتواصل مع الآخر وحتى مع الأعداء إن وجدوا، كالوقوف بتواضع أمام المرايا المتعاكسة، كالعطاء بلا ضفاف، كالإحساس الصادق بامرأة تشاطرك الطريق أو الكلمات أو الهموم، كالتكيّف مع الواقع على نحو تسوّغه رؤية الّشاعر الذي فيك، إلى غير ذلك، كلّها أطروحات قابلة للتحقق على أرض الواقع، أمّا الذي يمانع، عن مكابرة أو جهلا وهو لا يرى في ما يرى إلا ذاته المتورّمة منعكسة على ماء المستنقع أو في سراب الصّحراء فإنّه لن يسمع وهو في برجه العاجيّ إلاّ نقيق الضفادع ونعيق الغربان، مشيرا إلى ما قاله ذات يوم في إحدى محاضراته من "أن مجرّد ابتسامة زائفة قد تنسف أيّ مشروع ديمقراطيّ من أساسه" ليستشهد بكلمات للفيلسوف نيتشة تقول " سيجيء زمن يصبح فيه للسياسة معنى آخر" وهو ما يراه متجسّدا بشكل ما في المقول الشعريّ ، فالشعر سياسة في العمق وهو يرى بالتالي
" إذا كانت السّياسة فنّ التّعاطي مع الممكن فإنّ الشّعر هو بامتياز فنّ التّعاطي مع اللاّ ممكن الّذي بإمكانه أن يكون ممكنا".
وفي ختام اللقاء، قرأ الشّاعر يوسف رزوقة مقاطع من مطوّلته الشعرية "الذئب في العبارة"، مقاطع من "أزهار ثاني أوكسيد التّاريخ" وقصيدة تحيل على عالم الطّفولة بعنوان "ذاكرة الماء".

الخميس، نوفمبر 15، 2007

بين "حكاية" يوسف رزوقة و"صرخة" محمود درويش




ناجية بوبكر / تونس
ناقد على أرض محايدة

أثناء تصفّح بعض المواقع ذات الصّلة بالإبداع الأدبيّ، استرعى انتباهي تعليق خاطف على مسألة تخصّ " التقاء شاعرين، وهما يكتبان قصيدتها، في تقنية واحدة" وممّا جاء في التّعليق: "لعلّه من باب التّخاطر أن يلتقي شاعران في شرك التّقنية نفسها سواء على صعيد معمار المعالجة الفنية أو في مستوى النسق الإيقاعي لقصيدة كل واحد منهما إلى جانب ما ينتظم هذه القصيدة وتلك من قواسم مشتركة مضمونا وروحا تبدو خاصّة في تسويغ الأسلوب الحكائيّ، شعريّا حيث تتناسل الجملة الشعرية من نظيرتها السّابقة على نحو سرديّ، يضفي على المقول الشّعريّ وبما انطوى عليه من انزياح هو من خصائص الشّاعرين، يضفي عليه أكثر من ظلّ إيحائيّ يستدعي التّأويل مدخلا للقصيدتين. لعلّه من باب التّخاطر الشعريّ ( ولا نقول التّناصّ فشاعرنا هنا لا تعوزه الكلمة ومفاتيحها في مسيرة عمر شعريّ بأكمله) أن تلتقي قصيدة محمود درويش " البنت / الصرخة" الواردة في "يوميّات" التي كتبها درويش في رام الله / تموز 2006 مع قصيدة " الحكاية" ليوسف رزوقة، نشرت بديوانه "بلاد ما بين اليدين" الصّادر عن الإتحاف، تونس 2001
يقول يوسف رزوقة في "الحكاية" : في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء / وفصل الشّتاء / على قاب قوسين أو لست أدري من الجسم / والجسم يهفو/ إلى ما به يصبح الجسم فجرا / وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود المغنّي إلى غابة/ ليرى ما يرى:/ حفرا وينابيع فادحة وقبابا / وعشبا عظيما وأشياء أخرى / وبابا / فلا يملك الذّئب إلاّ عواء/ على صخرة في خلاء اللّغه.
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / ولا بيت لي في الحكاية ../ ما دام في البيت صمت / وفي الصّمت غار/ وفي الغار نار/ وفي الّنار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيله/ يثور هنا و..هناك غبار/ وقبل اشتعال الفتيل/ - كما في الحكاية إلاّ قليلا -/تسافر روح القتيله. ( انظر قصيدة: الحكاية، بلاد ما بين اليدين،دار الإتحاف،تونس 2001 ).
في حين يقول محمود درويش في"البنت / الصّرخة": على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهل / وللأهل بيتٌ / وللبيت نافذتانِ وبابْ / وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ / على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ / يسقطون على الرمل والبنتُ تنجو قليلاً / لأنَّ يداً من ضبابْ / يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي / يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا / لم يُجِبْها أَبوها المُسَجَّى على ظلِّهِ / في مهبِّ الغِيابْ / دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ / يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية،/ لا صدى للصدى / فتصير هي الصَرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ عاجل / لم يعد خبراً عاجلاً عندما عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ. ( انظر قصيدة: البنت / الصّرخة، يوميّات، رام الله، تموز 2006).
خارج المدح، خارج القدح:
ما حفزني على تحبير هذا المقال هو الأسلوب النّقديّ الهادئ الّذي عولج به مثل هذا "الالتقاء التخاطريّ، إن جاز التّعبير، بين شاعرين" فلم تعقبه، كما حدث مثلا بين إبراهيم نصر الله وسعدي يوسف، شوشرة تزيّنها شهوة تشويهيّة لرمز من رموز الشّعر العربيّ الحديث بل اكتفى البعض من نقّادنا بالإشارة عرضا إلى هذا التخاطر ، بتنزيله في سياق عهدناه في منهاج الأدب المقارن.
نسوق على سبيل المثال ما كتبه في هذا السياق الناقد والشّاعر العراقيّ علي حسن الفواز تحت عنوان" خيانة الذّاكرة أم تلاقي المجسّات؟"، فأورد رأيه الموضوعيّ، وفق المقاربة التالية للقصيدتين، يقول: "تحت يافطة اختلاط ما يمكنه أن تصنعه الذاكرة من اشتباكات وتلاق في التخاطرات والحوافر، نحاول ان نلقي الضوء على قصيدتين لشاعرين مهمّين في مشهدنا الشعري العربيّ هما محمود درويش ويوسف رزوقة، اذ تعمد هذه المحاولة إلى مقاربة شهوة التخاطر !! و التناص أو التحافر بين القصيدتين !! وهل أن هذه الشهوة ومولداتها هي التي جعلت هذين الشاعرين يشتركان في قماشة شعرية/ صورية متقاربة وتركيب تفعيلي يهدج بالغناء رغم اختلاف زمن كتابتهما !...
القصيدتان تثيران فينا النزوع إلى وقع كتابة بصرية لها التماهي في التشكيل والمناخ وكثافة جريان الشعر المخفي بسردية الحكاية ، تفتحان لنا فضاء للتأويل ومراودة في الكشف عمّا بعد هذه الكتابة البصرية / الشعرية، فضلا عن حساسية الشاعرين إزاء كتابة نصين يوظفان تقنية التوالي واللذين يبدوان وكأنهما يشتركان في محاولة تجلية الجوهر الحرّ الذي تجسده الرغبة في الإمساك بالسرّ الخفيّ الذي تشي به روح القتيلة والصرخة الأبدية) ...
القصيدتان تبدآن باستهلال حكواتي بحرف الجر (في) و (على) والذي يفضي إلى ( زمن موحش) يشتركان في تجنيسه المكاني الشكلي ، لكنهما يختلفان في خاصية التلمس، رزوقة هو الأقرب إلى الصوفي الباحث عن سرّه العرفانيّ الذي يبدأ من ظاهر الحكاية إلى باطنها المغلول إلى لذة الكشف عن التورية والمعنى وتوالي ما توحيه هذه اللذة من استغراقات لغوية/ استعارية باهرة ومكثفة. درويش يمارس لعبة المحترف الذي يسحب النص من سرده الحكواتي ، الى كتابته التأمليّة التي لا تنزع إلى الفضاء الصوفي قدر نزوعها إلى المتن المرجعي الأثير ( فضاؤه الفلسطيني ) الذي يعيد إنتاجه عبر صيغة التوالي الحكائي ، وهذا ما يجعل درويش الأقرب إلى الإنحاء على نموذجه (البنت) باعتبارها موّلد الحدث وشفرته في الكشف عن يوميات الفلسطينيّ التائه والمكشوف لاصطياد البارجات والمغلول إلى أمكنته القديمة / الأليفة في آن معا.... وإزاء هذا، فان المتن الذي تنزاح إليه القصيدتان مختلف إلى حدّ ما ويعمد إلى توظيف مرجعيات متباينة رغم استخدام نص الحكاية وثيمة التوالي، اذ نجد نزعة الرائي الكاشف الساحر عند رزوقة بكل استدعاءاتها التي ينحني عليها الشاعر ساردا ومتأملا رؤيويا و كاشفا وتلك أغلب مجسات رزوقة في التعاطي مع المقول الشعريّ الذي يجعل من القماشة اللغوية / الشعرية جسدا متوترا يمور بالسيولة المكثفة التي تنداح فيها التوليدات الصورية كمقابل رمزي للبنية السردية للحكاية ، وأعتقد أن هذه المعالجة الشعرية لسردية المعنى تؤشر حيوية (الشعريّ) في تجربته المميزة في الشعر التونسي والعربي إذ هو شاعر تصويري ، يشحذ من اللغة توهجها العميق ويتركها في نوبة من الجريان الباهي . النص رغم كثافته، فهو يحتشد باشتباك المعاني والدلالات، النزوع من الكتابة السرانية الى المقول الشعري ،هي ذاتها الكتابة التعويضية المتعالية التي ترمم الفراغ والبحث عن السر الذي لا يمكن الإمساك به، وكأنه سر كلكامش أو شفرته التي تجعل الشاعر راحلا في ( أوديسات ) متعددة وشاقة ..
شعرية هذه القصيدة تكمن في تركيبها البنائي الذي ينكشف على بنية تصويرية عميقة ، تجعل من الشاعر أركولوجيا في المعنى وفي اللغة وصانعا أيضا لذاكرة مكان افتراضي فيه (البيت / البنت / فصل الشتاء/ الجسر/ الذئب / الغابة / النار/ القباب) وهذه كلها محمولات شفروية لانزياح شعري، يمنح الحكاية/ دالة السرد إيقاعا خاصا له جمله وأصواته التي تجعل من البناء التفعيلي يلتقي مع البناء السردي في توليفة مشدودة متواترة وكأنها تشي بنص توليدي له روح الأنوثة وهي تمارس إغواء العرض والكشف عن العري اللغوي الذي يقود نص اللذة عبر نص التوالي :
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء../ وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود الى غابة / ليرى ما يرى (...)/ ما دام في البيت صمت / وفي الصمت غار/ وفي الغار نار/ وفي النار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيلة..
ان قصيدة يوسف رزوقه مكتوبة تحت هاجس الرؤيا الذي يختلط فيه السرد المفضي إلى تبئير الشعر مع النزوع العرفاني الذي تصنعه تلك الرؤيا، رؤيا العارف ، ورؤيا الرائي الذي ينزع أغطية السر عن جسد اللغة / المعنى ليكشف جوهر المعنى / جوهر القلب ولا شك أن هذا الهاجس يظل هو الأقرب في مقاربة ما تصنعه اللغة وما يصنعه العواء كبنية انزياح، إذ تتحول الشفرة السردية إلى مولدة للاستعارات مثلما تتحول إلى نداء استحضار تعويضي يوازي ما تصنعه الحكاية من توال سردي ينتهي يقوم على تقابلات بنائية تبدأ بإشارة حضورية قوية ( في الحكاية بيت وفي البيت بنت وفي البنت باء وتاء ونون) وتنتهي بحضور مضاد لفعل الموت، وهذا الحضور/ التقابلي هو نوع من الحلول الذي أراد الشاعر أن يترك خلفه الفراغ الموحي للدلالات أو ما يمكنه أن يصنعه الانزياح كبنية في المقول الشعري..
وفي قصيدة محمود درويش ( البنت/ الصرخة) الواردة في اليوميات 2006، نجد ثمة بنية سردية /تكوينية متقاربة إلى حد ما !!! رغم أن درويش أعطى لهذه البنية نزوعا أقرب إلى الواقع منها إلى الإيهام ، فالبنت!! مفردة طالما تتكرر في نصوص درويش، لكن السياق الذي اعتمده درويش التقى (في الاستهلال) مع السياق الذي استخدمه رزوقة في قصيدته (الصرخة) والتي كتبها عام 2001 في مجموعته بلاد ما بين اليدين، دار الاتحاف تونس .. وهذا التلاقي يقع في إطار ما يمكن أن تبثه الذاكراة من إغواءات وتقاربات، ليس في إطار التراسل أو التخاطر حسب وإنما في إطار التلذذ بما قد يبتكره الآخرون ،،، اذ ليس كل ما يكتب في الشعر هو ابتكار خالص وصناعة لغوية لا مرجعية تشكلية وبنائية ولا حتى استعارية لها !!!
على شاطىء البحر بنت، وللبنت أهل/ وللأهل بيت / وللبيت نافذتان وباب / وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة / على شاطىء البحر أربعة، خمسة ، سبعة / على الرمل والبنت تنجو قليلا / لأن يدا من ضباب / يدا ما إلهية أسعفتها فنادت أبي.
إن شاعرا بحجم محمود درويش صاحب السيولة اللغوية المعروفة،لا أ ظنه يحتاج لتقليب أوراق الذاكرة أو النبش في صناديقها السرية بحثا عن ثيمة حكواتية ،، فهذا الشاعر اعتاد أن يغني لوحده ،وربما يصنع لقصيدته مزاج العاشق والمريد، إذ هو شاعر (صنايعي) بامتياز ، في قصيدته تنفرش الحكاية دائما وكأنه لم يتخلص من ذاكرة الراوي الفلسطيني السريّ الذي يلامس جوهر المعنى، يحرض على إثارة شهوة القراءة عبر استخدام تقنيات الحضور والغياب ، التلاقي والافتراق!!، التوتر والاسترخاء، وهو عبر كل هذا، شاعر استعادات، استعادة التعامل مع رموزه، أمكنته، تفاصيله، روائحه، شخوصه( البنات،الأمهات ، الآباء)
وأعتقد أنه في هذه القصيدة (على افتراض) التلاقي والتخاطر!! كان في المقطع الثالث تأمليا في لحظة طاعنة بتضاد الواقع المرعب ( تتسلى.. بصيد المشاة) عاد بعدها في مقاطعه الأخرى إلى تدفقه وانثيالاته .....
إن قصيدتي الشاعرين (يوسف رزوقه ومحمود درويش) وما يمكن إن تثيراه لدى البعض من أسئلة أو إشكالات في (التناص والتراسل) كما يقصدها البعض !! تكشف في حقيقية عن حساسية الشعرية العربية المفرطة إزاء قماشة لغوية كثر التداول فيها !!مثلما تكشف عن الكثير من اشتباكات (الذاكرة الشعرية) وان حدود انزياحاتها في التجريب وفي اعتماد التقنيات السرد كمحركات للمقول الشعري تظل محدودة مهما اتسعت وتنوعت !! بحكم تلك الحساسية المفرطة ...
أعتقد أن الشاعرين يملكان مجسات دقيقة في التقاط ما يبثه الشعريّ من حيوات سرية ومن تشكلات عميقة ومتوالدة ولا يمكن أن تلتقطها إلاّ الخفقة الشعرية المسكونة بالإغواء والمراودة والافتراس..."لقد عالج هنا علي حسن الفواز ما توارد من خواطر تيمية أو تقنية بين درويش ورزوقة بعين ناقدة ومنصفة، في غير تهويل منه أو تشهير فسوّغ اشتباك الشّاعرين في نقطة ما، بالاحتكام إلى خلفيّة كل واحد منهما في المقول الشّعريّ الذي قد يعكسه التثاقف، عبر الذّاكرة، بشكل أو بآخر ليشتبك أكثر من ظل على أرض البياض.