عناق مواسي
سرَت في جسدي رعشة غريبة لم أألفها من قبل. رعشة دغدغت إطرافي وراقصتها على ترنيمة الخوف والتوتر وشُحنت بمشاعر ليست مألوفة الإيقاع، حينما غرست كلمات قصة "الدخلة والقربان" لأنوار سرحان.
إذ تناولت قصتها كفتاة يافعة حالمة طموحة تواقة محافظة محبة لخطيبها محتفظة بكل مشاعر الشوق لتأجج ألسنتها في ليلة الدخلة. ولكن تمشي الرياح بما لا تشتهيه السفن إذ انقلب طيف الشوق إلى طيف الخوف. وحينما اختلجت مشاعر الحب، شابها القلق والتوتر لأنها لأول مرة مع الإنسان الذي تحب تحت سقف واحد، لأنها لأول مرة ستكون معه دون اعتراض الآخرين أو انتقادهم أو تحريمهم. لأنها لأول مرة ستغادر دنيا العذراوات لتلتحق شرف النساء المتزوجات. مع تفاصيل لربما متكاملة لوصف حدة الانفعال، الأمر الذي آل إلى توقف القطار في أول محطة له في مسيرة قطع شك العذرية باليقين.
عندما قرأت القصة كأني كنت اقرأ شيئاً من الكلمات التي حفرت في كتاب وعيي لذاتي ولجسدي اليافع، الجسد الأنثوي الذي يدّون ويوثق التاريخ الإنساني بما في ذلك علاقة الرجل بالمرأة.
ولان كياني الأنثوي متأجج بالعواطف ومشحون بالحب لم استطع أن أوقف الكلمات التي خرجت من سطور قلبي إلى سطور الجريدة. فأحسست أنها تسرع من أوردتي إلى أناملي لأخط بيراعي ومدادي قصتي التي اشعر بدورانها في حياتي كلما دارت العقارب في ساعات الحياة.
كم حلمت بشريكي المنتظر وان طالت فترة الانتظار وكم أرّقت صوره البهائية وأحلامه الوردية سريري وسريرتي، وكم لوّن آمالي العذراوية بالونه الحالمة.
كنت في أيام خطبتي التمس الكلمات من شفتيه وارتشفهما رُباً وشهداً. لقد بنّى لي قصوراً عملاقة من الحب والتفاهم وأسكنني بها، أتعرش على مملكتي، فانا الآمرة الناهية التي سأعامل معاملة الأميرات والملكات. كل هذا على كفة وأيام الخطبة الأخيرة على كفة أخرى،. وعندما اقترب موعد الزفاف، بدا دولاب الحياة يسرع أكثر فأكثر، بالمقابل،كان دولاب قلبي ووجداني يجاريان ذاك الدولاب بلا منازع.
لم أكن عندها اشعر أن الأيام تبدأ في تفتح الصباح وتغيب مع غياب الشمس، إذ على النقيض، كان إحساسي بالأيام يوماً واحداً مطولاً مكوناً من مئات الساعات، آلاف الدقائق وعشرات آلاف الثواني.
وفي زحمة هذه الصور كلها كان وميض عذريتي يتعالى ويبرق ويلمس أطرافي مما زاد في درجة حرارة قلبي الأمر الذي أدخلني دوائر الشك واليقين.
وخطيبي حبيبي شريك حياتي المستقبلية كان دائماً يهدئ من روعي ليبطئ مسيرة خوفي لاستقبل وإياه حياة عريضة طويلة حلوة...
لكن حقيقة مشاعري في أحلامي القوية بمعانقته مغلغلاً أصابعه بين خصلات شعري مداعباً أحاسيسي مؤججاً شوقي، كان يهدئ من روع مخاوفي اكثر.
فكلماته الساحرة آنذاك ولطفه الذي غمرني به بات البلسم الوحيد لجراحات عذريتي. وحين آن الأوان لحسم قضية جسد النساء وإعلان شرف أخلاقهن وكشف تاريخهن المفروض سلفًا أن يكون تاريخ شرفٍ وطهر. بات لي أن أحقق آمالي الزاهية وان التحم وإياه بكل اتفاق وحنوٍ وحب.. وان تكون هذه الليلة أجمل محطة في تاريخ حياتي، المفروض كذلك.
ارتعشت أقلامي حينما كنت أتذكر تلك السويعات وارتعش قلبي وبدأت عقارب الساعة تدور بتثاقل كأنها اتفقت وهذا الكيان الذكوري الذي يدعى رجل لتسديد أهدافهم في مرمى عذريتي.
نعم، في تلك اللحظات سرمدية الإيقاع، تبعثرتُ لاشلاء وبات الخوف يمزق أطرافي.. تحسست حروف كلماته تسري على جسدي المبعثر "احبكِ" "جمّعت كل شوقي عبر الأيام لأثبت لكِ أني اهلٌ لحبكِ". في الحقيقة، ورغم كل أحلام السنين إلا أنني في تلك الليلة كرهت نفسي وكرهت جسد النساء الممزق الماً وكرهت اللحظات المستباحة لّتجمد الدم في العروق وتجّمد الكلمات في حنجرتي المبللة بالدموع.
فتملصت من بين يديه وأنفاسي تتعالى بشكل لا نهائي الإيقاع والصدى.
ودحرجت نفسي بالكاد لأقول له:
"أرجوك"
"أرجوك، دعنا نؤجل كل الأشياء... أرجوك"
بلهاثٍ وأنفاسٍ متقطعة استطعت أخيراً أن أحوّل من حروفي المرتعدة إلى كلماتٍ واضحة.بالكاد واضحة، لضجيج الصمت المسيطر على الغرفة..
لم اسمح لنفسي وبكامل طهري وشرفي مرة واحدة لأكون جسداً مجرداً من المشاعر الخجولة. لم استطع أن استسيغ مفهوم الغريزة. فكيف لي أن أخلع الآن كل أقنعتي؟ كيف سأتجرد من نصائح والدي التي لا زالت ترن في أعماقي رنين الأجراس في أعماق الكنائس؟
كيف؟ وكيف؟ وكيف؟ ...
وفي ليلة الرعب هذه، حدث ما حدث!!..
تمزقت الأماني، وتبددت الأحلام ومُرغَت الأزهار بالطين، وحُفِرَت الدموع على أخاديدي مسارات تشق طريقها إلى حرية التعبير.
وبلحظاتٍ وحشية انهال الجسد الذكوري، كما تنهال أيادي الكاتب على الصفحات البيضاء ليلطخ صفائها وجمالها غارساً فيها متعة الكلمات المتوحشة.
اسودت أحلامي لرجلٍ حنونٍ طاهر يداعب المشاعر من السنين ثلاث، إلى متجاهلٍ ليذعن في ليلة دخلتي إلى رجولته الباردة ليكشف النقاب عن جسده خالعًا ملابسه الملائكية ليتصرف بشيطانية الشهوة.
وبدلاً من أن يتبلل ثوب العذرية بالشرف، تبلل بالدموع....
مزق أحلامي الكبيرة جداً جداً ...
بعثر سطور أفكاري الكثيرة جداً ...
هدم جدران طفولتي التي كانت يوماً بريئة جداً...
واسقط أبراج عذريتي التي كانت يوماً جداً جداً....
دمعة واحدة حارقة نزلت من عيني لأني كرهت النساء اللواتي يرضعن أبنائهن المنصرفين إلى الحياة ذكوراً يكرهون الكيان الأنثوي... ليحققوا من الرجولة مفاهيم تبسم أفواه أمهاتهم اليابسة عطشاً..
كرهت النساء اللواتي يفتك بهن صولجان الغيرة والتمرد ويعبرن عن تسلطهن عبر قرابين كنائنهن.
وقع الجسد الغضّ البّض اليافع قرباناً لأمه، أنثوية الجسد، ذكورية التفكير، متوحشة الإحساس.. لأنها كانت تحتفظ بمندايل الشرف، وفحولة أبنائها السبع وبروتوكولات رجولتهم في دولابها الملّطخ فكرياً وعقائدياً غير آبهه بكيان عروساتهم وأحاسيسهن.. لتشبع رغبتها في اقتحام حياتهن بالتسلط النسوي الجيناتي..
وقع الجسد قرباناً لنساء الحارة اللواتي ينتظرن دليل العذراوات دون أن يدركن أن عذرية المرأة ما هي إلا مقاييس ليست بالضرورة جسدية بيولوجية، بل هي أكثر من ذلك موازاةً مع المقاييس النفسية والاجتماعية والفكرية لا أكثر...
يحكم الناس والمجتمع، ويُحكَمون هم بالمقابل إلى أفكارهم النمطية. ولكن هل يعلمون عدد الرجال الذي تشاطرهم النساء سرائرهم الوهمية. وكم من رجلٍ دخل سرير أحلام النساء وجامعن بأفكارهن، التائهين الضائعين.
أتبحثون عن شرف العذرية وتنسون هويات العذراوات المبعثرة كبتاً وطغياناً؟؟ ...
لربما تنهالون بوحشية مطلقة وتبثون ضعفكم لتمرغوا شرف النساء بالطين والتراب... مقابل قرابينكم .
باعدت هذه الليلة بيني وبين شريكي، وانقلب نسيج ثوب الأدمة إلى اشواكٍ ألبسني إياها عبر الأيام. ومرت الأيام... على القصة الرمزية...
ولا زالت جراحي تؤلمني على الأحلام التي انتزعها الشوق ممرغاً إياها بالغريزة....
باقة الغربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق