الجمعة، نوفمبر 23، 2007

شاعر لم تقولبه القصيدة ولم تصنفه الكلمات: الشاعر منير مزيد


هدلا القصار
يتوجب علي أن أوجه شكري الشبكة ألعنكبوتيه التي أتاحت لي فرصة الاطلاع الواسع على النتاج الشعري الحديث بصورة لا سابق لها .
ساقني البحث عبر هذه الشبكة للتعرف على تجربة الشاعر الفلسطيني منير مزيد، المهاجر كارتحال السنونوات وهواجس العصافير التي تبحث عن موطنها في فضاءات السماء، يتنقل بممارسات أجنحة الفراشات التي لا تسيطر على ألوانها .
اعتدنا في الزمن الجديد أن يعري بعض الشعراء أبيات قصائدهم المحملة بتاء التأنيث، بينما بالكاد يلفظون الضاد، على عكس الشاعر منير مزيد فهو من يتعرى أمام قصائده ومن ثم يعري أبياته حرفا حرفا حتى يلبس حروفها ثيابا من صنع هذيانه الشعري حيث يبحر بصوره الشاعرية منفردا بها بين الواقع والخيال يروض المتلقي لإمكانياته دون أن يكشف لنا عن عورات جسد القصيدة التي تبلل القارئ بالتهام الشهوات .
شاعر لم تصنعه القصيدة ولم تصنفه الكلمات، يهرب من اللغة المعسكرة يرفرف تحت جناح مخيلته يحلق كالنوارس في يقظات السماء يرسم اله العشق يحلم بمرضعاته الثلاث، الأم الأرض الأنثى، حيث يوطنهم على أوراقه يوزع جيناته على أجساد القصيدة يحملها تاريخ الأساطير التي تتشابه مع مفهومه الفلسفي من خلال وجوده يرسم تضاريس الانصهار في يقظته يحول الأرض والأشياء والطبيعة إلى كائنات تتحرك أمامه تعتمد صوره الشعرية على علاقته بروح الومضة التي تنبثق من حواسه وتفاعله مع الحدث الإنساني يحمل رؤيته بكل عفويتها وانبثاقها يغوص في محتواها يستنهض القصيدة من غفوتها ليرمم صور الوطن المهملة على الخرائط، يخاطب كل أنواع الوجود يحاكي الإنسانية السياسة الديانات الآلهة والمعابد ويجسدها كطفل فقد نهده فهو بالأصل يعني الأرض التي لا تشبع لهفته منها، فلا شك أن هذه الإنسانية السوسيوثقافية المرتبطة بمعايشته للعاطفة التي منحته مرآة ذاته تجمع بين الرجل والمرأة والكون في شخصية الشاعر منير وهم الاناء الموحد في مجموعاته التي استخدام فيها ساحته السردية المتعددة الجدال والحركة داخل مفهومه الكينوني .
انه يسعى لإعادة المس الإنساني كاملاً وبديلا عن التشعب الذي مارسته السلطة الاجتماعية والأخلاقية بإزاحته من الزمان والتاريخ للدخول في زمن الجسد الآتي من انطولوجيته . كما يفرض علينا الشاعر إيديولوجيته على استلهام التراث العربي بشكل ثابت دون ان يسقط الحداثة الشرقية . يشكو غربته بانين خافت دون بكاء يتساجل مع روح مخيلته يلعن /يشتم/ يتساءل، يتخيل، يلاعب أقلامه الملونة، يتكلم عن نفسه، كالساحر يطوع القصيدة كما تشتهي مخيلته الأثير فمن رحلاته السردية عبر المجموعة الأولى " وجود" من قصيدة من رحلات منير مزيد:

تبعاً لمشيئة القدر /أتيت/ بزغت من الفيضان/ روحاً حيية... /ذاكرتي مزقها الليل /الملفع بالظلمة /وأنا أجوب هذا العالم /وحيداً ... /أبحث عن معنى /كنت أريد أن أشرب نخب السعادة /فهل من أحياء...؟
/ها أنذا اتجرع نخب الموت /أنادي /ليس سوى الريح تداعب أعشاب قبور صامتة
/ريح الصيف اللاهبة /والعالم يغرق في الوهم... .
وفي قصيدة " مرثية فلسطينية" يستسلم للواقع :
ترقد في أعماق النسيان/ممددة تحت إبط ألليل/يلفها الحزن و الإنتظار /ولا أحد منا بات يتذكرها ..... /تنتظر بزوغ الفجر/من نهد الحرية/وأن تخرج الشمس/من أحشاء التنين
على سيوف الثوار..... .
أما في مجموعته الثانية " صور في الذاكرة" فهي بالفعل صورا مسترسلة لا تتوقف فكلما حاولت الاصطياد في صور مخيلته ينقلني إلى أخرى أكثر جمالاً أتمسك بها يحلق يهبط مستعين بحرف الواو ليلاحق صوره المتلاحقة، فالشاعر منير مزيد له لغته الخاصة التي يشكلها كريشة الماء على ذاته حين يطلق الابيل الذي يعاني منه، كالكاهن يكشف صور حورياته المحببة والمرتبطة برؤيته نحو الوجود ومعايشته العاطفة التي تمنح مرآة وجوده كاملاً . فالقصيدة بالنسبة للشاعر مزيد هي الايروسي تنساب لهويته الإنسانية، يشكل رغباته وسرير الأحلام من ثقوب أصابعه بألم الوحشة ليلقي علينا رمادها يهمس لنا نار إله وحدته وغربته يسرب لنا عناوين الكهوف التي تسكنه في الظلمات، يترجم حالته في تحلقه كالفراشات لا يعترف بالاحتمالات ولا ترسي صوره على كائن وكأن قدماه لا تطأ الأرض يعلو بجناحين يتخطيان حجم الواقع :
أذكُرُها طِفلَةً/ تَحْبو على سَلالِمِ السَّماءْ/ ترْتَعُ وتلعبُ في مُخِّيلَتي
أبْكي .. تتَعرَّى بيَ الذاكر/ فأبْحَثَ عنْ ألَمْ ....... !/ ألم ٍ يتغلْغلُ في روحي
ويصْلبِنُي في اللغة ...... !/ لُغة ٍتُعيدُ للحَياةِ الألوان/ ما أخْطأَ النَّهْدُ
حينَ أرْضَعَ الطِّفلَ/ شَهْداً.... في كأسِ / صَديقيَ الوَحيدْ .....!
كُلِّفَ بِحِفْظِ أسرار الوجودْ/ وجُه مرآةٍ وفي المرآةِ/ تنْعكِسُ صورةُ الكونْ ......
أما من مجموعته الثالثة " فصل من الإنجيل" يسبح كالإله فوق أمواج السماء يصلي للإله للرب، يتغني بالإنجيل، يسخر من العبودية يسجل الشعر بمقولات المسيح، يصرخ كالنداهة في ملكوته الشعرية تلاحقه الحروف والكلمات بينما يلاحق الصور يحاكي الإله / الرب/السماء/الكائنات/ الحورية / الغجرية الماء الرياح/ويتكلم كالمسيح . يحلق بين النجوم يحاكي الأنبياء/ يقرأ عليهم اعترافاته بما أنزلته مخيلته/ يلعن من لا يقدس الإله بغير الحب لم يترك كائن يمر في مخيلته ألا وتوقف أمامه لحظات عابرة حتى آخر المجموعة .
…وإذ أوحى لي الشعر بالنبوءة/يتراءى لي ملكوت الله.../ فأنا نفحة من روح الله/ لن تفنى
و لن تذق طعم الموت/ تصعد إلى السماء/ عائدة إلى ربها/تستظل تحت العرش
و تبقى في ملكوته الأبدي/ راضية مرضية...
من ارتعاشات الروح / ولهفة الجسد الملتهب/ من وشوشة السماء للأرض
وهمس الماء للصخور والرمل/ فأنا نفحة من روح الله/ لن تفنى/ و لن تذق طعم الموت/ تصعد إلى السماء/ عائدة إلى ربها / تستظل تحت العرش/ و تبقى في ملكوته الأبدي/ راضية مرضية.../ الحق الحق أقول/ الشمس في الزورق/ يبحر في الروح/ بين خيالين
أحرقت الأنوار القديمة/ حقا إني أرتل آيات النور...
أما في مجموعته الرابعة " جداريات الشعر"
فيعود ويسترسل متوغلاً في الغابات التي تلامسها مخيلته المحملة بثلاثة أزمنة، الممزوجة بين الحاضر والماضي والمستقبل، في تصوراته في جداريات شعره وتصوراته العابرة في إلهامه الذاتي وعفوية الخاطرة حيث يفتح مجالا للمحاكاة في لغته الخاصة برسم جدارياته من منطقة البياض وإيقاعه الداخلي وينبوع أفكاره ورؤاه سنرى ما خلفه بالوناته المعبأة بدخان جدارياته
جدارية النبؤة/لماذا تنطلق الروح إلى السماء/تحلق ترفرف فوق البحر/فكل ما يُرى:/خداعٌ على خداع/وهمٌ يعتلي وهماً../أغلق نافذة الأحلام/وأستمع لصوت مخاوفك/لا مأوى سوى روحك البالية.../فهل الخلود حكاية شرقية/خرافية ينسجها نبي/ مغامر حالم عاشق شاعر/لست أدري...
جنون الشعر/ للشعر رائحة وطعم الجنون…/فألمس وجه القمر/وأغازل النجوم/الليل السماء والبحر/وأرتع في فضاء الأغنيات../يا إلهة الشعر/أوجدي لي مأوى/مأوى في كهف القصيدة/حتى أمارس هذا الجنون/هذا العبث .. وأرضعيني ../أرضعيني لبن الشعر/لعلي أصير إلهاً
وهنا يأتي الشاعر منير ليغربل لنا في مجموعته الأخيرة التي لا تحمل سوى عنوان واحد
" كتاب الحب والشعر" حيث يبحث عن الحب الذي يبحث عنه كما يشتهي، بين الأرواح والحرائق الملتهبة في نهد الخيال وفردوس الشعر بلغة العصافير وبالونات العاطفة بين النجوم وعذوبة المطر وحليب الشعر في فضاءه الواسع وعبر بوابات الأحلام . يقف ليعترف بمتطلباته على الورق يخترق لحظات الوحدة البعيدة عن العشق المدفون برغبة الاكتشاف والتحول إلى الحياة الأبدية، يستريح في هذه المجموعة من التناقضات بين الحاضر والنفس :
تعرف أولا على ذاتك/وعلى المرأة التي تهدهد القلب/القلب الذي يحملك
فالذات بلا قلب وامرأة/كومة من خراب.../نزل القمر إلى البحر /سكراناً/باحثاً/عن مراكب الغجر/يستحلي/عذوبة الملوحة الزرقاء/وتمرد الموج.../في المراكب/غجرية البحر/تغني آة لو أن للغناء مخالب/تقلع أشواك الحزن
حبيبتي/يحزنني أنك بعيدة عني/وما يحزنني أكثر /أن يطال مقص الرقيب قصائ
أحبّك أكثر من/الحبّ/إليك أكثر من وأشتاق/*الشوق/أحبيني/ بما يكفي/
لجعلنا نكون مثل الآلهة/بجانب بحيرة القمر/ ترقد حورية الشمس/ملاك يجيء
مصحوبا بجوقة من العصافير المغردة/وبصوت نحيب /يغنّي/فيفرد الليل جناحيه
في هذه المجموعات الخمس التي أغلق فيها ركن الهذيان والقيا علينا أسلحته واستراح على كفوفه الراعشة بطعم الفرح والتأملات والتساؤلات حول التكوين والوجود وجداريات صوره الشعرية مستنهضاً فصول أبيات مجموعاته التي تنبض بالحياة والسلام في سرد خيوله الممطرة ليكشف لنا أسرار الوجود الذي يسكنه .
ومن ثم حرك النجوم والكائنات باهتزاز السديم المتفجر في أعماقه وهو يعانق خرائطه الإنسانية بابتهالات القديسين في تراتيل الهمس خارج أنفاق الثقوب الظلاميه . كما أدخلنا في عمق المعاني الصور السماوية التي تبحث عن روح السلام ليترك القارئ يراقب مراكبه الراقصة بين أمواج هواجسه وهي المرأة في ثقوب طفولته، بعيداً عن زمجرة الطائرات في وطنه وسقوط البشر كأوراق الخريف في صرخات جدلياته الموجعة في خاصرة الأرض .
في لغة أنيقة وسرداً مكثف داخل موسيقى متسارعة وظفها خياله بشكل ملحمي بدون أن تتحكم فيه اللغة ما أعطى لنصوصه متعة القراءة في مساحة تواكب إشعاعاته المنفرد فيها .

ليست هناك تعليقات: