ناجية بوبكر / تونس
ناقد على أرض محايدة
أثناء تصفّح بعض المواقع ذات الصّلة بالإبداع الأدبيّ، استرعى انتباهي تعليق خاطف على مسألة تخصّ " التقاء شاعرين، وهما يكتبان قصيدتها، في تقنية واحدة" وممّا جاء في التّعليق: "لعلّه من باب التّخاطر أن يلتقي شاعران في شرك التّقنية نفسها سواء على صعيد معمار المعالجة الفنية أو في مستوى النسق الإيقاعي لقصيدة كل واحد منهما إلى جانب ما ينتظم هذه القصيدة وتلك من قواسم مشتركة مضمونا وروحا تبدو خاصّة في تسويغ الأسلوب الحكائيّ، شعريّا حيث تتناسل الجملة الشعرية من نظيرتها السّابقة على نحو سرديّ، يضفي على المقول الشّعريّ وبما انطوى عليه من انزياح هو من خصائص الشّاعرين، يضفي عليه أكثر من ظلّ إيحائيّ يستدعي التّأويل مدخلا للقصيدتين. لعلّه من باب التّخاطر الشعريّ ( ولا نقول التّناصّ فشاعرنا هنا لا تعوزه الكلمة ومفاتيحها في مسيرة عمر شعريّ بأكمله) أن تلتقي قصيدة محمود درويش " البنت / الصرخة" الواردة في "يوميّات" التي كتبها درويش في رام الله / تموز 2006 مع قصيدة " الحكاية" ليوسف رزوقة، نشرت بديوانه "بلاد ما بين اليدين" الصّادر عن الإتحاف، تونس 2001
يقول يوسف رزوقة في "الحكاية" : في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء / وفصل الشّتاء / على قاب قوسين أو لست أدري من الجسم / والجسم يهفو/ إلى ما به يصبح الجسم فجرا / وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود المغنّي إلى غابة/ ليرى ما يرى:/ حفرا وينابيع فادحة وقبابا / وعشبا عظيما وأشياء أخرى / وبابا / فلا يملك الذّئب إلاّ عواء/ على صخرة في خلاء اللّغه.
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / ولا بيت لي في الحكاية ../ ما دام في البيت صمت / وفي الصّمت غار/ وفي الغار نار/ وفي الّنار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيله/ يثور هنا و..هناك غبار/ وقبل اشتعال الفتيل/ - كما في الحكاية إلاّ قليلا -/تسافر روح القتيله. ( انظر قصيدة: الحكاية، بلاد ما بين اليدين،دار الإتحاف،تونس 2001 ).
في حين يقول محمود درويش في"البنت / الصّرخة": على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهل / وللأهل بيتٌ / وللبيت نافذتانِ وبابْ / وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ / على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ / يسقطون على الرمل والبنتُ تنجو قليلاً / لأنَّ يداً من ضبابْ / يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي / يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا / لم يُجِبْها أَبوها المُسَجَّى على ظلِّهِ / في مهبِّ الغِيابْ / دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ / يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية،/ لا صدى للصدى / فتصير هي الصَرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ عاجل / لم يعد خبراً عاجلاً عندما عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ. ( انظر قصيدة: البنت / الصّرخة، يوميّات، رام الله، تموز 2006).
خارج المدح، خارج القدح:
ما حفزني على تحبير هذا المقال هو الأسلوب النّقديّ الهادئ الّذي عولج به مثل هذا "الالتقاء التخاطريّ، إن جاز التّعبير، بين شاعرين" فلم تعقبه، كما حدث مثلا بين إبراهيم نصر الله وسعدي يوسف، شوشرة تزيّنها شهوة تشويهيّة لرمز من رموز الشّعر العربيّ الحديث بل اكتفى البعض من نقّادنا بالإشارة عرضا إلى هذا التخاطر ، بتنزيله في سياق عهدناه في منهاج الأدب المقارن.
نسوق على سبيل المثال ما كتبه في هذا السياق الناقد والشّاعر العراقيّ علي حسن الفواز تحت عنوان" خيانة الذّاكرة أم تلاقي المجسّات؟"، فأورد رأيه الموضوعيّ، وفق المقاربة التالية للقصيدتين، يقول: "تحت يافطة اختلاط ما يمكنه أن تصنعه الذاكرة من اشتباكات وتلاق في التخاطرات والحوافر، نحاول ان نلقي الضوء على قصيدتين لشاعرين مهمّين في مشهدنا الشعري العربيّ هما محمود درويش ويوسف رزوقة، اذ تعمد هذه المحاولة إلى مقاربة شهوة التخاطر !! و التناص أو التحافر بين القصيدتين !! وهل أن هذه الشهوة ومولداتها هي التي جعلت هذين الشاعرين يشتركان في قماشة شعرية/ صورية متقاربة وتركيب تفعيلي يهدج بالغناء رغم اختلاف زمن كتابتهما !...
القصيدتان تثيران فينا النزوع إلى وقع كتابة بصرية لها التماهي في التشكيل والمناخ وكثافة جريان الشعر المخفي بسردية الحكاية ، تفتحان لنا فضاء للتأويل ومراودة في الكشف عمّا بعد هذه الكتابة البصرية / الشعرية، فضلا عن حساسية الشاعرين إزاء كتابة نصين يوظفان تقنية التوالي واللذين يبدوان وكأنهما يشتركان في محاولة تجلية الجوهر الحرّ الذي تجسده الرغبة في الإمساك بالسرّ الخفيّ الذي تشي به روح القتيلة والصرخة الأبدية) ...
القصيدتان تبدآن باستهلال حكواتي بحرف الجر (في) و (على) والذي يفضي إلى ( زمن موحش) يشتركان في تجنيسه المكاني الشكلي ، لكنهما يختلفان في خاصية التلمس، رزوقة هو الأقرب إلى الصوفي الباحث عن سرّه العرفانيّ الذي يبدأ من ظاهر الحكاية إلى باطنها المغلول إلى لذة الكشف عن التورية والمعنى وتوالي ما توحيه هذه اللذة من استغراقات لغوية/ استعارية باهرة ومكثفة. درويش يمارس لعبة المحترف الذي يسحب النص من سرده الحكواتي ، الى كتابته التأمليّة التي لا تنزع إلى الفضاء الصوفي قدر نزوعها إلى المتن المرجعي الأثير ( فضاؤه الفلسطيني ) الذي يعيد إنتاجه عبر صيغة التوالي الحكائي ، وهذا ما يجعل درويش الأقرب إلى الإنحاء على نموذجه (البنت) باعتبارها موّلد الحدث وشفرته في الكشف عن يوميات الفلسطينيّ التائه والمكشوف لاصطياد البارجات والمغلول إلى أمكنته القديمة / الأليفة في آن معا.... وإزاء هذا، فان المتن الذي تنزاح إليه القصيدتان مختلف إلى حدّ ما ويعمد إلى توظيف مرجعيات متباينة رغم استخدام نص الحكاية وثيمة التوالي، اذ نجد نزعة الرائي الكاشف الساحر عند رزوقة بكل استدعاءاتها التي ينحني عليها الشاعر ساردا ومتأملا رؤيويا و كاشفا وتلك أغلب مجسات رزوقة في التعاطي مع المقول الشعريّ الذي يجعل من القماشة اللغوية / الشعرية جسدا متوترا يمور بالسيولة المكثفة التي تنداح فيها التوليدات الصورية كمقابل رمزي للبنية السردية للحكاية ، وأعتقد أن هذه المعالجة الشعرية لسردية المعنى تؤشر حيوية (الشعريّ) في تجربته المميزة في الشعر التونسي والعربي إذ هو شاعر تصويري ، يشحذ من اللغة توهجها العميق ويتركها في نوبة من الجريان الباهي . النص رغم كثافته، فهو يحتشد باشتباك المعاني والدلالات، النزوع من الكتابة السرانية الى المقول الشعري ،هي ذاتها الكتابة التعويضية المتعالية التي ترمم الفراغ والبحث عن السر الذي لا يمكن الإمساك به، وكأنه سر كلكامش أو شفرته التي تجعل الشاعر راحلا في ( أوديسات ) متعددة وشاقة ..
شعرية هذه القصيدة تكمن في تركيبها البنائي الذي ينكشف على بنية تصويرية عميقة ، تجعل من الشاعر أركولوجيا في المعنى وفي اللغة وصانعا أيضا لذاكرة مكان افتراضي فيه (البيت / البنت / فصل الشتاء/ الجسر/ الذئب / الغابة / النار/ القباب) وهذه كلها محمولات شفروية لانزياح شعري، يمنح الحكاية/ دالة السرد إيقاعا خاصا له جمله وأصواته التي تجعل من البناء التفعيلي يلتقي مع البناء السردي في توليفة مشدودة متواترة وكأنها تشي بنص توليدي له روح الأنوثة وهي تمارس إغواء العرض والكشف عن العري اللغوي الذي يقود نص اللذة عبر نص التوالي :
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء../ وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود الى غابة / ليرى ما يرى (...)/ ما دام في البيت صمت / وفي الصمت غار/ وفي الغار نار/ وفي النار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيلة..
ان قصيدة يوسف رزوقه مكتوبة تحت هاجس الرؤيا الذي يختلط فيه السرد المفضي إلى تبئير الشعر مع النزوع العرفاني الذي تصنعه تلك الرؤيا، رؤيا العارف ، ورؤيا الرائي الذي ينزع أغطية السر عن جسد اللغة / المعنى ليكشف جوهر المعنى / جوهر القلب ولا شك أن هذا الهاجس يظل هو الأقرب في مقاربة ما تصنعه اللغة وما يصنعه العواء كبنية انزياح، إذ تتحول الشفرة السردية إلى مولدة للاستعارات مثلما تتحول إلى نداء استحضار تعويضي يوازي ما تصنعه الحكاية من توال سردي ينتهي يقوم على تقابلات بنائية تبدأ بإشارة حضورية قوية ( في الحكاية بيت وفي البيت بنت وفي البنت باء وتاء ونون) وتنتهي بحضور مضاد لفعل الموت، وهذا الحضور/ التقابلي هو نوع من الحلول الذي أراد الشاعر أن يترك خلفه الفراغ الموحي للدلالات أو ما يمكنه أن يصنعه الانزياح كبنية في المقول الشعري..
وفي قصيدة محمود درويش ( البنت/ الصرخة) الواردة في اليوميات 2006، نجد ثمة بنية سردية /تكوينية متقاربة إلى حد ما !!! رغم أن درويش أعطى لهذه البنية نزوعا أقرب إلى الواقع منها إلى الإيهام ، فالبنت!! مفردة طالما تتكرر في نصوص درويش، لكن السياق الذي اعتمده درويش التقى (في الاستهلال) مع السياق الذي استخدمه رزوقة في قصيدته (الصرخة) والتي كتبها عام 2001 في مجموعته بلاد ما بين اليدين، دار الاتحاف تونس .. وهذا التلاقي يقع في إطار ما يمكن أن تبثه الذاكراة من إغواءات وتقاربات، ليس في إطار التراسل أو التخاطر حسب وإنما في إطار التلذذ بما قد يبتكره الآخرون ،،، اذ ليس كل ما يكتب في الشعر هو ابتكار خالص وصناعة لغوية لا مرجعية تشكلية وبنائية ولا حتى استعارية لها !!!
على شاطىء البحر بنت، وللبنت أهل/ وللأهل بيت / وللبيت نافذتان وباب / وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة / على شاطىء البحر أربعة، خمسة ، سبعة / على الرمل والبنت تنجو قليلا / لأن يدا من ضباب / يدا ما إلهية أسعفتها فنادت أبي.
إن شاعرا بحجم محمود درويش صاحب السيولة اللغوية المعروفة،لا أ ظنه يحتاج لتقليب أوراق الذاكرة أو النبش في صناديقها السرية بحثا عن ثيمة حكواتية ،، فهذا الشاعر اعتاد أن يغني لوحده ،وربما يصنع لقصيدته مزاج العاشق والمريد، إذ هو شاعر (صنايعي) بامتياز ، في قصيدته تنفرش الحكاية دائما وكأنه لم يتخلص من ذاكرة الراوي الفلسطيني السريّ الذي يلامس جوهر المعنى، يحرض على إثارة شهوة القراءة عبر استخدام تقنيات الحضور والغياب ، التلاقي والافتراق!!، التوتر والاسترخاء، وهو عبر كل هذا، شاعر استعادات، استعادة التعامل مع رموزه، أمكنته، تفاصيله، روائحه، شخوصه( البنات،الأمهات ، الآباء)
وأعتقد أنه في هذه القصيدة (على افتراض) التلاقي والتخاطر!! كان في المقطع الثالث تأمليا في لحظة طاعنة بتضاد الواقع المرعب ( تتسلى.. بصيد المشاة) عاد بعدها في مقاطعه الأخرى إلى تدفقه وانثيالاته .....
إن قصيدتي الشاعرين (يوسف رزوقه ومحمود درويش) وما يمكن إن تثيراه لدى البعض من أسئلة أو إشكالات في (التناص والتراسل) كما يقصدها البعض !! تكشف في حقيقية عن حساسية الشعرية العربية المفرطة إزاء قماشة لغوية كثر التداول فيها !!مثلما تكشف عن الكثير من اشتباكات (الذاكرة الشعرية) وان حدود انزياحاتها في التجريب وفي اعتماد التقنيات السرد كمحركات للمقول الشعري تظل محدودة مهما اتسعت وتنوعت !! بحكم تلك الحساسية المفرطة ...
أعتقد أن الشاعرين يملكان مجسات دقيقة في التقاط ما يبثه الشعريّ من حيوات سرية ومن تشكلات عميقة ومتوالدة ولا يمكن أن تلتقطها إلاّ الخفقة الشعرية المسكونة بالإغواء والمراودة والافتراس..."لقد عالج هنا علي حسن الفواز ما توارد من خواطر تيمية أو تقنية بين درويش ورزوقة بعين ناقدة ومنصفة، في غير تهويل منه أو تشهير فسوّغ اشتباك الشّاعرين في نقطة ما، بالاحتكام إلى خلفيّة كل واحد منهما في المقول الشّعريّ الذي قد يعكسه التثاقف، عبر الذّاكرة، بشكل أو بآخر ليشتبك أكثر من ظل على أرض البياض.
أثناء تصفّح بعض المواقع ذات الصّلة بالإبداع الأدبيّ، استرعى انتباهي تعليق خاطف على مسألة تخصّ " التقاء شاعرين، وهما يكتبان قصيدتها، في تقنية واحدة" وممّا جاء في التّعليق: "لعلّه من باب التّخاطر أن يلتقي شاعران في شرك التّقنية نفسها سواء على صعيد معمار المعالجة الفنية أو في مستوى النسق الإيقاعي لقصيدة كل واحد منهما إلى جانب ما ينتظم هذه القصيدة وتلك من قواسم مشتركة مضمونا وروحا تبدو خاصّة في تسويغ الأسلوب الحكائيّ، شعريّا حيث تتناسل الجملة الشعرية من نظيرتها السّابقة على نحو سرديّ، يضفي على المقول الشّعريّ وبما انطوى عليه من انزياح هو من خصائص الشّاعرين، يضفي عليه أكثر من ظلّ إيحائيّ يستدعي التّأويل مدخلا للقصيدتين. لعلّه من باب التّخاطر الشعريّ ( ولا نقول التّناصّ فشاعرنا هنا لا تعوزه الكلمة ومفاتيحها في مسيرة عمر شعريّ بأكمله) أن تلتقي قصيدة محمود درويش " البنت / الصرخة" الواردة في "يوميّات" التي كتبها درويش في رام الله / تموز 2006 مع قصيدة " الحكاية" ليوسف رزوقة، نشرت بديوانه "بلاد ما بين اليدين" الصّادر عن الإتحاف، تونس 2001
يقول يوسف رزوقة في "الحكاية" : في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء / وفصل الشّتاء / على قاب قوسين أو لست أدري من الجسم / والجسم يهفو/ إلى ما به يصبح الجسم فجرا / وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود المغنّي إلى غابة/ ليرى ما يرى:/ حفرا وينابيع فادحة وقبابا / وعشبا عظيما وأشياء أخرى / وبابا / فلا يملك الذّئب إلاّ عواء/ على صخرة في خلاء اللّغه.
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / ولا بيت لي في الحكاية ../ ما دام في البيت صمت / وفي الصّمت غار/ وفي الغار نار/ وفي الّنار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيله/ يثور هنا و..هناك غبار/ وقبل اشتعال الفتيل/ - كما في الحكاية إلاّ قليلا -/تسافر روح القتيله. ( انظر قصيدة: الحكاية، بلاد ما بين اليدين،دار الإتحاف،تونس 2001 ).
في حين يقول محمود درويش في"البنت / الصّرخة": على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهل / وللأهل بيتٌ / وللبيت نافذتانِ وبابْ / وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ / على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ / يسقطون على الرمل والبنتُ تنجو قليلاً / لأنَّ يداً من ضبابْ / يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي / يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا / لم يُجِبْها أَبوها المُسَجَّى على ظلِّهِ / في مهبِّ الغِيابْ / دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ / يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية،/ لا صدى للصدى / فتصير هي الصَرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ عاجل / لم يعد خبراً عاجلاً عندما عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ. ( انظر قصيدة: البنت / الصّرخة، يوميّات، رام الله، تموز 2006).
خارج المدح، خارج القدح:
ما حفزني على تحبير هذا المقال هو الأسلوب النّقديّ الهادئ الّذي عولج به مثل هذا "الالتقاء التخاطريّ، إن جاز التّعبير، بين شاعرين" فلم تعقبه، كما حدث مثلا بين إبراهيم نصر الله وسعدي يوسف، شوشرة تزيّنها شهوة تشويهيّة لرمز من رموز الشّعر العربيّ الحديث بل اكتفى البعض من نقّادنا بالإشارة عرضا إلى هذا التخاطر ، بتنزيله في سياق عهدناه في منهاج الأدب المقارن.
نسوق على سبيل المثال ما كتبه في هذا السياق الناقد والشّاعر العراقيّ علي حسن الفواز تحت عنوان" خيانة الذّاكرة أم تلاقي المجسّات؟"، فأورد رأيه الموضوعيّ، وفق المقاربة التالية للقصيدتين، يقول: "تحت يافطة اختلاط ما يمكنه أن تصنعه الذاكرة من اشتباكات وتلاق في التخاطرات والحوافر، نحاول ان نلقي الضوء على قصيدتين لشاعرين مهمّين في مشهدنا الشعري العربيّ هما محمود درويش ويوسف رزوقة، اذ تعمد هذه المحاولة إلى مقاربة شهوة التخاطر !! و التناص أو التحافر بين القصيدتين !! وهل أن هذه الشهوة ومولداتها هي التي جعلت هذين الشاعرين يشتركان في قماشة شعرية/ صورية متقاربة وتركيب تفعيلي يهدج بالغناء رغم اختلاف زمن كتابتهما !...
القصيدتان تثيران فينا النزوع إلى وقع كتابة بصرية لها التماهي في التشكيل والمناخ وكثافة جريان الشعر المخفي بسردية الحكاية ، تفتحان لنا فضاء للتأويل ومراودة في الكشف عمّا بعد هذه الكتابة البصرية / الشعرية، فضلا عن حساسية الشاعرين إزاء كتابة نصين يوظفان تقنية التوالي واللذين يبدوان وكأنهما يشتركان في محاولة تجلية الجوهر الحرّ الذي تجسده الرغبة في الإمساك بالسرّ الخفيّ الذي تشي به روح القتيلة والصرخة الأبدية) ...
القصيدتان تبدآن باستهلال حكواتي بحرف الجر (في) و (على) والذي يفضي إلى ( زمن موحش) يشتركان في تجنيسه المكاني الشكلي ، لكنهما يختلفان في خاصية التلمس، رزوقة هو الأقرب إلى الصوفي الباحث عن سرّه العرفانيّ الذي يبدأ من ظاهر الحكاية إلى باطنها المغلول إلى لذة الكشف عن التورية والمعنى وتوالي ما توحيه هذه اللذة من استغراقات لغوية/ استعارية باهرة ومكثفة. درويش يمارس لعبة المحترف الذي يسحب النص من سرده الحكواتي ، الى كتابته التأمليّة التي لا تنزع إلى الفضاء الصوفي قدر نزوعها إلى المتن المرجعي الأثير ( فضاؤه الفلسطيني ) الذي يعيد إنتاجه عبر صيغة التوالي الحكائي ، وهذا ما يجعل درويش الأقرب إلى الإنحاء على نموذجه (البنت) باعتبارها موّلد الحدث وشفرته في الكشف عن يوميات الفلسطينيّ التائه والمكشوف لاصطياد البارجات والمغلول إلى أمكنته القديمة / الأليفة في آن معا.... وإزاء هذا، فان المتن الذي تنزاح إليه القصيدتان مختلف إلى حدّ ما ويعمد إلى توظيف مرجعيات متباينة رغم استخدام نص الحكاية وثيمة التوالي، اذ نجد نزعة الرائي الكاشف الساحر عند رزوقة بكل استدعاءاتها التي ينحني عليها الشاعر ساردا ومتأملا رؤيويا و كاشفا وتلك أغلب مجسات رزوقة في التعاطي مع المقول الشعريّ الذي يجعل من القماشة اللغوية / الشعرية جسدا متوترا يمور بالسيولة المكثفة التي تنداح فيها التوليدات الصورية كمقابل رمزي للبنية السردية للحكاية ، وأعتقد أن هذه المعالجة الشعرية لسردية المعنى تؤشر حيوية (الشعريّ) في تجربته المميزة في الشعر التونسي والعربي إذ هو شاعر تصويري ، يشحذ من اللغة توهجها العميق ويتركها في نوبة من الجريان الباهي . النص رغم كثافته، فهو يحتشد باشتباك المعاني والدلالات، النزوع من الكتابة السرانية الى المقول الشعري ،هي ذاتها الكتابة التعويضية المتعالية التي ترمم الفراغ والبحث عن السر الذي لا يمكن الإمساك به، وكأنه سر كلكامش أو شفرته التي تجعل الشاعر راحلا في ( أوديسات ) متعددة وشاقة ..
شعرية هذه القصيدة تكمن في تركيبها البنائي الذي ينكشف على بنية تصويرية عميقة ، تجعل من الشاعر أركولوجيا في المعنى وفي اللغة وصانعا أيضا لذاكرة مكان افتراضي فيه (البيت / البنت / فصل الشتاء/ الجسر/ الذئب / الغابة / النار/ القباب) وهذه كلها محمولات شفروية لانزياح شعري، يمنح الحكاية/ دالة السرد إيقاعا خاصا له جمله وأصواته التي تجعل من البناء التفعيلي يلتقي مع البناء السردي في توليفة مشدودة متواترة وكأنها تشي بنص توليدي له روح الأنوثة وهي تمارس إغواء العرض والكشف عن العري اللغوي الذي يقود نص اللذة عبر نص التوالي :
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء../ وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود الى غابة / ليرى ما يرى (...)/ ما دام في البيت صمت / وفي الصمت غار/ وفي الغار نار/ وفي النار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيلة..
ان قصيدة يوسف رزوقه مكتوبة تحت هاجس الرؤيا الذي يختلط فيه السرد المفضي إلى تبئير الشعر مع النزوع العرفاني الذي تصنعه تلك الرؤيا، رؤيا العارف ، ورؤيا الرائي الذي ينزع أغطية السر عن جسد اللغة / المعنى ليكشف جوهر المعنى / جوهر القلب ولا شك أن هذا الهاجس يظل هو الأقرب في مقاربة ما تصنعه اللغة وما يصنعه العواء كبنية انزياح، إذ تتحول الشفرة السردية إلى مولدة للاستعارات مثلما تتحول إلى نداء استحضار تعويضي يوازي ما تصنعه الحكاية من توال سردي ينتهي يقوم على تقابلات بنائية تبدأ بإشارة حضورية قوية ( في الحكاية بيت وفي البيت بنت وفي البنت باء وتاء ونون) وتنتهي بحضور مضاد لفعل الموت، وهذا الحضور/ التقابلي هو نوع من الحلول الذي أراد الشاعر أن يترك خلفه الفراغ الموحي للدلالات أو ما يمكنه أن يصنعه الانزياح كبنية في المقول الشعري..
وفي قصيدة محمود درويش ( البنت/ الصرخة) الواردة في اليوميات 2006، نجد ثمة بنية سردية /تكوينية متقاربة إلى حد ما !!! رغم أن درويش أعطى لهذه البنية نزوعا أقرب إلى الواقع منها إلى الإيهام ، فالبنت!! مفردة طالما تتكرر في نصوص درويش، لكن السياق الذي اعتمده درويش التقى (في الاستهلال) مع السياق الذي استخدمه رزوقة في قصيدته (الصرخة) والتي كتبها عام 2001 في مجموعته بلاد ما بين اليدين، دار الاتحاف تونس .. وهذا التلاقي يقع في إطار ما يمكن أن تبثه الذاكراة من إغواءات وتقاربات، ليس في إطار التراسل أو التخاطر حسب وإنما في إطار التلذذ بما قد يبتكره الآخرون ،،، اذ ليس كل ما يكتب في الشعر هو ابتكار خالص وصناعة لغوية لا مرجعية تشكلية وبنائية ولا حتى استعارية لها !!!
على شاطىء البحر بنت، وللبنت أهل/ وللأهل بيت / وللبيت نافذتان وباب / وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة / على شاطىء البحر أربعة، خمسة ، سبعة / على الرمل والبنت تنجو قليلا / لأن يدا من ضباب / يدا ما إلهية أسعفتها فنادت أبي.
إن شاعرا بحجم محمود درويش صاحب السيولة اللغوية المعروفة،لا أ ظنه يحتاج لتقليب أوراق الذاكرة أو النبش في صناديقها السرية بحثا عن ثيمة حكواتية ،، فهذا الشاعر اعتاد أن يغني لوحده ،وربما يصنع لقصيدته مزاج العاشق والمريد، إذ هو شاعر (صنايعي) بامتياز ، في قصيدته تنفرش الحكاية دائما وكأنه لم يتخلص من ذاكرة الراوي الفلسطيني السريّ الذي يلامس جوهر المعنى، يحرض على إثارة شهوة القراءة عبر استخدام تقنيات الحضور والغياب ، التلاقي والافتراق!!، التوتر والاسترخاء، وهو عبر كل هذا، شاعر استعادات، استعادة التعامل مع رموزه، أمكنته، تفاصيله، روائحه، شخوصه( البنات،الأمهات ، الآباء)
وأعتقد أنه في هذه القصيدة (على افتراض) التلاقي والتخاطر!! كان في المقطع الثالث تأمليا في لحظة طاعنة بتضاد الواقع المرعب ( تتسلى.. بصيد المشاة) عاد بعدها في مقاطعه الأخرى إلى تدفقه وانثيالاته .....
إن قصيدتي الشاعرين (يوسف رزوقه ومحمود درويش) وما يمكن إن تثيراه لدى البعض من أسئلة أو إشكالات في (التناص والتراسل) كما يقصدها البعض !! تكشف في حقيقية عن حساسية الشعرية العربية المفرطة إزاء قماشة لغوية كثر التداول فيها !!مثلما تكشف عن الكثير من اشتباكات (الذاكرة الشعرية) وان حدود انزياحاتها في التجريب وفي اعتماد التقنيات السرد كمحركات للمقول الشعري تظل محدودة مهما اتسعت وتنوعت !! بحكم تلك الحساسية المفرطة ...
أعتقد أن الشاعرين يملكان مجسات دقيقة في التقاط ما يبثه الشعريّ من حيوات سرية ومن تشكلات عميقة ومتوالدة ولا يمكن أن تلتقطها إلاّ الخفقة الشعرية المسكونة بالإغواء والمراودة والافتراس..."لقد عالج هنا علي حسن الفواز ما توارد من خواطر تيمية أو تقنية بين درويش ورزوقة بعين ناقدة ومنصفة، في غير تهويل منه أو تشهير فسوّغ اشتباك الشّاعرين في نقطة ما، بالاحتكام إلى خلفيّة كل واحد منهما في المقول الشّعريّ الذي قد يعكسه التثاقف، عبر الذّاكرة، بشكل أو بآخر ليشتبك أكثر من ظل على أرض البياض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق