الثلاثاء، يونيو 30، 2009

أبو نواس في رام الله

د. فايز أبو شمالة
سئل أبو نواس: كيف ستخلص نفسك من هذا الوعد؟ وكان أبو نواس قد ألزم نفسه أمام الخليفة هارون الرشيد بأن يعلم الجمل القراءة والكتابة في غضون عامين مقابل عشرة ألاف دينار، فقال أبو نواس: حتى موعد تعلم الجمل القراءة والكتابة توجد ثلاثة احتمالات: الأول: أن يموت الخليفة، ويكون الوعد قد انتهى، والثاني: أن أموت أنا، والثالثة: أن يموت الجمل؛ وبالتالي يسقط الشرط. وما بين غمضة عين وانتباهها جاء الموعد، ولم يمت أي من الثلاثة. فقال أبو نواس لزوجته: اصرخي، وقولي للناس: أنني قد متُّ، ومرري جنازتي من أمام قصر الخليفة. وحصل أن اجتمعت كل بغداد خلف الجنازة التي وقفت أمام القصر، وهذا ما أثار دهشة الخليفة الذي سأل عن الشخصية الهامة التي حركت بموتها بغداد. فقيل له: إنه أبو نواس. فبعد أن نجح في تعليم الجمل القراءة والكتابة في الموعد المحدد، وحفّظه كل الدروس، تفاجأ صباح اليوم بالجمل وقد نسى كل العلوم، فانهار المعلم أبو نواس، ومات.
تأثر هارون الرشيد، وقال: والله لو جاءني مع بعض رجال بغداد لعفوت عنه. عندئذ استند أبو نواس من النعش، وقال للخليفة: لقد جئت إليك بكل رجال بغداد.
قد تكون هذه النادرة عن أبي نواس غير صحيحة، ولكنني استحضرتها وأنا أستمع إلى خطاب السيد سلام فياض في جامعة القدس، وهو يحدد عامين لقيام الدولة الفلسطينية، ويصر على عامين، في نفس الوقت الذي يحارب فيه المقاومة المسلحة، ويتنكر لها، ولم يذكرها في خطابه، ولم يحض على شتم مستوطن، أو رفع البندقية في وجه الجيش الإسرائيلي، ولو سأل عاقل السيد سلام فياض رئيس الوزراء غير الدستوري عن شكل هذه الدولة الفلسطينية التي ستقوم بعد عامين في ظل حكومة "نتان ياهو"! أو كيف ستقوم الدولة الفلسطينية بعد عامين؟ وما هي المعطيات الداخلية الفلسطينية، أو الدولية التي تهيئ لقيام دولة فلسطينية؟ لما عثر على جواب!. ولاسيما أن اتفاقيات أوسلو المكتوبة، والموثقة أمام شهود على مستوى العالم قد حددت سنة 1999 موعداً لقيام الدولة الفلسطينية، ومع ذلك لم تقم، وبنفس المستوى العالمي قد حددت خارطة الطريق نهاية عام 2005 موعداً لقيام دولة فلسطينية. ولم تقم وحدد السيد بوش الابن، واتفاقية أنابولس نهاية سنة 2008 موعداً قطعياً لقيام الدولة الفلسطينية!. فأين هي؟
وهل أمسى السيد "فياض" مقتنعاً بفشل سياسته، وأنه لن يكون موجوداً بعد عامين، ولن يسأله أحد؟ أم أن الدولة العبرية بالتعاون مع كتائب "دايتون" ستكمل سيطرتها على أراضي الضفة الغربية، ولن يظل فلسطينياً ليسأل: أين الدولة المأمولة؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها من موافقة على شروط "نتان ياهو" لقيام الدولة الفلسطينية الممسوخة؟.
سيمارس الشعب الفلسطيني حرفة التكاثر حتى شهر يونيه سنة 2011، ليرى الدولة!.

ثلاث محاضرات في شعر محمود درويش

د. حبيب بولس

المرحلة الاولى - مرحلة الوطن الام

ان تلج عالم محمود درويش الشعري امر ليس سهلا لأنك تصاب بالرهبة وبالتهيب، ذلك لأنه عالم غني واسع متنوع متلون، لا يستقر على مدرج واحد، فهو دائم الاغتناء، دائم التطور، عالم متقافز قفزاته سريعة وواسعة تمتح من الموروث الشعري العربي ومن الشعر المضارع عربيا وعالميا. هذا من جهة، اما من اخرى فان محاصرة هذا العالم الشعري الدافق والمتجدد امر غير ممكن لا بل مستحيل في محاضرات ثلاث فشاعر بقامة محمود درويش بحاجة اذا اردنا حقيقة ان نستكشف شعره وان نتغور مبانيه ومعانيه ولغته وتقنيات قصائده وتجديده وتحولاته، بحاجة الى محاضرات ومحاضرات ولكنها محاولة اولية للوقوف على بعض محاور شعر امير الكلام المعاصر محمود درويش.
في معرض رده على الشاعر ادونيس الذي اتهم في دراسة له بعنوان "الشعر والثورة"، نشرها في مجلة (الهدف) العدد 20 1969 شعر محمود درويش وشعر اخوانه بانه شعر غير ثوري ومحافظ وذلك لأنه شعر يصف حركة المقاومة ويغنيها وليس شعرا يواكب الحركة ويخلق معادلا ثوريا باللغة ويفكك البنية العادية العربية الموروثة، حيث يقول ادونيس: "فان كانت مهمة المقاومة ان تفجر الواقع السياسي/الاقتصادي وتغيره. فان مهمة الشاعر العربي الثوري هي ان يفجر نظام اللغة (الثقافة/القيم السائدة) ويغيره". في رده على ذلك يقول "محمد دكروب" في كتابه "الادب الجديد والثورة" الصادر عن دار الفارابي سنة 1980 "ان كلام ادونيس تصور ذهني ميكانيكي، لا يرى الارتباط العضوي والتأثير المتبادل بين حركة الواقع وحركة الشعر. وكون حركة الشعر والثقافة اجمالا هي شكل نوعي متميز لحركة الواقع ككل، أي هي انعكاس معقد ومتحول في المخيلة والاحساس والدماغ الى شعر وفن وثقافة صادر اساسا عن حركة الواقع نفسه، وعن حركة الصراع الاجتماعي، وحركة الثورة بالتالي. هذا التحول هو الذي يعطي للشعر والفن والفكر اجمالا تلك الصفة النوعية المميزة، فلا تبقى مجرد انعكاس ميكانيكي لحركة الواقع المادي.
بناء على ما تقدم، فان كل شعر حقيقي اصيل هو ثورة داخل حركة الشعر نفسها، هو تجدد دائم الغنى لنظام اللغة ونظام القصيدة (العمل الشعري). وكل انكار تعسفي لحركة التجدد هذه ولضرورتها وللثورة داخل الشعر التي هي تعبير عن ضرورة الحركة يؤدي الى جمود قاتل، الى موقف رجعي، الى مراوحة في المكان، بينما حركة الشعر مستمرة في تجدد دائم، وهكذا لا يكون الفن ثوريا لمجرد ان يحاول الفنان ان يخلق باللغة معادلا فنيا للثورة، بل بمقدار ما يملك هذا المعادل الفني نفسه ان يمارس تأثيره الثوري ولو داخل قسم من جماهير الثورة.
من هنا تنبع اهمية محمود درويش كشاعر، بمعنى من كونه استطاع ان يخلق معادلا فنيا للمقاومة الفلسطينية وللثورة الفلسطينية في شعره، وفي الآن معا ان يمارس هذا المعادل الفني نفسه تأثيره الثوري والا كيف سنفسر عشق الناس لشعر محمود؟! وكيف سنفسر التطور الذي اصابه على مدى خمسة عقود من الزمان.
يقول المفكر الكبير "حسين مروة" في كتابه "الموقف الثوري في الادب منشورات دار الفكر العربي سنة 76 ملخصا نجاح شعر المقاومة، يقول ان نجاح هذا الشعر ينبع من ثلاثة اصول:
1. كونه نابعا من الجماهير، فالشعراء هم ابناء هذه الجماهير فهي ربتهم واعطتهم الجذور.
2. الاندماج والالتحام بين الشاعر وواقعه وسمة هذا الامر الفنية صدق التجربة والاصالة في تصوير صراع الانسان الفلسطيني.
3. الشروط المعرفية أي المنطلق الفكري الثوري الذي يصدر عن هذا الشعر، وينفذ الى الاعماق مؤثثا بالطاقات المتحفزة دائما لصياغة نفسها من جديد بأشكال ومضامين متطورة باستمرار. وهذا المنطلق الفكري عند درويش هو تبصره بالنظرية الثورية. هذه النظرية التي حررت شعره وعالمه الفني من كوابيس الاوهام وجعلته يتخطى ذاته باستمرار بحيث صار محمود درويش ظاهرة شعرية جديدة بمفرده لا فلسطينيا فحسب ولا عربيا فحسب، بل عالميا، وذلك بما تحمله ابداعاته من الطاقة الفائقة لتخطي الذات المستمر سواء باكتشافاته الرؤيوية ام بصياغاته الفنية لهذه الاكتشافات.
تأسيسا على ما تقدم سنحاول ان نلج عالم محمود درويش الشعري على رحابته، وكي نسيّج هذا الحديث ونمنعه من التشظي والتسيب من جهة، وكي نسهل على انفسنا عملية استبطان هذا العالم من اخرى، سنقسم عالم درويش الشعري الى مراحل ثلاث هي:
1. مرحلة الوطن/ الأم، مرحلة شعر المقاومة حتى عام 1969
2. مرحلة المنفى والحصار والمذابح حتى الخروج من بيروت
3. مرحلة نبش الذات حتى وفاته
نبدأ بالمرحلة الاولى ونمثل لها بديوان "عاشق من فلسطين" الصادر عام 1966.
ان اول ما يجابهه قارئ ديوان "عاشق من فلسطين" هو صدق التعبير الفني واخلاص الشاعر في الحديث عن قضيته/قضيتنا أي عن القضية الفلسطينية، لا كقضية فردية متميزة فريدة – وهي كذلك – انما الصدق الفني الذي ينتشل القضية من خصوصياتها ليجعلها قضية عامة يمكن ان يحسها الانسان في أي مكان فوق الارض. وهذا التعبير الفني الصادق يأتي بسيطا وعميقا في آن معا وهذه هي سحريته، شعره في "عاشق من فلسطين" حار متفجر ذو حيوية هائلة، ينتفض (على حد تعبير رجاء النقاش في كتاب "ادباء معاصرون" الصادر عن مكتبة الانجلو مصرية في القاهرة عام 68) ويمتلئ بالرغبة في الحياة والتحرر من المأساة سواء المأساة الشخصية او في واقع مجتمعه. ومذاق هذا الشعر مذاق انساني رحب لاذع. وللحقيقة اقول: ان شعرا كالموصوف معرض للانزلاق والوقوع في براثن الخطابية والنثرية والضوضاء الفنية والكليشيه الجاهز ولكن اصالة محمود كفنان وأصالة ايمانه بقضيته يحميانه من ذلك.
لنسمعه يرد على النغمة التي سادت الادب الاسرائيلي الدعائي حتى ادب الاطفال منه في اواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، تلك النغمة التي تحاول ان تقنع العالم، بان العربي همجي بعيد عن الحضارة وهو انسان من درجة ثانية يقول محمود في قصيدة "نشيد للرجال" من الديون:


"لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قدمي/ من الأشواك/ ان خطاي مثل الشمس/ لا تقوى بدون دمي
لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قلبي/ من القرصان/ ان فؤادي
المعجون كالارض/ نسيم في يد الحب/ وبارود على البغض.
ويستمر قائلا: "لأجمل ضفة نمشي/ فلن نُقهر/ ولن نخسر/ سوى النعش الى الاعلى/ حناجرنا/ الى الاعلى/ محاجرنا/ الى الاعلى/ امانينا/ الى الاعلى اغانينا/ سنصنع من مشانقنا/ ومن صلبان حاضرنا وماضينا/ سلالم للغد الموعود/ ثم نصيح يا رضوان/ افتح بابك الموصود.
ويقول فيها ايضا: "سنطلق من حناجرنا/ من شكوى مراثينا/ قصائد كالنبيذ الحلو/ تُكرع في ملاهينا/ وتنشد في الشوارع/ والمصانع/ في المحاجر/ في المزارع/ في نوادينا.
ويختتم بهذه الصرخة المدويّة الثائرة:
"سنخرج من مخابينا/ ويشتمنا اعادينا: "هلا.. همج هم عرب/ نعم! عرب/ ولا نخجل/ ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل/ وكيف يقاوم الأعزل/ ونعرف كيف نبني المصنع العصري والمنزل/ ومستشفى/ ومدرسة/ وقنبلة/ وصاروخا/ وموسيقى/ ونكتب اجمل الاشعار/ عاطفة وافكارا وتنميقا".
بمثل هذه العاطفة المليئة بالتفاؤل والثقة والاستعداد للنضال والصبر على الجراح يواجه درويش واقع المأساة.
ولعل اعذب ما في شعر درويش في هذه المرحلة الرؤية الانسانية الخاصة التي تنعكس على بناء قصائده. فهو يرى الناس والاشياء بطريقة تختلط فيها كل العناصر. ففي قصيدة واحدة نراه يتحدث عن حبيبته، وفي مقطع آخر منها نجد هذه الحبيبة قد تحولت الى معنى مختلف هو الوطن، ثم تنقلب الى الام او الاخت، وهكذا فالحب والوطن والحرية والطبيعة كلها معان تختلط ببعضها البعض، انها ذات ملامح متشابهة فالحدود بينها تلتغي كليا. في شعر محمود نوع من وحدة الوجود، من ذوبان الكل في واحد. هذا الامتزاج الكامل بين الصور والمعاني في رؤية درويش للعالم والذي يتحقق على اجمل صورة في شعره يحدث بعفوية وبصورة شفافة. فقصائده عالم رقيق مشرق، رغم تشابك العناصر والرؤى، لذلك قصائده هنا اشبه بحلم ولكنه ليس حلما رومانسيا هروبيا عاجزا، انما هو فيض مشاعر حية كبيرة تملأ وجدان الانسان وتسيطر عليه. وهذا النوع من الحلم هو الهام وحيوية وقوة واقتراب من النبوة، وتعبير عن الاندماج الكبير في الواقع وفي حركته واندغام بين الانسان وعقله الباطن. هذا الحلم هو الذي يفسر لنا انكسار المنطق العادي في شعره وولادة منطق آخر ينقلنا من اللحظة الراهنة الى مناطق الشدهة والاندهاش. ذلك لأن تجارب الشاعر روحية عامرة تملأ مشاعره فتفيض القصيدة عن وصفها للعادي النثري للظاهرة وتأخذنا الى ما وراء الظواهر وهذا هو الشعر الحقيقي بعينه. لنسمع مقاطع من رائعته "عاشق من فلسطين" للتدليل على ما ذكر. يقول في مطلعها: "عيونك شوكة في القلب/ توجعني واعبدها". ويستمر قائلا بعد هذا المطلع الرائع: "كلامك كان اغنية/ وكنت احاول الانشاد/ ولكن الشقاء أحاط بالشفة الربيعية/ كلامك كالسنونو، طار من بيتي/ فهاجر، باب منزلنا/ وعتبتنا الخريفية/ وراءكِ.. حيث شاء الشوق/ وانكسرت مرايانا فصار الحزن الفيْن/ ولملمنا شظايا الصوت/ لم نتقن سوى مرثية الوطن/ سنزرعها معا في صدر قيثار/ وفوق سطوح نكبتنا، سنعزلها/ لأقمار مشوهة واحجار/ ولكني نسيت يا مجهولة الصوت:/ رحيلك اصدأ القيثار ام صمتي".
ثم يتابع ليشعرنا ان حبيبته هذه ليست فتاة عادية وانما هي فلسطين – يقول: "رأيتك في جبال الشوك/ راعية بلا اغنام/ مطاردة في الاطلال/ وكنت صديقتي/ وانا غريب الدار/ ادق الباب يا قلبي/ على قلبي/ يقوم الباب والشباك والاسمنت والاحجار.
رأيتك في خوابي الماء والقمح/ محطمة/ رأيتك في مقاهي الليل خادمة/ رأيتك في شعاع الدمع والجرح/ وانت الرئة الاخرى بصدري/ انتِ انت الصوت في شفتي وانت الماء، انت النار".
ثم يتابع: "رأيتك عند باب الكهف عند الغار/ معلقة على حبل الغسيل ثياب ايتامك/ رأيتك في الموقد/ في الشوارع/ في الزرائب في دم الشمس/ رأيتك في اغاني اليتم والبؤس. رأيتك ملء البحر والرمل/ وكنت جميلة كالارض كالاطفال كالفل/ واُقسم: من رموش العين سوف اخيط منديلا/ وانقش فوقه شعرا لعينيك/ وإسما حين اسقيه فؤادا ذاب ترتيلا/ يمد عرائش الأيك/ سأكتب جملة اغلى من الشهد، من القبل/ فلسطينية كانت ولم تزل".
هكذا نلاحظ كيف تتلاحم المحبوبة مع الوطن وكيف تختلط العاطفة الخاصة بالوطنية، وكيف يصير الخاص عاما والفرداني جمعا.
ثم يختتم بقوله: "فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ حملتك في دفاتري القديمة/ نار اشعاري/ حملتك زاد اسفاري/ وباسمك صحت في الوديان/ خيول الروم اعرفها/ وان تبدل الميدان/ خذوا حذرا/ من البرق الذي صكته اغنيتي على الصوان/ انا زين الشباب/ وفارس الفرسان/ انا ومحطم الاوثان/ حدود الشام ازرعها/ قصائد تطلق العقبان/ وباسمك صحت بالاعداء/ كلي لحمي اذا ما مت يا ديدان/ فبيض النمل/ لا يلد النسور/ وبيضة الافعى/ يخبئ قشرها ثعبان/ خيول الروم اعرفها وأعرف قبلها اني/ أنا زين الشباب وفارس الفرسان.
هكذا تتفجر المعاني وتتوالد بين يدي محمود درويش ويسرح التضاد وتمرح لغة تلاقي الاضداد وهما من اعمدة الشعر المصفى. ونلتقي في شعر درويش في هذه المرحلة بصور شعبية حميمية لو صاغها آخرون لما اعطتنا شعرا، ولكنها بين يدي محمود تقول ما لم نتعوده منها يعتصرها فنا جميلا مليئا بالسحر والشعر والعذوبة.
وفي هذه المرحلة ايضا نجد عددا من الموتيفات التي يوظفها درويش رموزا وايحاءات في شعره ولكنها جميعا تصب في خانة التلاحم بين الأنا والقضية/ الأنا وفلسطين/ العاطفة والوطنية/ الحب والحرية. كموتيف الاسرة مثلا: الأم، الاب، الاخت. وفي الديوان الذي نحن بصدده نلتقي بقصيدته التي سارت على فم الزمن، وأعني قصيدة الى امي التي يقول فيها: "احن الى خبز امي/ وقهوة امي/ ولمسة امي/ وتكبر فيّ الطفولة يوما على صدرِ يوم/ وأعشق عمري لأني/ اذا متّ/ اخجل من دمع امي".
والأم هنا خير دليل على ما ذُكر، هي الام الشخصية والوطن، هي ام الجميع. ومن الجدير القول: ان معنى الاسرة عند درويش لا يعني الاسرة العائلية المألوفة، انما هي الانتماء، والجذور التي تمده بالصمود وبالتحدي وبالاصرار، والاسرة عنده دائما ممزقة تحاول ان تلتئم. هي اشبه بجثة اوزوريس التي مزقها اشلاء إله الشر (ست) و"ايزيس" الزوجة الوفية الباكية المناضلة تعيد اجزاءها المبعثرة وترد الروح الى الجسد الممزق. وهذا الجسد طبعا هو فلسطين التي لا بد وان تلتئم ويعود ابناؤها وتتحرر.
ثم نلتقي في شعر محمود في هذه المرحلة كثيرا برمز الصليب واستخدامه للصليب كرمز له مبرراته، ففلسطين هي ارض المسيح، ومأساة المسيح اقترنت بالصلب، لذلك الصليب مقترن بفلسطين قديما وحاضرا، من هنا يتخذه الشاعر رمزا ليعبر به عن المأساة الفلسطينية، وهي مأساة معادلة لمأساة الصلب ولتاج الشوك والمسامير في اليدين وفي القدمين، يقول درويش في قصيدة "صدى الغابة": "من غابة الزيتون/ جاء الصدى/ وكنت مصلوبا على النار/ اقول للغربان:/ لا تنهشي/ فربما ارجع للدار/ وربما تشتي السماء ربما/ تطفئ هذا الخشب الضاري/ لانزل يوما عن صليبي/ ترى/ كيف اعود حافيا عاري؟!
ومحمود درويش يرى في المسيحية روحا دينية مقاتلة "ليست صليبية، فتفسيره لها تفسير نضالي فهي في وجدانه دعوة الى التقدم والانفتاح والى النضال والوقوف في وجه الآلام الكبيرة وكما يقول السيد المسيح في انجيل متى "الاصحاح العاشر العدد 34": "لا تظنوا اني جئت لألقي سلاما على الارض ما جئت لألقي سلاما بل سيفا". يقول درويش في احدى قصائده (مع المسيح):
"ألو/ اريد يسوع/ نعم! من انت؟/ انا احكي من اسرائيل وفي قدميّ مسامير واكليل/ من الاشواك احمله/ فأي سبيل/ أختار يا ابن الله أي سبيل؟/ أأكفر بالخلاص الحلو/ أم امشي/ ولو امشي واحتضر؟/ اقول لكم يجيبه السيد المسيح: اماما ايها البشر. وكما يوظف السيد المسيح رمزا يوظف النبي العربي محمدا كذلك فهو يقول في قصيدة "مع محمد": "ألو/ اريد محمد العرب/ نعم! من انت؟/ سجين في بلادي/ بلا ارض/ بلا علم/ بلا بيت/ رموا اهلي الى المنفى/ وجاؤوا يشترون النار من صوتي/ لأخرج من ظلام السجن/ ما افعل؟ ويجيبه الرسول العربي: تحدّ السجن والسجان/ فان حلاوة الايمان/ تذيب مرارة الحنظل.
هذا هو محمود درويش في مرحلته الاولى، شاعر صاغته النكبة وصقلته المأساة التي شرب مرها وذاق معها عذاب الفقر وذل العوز وغاص في مقلاتها. هذا هو محمود الذي ينحاز في كل ما صدر عنه الى فقراء الوطن، والذي تبصّر منذ تفتحه بالرؤية الثورية وتسلح بالفكر الاشتراكي التقدمي، ومتح من الموروث الفلسطيني والعربي والعالمي المنفتح، فولج عالم الشعر واثقا صادقا مخلصا مؤمنا بعدالة قضيته، يعاني ويتحدى ويسجن من اجلها. انه شاعر مأساة. فلسطين همه وهاجسه يوظف لأجلها كل طاقاته الشعرية وكل طاقته الفنية بصور رائعة و"مبنى استعاري" جميل متجدد وموسيقى عذبة دافقة ومفردات انيقة متناغمة منسجمة فيصير العادي بين يديه دهشة يلتحم الأنا بالقضية، وتندغم الذات بالوطن، ويمتزج الخاص بالعام، ويتوحد العدل بالحرية، ولا نهاية للنضال الفلسطيني لأنه عادل حتى التحرر فها هو يقول: "مليون عصفور/ على اغصان قلبي/ يخلق اللحن المقاتل".
كفى محمود درويش هذه المرحلة ليصل الى القمة، ولكنه ليس شاعرا من هؤلاء الذين يتغيون الشهرة ويتربعون على القمم، انما هوطامح الى المزيد فالمزيد وحين سئل مرة ما هي القصيدة الاجمل التي قلتها يوما، قال تلك التي لم اكتبها بعد.
(يتبع)

البحتري والمتنبي

د. عدنان الظاهر

البحتري ( 205 ـ 284 للهجرة )

والمتنبي ( 303 ـ 354 للهجرة )

مُقدِّمة ليست طويلة !

أسرفَ بعضُ النقّاد القدامى في إتهام المتنبي بالسرقة أو التأثر بسابقيه من مشاهير شعراء العرب ولا سيّما الشاعر العباسي البحتري الذي سبقه زمنياً بقرابة قرن كاملٍ من الزمان . فهل كان هذا الإتهام صحيحاً وما مقدارُ صحته إنْ صحَّ وكيف التثبّتُ منه وما هي وسائل وسُبُل إثبات التهمة ؟ تابعتُ ما كتب الأستاذ محيي الدين صبحي في كتابه القيّم ( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه ) [1] وما عرض القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفي سنةَ 392 هجرية في كتبه الأكثر شهرة (( الوساطة ... )) فلم أجدْ ضالتي فيما توخيتُ من محاولة { وساطتي } المتواضعة لتقصّي ما كان يُسمّى بسرقات المتنبي مُحدِّداً دراستي بتأثر المتنبي بالبحتري بشكل خاص وليس بغيره . بلى ، جرت مقارنات متفرقة بين بعض أبيات المتنبي وما قال قبله سواه من الشعراء دفاعاً عنه وتبريراً لخروجه هنا أو هناك عن بعض قواعد اللغة العربية أو عن تصرفه بالألفاظ وتغيير معانيها أو سَرَفه في مجاراة قاعدة الأخذ بالقياس حتى لو كان هذا القياسُ غير شائعٍ كثيراً . كما بين القاضي الجرجاني عيوب بعض أبيات المتنبي أو سوء مطالع بعض قصائده أو ضعف مخارجها أو جنوحه لإقحام ألفاظ أو أسماء أعلامٍ غيرعربية . خلا محاولتين مبتسرتين متواضعتين واحدة ذكر القاضي الجرجاني فيها شذراتٍ من قصيدتين عن الأسد واحدة للبحتري والثانية للمتنبي ( المصدر الأول الصفحات 406 ـ 410 ) [1]. ذكر الجرجاني إسم شاعر ثالث هو " أبو زبيد " يبدو أنه هو الآخر كتب شعراً [[ ... فإنما وصفَ خلق الأسد وزئيره وجرأته وإقدامه وكأنما هو مرعوب أو مُحذر ، والفضلُ له على كل حال ، لكنْ هذا غرضٌ لم يَرُمْهُ ومذهبٌ لم يسلكه ]] / الصفحة 410 سالفة الذكر . ولكنْ ، من هو هذا أبو زبيد وأين قصيدته في الأسد ؟ لا من ذكرٍ لها فيما لديَّ من كتاب الأستاذ محيي الدين صبحي . أما المحاولة الخجول الثانية فهي في قصيدتين قيلتا في وصفِ الحُمّى قال إحداهما المتنبي وقال الثانية شاعر آخرهو " عبد الصَمَد بن المُعذّل " / الصفحات 399 ـ 405 / المصدر الأول . علّق الجرجاني عليهما تعليقين متناقضين فقال عن قصيدة المتنبي [[ وهذه القصيدة كلها مُختارة ، لا يعلمُ لأحدٍ في معناها مثلها ، والأبيات التي وصف بها الحُمّى أفرادٌ قد إخترع أكثر معانيها وسهل في ألفاظها فجاءت مطبوعة ، وهذا القسم من الشعر هو المطمع المؤيس / الصفحة 402 من المصدر الأول ]] . في حين عاد الجرجاني ليقول عن قصيدة عبد الصمد بن المُعذل ، وهي قصيدة رائعة حقاً ، ما يلي [[ وقد أحسن عبدُ الصمد بن المُعذّل في قصيدته الرائية التي وصف فيها الأسد ، وقصّرَ في الضادية وفي مقاطيع له في وصفها ، وكأنَّ أبا الطيّب قصد تنكّب معانيه فلم يلمَّ بشيءٍ منها / الصفحات 403 ـ 405 من المصدر الأول ]] . قال عبدُ الصمد في الحُمّى :


وبِنت المنيّةِ تنتابي

هدوّاً وتطرُقني سَحَرةْ

ثم سرد القصيدة كلها أو بعضها لستُ أدري لأنني لا أعرفُ إبن المُعذّل معرفة جيدة ولستُ مطلّعاً على مجمل أشعاره . بعد هذا السرد يقرر القاضي الجرجاني حكماً غاية في الطرافة والغرابة في عين الوقت ، حكماً إنهزامياً ، توافقياً ، يتنصل فيه عن مسؤوليته الكبيرة في إستصدار حكم عادل جريء فيما يرى . وفي المواقف الحاسمة يتبين معدن الرجال وصدقهم مع أنفسهم والآخرين . قال في الصفحة 405 [[ موازنة بين المتنبي وابن المُعذّل : فأحسنَ وأجادَ وملح واتسعَ ، وأنت ـ إذا قستَ أبياتِ أبي الطيّب على قصرها ، وقابلتَ اللفظَ باللفظِ ، والمعنى بالمعنى ، وكنتَ من أهل البصر ، وكان لك حظ في النقد تبيّنتَ الفاضلَ من المفضول ، فأما أنا فأكرهُ أنْ أبتَّ حكماً أو أفصلَ قضاءً أو أدخلَ بين هذين الفاضلين وكلاهما مُحسنٌ ومُصيب ]] !!

كنتُ أتمنى أنْ لو حاول القاضي الجرجاني ، أو غيره ممَن ظنَّ السوءَ بأبي الطيّب المتنبي ، عقد مقارنة مطوّلة بين قصيدتين واحدة للبحتري والثانية للمتنبي لإثبات درجات تأثر هذا الشاعر بذاك من حيث المفردات المستخدمة واللغة التي عالج الشاعران بها قصيدتيهما فضلاً عن الصور والمجازات والتشبيهات والكنايات والإستعارات وباقي الأساليب الفنية المعروفة و ربما المُبتَكَرة . لم أجدْ للأسف شيئاً من ذلك فكيف أستكين وأتقبل إتهامات باطلة لا يقوم عليها دليل بيّن قوي وحجة متينة واضحة ؟ لذا أخذتُ ، وقد نفدَ صبري ، على عاتقي المهمة العسيرة وقبلت أنْ أدلو بدلوي مغامراً . وجدتُ لحسن الحظ قصيدتين للشاعرين غرضهما واحد هو المديح وإنْ إختلف الممدوحان لوناً ومقاماً وثراءً وجاهاً .

إذاً فلأقارن ما بينهما ونرى هل تأثر المتنبي بقصيدة البحتري ؟ أين وكيف ؟ وهل سرق وادّعى ما ليس له ؟

أولاً : خدمتني الصُدفة إذْ وجدتُ القصيدتين وقد نُظمتا على وزن واحد وقافية واحدة ورويٍّ واحد فما أسعد حظي مع هذين الرجلين .

ثانياً : قصيدة البحتري { خلائقٌ كسواري المُزنِ } [2] ، في أربعين بيتاً ، يمدحُ بها أحمد بن محمد الطائي . أما قصيدة المتنبي { الملكُ الأستاذ } ، فهيَ في 46 بيتاً ، يمدح بها كافورَ الإخشيدي ( وأنشده إياها في سِلخِ شهرِ رمضانَ سنة ستٍ وأربعين وثلاث مئة ، 957 م ) [3] .

ثالثاً : مفتتحُ كلا القصيدتين غزلٌ جميلُ فلقد قال البحتري /

أتاركي أنتَ أمْ مٌغرىً بتعذيبي

ولائمي في الهوى إنْ كان يُزري بي

عَمْرُ الغواني لقد بيّنَ من كَثَبٍ

هضيمةً في مُحبٍّ غيرِ محبوبِ

في غزل البحتري هوانُ وعذاب لحقه ممن يحب . ثم تشكّى من غانيات والغواني فتيات حَضَريات .

أما المتنبي فكان تشبيبُهُ أفضل وأصدق وأجمل وأكثر تأثيراً في النفوس فهو يعرف كيف يتلاعب في قلوب العشّاق المتيمين وغير العشاق المحايدين . خلاف البحتري ، نرى المتنبي متعلقاً بالصبايا البدويات ويفضلهن على الحضريات بل ويسخر منهنَّ أيما سخرية في أبيات لاحقة أخرى راسماً لهنَّ صوراً شعرية كاريكاتورية تجعل القارئ يغرقُ في الضحك /

مَنْ الجآذرُ في زي الأعاريبِ

حُمرُ الحِلى والمطايا والجلابيبِ

إنْ كنتَ تسألُ شكّاً في معارفها

فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ ؟

إستهلَّ البحتري غزله بالنداء المستعطف الذي ينمُّ عن ضعف في النفس وإنكسار مهين < أتاركي > أي يا تاركي . أمّا أبو الطيّب المتنبي فكان أكثر ذكاءً وأحد فطنة وأقدرعلى رسم إفتتاحياته بأساليبَ تأخذُ بمجامع القلوب . قال المتنبي < مَنْ الجآذرُ > مستخدماً صيغة السؤال الصلب المتعالي الرجولي النبرة والأداء < مَنْ > ثم يستديرُ ملتفتاً لنفسه ليجيبَ هو نفسه على سؤاله بصيغة إستنكارية قوية تحمل الكثير من الإحتجاج ثم يوجّه لنفسه سؤالاً تقريعياً < فمن بلاكَ ... > ؟ أربعة أبيات توضح وتكشف الفروق الكبيرة بين شخصيتي ونفسيتي شاعرين إثنين جمعتهما قصيدتان مكرّستان أساساً لمديح رجلين لا من جامع يجمع ما بينهما لا زماناً ولا مكاناً ولا حتى في المكانة الإجتماعية والخصال الشخصية.

أخذ هذا الغزل الجميلُ من المتنبي 17 بيتاً بالتمام والكمال في حين لم يكتب البحتري في تغزله إلا ثمانية أبيات فقط ! ذهب المتنبي بعد الغزل منصرفاً لكيل المديح لكافور الإخشيدي لكنَّ البحتري ذهب مذهباً آخرَ لكأنه يأنفُ ، وقد فارق للتو الجميلاتِ ، أنْ ينصرف إلى ممدوحه منافقاً مرائياً يقول فيه كلاماً لا يستحق أغلبه لكنها صنعة الشعراء ووسيلة إرتزاقهم ومواصلة عيشهم وعوائلهم . وضع البحتري حاجزاً من الطبيعة لا غيرها يفصل بين ما قال في الغانيات وما سيقولُ في رجل قد يكونُ ثريّاً أو زعيم قبيلة أو أمير مقاطعة أو ثغر من الثغور . شكّلَ هذا الجدار العازل الطبيعي كذلك ثمانية أبيات وصف فيها الكثير من ظواهر الطبيعة من مطر وريح وسراب وكواكب وليل وبعض كائناتها الحيّة كالقطا مثلاً. بعد ذلك توجّه الشاعرُ لممدوحه ليقول مادحاً مسرفاً في الدجل والرياء لكي يقبض ثمن أتعابه في نهاية اللقاء . البحتري ضعيفٌ أمام الغواني لكنه قويٌّ شامخٌ في وجه ممدوحيه .

رابعاً : إذا جرى المتنبي في بناء قصيدته هذه على ذات بحر وقافية قصيدة البحتري فليس معنى ذلك أنه قلّده أو سرق منه البحر والقافية والروي . البحور مطروحة لمن يشاء والعِبرةُ ليس في شكل بناء القصيدة كما يعلم القاصي والداني. مضيتُ في سعيي أبعد قليلاً فلاحقتُ قوافيَ كلا القصيدتين فوجدت المتنبي قد أخذ من قصيدة البحتري 19 قافيةً مع كامل رويّها ، فهل أخذ شيئاً من معانيه وباقي فنونه الشعرية المعروفة من بلاغة وبيان وبديع وزخارف شكلية ومؤثرّات صوتية ـ لونية كما يقول أهل المسرح ؟ كلاّ ثم ثُمَّ كلاّ ! لم ألحظْ إلا آثاراً خفيفةً بسيطةً في بعض الأبيات . أُثبّت أبيات الشاعرين المتشابهة القوافي [ 19بيتاً ] كما وجدتها في ديوانيهما مبتدئاً أولاً بأبيات البحتري ( صاحب الدعوى المُقامة ضد خصمه ) ثم تليها أبياتُ المتنبي ( المتهم الشاخص في قفص الإتهام أمام القارئ ) :

1ـ أتاركي أنتَ أمْ مُغرىً بتعذيبي

ولائمي في الهوى إنْ كان يُزري بي



أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي

وأنثني وبياضُ الصبح يُغري بي

هل هناك من شبه في معاني وأغراض هذين البيتين عدا القافية والروي في الجار والمجرور {{ بي }} ؟ كلا ، والحكم للقارئ . لقد عاب وأزرى طه حسين [4] على المتنبي لأنه وقف ولم يحرّك آخرَ الجار والمجرور {{ بي }} لكنه لاذ بالصمت عمّا قال البحتري قبل المتنبي في البيت الأول {{ يُزري بي }} . علماً أنَّ حكم {{ بي }} الإعرابي هوهو في كلا البيتين . إلا إذا كنا جدَّ لؤماء وحقودين ومرتابين فنقول إنَّ الفعل الرباعي {{ يُغري }} شديد الشَبَه بأخيه الفعل {{ يُزري }} فكلاهما رباعي الحروف ويشتركان معاُ بثلاثة أحرف هي حرف الراء والياء مُكررة مرتين في كلا الفعلين . يُزري // يُغري . التاثير الصوتي واحد على الأذن السليمة . معنى ودلالة الفعل { يُزري } هي لا ريبَ مختلفة عن معنى ودلالة الفعل {{ يُغري }} . الزراية شئٌ والإغراءُ شئٌ آخر كما نعلم .

2ـ عَمْرُ الغواني ، لقد بيّنَ من كَثَبٍ

هضيمةً في مُحبٍّ غيرِ محبوبِ



أنتَ الحبيبُ ولكني أعوذُ بهِ

مِنْ أكونَ مُحبّاً غيرَ محبوبِ



نجد هنا شبهاً قوياً لا سيّما في واقع أنَّ الشاعرين واقعان تحت وضعية فيها ظلم وتعسف من قِبلِ الغواني في حالة البحتري ومن قبل كافور الإخشيدي في حالة المتنبي . حب مظلوم هضيم هناك وحب مثله هنا والحب هو الحب . ثم {{ في مُحبِّ غير محبوب }} و {{ محباً غيرَ محبوبِ }} !! هل قرأ المتنبي قصيدة البحتري ؟ كان المتنبي ينفي دوماً أنه يعرف شاعراً بإسم البحتري ويتعالى عليه بالقول [[ ومَنْ هو هذا البحتري ]] راداً على مَن يتهمه بالسرقة منه .



3ـ إذا مددنَ إلى إعراضهِ سبباً

وفَينَ من كُرههِ الشبّانَ بالشيبِ



فما الحداثةُ من حِلمٍ بمانعةِ

قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشيبِ

لا من وجهٍ للشبه بين هذين البيتين في المعنى والأهداف سوى ذكر { الشبّان والشيب } وهو مجرد ذِكرٍ دون تبعات وذيول . ثم إنَّ شبّان وشيب البحتري غير شبّان وشيب المتنبي من حيث التوظيف العام . هناك قال البحتري إنَّ الغانيات اللواتي عذبّنه وصددنَ عنه يفضلنَ عليه ـ من كرههنَّ له ـ رجالاً أكبر منه سنّاً ، هو شابٌّ والآخرون شيب . أما غرض المتنبي من { الشبان والشيب } في بيته فالأمر مختلفٌ جذرياً . { قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشيبِ } .



4ـ يَحنونَهُ من أعاليهِ على أَوَدٍ

حنوَ الثِقافِ جرى فوقَ الأنابيبِ



لما رأينَ صروفَ الدهرِ تغدرُ بي

وفينَ لي ووفتْ صُمُّ الأنابيبِ



في بيت البحتري صورة معبّرةٌ تقولُ إنَّ الشاعر واقعٌ تحت تأثير ألاعيب الغواني ، حيث أطلق عليهنَّ في البيت السابق صفة [ المها ] ، حتى أنهنَّ أخضعنه فانحنت قامته والتوت كما تنحني الرماح تحت تأثير الآلة التي تُستخدم لتكييفها إستقامةً أو إنحناءً حسب طلب الفارس ومقتضيات المتوقع من المعارك . أناخ واستخذى لحبيباته وحارقات كبده . أما المتنبي فشأن بيته بالمرّةِ شأنٌ آخر . تكلم في هذا البيت لا عن الغواني ولا عن سواهنَّ من بناتِ جنسهنَّ إنما ، عن الخيول التي حملته إلى ممدوحه { لما رأين } ثم { وفينَ لي } وأضاف إلى وفاء خيله وفاء رماحه له { الأنابيب } . الخيول هي وسائط حمله ونقله إلى ممدوحه والرماح هي وسائل الدفاع عن نفسه ضد الخصوم والأعداء وكانوا كثرةً للمتنبي كما يعرفُ الجميع .



5ـ أمْ هل مع الحبِّ حِلمٌ لا تُسفههُ

صبابةٌ أو عزاءٌ غيرُ مغلوبِ



إذا غزتهُ أعاديهِ بمسالةٍ

فقد غزتهُ بجيشٍ غير مغلوبِ

ما زال البحتري غارقاً حتى أُذنيه في الحبِّ ومشاكلِ مَنْ يُحِبُ . إنه محب من طَرْزٍ أو طِرازِ غريب بحيث لا حِلمُهُ ينفعُ ولا من عزاءٍ يشفعُ . إنه مستسلمٌ كليّةً لقدره في الحب كما يستسلمُ جنديٌّ جريحٌ سقط في أرض المعركة . لا علاقة لبيت المتنبي بالحب ، إنه مُكرَّسٌ لمديح كافور الإخشيدي . لقد بالغ في هذا المدح فكتب بيتاً شعرياً مُعقّدَ التركيب مصنوعَ الهدف فيه الكثير من الإفتعال والمبالغات التي ترفضها الذائقة الشعرية والسليقة البَدَهية . قال : إذا زارته أعاديه تطلب منه رِفداً أو رزقاً أو معونةً فلسوف يستجيب لما طلبتْ . وإنَّ وِفادتهم عليه كأنها غزوةُ جيشٍ لا يُغلب . مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي التي يصورّها ويشكّلها بالكلام المختار الذي يُحسن المتنبي فنَّ اللعب به .

6ـ قضيتُ من طلبي للغانياتِ وقدْ

شأونني حاجةً في نفسِ يعقوبِ



كأنَّ كلَّ سؤالٍ في مسامعهِ

قميصُ يوسفَ في أجفانِ يعقوبِ

مرةً أخرى نرى الفرقَ كبيراً واضحاً فيما رام البحتري من توظيفه لإسم يعقوب ، الذي كانت في نفسه حاجة كما جاءَ ذِكرُ ذلك في القرآن [[ ولمّا دخلوا من حيثُ أمرَهمْ أبوهمْ ما كان يُغني عنهم من اللهِ مِن شيءٍ إلاّ حاجةً في نفسِ يعقوبَ قضاها وإنه لذو عِلمٍ لِما علّمناهُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون / سورة يوسف ،الآية 68 ]] . الفرقُ كبيرٌ بين هذا التوظيف وتوظيف المتنبي لإسم يعقوبَ وقصته مع قميص ولده المفترى والمغضوبِ عليه من قِبلِ إخوته غير الأشّقاء معروفة ومُفصّلة في القرآن [[ إذهبوا بقميصيَ هذا فألقوهُ على وجهِ أبي يأتِ بصيراً واتوني بأهلكمْ أجمعين / سورة يوسف ، الآية 93 ]] . أراد المتنبي القولَ إنَّ مطالب محتاجيه تُفرحُ بل وتُشفي كافورَ الإخشيدي كما أشفى قميصُ يوسفَ عمى عيني أبيه يعقوب من شدّة الحزن وربما مداومة البكاء أسفاً على فقد ولده الأثير بدعوى إفتراس الذئبِ له في البريّة [[ وتولَى عنهمْ وقال يا أسفي على يوسفَ وابيضّتْ عيناهُ من الحُزنِ فهو كظيم / سورة يوسف ، الآية 84 ]] . رجع كلا الشاعرين لما ورد في القرآن من قصص في سورة يوسف ولكنْ لتوظيف ما ورد لأغراضٍ متباينةٍ شتّى . فهل في هذا ثمّة من سرقةٍ أو مجاراة أو وقوع المتنبي تحت تأثير البحتري ؟ كلاّ ، بالطبع كلاّ ثم كلاّ ثمَّ كلاّ حتى مطلع الفجرِ .



7ـ لم أرَ كالنُفّرِ الأغفالِ سائمةً

من الحَبلّقِ لم تُحفظْ من الذيبِ



كم زورةٍ لكَ في الأعرابِ خافيةٍ

أدهى وقد رقدوا من زورةِ الذيبِ



الحَبلّق : (( غنم صغار لا تكبر )) ... حاشية في أسفل الصفحة . وهي لفظة ثقيلة جداً بل وكريهة خاصةً وقد عنى البحتري بها الغانيات اللواتي أعرضن عنه وعذّبنه ولوّعنه فكيف شبههنَّ بالغنم ؟ على أية حال ، غانيات البحتري تركهن أهلوهنَّ بدون حرس وحماية ، الأمرُ الذي أثار دهشته وإستغرابه جزعاً عليهن . الطريف هو مجيء هذا البيت في هذه القصيدة مباشرةً بعد البيت الذي ذكر فيه إسم يعقوب ... ومحنة هذا الرجل مع الذئب معروفة وقد بينتها قبل قليل . أما ذيبُ أبي الطيّب فإنه ذئبٌ آخر جاء به لغرض التوصيف والتشبيه لا أكثر . الذئب داهيةٌ في زياراته للقرى والأرياف ليلاً يتصيّد ما قد يُلاقي من غنم وسواها وهو يعرف أنَّ بيوت القرويين [ الأعراب ] لا تخلوا من بهيمة أو سائمةٍ من قبيل الماعيز والغنم وغير ذلك . فزيارة المتنبي لديار [ أكواخ طين أو خيام ] حبيبته ليلاً تحاكي أو تُضاهي زيارة الذئب لمثل هذه الديار أو الأدؤر وإنْ إختلفت الأغراضُ والغايات . يزور المتنبي خلسةً وتلصصاً ليمارس الحب والهوى مع محبوبته بينما لا يزورُ الذئبُ حبيبةً ولا يزورُ ليطارحَ الهوى ولكنْ ليسدَّ جوع أحشائه . في المتنبي جوعٌ ولكن للحب وربما لممارسةِ الجنس ، وفي الذئبِ جوعٌ ولكنه جوعٌ حقيقيٌّ ليس مجازياً للحم حيوان أثيرٍ لديه من الضأن . جوع في شاعر وجوع في حيوان مفترس . المهم ، الذئبُ خطِرٌ سواء في التهديد المحتمل أو في واقع الهجوم الليلي المباغت بهدف الإفتراس لإدامة ومواصلة الحياة .

8ـ أغشى الخطوبَ فإمّا جئنَ مأربتي

فيما أُسيَّرُ ، أو أحكمنَ تأديبي



ترعرعَ الملكُ الأستاذُ مُكتَهِلاً

قبلَ اكتهالٍ أديباً قبلَ تأديبِ



قصد البحتري في بيته الشعري هذا تأديب نفسه [ تأديبي ] . أما المتنبي فكان قد قصد أدب وتأديب ممدوحه الإخشيدي [ ترعرعَ الملكُ ... قبلَ تأديبِ ] . الفرق شديد الوضوح فلا من وجه للشبه ولا من مكان للظُنّة وسوء الفهم والقصد .



9ـ إنْ تلتمِسْ تُمرِ أخلافَ الأمورِ وإنْ

تلبثْ مع الدهرِ تسمعْ بالأعاجيبِ



في جسمِ أروعَ صافي العقلِ تُضحكهُ

خلائقُ الناسِ إضحاكَ الأعاجيبِ



بعد الغزل والشكوى والنسيب والتشبيب إلتفتَ البحتريُّ إلى نفسه في مناجاة يشكو فيها دهره ويتفلسف وكيف لا تستقيم أمور بعض الرجال مع زمنهم إلا بالمجاملة والصبر والمداراة [ تُمرِ أخلافَ الأمور ] ... وخلاف ذلك فليس أمامك إلا العجائب فتوقعها ثم تقبّلها . أعاجيب المتنبي لا تختلف جوهرياً عن أعاجيب صاحبه البحتري فالأعاجيب هي الأعاجيب في كل زمان ومكان كما أنَّ المُضحكاتِ تبقى هي المُضحكات مهما تبدلت الأزمان ومهما تحولت الظروف . لقد جامل المتنبي ونافق وأسرف في كيل المدائح للإخشيدي فنعته بصافي العقل الذي تُضحكه أخلاق الناس المتدنية المتبدلة والمبتذلة لكأنها في تحولاتها من الأعاجيب . لماذا يضعُ المتنبي عبداً أسودَ << مِشفَرُهُ نصفُهُ >> (( كما وصفه لاحقاً في أحد أبياته الشعرية في ذمّه )) ... لماذا يضعه فوق باقي الرعية في مصر يومذاك فهو الرائع والصافي العقل وباقي الناس خلائق سيئة متبدّلة مُبتذلة، أليس الناسُ على دين ملوكهم يكونون كيفما كانوا ؟



10ـ وأربدُ القَطرِ يلقاكَ السرابُ به

بعدَ الترَبُّدِ مبيّضِ الجلابيبِ



مَنْ الجآذرُ في زيِّ الأعاريبِ

حمرُ الحِلى والمطايا والجلابيبِ

ورود صيغة الجمع ( جلابيب / جمع جلباب ) في كلا البيتين لا تعني أنَّ المتنبي جارى أو تأثر أو أخذ من سابقه الشاعر البحتري . فالبيتان مختلفان جملةً وتفصيلاً سواء من حيث المعاني والهدف الخاص من البيت ثم الخلاف العميق البيّن في صورتي البيتين البليغتين : معروفُ عن البحتري شغفه بالطبيعة وقدرته المتميزة على وصف ظواهرها المنوّعة وتقلباتها الهيّنة منها والهوجاء . وهو بهذا كان قد سبق بل وتفوّقَ على الكثيرين من شعراء زمانه وما تلا زمانه بقرنٍ من الزمان . أردتُ أنْ أقولَ أنَّ البحتري كان في بيته الشعري هذا منصرفاً للطبيعة من سحاب أسود ومطر وسراب أبيض ولكنْ من باب التورية والمجاز إذْ أنَّ مُراده من تفصيلات البيت أنَّ أمانيه ورجاءه في الناس هي أمانٍ خُلّبٌ فارغةٌ تماماً كالسحاب الثقيل الذي يوحي لرائيه بنزولِ مطرٍ غزيرٍ ولكنْ لا يأتي بعد هذا المشهد الطبيعي الواعد كثيراً إلا السراب الأبيض ! لا من أمنياتٍ تتحقق ولا من مطرٍ يُشفي ويُطفئ غليلاً أو يُروي أرضاً جدباء ! طابق البحتري بنجاح بين لون السحاب الأسود [ أربد القْطر ] ولون السراب الأبيض تطابقَ تناقضٍ بالطبع كما يقول نقّادُ الشعر . لقد سخر البحتري في هذا البيت سخريةً شديدة المرارة فالرجاء يخيبُ متحولاً إلى مجرّدِ سرابٍ في بريّةٍ خلاء متجلببٍ بعباءة بيضاء لا سوادَ غيمة مطرٍ فيها ولا من أملٍ .

أما المتنبي فكان شأنه في بيته غير شؤون البحتري على وجه الإطلاق . كان المتنبي مشغول بالتغزل بصبيات بدويات رآهنّ فوق ظهور جمالٍ حُمر اللون فرسم لوحةً خاصة لما قد رأى طابعها العام وخلفيتها كما يقولُ الرسّامون وفضاؤها من لون واحد هو اللون الأحمر . النوقُ حمرٌ وزينة الصبيات حمراء اللون ثمَّ أنَّ ما أرتدين من ملابس [ جلابيب ] هي الأخرى حمراء اللون . صورة تستفزُّ القارئ الهادئ الطبع ، فاللون الأحمر يهيّجُ الأعصاب ويذكّر القارئ بجولات مصارعة الثيران في إسبانيا . بل وزاد المتنبي وبالغ في دموية المشهد والصورة البليغة والبالغة التأثير فجعل ، في بيت لاحق ، من يتجاسر بالدنو من هوادج الصبيات (( بين مطعونٍ ومضروبِ )) ولا طعنة رمحٍ بالطبع ولا ضربة سيفٍ صارمٍ بدون مسيل دماء . دم دم دم ... هل كنتَ يا متنبيُّ دموياً حقاً إلى هذا الحد ؟ جلابيبُ المتنبي حمرٌ حقيقةً بينما جلابيب البحتري بيضٌ من باب المجاز والتشبيه والسخرية فشتّانَ بين القصد من اللفظتين .

11ـ مثلَ القطا الكُدرِ إلاّ أنْ يعودَ بها

لَطخٌ من الليلِ سودٌ كالغرابيبِ



بلى ، يروعُ بذي جيشٍ يُجدِّلُهُ

ذا مثلهِ في أحمِّ النقعِ غربيبِ



ما زال البحتري مع الطبيعة يصولُ ويجولُ ما شاءت له الصولات والتجوالات . وما زال يلفُ ويدورُ حول المطر وملحقاته وأسبابه وأوصافه ثمَّ خلط الطبيعة بما فيها من حيوان والحيوان كما نعلم هو من نتاج الطبيعة نفسها فلا من مجالٍ أمامه للفصل بين الأم ووليدها . إنتقل من السحاب الأسود الثقيل والسراب الأبيض في البيت السابق إلى الريح ومن الريح ثانيةً إلى السراب [ الآل ] الذي لا تمخرُ عُبابه إلا الجمال الضاربة في مختلف مناحي الصحارى . الآلُ ماءٌ سفائنه الجمالُ . لقد شبّهَ البحتريُّ لُججَ السراب كطائر القطا ، جمع قطاة ، ولكنها ملطّخة باللون الأسود الثقيل [ غرابيب ] . (( غرابيب سود )) تعبير ورد حرفياً في القرآن .

أما اللون الأسود الحالك في بيت المتنبي فشأنه شأنٌ آخرُ لا علاقة له بالطبيعة من مطر وسراب وطيور . إنه ما زال يلفُّ ويدور ولكن حول ممدوحه كافور الإخشيدي مادحاً متملقاً واهباً إياه ما لا يستحق من سمات وسجايا ومكرُمات . إنه في هذا البيت يرسم صورةً جدَّ بليغة في كيف يُلاقي الإخشيدي جيشَ عدوّه اللجب بطلاً مغواراً يقود جيشاً لجباً يبدو حالك السواد بما عليه من الحديد الواقي من الطعنات . جاء سوادُ البحتري جمعاً ( غرابيب ) ، أما سواد المتنبي فلقد جاء بصيغة المفرد ( غربيب ) تبعاً لمجرى تفصيلات كلا البيتين . سواد البحتري لطائر القطا وسواد المتنبي لحديد جيش كافور . هناك طيرٌ وهنا بشرٌ رغم أنَّ السوادَ يبقى سواداً .



12ـ إلى أبي جعفرٍ خاضت ركائبنا

خِطارَ كلِّ مَهولِ الخرقِ مرهوبِ



أضرتْ شَجاعتهُ أقصى كتائبهِ

على الحِمامِ فما موتٌ بمرهوبِ



نعم ، لا من ريبٍ ، هنا تطابقٌ بين معنى ( مرهوب ) في كلا بيتي الشاعرين ولكنه تطابق غير مقصود بتاتاً . في بيت البحتري إقدامٌ وجرأةٌ في جِماله ( ركائبه ) حين ترتضي فتتحدى مخاطر وأهوال الطرق والمفازات المؤدية إلى مكان إقامة ممدوحه . ليس في بيت المتنبي ذكرٌ لوسائط نقل ( ركائب أي مركوبات ) ولا ذكرٌ لطرق وبيدٍ ولا حركة تستهدفُ بلوغ ديار الممدوح . إنما فيه تعظيم لشجاعة كافور الإخشيدي التي تُغري جنده على الإقدام في سوح الوغى وتقبّل الموتِ الذي لا يخشاه الجُندُ . هناك نفيٌ للرهبةِ من الطُرُق المفضية للممدوح وهنا نفيٌ للرهبةِ من الموت . هناك حركةٌ وفعلُ حركةٍ ووسائطُ نقلٍ لا وجودَ لها في بيت المتنبي . غير أنهما كلاهما نفيا الرهبةَ سواءً أمام طريق تكتنفه مخاطرُ جمّةٌ أو أمامَ موتٍ في ساحةِ حربٍ . هناك حيوانات ، جمالٌ بهماءُ لا تخشى خطراً من طريقٍ أو سبيل ، أي أنها في مواجهة الطبيعة وخطر الطبيعة . حيوانٌ ضدَّ طبيعةٍ قاسيةٍ . أمّا هنا ، في بيت المتنبي ، فبشرٌ لا يهابُ الموتَ في قتاله ضد بشرٍ مثله لا ضدَّ الطبيعة غير الناطقة . بشرٌ ضدَّ بشر !!



13ـ مُحتَضرِ البابِ إمّا آذنِ النقرى

أو فائتٍ لعيونِ الوفدِ محجوبِ



حتى وصلتُ إلى نفسٍ مُحجّبةٍ

تلقى النفوسَ بفضلٍ غير محجوبِ

هنا إلتقى الشاعران جميعاً في معنى الحجاب (( محجوبِ )) . فممدوح البحتري لا يراهُ من يفدُ إليه لشدة الزحام على بابه منشغلاً بدعوة الناس على موائدَ للطعامِ خاصةٍ { النَقَرى } !! لا أرى في هذا مدحاً لممدوح البحتري . كرامُ العرب إنما تفخرُ بإقامةِ دعواتٍ للطعامِ عامةٍ تسميها { الجَفَلى } وقد قال شاعرهم :

نحنُ في مشتاةِ ندعو الجَفلى

لا ترى الآدِبَ فينا ينتقرْ

أي أننا نقيمُ موائدَ طعامٍ عامّةً رغم أننا في موسم شتاء حيث تقلُّ الغِلّةُ ويجف الزرعُ والضرعُ وتمحلُ مخازنُ البيوتِ .

ملاحظة : بيت البحتري هذا مُعقّد فيه إلتواءٌ وإلتباسٌ لذا أحسبُ أنّ من العسير فهمه على ظاهر حاله ومن هنا تأتي صعوبةُ التفسير الدقيق له .

أما المتنبي فقد إنتهجَ ذات السبيل في دسّه السُمَّ بالعسل ! لقد صوّرَ الإخشيدي في هذا البيت رجلاً غامضاً عسيراً على الفهم ( نفسٌ مُحجّبةٌ ) لكنَّ أفضاله لا تعرفُ الحجاب ، يده مبسوطةٌ كَرَماً . كيف جمع المتنبي النقيضين : النفس المحجّبة القابعة خلف ستار والفضل العميم المفتوح المكشوف ؟ كيف يكون المُعقّدُ الغامضُ المتسترُ كريمَ اليد سمحَ العطاء ؟ إنه يسخرُ ، كعادته ، من كافور حتى وهو في معرض مدحه .

14ـ أغرَّ يملكُ آفاقَ البلادِ فمن

مؤخَّرٍ لجدا يومٍ وموهوبِ



إلى الذي تَهَبُ الدولاتِ راحتُهُ

ولا يَمَنُّ على آثارِ موهوبِ

مديحٌ ، مديحٌ صريحٌ مكشوفٌ في كلا البيتين . الممدوحان يهبان بسخاء ، الأول لا وقتَ كافياً لديه لكي يُعطي لسائليه ولا سعة ما يملك تسمح له أنْ يهبَ على الفور . لذا فهو يُعطي اليوم ويؤجّلُ بقية السائلين ليوم غدٍ . إنه محصورٌ بين ضيق الوقت من جهة وسعة ما يملك من الجهة الأخرى . أما المتنبي فقد بالغ أكثرَ في مديح إخشيدِ مصرٍ . ذاك يمنح مالاً لكنَّ هذا يَهبُ دُوَلاً لا مالاً ولا إقطاعاً . ثم إنه يمنح ويتكرمُ ولا يذكرُ ما وهبَ . كلاهما يهبُ بسخاء وكلاهما إستعمل إسم المفعول {{ موهوب }} . ذاك يهب على قدر ما يسمح له به زمانه وسعة ممتلكاته . أما هذا فإنه يهبُ ولا يُبالي ولا يلتفتُ أو يذكرُ ما قد وهبَ . واهبان إثنان وموهوبون لا عدَّ لهم .



15ـ رضِيتُ إذْ أنا من معروفهِ غَمِرٌ

وازددتُ عنهُ رِضىً من بعدِ تجريبِ



ليتَ الحوادثَ باعتني الذي أخذتْ

منّي بحِلمي الذي أعطتْ وتجريبي

ما زال البحتري سادراً في جولات مديحه لأحمد بن محمد الطائي ( مَنْ هو ؟ ) معبّراً عن سروره ورضاه عنه بما قدّم له من أُعطيات ومال ورضاه هذا غيرُ ثابتٍ بل وإنه متحرّكٌ يكبرُ ويتسعُ كلما جرّبه أو إمتحنه واختبره فتزدادُ سِمنةُ الشاعر بعد كل إختبار يقوم به على ممدوحه . الرضى والسمنة في إطرّاد وتواصل وإستمرار . أما المتنبي فإنه يخاطب الحوادث عاتباً راجياً أنْ تٌعيدَ له ما أخذت منه . وما أخذت منه ؟ العمر ، الصحة ، الشَعَر ، أحبابه ، أو سيف الدولة الحمداني الذي تركه ليمدحَ عبداً أسودَ يحكمُ بعض بلاد المسلمين ؟ لقد قال فيه في مقارنةٍ مع الحمداني وقد هرب ليلاً من مصرَ :

وذاكَ أنَّ الفحولَ البيضَ عاجزةٌ

عن الجميلِ فكيفَ الخصيةُ السودُ ؟

إنه يُعلنُ عن كامل إستعداده للتنازل عن حِلمهِ وما تراكم لديه من تجارب حياتيه في مقابل أنْ يستعيدَ ما فقدَ وربما عودته لحلب وسيف الدولة . تجارب البحتري تجلبُ له أموالَ الممدوحين ، أما تجارب المتنبي فإنها معروضة للتبادل والمقايضة وليس للمديح ولا لإستجداء هبات الأثرياء وذوي النعمة السابغة . أيها الزمانُ الخؤون القُلّبُ : هاك حلمي وجميع تجاربي مقابل أنْ تُعيدَ لي ما سبق وأنْ أخذتَ . صفقة تجارية من غير نقود وذهب وفضة .



16ـ خلائقٌ كسواري المُزنِ مُوفيةٌ

على البلادِ بتصبيحٍ وتأويبِ



فالحمدُ قبلُ لهُ والحمدُ بعدُ لها

وللقنا ولإدلاجي وتأويبي

كلاهما ما زال يمدحُ مبالغاً كاذباً مُدجّلاً واللعنةُ على الحاجة التي تُلجئُ كبار شعراء زمانهم إلى أنْ يقفوا مادحين مُرائين من أجل نوال هبات المتمكنين من رجالات عصرهم . فأخلاقُ الطائي ، ممدوح البحتري ، تماماً كسحِّ المطر الذي لا ينقطعُ في الصباح والمساء . أما تأويب المتنبي فإنه من صنف آخر وطبيعة أخرى وإنْ كان ما زال يدور في آفاق مديح الإخشيدي . إنه يشكره لا وحده ولكنْ ، يحمدُ ويشكر الرماحَ ومسيرات الليالي والعودة منها " الأوبة " . تأويب البحتري غير تأويب المتنبي وإنْ تشابه المصدران لفظاً وأحرفاً .


17ـ في كل أرضٍ وقومٍ من سحائبهِ

أُسكوبُ عارفةٍ من بعدِ أُسكوبِ


لا تَجزني بضنىٍ بي بعدها بقرٌ

تَجزي دموعيَ مسكوباً بمسكوبِ

سكائبُ البحتري من مطر السماء ، أما سكائبُ المتنبي فهي دموعه لا مطرُ السماء . الدمعُ ماءٌ مثل المطر فما يمنعه من أنْ ينسكبِ كما أمطار السحاب ؟ فعلُ الإنسكابِ واردٌ في كلا البيتين وليس من شيءٍ غيره .

18 ـ كمْ بثَّ في حاضرِ النهرينِ من نَفَلٍ

مُلقىً على حاضرِ النهرينِ مصبوبِ



وربّما وخدتْ أيدي المطيِّ بها

على نجيعٍ من الفرسانِ مصبوبِ

بيت البحتري هذا متعلّقٌ بالبيت الذي سبقه الذي تكلّمَ فيه عن السحائبِ والسكائبِ. لذا فالمطرُ هو المصبوب هنا أو الصبيبُ . أما مصبوب بيت المتنبي فهو الدمُ ، دماءُ من يتجرأ على الإقترابِ من هوادج الصبيات البدويات { الجآذر } . مياه أمطار البحتري تصبُّ في الأنهار ، أما دماء الفضوليين في بيت المتنبي فهي فراشٌ تتهادى عليه خَفافُ جِمالِ حبيبات الشاعر ، مهادٌ من دمٍ على الأرض وليس ماءُ مطرٍ يسيحُ ليصبَّ في الأنهار . البحتري ، كما رأيناه في العديد من الأبيات والمواقف ، مع الحركة في شعره لا مع الجمود والثبات . ماءُ المطرِ في حركةٍ متصلةٍ بدءاً من كونه بخاراً يتكثّفُ فيغدو ماءً سائلاً ، ثم تساقطه من السحاب إلى الأرض ثم سيلانه حتى يلاقي منخفضاً أو وادياً أو نهراً أو بحراً فيمضي إلى هناك ليواصل حركته التي بدأها في الأعالي .


19ـ ما انفكَّ مُنتضياً سَيفَيْ وغىً وقِرى

على الكواهلِ تَدمى ، والعراقيبِ


ولا برزنَ من الحمّامِ ماثلةً

أوراكهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ


عراقيبُ البحتري في بيته هذا هي بالضبط عراقيب المتنبي في بيته التالي . ولكنَّ الفروقَ هائلةٌ بين معاني البيتين . هناك سيفُ حربٍ وكَرَمُ ضيافة . أما في بيت المتنبي فلا شجاعة حروب ولا من أسلحةٍ ولا دماءٌ تسيلُ على الكواهلِ والعراقيب. إنما هنا نساء مصريات متبرجّات يخرجن من الحمام بأردية ضيّقة بحيث تبرز من خلالها مفاتنهنَّ ولا سيّما الأوراك فضلاً عمّا يبدو للعيان من أجزاء من أقدامهنَّ وتلك أمور ما كان يتقبلها مجتمعُ زمان المتنبي إلا في مصر كما يبدو مما جاء من وصفٍ في هذا البيت . كان المتنبي يقارن بين صبايا بدويات ونساء مصريات وإنه منحازٌ للبدويات لأسباب عرضها مع بعض التفاصيل . قال عنهنَّ مثلاً :

حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ

وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ

أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرَفنَ بها

مضغَ الكلامِ ولا صُبغَ الحواجيبِ

ولا برزنَ من الحمّامِ ماثلةً

أوراكهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ .


الخلاصة //

1ـ لم أجد في تسعة عشر بيتاً تشتركُ في الوزن والقافية من قصيدتين واحدة للبحتري والأخرى للمتنبي ... لم أجد إلا بيتاً واحداً للمتنبي فيه شبه كبير ببيت للبحتري من حيث التوصيف والتشبيه . بيت البحتري هو :

عَمْرُ الغواني ن لقدْ بيّنَ من كَثَبٍ

هضيمةً في محبٍّ غير محبوبِ

وبيت المتنبي موضوع الشٌبُهةِ هو :

أنتَ الحبيبُ ولكني أعوذُ بهِ

من أكونَ مُحبّاً غيرَ محبوبِ

هذا هو وجه الشبه الكبير الوحيد في هاتين القصيدتين {{ محب غير محبوب }} !

2ـ لقد أنجزتُ مهمتي ولا أحسبني وفيتُ بها الوفاء الكبير المتوقع . أنتظر ممن يهمهم هذا الأمر ، أمر ما يُشاع عن سُرَقِ المتنبي من البحتري ، أن يواصلوا جهدي المتواضع بتتبع باقي أبيات القصيدتين موضوعتي بحثي وتقصّي ما فيهما لعلهم أنْ يجدوا مواضعَ شَبَهٍ هنا أو هناك وكشف تفصيلات المتشابهات إنْ وُجدتْ. وإلاّ فلسوف يبقى المتنبي مظلوماً مُتّهَماً بالباطل وهو بريء .

هوامش

1ـ محيي الدين صبحي (( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه )) . الناشر : وزارة الثقافة والإرشاد القومي . دمشق 1978 .

2ـ ديوان البحتري ، المجلّد الأول . الناشر : دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 .

3ـ ديوان المتنبي . الناشر : دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 .

4ـ طه حسين (( من تأريخ الأدب العربي )) الجزء الثالث . الناشر : دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثالثة شباط ، فبراير 1980 . الصفحات 285 ـ 286. تكلم طه حسين عن الطباق في هذا البيت :

أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي

وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بي

وعن المشغوفين بالبديع ... ثم قال بكلماته هو دون تدخل مني أو تغيير<<< وهذا الطِباقُ نفسه قد يُرضيني ، لولا أني أجدُ في القافية إنحداراً ثقيلاً على السمعِ أشد الثقل . فأنتَ بين إثنين : إمّا أنْ تجعلَ قوله " يُغري بي " في مقام الكلمة الواحدة فتنطقُ بها موصولة ولا تشعرُ بما فيها من التفرّق لتستقيمَ لك القافية على نظامها الموسيقي المألوف . وإذن فقد أفسدتَ النُطق وأسأتَ إلى الصوت اللغوي نفسه . وإما أنْ تنطقَ بهذه الجملة على وجهها فتشعرُ بأنَّ لفظها يتألفُ من فعلٍ وحرف وضمير وتُنبرُ بالباء إنْ جاز هذا التعبير. وإذن فقد صحَّ لك النطقُ اللغويُّ ونبتْ عليكَ القافيةُ نبوّاً شنيعاً>>> .

لقد عقّد طه حسين الأمرَ علينا وعلى نفسه وهو لا يستحقُّ كل هذا العناء والإجتهاد الزائد . " يُغري بي " تعبير رائع جداً وناجحٌ جداً جداً لا يحتملُ تخريجات وتفسيرات لغوية وقد جاء تماماً في سياقه الصحيح مكاناً وتوقيتاً (( وأنثني وبياضُ الصبحٍ يُغري بي )) . واضحٌ أنَّ قصدَ طه حسين أن يكونَ (( يُغري بيَ )) بدل بي ساكنةً الأمر الذي يخلُّ بوزن البيت . ثمَّ ، وكما أسلفتُ القولَ ، لِمَ لمْ يعترضْ طه حسين على تركيبٍ لغويٍّ مشابه للبحتري (( يُزري بي )) الشبيه بِ (( يُغري بي )) ؟ حلالٌ هناك وحرامٌ هنا !! .

الاثنين، يونيو 29، 2009

بَائِعَةُ الوَرْدِ

محمد محمد على جنيدى
بَائِعَةُ الوَرْدِ تُصَبِّحُنِي

بِعَبِيرٍ وَوِِرُودِ حِسَانِ

تَمْشِي بِزِحَامٍ تَحْسَبُهَا

خُلِقَتْ مِنْ عُودِ الرَّيْحَانِ

وقَوَامُ الحُسْنِ عُذُوبَتُهُ

يَدْعُوكَ لِذِكْرِ الرَّحْمَنِ

أنْوَارُ الفِتْنَةِ في يَدِهَا

وخُطَاها يُزَلْزِلُ بُنْيَانِي

وصَفَاءُ القَوْلِ إذَا نَطَقَتْ

تَسْتَلْهِمُ رِقَّةَ وِجْدَانِي

والشَّعْرُ كَطَيْرٍ خَفَّاقٍ

قَدْ زَفَّ البَدْرَ بألْحَانِ

وبَرِيقُ العَيْنِ إذَا نَظَرَتْ

قِصَّةُ أشْجَانِ الإنْسَانِ

يا جَمَالاً أنْمَى بِرَوْضَتِهِ

رَيْحَانَةَ كُلِّ الشُّطَّآنِ

يا جِنَاناً تَهْفُو بِكَوْثَرِها

حَوْرَاءُ الخُلْدِ بِتِيجانِ

أهْدَاهَا البَارِي وقَدْ حَضَرَتْ

واخْتَصَرَتْ كُلَّ الأزْمَانِ

فَلَمَسْتُ الوَرْدَ عَلَى يَدِهَا

وشَمَمْتُ عَبِيراً أشْجَانِي

بَاعَتْ لِي الحُبَّ عَلَى سَفَرٍ

ما كان الحُبُّ بِحُسْبَانِي

باللهِ لَبَاكِرِ أسْأَلُهَا

إنْ شَاء اللهُ وَأحْيَانِي

يا خَدَّ الْوَرْدِ وحُمْرَتِهِ

أيُّكُمَا قَدْ بَاعَ الثَّانِي
اختيار من ديواني/ عاشق الزمن الجميل

هل من رومانس في كتاب حين يهبُّ الماء؟

د. عدنان الظاهر
( ديوان شعر للشاعرة المغربية صباح دبي )

الجواب : أجلْ . في هذا الديوان قصيدة واحدة فيها رومانس راقٍ وقورٌ عالي السمت والمستوى يعكس ويحاكي مقام وسمت الشاعرة نفسها ، فالشعرُ مولودُ شاعرهِ وصنيعة خالقهِ ومبدعه و [ والنجلُ بعضُ مَنْ نَجَلهُ ] كما قال المتنبي في إحدى قصائده المعروفة . إنها قصيدةُ " عمر الفراغ " . هناك قصيدة ثانية لا تقلُّ في مستوياتها الفنية والشعرية عن قصيدة عمر الفراغ ، إنها قصيدة " جوهرة الريح " . لا أستطيعُ إعتبارَ هذه القصيدة قصيدة رومانس وحب ووله ، ولا يستطيعُ ذلك غيري من ذوّاقة الشعر ومتتبعيه ومحبيه . إنها تبدو لأول وهلةٍ كأنها قصيدة حب وغرامٍ وهيام لأنها بالفعل متسربلة بنوع خاص من الحب . لم تقلْ الشاعرة مّنْ خاطبت في هذه القصيدة أو لمن كتبتها ، لكني أتكهن وأرجمُ بالغيب وأغامر فأقول إنها تخاطب والدتها فيها . إنها تحب والدتها حباً جمّاً مُضاعفاً سيّما وقد فقدت أباها فغدت والدتها لها أباً وأماً. هذه قراءتي لمضمون هذه القصيدة . فيها حب ، نعم ، ولكن ليس ذاك الحب الذي أقصد وأفتش عنه وأحفرُ وأنقب في المناجم والمغاور وفي كهوف الجبال . حبُّ الشاعرة لوالدتها شيءٌ وحبها لإنسانٍ آخرَ ، رجلٍ ، شيءٌ آخر لا ريبَ .

قصيدةُ " عمر الفراغ "

في قصيدة " عمر الفراغ " حبُّ أنثى شاعرةٍ لرجل لا نعرفُ مّن هو وليس مهماً أنْ نعرف . القصيدةُ في صفحةٍ ونصف الصفحة لكنها جمعت أفضل ما يمكن لأمرأةٍ شاعرةٍ أن تقول في الحب وفيمن تحب . عجيبٌ أمرُ هذه الإنسانة ! ليس في مجمل أشعار ديوانها هذا حزنٌ من النوع الذي يعرفه البشرُ . وليس فيه فَرحٌ طاغٍ ولا أمنياتٌ ولا إسرافٌ في هدر العواطف وكشف المشاعر والأحاسيس الدفينة وما تعاني المرأةُ في داخل صدرها وما يعتملُ في قلبها من لواعج وهموم. إنها متوازنة في كل أمر يخصُّ عواطفها ومشاعرها ومسيطرة عليها تمام السيطرة حتى لكأنها جُبلت من حديد أو صخر أصمَّ من البازلت . ليس من سبيلٍ للوصول إلى مفاتيح قلبها أو حتى الدنو من حدود مملكة ما يختزنُ صدرها من أسرار وما يمتلكُ من خزائن وكنوز . ما قالت السيدة صباح في هذه القصيدة التحفة النادرة ؟ نقرأها كما كتبتها صاحبتها بدون حركات ، لكي تتحمل هي تبعات القراءات الخاطئة .

[[ تماماً كخمر القصيدة

تذوبني في فراغ جميل

وما في يدي من تعاريش صمتي

ألوذُ به للنزولِ على سطح أقمارك الليلكية

الملم من شجرات المعاني غصونا

وأرتقها في غمام الحكاية

وأنسج من قطرات الرحيل بحارا

تسافر فيها مراكب همسي الدفين ...

وأشرب نورك

حتى تدلى الفراغ المعتق فوق < مماليك > روحي

رويدك إن جداول روحك قد غمرتني

تبللت فيها

وأمطرني أفقها القرمزي بجنات نار

وآه ... إلى أين تأخذني عصافير أحلامك الزئبقية

تهدهد ما كان لي من قدود الحروف

ومن عرائش هذا البياض

وما لم يكن من الثبج الملتوي في دوالي الكلام

فينبجس الكون نورا

وتنهمر الروح نورا

وفي لحظة الفيض تطفو كغابات ورد

وتولد من رحم الروح ضوءا

تماماً كمثل القصيدة

ويخضر من خمر عينيك عمر الفراغ ... ]]

ملاحظات على القصيدة :

1ـ أخطأت الشاعرة مرتين في بيت واحد إذْ قالت [[ وأشرب نورك حتى تدلى الفراغ المعتق فوق مماليك روحي ]] . أين أخطأت ؟ أخطأت إذْ جعلت الفعل الماضي " تدلى " كجواب شرط متمم لفعل الحاضر " أشربُ " . الصوابُ أنْ تقول : وأشربُ نوركَ حتى يتدلى الفراغُ المعتّقُ . لكن هنا سيختل نسق الإيقاع العام للقصيدة . كان على الشاعرة أنْ تختارَ فعلاً آخرَ في الزمن الحاضر بدل فعل الزمن الماضي " تدلّى " . الخطأ الثاني وقد تكرر مرتين في الديوان هو الجمع " مماليك " ! قصدت الشاعرةُ أنْ تجمعَ مملكة فجمعتها مماليك بدل الجمع الصحيح " ممالك " . نحن والناسُ جميعاً يعرفون ونعرف مَنْ هم المماليك ومن أين جلبهم الأجداد ولأية أغراض ليحكموا فيما بعد العراقَ ومصرَ لقرون طويلة . قد يقول قائلٌ إنما ذاك لضرورة الشعر ومعه حق ولكن ، إلى متى نظلُ نعلّق تقصيراتنا وعيوبنا على شماعة قديمة مهترئة بالت عليها الثعالبُ ؟ لماذا لا يخرج الأوربيون على قواعد ونواميس وقوانين لغاتهم ؟ هل من أحدٍ يجد لي زلةً لغويةً واحدة أو خطأً في قواعد اللغة أو خروجاً على المعروف من هذه اللغات ؟ هذه كتبهم أمامنا لا تُعدُّ ولا تُحصى نقية خالية من العيوب الشائعة في لغة كتبنا ودواوين شعرائنا . الممالك غير المماليك .

2ـ صباح والحب /

الآن ، ماذا قالت الشاعرة وهي تناجي مَن تحب همساً رصيناُ عالي الجناب كثير الوقار تصدره من مستوى نفسي وعاطفي متين راسخ الطبع والجذور بدون مبالغات ومن غير إستعطافٍ وتبذلٍ وإسترحامٍ . تخاطبُ حبيبها من مستوى يوازيه تماماً لا أعلى ولا أوطأ . لا أعرفُ بالضبط ، ولا غيري يعرفُ ، هل تتكلم الشاعرة عن تجربة تعيشها وظرف حقيقي تعانيه أو أنها تحلمُ متخيلة شكلاً من أشكال الحب أو تتخيلُ حباًّ في الحُلُم ؟ خيالها وحلمها مختلطان ببعضهما إختلاطاً مادياً دنيوياً لا إمتزاجاً وحلولا صوفياً غيبياً ميتافيزيكياً كما يزعم المتصوفون . نعمْ ، تذكرُ السيدةُ صباح الروحَ في أشعارها لكنَّ ذلك لا يعني بالحتم أنها إمرأةٌ روحانية . لا وجود في ديوانها هذا أيُّ ذكر لكلمة { الله } !! فمن أين وكيف يأتيها الروحُ الديني الذي هو (( من أمر ربّي )) حسبما ورد في القرآن والمأثور الديني للمسلمين . كلمة " فراغ " تُزيد من قوة ظني أنَّ الشاعرة ليست واقعة تحت طائلة حب جارف عميق . [[ عمر الفراغ ... تذوبني في فراغ جميل ]] . إنها تعاني من فراغ حقيقي مُقيم تواجهه بشجاعة وثقة وتجعل قارئها يستنتج حِدْساً لا يقيناً أنها إمرأةٌ خالية القلب وأنها ـ ربما ـ تسعى وتجدُّ تصريحاً وتلميحاً للعثورعلى مَن يستحق حبَّها وقلبَها . ما زال الطريق خالياً أمامها فارغاً للأسف .

3ـ الحلول ، حلول الشعر في شاعرته وهذه في ذاك /

إنه حلولٌ حقيقي تتبناه الشاعرةُ وتعتنقه مبدأً بل عقيدةً تذيبُ الحدودَ الفاصلة بين الحياة وفن الشعر فيغدو الشعرُ حياةَ الشاعرة وحياتها شعراً . إنها إمرأةٌ ترهّبت كلاًّ وطواعية فوهبتْ نفسَها لشعرها حتى أنها لم تعدْ تميّزُ بين ما لجسدها ونفسها وما للشعر. هل تزوجت الشعر الفيزيكي كما تزوجت رابحةُ العدوية الشعر الصوفي وكما وهب فريد الأطرش ، مثلاً ، حياته لموسيقاه وفنه الغنائي فعزفَ عن الزواج ؟ جوابي بدون تحفظٍ نعم . إنها راهبة وواهبة نذرت نفسها وحياتها قربانا لعشقها للشعر وقد خلا قلبها من أي أثرٍ لحب بشري دنيوي . هل يئست من الحب أم أنَّ الفصلَ في هذا الأمر سابقٌ لأوانه ؟ لا يأس في الحب فالحبُّ يأتي حتى بعد السبعين . الحب هو الحياة وفيه تتجددُ وتستمرُ الحياة .

هل تدخلتُ كثيراً في خصوصيات السيدة الشاعرة وهل سببتُ لها بعض الإحراجات ؟ جائز ، لكني أعتقد حدَّ الإيمان أنَّ ألكاتبَ الناقدَ محللٌ نفسانيٌّ وكيميائي وطبيبُ قلبٍ وجسدٍ ثم جرّاح وفنيُّ كسور وتجبير الكسور وما أكثر ظلم كسور الحب وعمق معاناة القلب المكسور حبّاً وغراماً !

كيف ومتى حلّت الشاعرة في شعرها وحلَّ فيها هذا ؟ جوابُ السؤال في مفتتح هذه القصيدة ، عمرُ الفراغِ ، وفي ختامها . قالت في بداية القصيدة [[ تماماً كخمرِ القصيدة ، تذوبني في فراغ جميل ]] ثم كانت الخاتمة عَوداً على بدء إذ إلتحمَ الجمعان واشتبك الإصبعان فقالت [[ وفي لحظةِ الفيضِ تطفو كغاباتِ وردٍ ، وتولدُ من رَحِم الروحِ ضوءاً ، تماما كمثل القصيدة ، ويخضرُّ من خمر عينيكَ عمرُ الفراغ ]] . فمولد قصيدة الشاعرة تماماً كعملية ميلاد ضوء ولكن من رحم آخر غير مألوف : الروح . روحُها رحمُ شعرها . هناك ينمو ويتغذى ويمكث تسعةَ أشهرٍ أو أقل حتى يحينَ أوانُ ولادة النور ضياءً كأشعة النجم الذي قاد المجوسَ إلى بيت لحم حيث جاءَ المسيحُ عيسى الدنيا بمعجزة كما تقول كتب الأديان . خُماسية مركّبة بشكل فني محكم جمعت صباحُ فيها ما بين الحبيب والروح والضوء والرحم والشعر . جمعت بقوة سحرٍ غامضةٍ وكثّفت في ثلاثة أبيات قصيرة ما لا يمكن جمعه وما لا يمكن تكثيفه . هل هي مقدرة فنية شعرية أم أنها قدرةٌ خارقةٌ فوق ـ شعرية مصدرها روحُ ـ رَحِمُ المرأة الشاعرةُ اللذان يلدان وينجبان ضوءاً وشعراً ؟ هذه هي شاعرة الطبيعة الكونية الحالّة في الطبيعة بدل الحلول في إله لا وجودَ له ! حبيبها [ يولد من رحم الروح ضوءاً ] فمتى ينوّرُ هذا الضوءُ ظلامَ وحدتها ويملأ فراغ قلبها من الحب ؟

[ ويخضّرُ من خمرِ عينيكَ عمرُ الفراغ ] .

إنها تسكر من خمرة عيني حبيبها . عيناه تُسكرانها . سيمتلئُ فراغ قلبها حباً وسكراً . سيختفي هذا الفراغ إذ ستملأه حقول كروم العنب وخمور العنب ومع العنب يأتي السكرُ بالحب ويغدو المحب ثَمِلاً نشوانَ بحضور مَنْ يهوى ويعشق. هل هذا من التصوف المعروف ؟ فيه شئٌ من تصوّف علماء المتصوفة . فهم كذلك يسكرون بحب خالقهم في بُعدهم وقربهم منه . أما حبُّ وسكرُ صاحبتنا فهما مختلفان جملةً وتفصيلاً . حبها وسكرها مشتبكان في معادلة معقدة صعبة من الدرجة الخامسة لا يفهمها إلا كبارُ علماءِ الرياضيات والفيزياء وعلم الفَلَك ، والمنجّمون والراسخون في علم الغيب .

4ـ تشكيلات شعرية رائعة /

[[ وما في يدي من تعاريش صمتي

ألوذ به للنزول على سطح أقمارك الليلكية

...

وأنسجُ من قطرات الرحيل بحارا

تسافر فيها مراكب همسي الدفين

...

رويدك إن جداول روحك قد غمرتني

تبللت فيها

وأمطرني أفقها القرمزي بجنات نار ]] .

هذه نماذج فائقة الجودة ، فيها كل عناصر ومستلزمات الشعر المتفوق والمتفرد إبداعاً وسحراً . إنها لم تقلْ دموع الرحيل أو الفراق ، إنما قالت قطرات الرحيل التي لكثرتها أضحت بحاراً تمخر عبابها مراكبُ حبها المكبوت غير المُعلن عنه. إنها تكتمه أو تخشى البوح به أو أنَّ كبرياءها لا تسمح لها بالكشف والتصريح . إنها تدفن حبها في أعماق سحيقة وتتحمل تبعات هذا الكبت والدفن ولا تبوح وتُعلن. ما أعلى رأسكِ وشأنكِ ومقامكِ إيتها السيدةُ الشاعرة ؟ من أية خامةٍ جبلتك الحياة ؟ [[ رويدكَ إنَّ جداولَ روحك قد غمرتني ]] ما أبلغ مكان [[ رويدك ]] هنا وما أحلى وقعها على أذن ونفس القارئ . تقول للحبيب المُفترض : مهلاً ، إنك تغرقني بحبك . ها قد وصلتني تباشيره وأوائلُ أذاه . بللتني جداولُ حبك وما بعد هذا البلل إلا الغرق . لا يجري ماءٌ في هذه الجداول حسبُ ، إنما فيه نارٌ فإنْ لم أغرقْ إحترقت فيها والنتيجة واحدةٌ : الموت غرقاً أو الموت بالنار إشتعالاً . نار حبيبها جنات فلتحترق بهذا الحب فالموت في الحب شهادة ونار حرائق الدنيا إنما تستحيلُ إلى جنات في آخر المطاف . ( ناركْ ولا جنّة هلي ) ... قول مأثور معروف في العراق . نار الحبيب جنة وبردٌ وسلامٌ لمن تحب .

ما زال الكثير الذي يمكن أن يُقالَ بشأن هذه القصيدة الفريدة غير أني رأيتُ أنْ أنتقلَ لقراءة القصيدة الأخرى الشقيقة ـ التوأم لها ، أعني قصيدة " جوهرة

الريح ".

قصيدة " جوهرة الريح "

1ـ إشكالية في القصيدة :

أقرأ هذه القصيدة وأعيد قراءتها فيغلبُ على ظني أن الشاعرة صباح قد كتبتها والقصيدة السابقة في زمن واحد أو في زمنين متقاربين جداً وفي حالتين نفسيتين متشابهتين . فالأجواء الرومانسية هي هي تقريباً وألفاظ مناجاة ومخاطبة الحبيب كثيرة الشبه ومتساوية البث الحراري بل ومتكافئة التأثير في وجدان القارئ وذبذبات تلقيه وإنفعاله بصدق وجمال ما يقرأ . علماً أني أظن أحياناً أنَّ الشاعرة صباح كتبت هذه القصيدة لوالدتها فقد ذكرت أباها الفقيد فغدت الوالدة لها أباً وأمّاً. الطريف أو الغريب أنها لو قالتها لحبيب أو في حبيب لما شعرنا بأي فارق . يبقى التأثير القوي فينا وتبقى أجواءُ وتفصيلات الرومانس هي هي فهل كتبتها أصلاً وإبتداءً في رجل تهواه ثم رأت أن تحولها بحركة إعراب صغيرة متواضعة من مخاطبة رجل إلى مخاطبة إمرأة ؟ أعني قولها في مطلع القصيدة [[ من جوهرة الريحِ تأتي ِأسواركِ ]] . هنا تحدّدَ الخطابُ وتوضّحَ : إنه كلامٌ موجّهٌ لإمرأة وليس لرجلٍ والفضلُ وحدُه يعود لهده الكسرة المتوارية والمتواضعة المُلحقة بحرف الكاف . لو وضعت هذه الكسرة فوق حرف الكاف لتغير الأمر ولصعد رجلٌ على مسرح القصيدة حالّا محلَ إمرأة ولغدا إسمها " فتحة " بدل " كسرة ". هكذا تتبدل بيسرٍ بعض شؤوننا في الحياة والشعر بعضٌ من حياتنا .

ملاحظة قوية ومعقولة : إذا كان ورود هذه الكسرة خطأ وكان المقصود أنَّ تكون فتحة فإنَّ القصيدة بكاملها ستكونُ موجهةٌ لوالد الشاعرة المتوفى وليس لوالدتها التي لم تزلْ على قيد الحياة . أو أنها مكتوبة لحبيب . كيف نفكُّ هذا الإشكال ؟ الجواب لدى الشاعرة .

2ـ صباح وصيغة الجمع

ما تفسير إغراق هذه القصيدة بصيغة جموع الكثرة وبعض جموع القلّة ؟ أحصيت ما فيها من هذه الجموع فوجدتها 22 جمعاً بالتمام ! علماً أنَّ القصيدة ليست طويلة إذ شغلت صفحتين ونصف الصفحة من الكتاب .

3ـ صباح والأخطل الصغير بشارة الخوري

يذكّرني قولُ الشاعرة :

[[ آهٍ ... أإليكَ أحنُّ وأنتَ النارُ بأوردتي

بل أنتَ الماءُ بساقيتي

بل انتَ ثرى جسدي ]]

يذكرني قولها [[ بل أنتَ ثرى جسدي ]] بقول الشاعر بشارة الخوري مخاطباً حبيبته سُلمى في قصيدة " المسلول "

سُلمايَ إنك أنت قاتلتي

وجميلُ جسمكِ مدفني الأبدي

وطويلُ شعركِ صارَ لي كفناً

كفنَ الشباب ذوى وكان ندي

كما قال أحدُ خلفاء بني العباس في بغدادَ يُرثي والده الراحل قولاً مشابهاً لا يحضرني نصه الدقيق فحواه ( ليت جسدي يصلحُ جدثاً لجثمانك ) . لقد إختصرت صباح هذه العبارات وصاغتها بثلاث كلمات مؤثرة بليغة فبلغت ما بلغوا بل وتفوّقت وهذه إحدى فضائل ومزايا الشعر الحديث [[ أنتَ ثرى جسدي ]] .

4ـ صباح وسورة مريم القرآنية

الشاعرة صباح واقعة تحت تأثيرات قصة مريم في القرآن . فقد أشارت إلى جزء بسيط من إحدى آيات سورة مريم الأكثر شُهرةً . أعني [[ وهُزي إليكِ بجذعِ النخلةِ تٌساقط عليك رُطباً جنيا ]] . قالت تخاطب اللغز الذي ما زال يحيرنا [[ في كل مكانٍ أرعاك ... وأهُزّ جذوعَ غيومك في ذاتي ... يتساقط قطرك ... يغمرني ... ويُزيحُ من الليل المنشور ... تعاريش الغربة ]] . يتساقط رُطبٌ إذا هزّت مريمُ جذع النخلة ، أما صباح فإنها ليست كمريمَ جائعة بل ظمأى ، ظمأى لماء يغمرها لذا فإنها تهزُّ أصول الغيوم لا جذوع النخيل فيسّاقط الغيمُ قطراً أو غيثاً يغمرها ويبلل روحها العطشى ثم يُزيح من أمام عينيها ظلمة لياليها ووحشة غربتها وما غربتها إلا غربة روحية سببها غياب حبيب أكان هذا الحبيبُ والداً أو والدةً أو رجلاً من سواد الناس . قطرُ الحبيب نورٌ يكشف الظلمة ويبدد الشعور بالغربة فأي قطر هذا وأي ماء ؟

5ـ تشكيلات شعرية متميزة في هذه القصيدة

[[ عيناك تسافر في عيني { الصواب : عيناك تسافران في عيني ولكن ، يجوز أنْ يحلَّ المفرد محل المثنى أو الجمع حتى في الشعر } .

ورحيلك في ركب الصحو

يتخطفني

ويدثرني ويذكرني ببراءة تلك الخطوات

بأبي

بفقيه الحيِّ

بأردية الأحلام البيضاء

آه ، أإليك أحنُّ وأنت النارُ بأوردتي

بل أنت الماءُ بساقيتي

بل أنت ثرى جسدي ]].

هذا فن شعري رائع وأكثر من رائع . [[ عيناك تسافر في عيني ... أإليك أحنُّ وأنت النار بأوردتي ... بل أنت الماءُ بساقيتي ... بل أنت ثرى جسدي ]] . أقرأ هذه الجمل القصيرة الشديدة التركيز فأحار كيف أفسرها وأحار أيّ تفسير هو التفسير الصائب وهذا أحد الغاز الشعر الحقيقي الناجح . يجعلك في حيرة من أمرك ويجبرك على التفكير وخوض أكثر من بحر وجدول وساقية . عينا الحبيب لا تغادران عينيها حلولا وارتحالا . حنينها إليه نارٌ لا تغادر عروق دمها ولكنْ لنيران الحب المتقدة معادلٌ طبيعي يُطفئ حرائق الحب . النارُ في الأوردة والماءُ في سواقي ومعابر وممرات جسد الشاعرة وروحها المُحبّة . فكيف تنسى وكيف تغادر أطياف الحبيب قلب وذاكرة الشاعرة ؟ كيف تنسى وجسدها مجبولٌ من تراب الحبيب أولا وفي ثراه لحدها ومدفنها آخراً ؟

الأحد، يونيو 28، 2009

أشرعة كأجفانٍ دامعة

سامي العامري

كؤوس
*-*-*-*

أديرُ كؤوسَ الحُبِّ صِدقاً وتفتري
وأعفو وإني في الغرامِ لَعامري !
وأعتادُ جُرعاتِ الظَّماء لأجْلِها
وتعتادُ جُرعاتِ النبيذِ المُعَطَّرِ !
------------------


المنبع
*-*-*

دَعْكَ من المنبعْ
وشراعَكْ فاشرَعْ
أُسْدِلَتِ الأجفانُ
ولمْ يبقَ سوى الهجران ,
سوى أشرعةٍ بَدَلَ
الأعيُنِ تدمعْ !
------------------


الثمن
*-*-*

بغدادُ قد صَعُبَ المزارْ
ولقد نذرتُ إنِ اختفوا عن رافديكِ
لأشرَعَنَّ نوافذي للموج ,
للأصداف مالتْ عن مَدارْ
عالٍ هو الثمنُ الذي أعطيتِ ,
عالٍ كالفنارْ
------------------

حُلمٌ
*-*-*
حيثما سرتُ سارَ كمينْ
......
......
حلمٌ تفاءلتُ في أنْ يهدِّئني
ولكنه عاد مُنعكِساً كالجنينْ !
--------------------

غبطة
*-*-*-*
أحياناً تغمرني الغبطةُ ولَهاً بالمجهولْ
أهو الأوحدُ مِن بين المعقولات المعقولْ ؟
--------------------


تقابُل
*-*-*-*
سَيلُ مشاهدَ من قلب الحربِ
كاسات الخمر المتتابعةُ كسربِ
فكأني هنا
ودمي ...
منفيٌّ في القطبِ !
--------------------


عَبلة
*-*-*

ياعَبلُ ما لقلوبِهم لم تََرحمِ ؟
او تندمِ ؟
ياعَبلُ لو أبصَرتِني لرأيتِني (*)
في الحربِ ألعَنُ مُشعِليها ...
...
...
فالْعَني مِثلي وسُبّي واشتُمي !

----------------------

(*) قال عنترة بن شداد في معلقتهِ :
يا عَبلُ لو أبصَرتِني لرأيتِني
في الحرب أُقْدمُ كالهزبر الضيغمِ
----
والهِزَبْر والضَيْغَم : من أسماء الأسد

كولونيا - صيف - 2009
alamiri84@yahoo.de

لم يخلق الديوك للصياح فجرا فقط

نبيل عودة

كثيرا ما ادعى الديك بقدرته على التمييز بين الخواص ذات القيمة والخواص الطارئة. طرح على عموم الدجاجات تفسيرا قريبا لما طرحه الفيلسوف الأغريقي أرسطو عن نفس الموضوع.والحق يقال ان الديك لم يسمع بأرسطو ، وأرسطو لم يفكر ان ديكا ما قد يصير فيلسوفا في زمن قادم .
ذكاء الديك أصبح حديث الدجاجات في جميع الخممة ( جمع خم ) المصدرة للبيض والفراخ .صحيح ان بعض الدجاجات استهترن بعقل الديك واتهمنه بالهذيان .غير ان دجاجات اخريات أصبن بذهول من ان يكون وراء ما يبدو انه ذكاء ، علما جديدا قد يغير نظام الخممة.. فيذهبن هباء بعد مجهوداتهن الكبيرة في رفع انتاجية البيض الى أكثر من بيضة واحدة يوميا ، بل وأحيانا ثلاث او أربع بيضات .
كان الديك يشرح بلا ملل رؤاه الفلسفية ، وفحوى فكرته الجديدة ،وبلغة دجاجية بسيطة.
كان يقف في مكان مرتفع ، ويجيل نظراته بين دجاجات خمه ، قبل أن يبدأ حديثه المنمق ، ويقول: ان الخواص القيمة هي التي لا يمكن ان يوجد الشيء بما هو عليه بدونها. ويسال :
- مفهوم ..؟
ويرد الشعب مهموما من الجهل :
- مفهوم !!
والشعب الدجاجي لم يفهم بالتأكيد. ولكنه موقف احتياطي حتى لا يتورطن بالتحقيقات الجنائية والسياسية ويتهمن بالعمالة لأعداء الوطن . ويواصل:
- اما الخواص الطارئة فهي التي تقرر كيف يكون الشيء وليس ما هو الشيء.
وينظر بحدة بعيني دجاجاته منذرا من اللغط المتزايد دون ان ينبس ببنت شفة ، ويمشي الخيلاء دائرا حول نفسه.. عارضا ريشه المميز بألوانه الزاهية . وعندما يسود الصمت الكامل يقف مسلطا نظراته القاسية ويسأل :
- الشرح واضح ؟
- واضح واضح ...
همهمت الدجاجات بببغاوية غير داريات من كلام الديك حرفا واحدا. ولكنهن لا ينسين للحظة واحدة ان الطاعة واجبة لمن يولى عليهن.
حتى صاحب الخم الذي وقف دون أن يراه الديك متأملا مقاقاته وذهول الدجاجات امام شموخه ، أصابته الحيرة في تصرفات ديكه الغريبة .. وهو قد عبرت عليه مئات الديوك ، ولكن مثل هذا الديك لم يشهد في حياته . والحق يقال انه يدير الخم بانضباط شديد ولا يقصر بالواجبات التي كلف بها، والا لصار لحمه وجبة فاخرة ولصارت عظامة طعاما للكلاب.
صحيح انه في الشهر الأخير قصر في واجباته بسبب ضغط الموضوع الجديد على دماغه. ولكن ديك جارته ام يوسف سد بعض العجز في خمه ، ومنحه تبعا لذلك شهادة تقدير مشيدا بدورة الوطني في خدمة القضية العادلة.. بل وأوعز لمجلس الأمة ان يمنحه شهادة دكتوراة فخرية .. وقد راقته هذه الفكرة ، وتوقع ان يمنح هو بالمقابل لقب بروفسور من مجلس خم ديك اؤلئك الجيران . وهذا ما كان فعلا. فصار الديك بروفسور شرف وملك وشاعر، أدامه الله .. وأدام عزه وسطوته على دجاجاته !!
بعد مشاورات بالخفاء عن الديك ، وارضاء لديكهن قررت الدجاجات أن يكررن أقوال ديكهن ، لدرجة ان احدا لا يعرف هل كان التكرار عن فهم واستيعاب ، أم عن مراضاة لولي الأمر ؟ أم هو استسلام طبعن عليه كسائر اناث العرب ؟! والى جانب ذلك الخضوع البارز ، أشدن الدجاجات ، بمناسبة وبلا مناسبة ، بفكر الديك العظيم . بل وقامت بعض الدجاجات الثرثارات بكتابة دراسات معمقة وطويله عن فلسفة الديك ، جرى نشرها في الخممة .. ووصل بعضها الى أقنان اوروربا ، محدثة ثورة في العلوم الفكرية بين الدجاج الأوروربي ، لدرجة ظن بعض اطباء البيطرة ان الدجاج أصيب بجنون البقر المشهور.أو ربما انفلونزا الخنازير ...
في الواقع ان صاحب الخم تحرك محتارا بديك خمه ودخل ليجمع بعض البيض ، وظل الديك منتصبا في مكانه وكأنه يستعرض جحافله المقاتلة .. مع ان الخم فارغ من وسائل القتال .. وفكر صاحب الخم ان يجري السكين على رقبة هذا الثرثار.. ليرى كيف تصير حاله مع فلسفته.. ولكن السؤال الأساسي كان عن مدى الارتباط العاطفي بين الدجاجات والديك ؟ وخوفه ان يسبب نكسة لهن ، فيخسر أكثر مما يربح. وبذلك بدل ان ينقذ دجاجاته من مدعي فلسفة وشاعر جاهل بمفردات لغته واملائها الصحيح ، ولا يعرف عاميتها من فصحتها ، يعرضهن لحزن شديد وطويل يدخل الفوضى والتسيب الى الخم ..
وكان قراره ان يعلم الديوك الوارثين لهذا الخم في المستقبل ، ان الفلسفة والشعر ليست لهم ، انما لها أصحابها من البشر وليس من الديوك حتى لو علت رؤوسهم التيجان الحمراء . وأن أصواتهم الصداحة لا تطلع الفجر ، بل الفجر يحرك غريزتهم فيصدحون بلا عقل . " اما انتم فقد خلقكم ربكم للحرث والدرس لبطرس " قال لنفسه.
وتمنى صاحب الخم لو يفهم لغة الطيور مثل سليمان الحكيم ، ليلقن هذا الفيلسوف درسا لا ينساه ، يجعله يتحسس رقبته كلما وقف فوق منصته متمخترا في خيلاء.. عارضا فصعته البارزة بريشها الملون .
ولكن ما العمل والزعماء على كل أشكالهم في الخممة وغير الخممة ، وحتى لو سموها اسما شاعريا أكثر ، أقنان مثلا .. لا يرون الا ريشهم وألوانه الزاهية ؟ ولا ينتظرون من جماهيرهم أكثر من عقل دجاجي واستجابة بلا تردد للآمر الناهي صاحب النعمة والمناضل الكبير من أجل أمنه وراحته وسطوته ونشر شعره ، وجعل اسمه يتردد بالرضا عليه ، على لسان كل من يعشق وجبة بيض مقلية بزيت الزيتون على الفطور .
وتسائل صاحب الخم :
- لماذا يخلق الله الديوك ؟ .. هل للصياح فجرا فقط ؟ كل وسائل الراحة مؤمنه لهم ..اذ رغم ارتفاع أسعار العلف في بورصة نيويورك وبورصات الشرق الأوسط والأقصى ،الا ان الوجبات لم تنخفض كما ونوعا . فلماذا هو مشغول دائما مثل ام العروس ، لا شيء يعمله الا القفز على الدجاجات واطلاق صوته المزعج فجرا ، في أحسن ساعات النوم ؟
كان الديك يتأمل صاحب الخم وهو يجمع البيضات .. ويقول لنفسه : " آه ما أتفهكم أيها البشر.. هذا ما يشغلكم كل نهاركم .. كم بيضة سنجمع اليوم وكم غدا .. وما هي الوسائل التكنلوجية الحديثة لجعل الدجاجات يرفعن عدد بيضاتهن اليومية ، بحيث صارت الدجاجة مصنعا صغيرا متحركا للبيض ." وفكر :"ربما يجري الاستغناء قريبا عن دور الديوك في عملية الفقس ، عندها لن ينفع الديوك شعرها ، ولا فلسفتها ولا درجاتها العلمية المقدمة تقديرا لمكانتهم وحكمتهم من خممة الأمم الدجاجية ."
هذه الأفكار أشعرته بالخوف .
وقال الديك لنفسه أيضا : " اما أن تفكروا أيها البشر، وتتخذوني نموذجا لكم ، وتستعملوا دماغكم ، فهذا مرهق للعقل. ربما حان الوقت يا الهي لتتغير الأدوار. هم في الخم ونحن طلقاء .. ولكن هل يبيض البشر ؟.. ترى ماذا يبيضون في بيوتهم ؟ بيضهم مثل بيضنا؟ ومن يأكل بيضهم ؟ كم أتمنى ان اشاهد شكل بيضهم وأتذوقه ."
في فجر أحد الأيام وصلهم ان أعتداء آثم وقع على خم أبو علاء من ذئاب داشرة .. على أثره جرت اتصالات عاجلة بين الديوك للتشاور ، وقد قر رأي الأكثرية على عقد مؤتمر قمة طارئ.. رغم ان التشاور لم يقد الى موقف واضح بين الديوك.
وجرت الاستعدادات لاستقبال الديوك الأشقاء في خم ديكنا ، الفيلسوف ، والحائز على لقب بروفسور شرف من خم الجيران .
نبه على دجاجته بلهجة تحذيرية بأن لا يظهرن أمام الديوك الغرباء الوافدين لحضور القمة ، منعا لوقوع المحظور. وان التي تتهاون بتحذيره سينتف ريشها وينقر راسها ، وينسب نفوقها للذئاب.
تجمع الأشقاء لتدارس الوضع .. ورغم أهمية الحدث الا ان عيونهم لم تتوقف عن البصبصة شمالا ويمينا.. لعل وعسى تظهر لهم حورية من خم الفيلسوف ، ربما لها طعم مختلف عما اعتادوا عليه ، الأمر الذي جعل ديك هذا الخم شاعرا وفيلسوفا في دنيا الدجاج ، شهرته عمت الشرق والغرب ..
افتتح الديك الفيلسوف المؤتمر داعيا الجميع لادانة العدوان واعلان التضامن والأسى الشديد على الديك النافق .. والترحم على الدجاجات النافقات بسبب الهجوم الوحشي .. وذلك تنفيذا لأبسط بنود اتفاق الدفاع المشترك . واعلمهم انه توصل لرؤية فلسفية جديدة تماما في هذا الظرف الماساوي ، وقبل ان يسمع أي تعليق بدأ يشرح فلسفته رغم زيغان عيون الأشقاء وراء مؤخرات دجاجاته ، اللواتي أخفين وجوههن حسب تنبيهاته .. .وقال شارحا ، والله أعلم اذا نصتوا لحديثه :
- الخواص ذات القيمة هي التي تجعلني انا نفسي الديك الذي أمامكم . صاحب الفكر والقدرات الصوتية والشعرية. اخواني ، بدون عقلي لن أكون أنا نفسي. لو نزعتم ريشي الزاهي الجميل ، لن يتغير الواقع ، سأظل انا نفسي بريش منزوع . أما الخواص غير ذات القيمة فهي تتعلق بالشكل والحالة. من هنا اعتداء الذئاب على خم الجيران الأشقاء لم يغير مضمون الدجاج والديوك في الحارة كلها . ظل مضموننا سليما.. ما تغير هو الشكل والكم وهذا نتجاوزه بزيادة جهودنا المشتركة مع جماهيرنا الدجاجية. قتل الذئاب 70 دجاجة ، الله لا يعطيهم عافية ، ولكن ، وهذا المهم والجوهري .. فقست الدجاجات الناجيات من الذئاب في نفس الخم ، وفي نفس ليلة الاعتداء الاجرامي الغاشم ، أكثر من 180 بيضة أسفرت عن 180 فرخا جميلا يفرح قلوبنا جميعا .. لذا نحن لم ننهزم . بل انتصرنا على الذئاب، لأن القيمة الأساسية لم تتغير ولم تسقط . بل ازدادت.
وقام كوكوكوكو عاصف تأييدا لهذا الموقف القومي الجريء.
هذه الفلسفة المستحدثة في القمة الطارئة أرضت جميع الديوك .. لدرجة ان عيونهم لم تعد تبصبص شمالا ويمينا. فقد وجد الديك الفيلسوف الكلمات الدقيقة للتعبير عن الموقف الطارئ وايجاد التعابير التي تلائم الموقف المسؤول . ومن لم يفهم صمت خوفا من فضح جهالته وقصر نظره !!
واعلنت الديوك انها مساهمة في تعميق هزيمة الذئاب سيبدأ الأخوة الديوك باعادة بناء ما تهدم من الخم ..
وتسائلت دجاجة تبدو عليها الوقاحة والجرأة ، ويبدو انها مراسلة لاحدى الفضائيات :
- واذا هوجم الخم مرة أخرى .. ما هي خطط المستقبل ؟
- سنعيد البناء مرات حتى تفهم الذئاب اننا لن نتخلى عن الأشقاء.
- ولكن ريشكم لا يمعط مثل ريش الدجاجات وعظامكم لا تكسر مثل عظامها ، وانتم معشر الديوك لا تتعرضون لأي خطر في ملاجئكم التحت أرضية؟
- وهل تظنين يا سيدتي ان الانتصار يتحقق بدون تضحية ؟ واذا تعرضنا للخطر من سيعقد حسب رأيك مؤتمر القمة القادم ؟
- وهل التضحية هي نصيب الدجاجات لوحدها في هذه الحياة؟
- الله أكبر.. هناك من يستهتر بالشهادة ؟ .. هذا كفر.. هذه عمالة للذئاب ..
صرخت الديوك صرخة واحدة. ولكن الدجاجة المراسلة أصرت متشجعة من تأييد بنات جنسها :
- ما رأيكم ان تختبئ الدجاجات ونترككم يا أعزائي الديوك تعاركون الذئاب؟ الستم أولي الأمر الأقوياء والشرسين ذوي المناقير الجارحة والقاتلة ؟
- وقاحة .. خيانة قومية ..
صرخ المؤتمرون الديوك . ولكن الديك الفيلسوف انتظر حتى هدأ غضب الديوك . وقف متأملا جرأة المراسلة الجميلة ومفكرا ، ترى لو نط عليها كيف ستصير حالها ، كم هي مغرية في جرأتها ومثيرة ، وقال :
- سيدتي الأنيقة .. قلوبنا تبكي على الدجاجات .. وسنصدر وعدا لهن بالجنة وسنمنحهن كل ما يتطلبة تجديد وزيادة عدد الفراخ .. واذا احتاج خمهم لديك آخر .. سنقوم بالمهمة بالتناوب حتى ايجاد بديل للأخ العظيم الديك النافق . فلماذا هذا التوتر.. ؟ مثل هذه التضحية لن تجدوها في أقنان الغرب الفاسدة . لذا نحن لا نتشبه بهم . الا تعلمين سيدتي ان للشهداء جنان لا يدخلها الا معشر الصالحين ؟ اني أدعوك لنشر هذا الموقف وضمان آخرتك انت ايضا مع أبناء جنسك . .
- يا سيدي انت تتحدث من الصبح ولم نفهم الا ان موت الدجاجات انتصارات.. ولكن الدجاجات يقلن انهن يردن صيصانهن تحت أجنحتهن وضمانة ان لا يتكرر غزو خمهن وقهرهن من جديد ، فهل هذا مستحيل ؟
فغضب ديك ام كميل وصرخ :
- هذا استهتار بالنصر التاريخي .. هذه اهانة للنافقين الشجعان .. هذا استهتار بانتصاراتنا القادمة ..
- كوكوكوكو ... لا تستهتري يالانتصار.. يجب طردك من الخممة .. اذهبي لخم اوروبي يا ملعونة .. اسحبوا ترخيصها هذه المغرورة .. لنها تعمل لصالح العدو ..
علت الأصوات تشجيعا لديك ام كميل. واستنكارا لأسئلة الدجاجة الصحفية الاستفزازية.
وانتهى مؤتمر القمة بقرارات حاسمة. . وعلى رأسها قرار لا يقبل التأخير.. استنكار وشجب العدوان الذئبي ، والاستعداد لاستقبال دجاجات الخم المنتصر في ضيافة ديوك الخممة .. ويستحسن ان يكن من الجيل الجديد لضمان جودة الانتاج الدجاجي ، وبذلك يستفيد دجاج الخم ويكرس الديوك الأشقاء طاقات يومهم ونهارهم في انشاء جيل جديد يسير على الدرب البطولي الذي شقه الآباء والأجداد النافقين .
وكلف الديك بصياغة نشيد قومي يعبر عن المرحلة الجديدة من التضامن الدجاجي، والتآخي الديكي !!

نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

ما الغرابة في تدنِّي مكانة اللغة العربية؟

سالم جبران
قديماً قال العالم الاجتماعي العربي العظيم، عبد الرحمن بن خلدون:"لغة الأمة الغالبة غالبة ولغة الامة المغلوبة مغلوبة".
ليس هذا فذلكة كلامية بل هو تعبير، سياسي واجتماعي وثقافي وفلسفي في منتهى الموضوعية والقوة.
ولقد رأينا، كيف بعد الفتوحات العربية-الاسلامية وقيام دولة الامويين في دمشق وبعد ذلك دولة العباسيين في بغداد، ودولة العرب في الاندلس تحوَّلت العاصمة العربية، بغداد، الى العاصمة الاولى في الحضارة الانسانية، وكيف تطورت وازدهرت علوم الطب والفلك والبيولوجيا والمنطق والفلسفة، بالاضافة الى ازدهار الآداب، ولم تعد اللغة العربية عاجزة عن استيعاب أية معرفة انسانية بل وتطوير كل المعارف الانسانية.
أتذكر هذا الآن وأنا أقرأ خبراً مُقْلقاً عن اجتماع خبراء عرب من مصر والسودان وسورية والاردن وتونس والسعودية والجزائر وليبيا والمغرب في العاصمة التونسية، للتداول في معضلة "تدني تعليم اللغة العربية".
إن مكانة اللغة، اية لغة، مرتبطة أيضاً بمدى النهضة القومية والنهضة العلمية-الحضارية عند اية امة.
عندما ننظر حولنا ونرى حالة الجامعات في الدول العربية، ونرى عجز اكثر الجامعات عن تعليم العلوم كالفيزياء والبيولوجيا والطب باللغة العربية، أليس من حق الطلاب أن يظنوا أن اللغة العربية "عاجزة"؟ وعندما نرى النظام السياسي العربي نظاماً وراثياً (عند الجمهوريات والملكيات) ونرى نظام الحزب الواحد، وبالتالي نرى تخلُّف الصحافة وتراجع دور النشر وتراجع الحركة الادبية والثقافية، هل نستغرب بعد هذا أن اللغة على شاكلة حكام العرب، منفوخة وفارغة، عاجزة عن مجاراة عواصف العصر؟!!
هل رصدت الصحافة يوماً حركة نشر الكتب (العربية الاصيلة والمترجمة) في دور النشر العربية؟ هل هناك تواصل حقيقي بين حركة الثقافة العربية، ككل لا كافراد، مع حركة الثقافة العالمية؟ هل هناك، أصلاً، حرية حقيقية أو نصف حقيقية للمبدعين العرب لنشر إِبداعاتهم؟ كم مرة سمعنا عن زوابع"أصولية" ظلامية احتجاجاً على طباعة كتاب قرر الاوصياء الظلاميون على العقل أنه يتضمن "زندقة"؟!!
قبل عدة سنوات قررت دار المعارف في مصر طباعة كل مؤلفات الكاتب التنويري العظيم طه حسين عميد الأدب العربي، بمناسبة 150 سنة على ميلاده. وثارت الدنيا ولم تهدأ في مصر، غضباً واحتجاجاً من القوى الظلامية المتخلفة التي قالت ان طه حسين ليس كاتباً اصيلاً بل هو "متفرنج" وساجد للثقافة الفرنسية، الا نذكر الضجة المجنونة ضد كتاب "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدرالذي قرر "اوصياء" على الثقافة انه "كافر"؟!
هل نسينا ان المبدعين العرب جميعاً كانوا يطبعون كتبهم في بيروت، العاصمة الحقيقية للثقافة العربية لأن فيها مناخا طيباً للحرية الابداعية؟ لماذا هرب نزار قباني أغلب حياته الى بيروت ولندن؟ لماذا هرب ادونيس الى بيروت وبعد ذلك الى باريس؟ هل هناك مَن يعرف كم من مئات المبدعين والمبدعات العرب يعيشون في المنافي الغربية لان حرية الفكر والابداع مقموعة واحياناً ممنوعة كلياً في الاوطان العربية؟!
هل صدفة ان هذا التراجع في مكانة وهيبة وحيوية اللغة العربية يجري الآن في ظل تصدع الفكرة القومية والوعي القومي والالتزام القومي وتفشّي فطريات "الاصولية" الدينية الظلامية في أقطار العرب؟ هل صدفة ان الفضائيات العربية تتبنى لغة عامة ركيكة وتتهافت على استعمال اصطلاحات اجنبية، انجيليزية وفرنسية؟!
مع ان المشكلة هي مشكلة عربية عامة، فانني اقول إننا هنا أيضاً، نعاني من تراجع مكانة اللغة العربية وفتور الوعي بضرورة التمسك باللغة العربية والقواعد العربية والثقافة العربية. هناك معلمو لغة عربية يخافون أن يتكلموا بالفصحى، أمام طلابهم أو أمام حفل في المدرسة. ان "الجعجعة القومية" لا تكفي لحماية الهوية القومية، بل يجب التمسك باللغة القومية والاحترام للكتاب الاصيل والاحترام للتراث الثقافي القومي ونشر الحب للغناء العربي الاصيل والعمل لنشر الشعر والرواية والقصة والبحث في المدارس، وقيام المعلمين بجهد مبرمج لنشر المطالعة بين الطلاب مع حوافز (علامات) للذين يقرأون أدباً رفيعاً، وللذين يكتبون بلغة سليمة. للاسف فان الصحافة لا تخصص صفحات حقيقية للادب الراقي، كما ان الصحف مليئة بالأخطاء المعيبة، وهناك مستوى منخفض في التحرير يجعل بعض الصحف تنشر كل ما يصلها على الفاكس أو بالبريد الالكتروني كما لو كانت "حاوية نفايات". هل صدفة أن هناك تراجعاً مذهلاً في الندوات الادبية والثقافية، سواء في المدارس أو في النوادي أو تحت رعاية السلطات المحلية؟
اذا أدركنا أن القومية ليست صراخاً وجعجعة وليست تعصباً دينياً، بل هي انتماء للحضارة واللغة والتاريخ نعتز به وهو قومي وانساني معاً، فاننا سوف نعالج، بنجاح، مسألة ردّ الاعتبار والكرامة للغتنا القومية، التي وصفها مستشرق فرنسي شهير، جاك بيرك، بقوله:"انها لغة آسِرة، انها لغة معجزة في جماليتها وغِناها الحضاري".
سالم جبران – كاتب ومفكر ، رئيس تحرير جريدة " الأهالي "

السبت، يونيو 27، 2009

حـيـاتـنـا ونمـوذج المرسـيـدس

هـيـثـم البـوسـعـيـدي
الحياة البشرية عبارة عن مزيج من الأفكار والعواطف والمواقف المتباينة، والحياة تفرض على الإنسان أن يدير بوعي وإدراك كل أنشطة ومهام حياته، وهذه الإدارة تتطلب تنظيم سليم وتخطيط فعال وتنفيذ محكم، كما إن إدارة الحياة ترتبط ارتباط وثيق بإدارة العقل البشري المنقسم إلى العقل الواعي والعقل اللاواعي ( العقل الباطن).

فالعقل الواعي أو ما يمكن تسميته بفترة الوعي يتكون بصورة رئيسة من التفكير والذي لديه قدرة واسعة في إستيعاب الكثير من المعلومات في لحظة ما، أما العقل اللاواعي يحتوي على جميع الذكريات والبرامج الخاصة بالمرء منذ أن كان جنينا في رحم أمه، كما لديه قدرة استيعابيه لا محدودة على الإطلاق ويحتوي على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك، ويعتبر مقر الطاقة الغريزية الجنسية والنفسية ومخزن الذكريات والمحرك الرئيس للعواطف والمشاعر، بالإضافة إلى استضافته للخبرات المكبوتة والصور القديمة والخلفيات السابقة.

ومما سبق تتضح حقيقة المكونات الرئيسية للحياة وهي التفكير والمشاعر والسلوك، كما إن كلا من المشاعر والتفكير ركنان رئيسان في عقل الإنسان ولهما صلة قوية بالسلوك الظاهري والخارجي للإنسان، ولقد توصل كثير من الباحثين في حقل البرمجة اللغوية العصبية لوجود نموذج شبيه بالأجزاء الثلاث المكونة لشعار سيارة المرسيدس يدعى بنموذج المرسيدس يهتم بالجوانب الثلاث الأساسية في حياة الإنسان: التفكير، المشاعر، السلوك، وهو نموذج مبسط لإدارة العقل أو إدارة الحياة يعكس كيفية إدارة مختلف الأشياء في العقل البشري، ويشير النموذج إلى أن الأفكار تؤثر بالمشاعر والمشاعر تؤثر بالسلوك ومن ناحية معاكسة فإن السلوك يؤثر بالمشاعر وتؤثر المشاعر على الأفكار.

والنقاط التالية تتناول الأجزاء الرئيسة المكونة لنموذج المرسيدس بداية من التفكير وإدارته مرورا بكيفية التعامل مع مختلف المشاعر والعواطف ليكون في النهاية الحديث عن أنواع التصرفات وأشكال الأفعال البشرية:

(1) التفكير : التفكير عملية عقلية تدور في العقل الواعي يتم من خلالها استخلاص المعاني وإعادة تشكيلها، وتعمل على تشغيل المعلومات في الذاكرة، واستنتاج معاني أخرى تساعد في حل المشكلات أو اتخاذ القرارات، وقبل وصول المعلومات إلى أبواب التفكير فإنها تصطدم بالمرشحات والفلاتر التي تقلل من كمية المعلومات المنقولة لتصل في النهاية غير مكتملة إلى العقل الواعي.

والتفكير كما هو في حقيقة الامر نوعان، تفكير إيجابي وتفكير سلبي، فالتفكير الايجابي هو نوع من التفاؤل الذي يغزو عقل الإنسان ليحثه على النظر إلى الأشياء بأنها جميلة وإجباره على التعامل بحيوية وسلاسة تامة مع مختلف الامور الحياتية، يرافق ذلك ظهور الأمل حول مختلف القضايا المستقبلية في حياته. هذا بحد ذاته يدفع الانسان للتأمل والجلوس مع النفس واكتشاف الكثير من المواهب والقدرات، فتتكون الآثار الفاعلة في تفكير الإنسان.إضافة إلى وجود عوامل تحفز بروز التفكير الايجابي في حياتنا مثل: الثقة بالنفس، الإبتعاد عن كلمات الاحباط، الابتعاد عن الاشخاص المحبطين،استحضار الافكار الايجابية،تحديد الهدف والغاية من الوجود.

لكن في المقابل يصر عدد كبير من الناس على رؤية العيوب وتضخيم المواقف والتعلق بمجموعة من الأفكار السلبية مثل: أفكار الخوف، أفكار القلق، أفكار التردد، أفكار تتعلق بضعف الثقة وهذا هو ما يسمى بالتفكير السلبي الذي ربما يؤدي الى إلحاق الضرر بصحة الإنسان عندما يتم اجهاد العقل بكثرة التفكر بالأفكار الخاطئة.

(2) المشاعر: المشاعر هي حالة الإنسان الشعورية أو المزاجية أو بمعنى آخر جملة أحاسيس تنتاب الإنسان قد تكون مرغوبة أو غير مرغوبة وتصاحب الأحاسيس تعبيرات جسدية متعددة تتفاوت فترة وجودها فقد تستمر لمدة لحظات وقد تبقى لمدة سنين وشهور، كما إن الذاكرة تستحضر المشاعر وتفرض وجودها لان كل موقف وحدث في حياة الإنسان له ملف متجذر في الذاكرة البشرية ذو شقين الأول متعلق بفكرة الحدث والآخر متعلق بالأحاسيس المصاحبة لهذا الموقف.

والمشاعر بطبيعة الحال تنقسم إلى نوعين فأولا هناك المشاعر الإيجابية وهي باختصار تغذية عقولنا الباطنة بقيم ومبادئ الايمان والسعادة والحب والرضا لتكون أداوات التواصل مع انفسنا ومع الآخريين، ولكن خلق هذه المشاعر ليس بالامر الهين فكيف نحث نفوسنا على تلك القيم والمبادئ وقد نمر بظروف متنوعة وحالة من الإخفاق المتكرر، وكيف نغذي نفوسنا على كل ما هو ايجابي وما هي الطرق والوسائل التي تحثنا على بذل جهود مضاعفة لاحتواء المشاعر الإيجابية.

ثانيا المشاعر السلبية: فقد يمر المرء في حياته اليومية بعدة ضغوطات وتوترات وانفعالات ناتجة عن مواقف يومية في ميدان العمل أو على الصعيد الأسري والمحيط الاجتماعي، وعندما تلازم هذه الأحاسيس الإنسان لفترات أطول فإنها تحجز تفكير الإنسان في أطر سلبية وتحول حياته إلى سلسلة من الانكساريات والأخطاء التي تشيع في حياته الإحباط والاستياء واليأس وقد تصل آثارها إلى تشكيل صورة سيئة له أمام الآخرين.

فمثلا قد يفقد أحد الأشخاص أعز أحبابه ومن الطبيعي أن يعيش جملة من المشاعر السلبية لفترة قصيرة محددة، ولكن أن تطول مشاعر الحزن لفترات طويلة ليعتبر الإنسان أن حياته لا طعم لها موحيا لنفسه إن وفاة ذلك العزيز هو نهاية الحياة، بحيث لا يتمكن من التمتع بحاضره لان جل وقته يقضيه ساهيا يفكر بالماضي وتتصارع في داخله مشاعر متباينة وينشغل ذهنه وتفكيره بهذه الحادثة مما يترتب عن ذلك تعطيل لقدراته ومهاراته الأخرى.
(3) السلوك:السلوك هو فعل يرافق الإنسان منذ الطفولة، فالطفل يشاهد في بداية حياته ما يفعله أبويه وأقاربه ثم يقوم بتقليدهم دون إدراك أن ما يفعله صواب أو خطأ، وهناك سلوكيات خارجية تتعلق بعلاقات الإنسان مع بيئته ومحيطه وهناك سلوكيات داخلية تعتري جسد الإنسان مثل الرعشة وزيادة ضربات القلب واحمرار الوجه، وأيضا هناك في المقابل سلوكيات سلبية وسلوكيات إيجابية، فعلى سبيل المثال الموظف قد يمارس بعض السلوكيات الخاطئة مثل التأخر عن مواعيد العمل والإهمال في تأدية المهام الوظيفية المرتبطة بعمله.

وقبل التطرق إلى أحد الأمثلة التي تبرز العلاقة بين التفكير والمشاعر والسلوك لابد من ايضاح أن كثير من مشاعر وأفكار الانسان هي نتائج مؤثرات وعوامل تؤدي لوجود هذه الافكار والأحاسيس في داخلنا، لكن نحن فقط من نملك إدارة الأفكار وغربلة المشاعر مهما كان دور المؤثرات الخارجية كالمستقبلات الخارجية ( الحواس الخمس) التي من خلالها ندرك ما يدور حولنا ونستقبل ما يحدث خارج عقولنا نتيجة التفاعل مع الأحداث والمواقف والمعلومات والأشخاص.

هناك الكثير من الأمثلة الدالة على علاقة التفاعل بين التفكير والمشاعر والسلوك فعلى سبيل المثال يدمن كثير من الأشخاص على عادة التدخين ويصبحون غير قادرين على الفكاك من هذه الممارسة السيئة بل يستسلمون بسهولة بمجرد رؤية حبة السيجارة.
ذلك يدفعنا للتساؤل عن تفسير هذا الأمر، فالحقيقة تقول أن المعلومات المنقولة بشكل مباشر إلى عقل الإنسان خصوصا إلى " الذاكرة"من خلال الحواس الخمس هيجت المشاعر المتكررة التي تشعر الإنسان بالراحة والإنتعاش وانضباط المزاج بمجرد رؤية السيجارة وهذا يدل على أن حجم تلك المشاعر ذا حيز كبير في ذاكرة الإنسان، وهي تجر معها فكرة جمالية التدخين والقدرة على نسيان الأحداث والمشاكل سواء في العمل والبيت بمجرد ممارسة هذا العمل ومن ثم يندفع المرء سريعا إلى الإمساك بالسيجارة وفي نفس الوقت يخلو العقل الباطن من وجود مشاعر الندم والتأنيب وكذلك يتناقص وجود الأفكار التي تبين أضرار وسلبيات التدخين.

كذلك فإن للتخيل الذي يعتبر أحد مكونات العقل الباطن دورا في استحضار الأفكار وتشكيل المشاعر ومن ثم القيام بعدة أفعال سواء أكانت إيجابية أو سلبية، فعلى سبيل المثال الشخص المتقدم لأي وظيفة فإنه يستعد لتلك الوظيفة بعدة وسائل ومن ضمنها تخيل ما هي الأسئلة والنقاط التي سيطرحها فريق المقابلة، فيعمل المتقدم على التفكير واكتشاف العديد من الأسئلة والنقاط، ثم يستعد استعداد كبير ويكثف جهوده نحو التركيز على المقابلة قبل فترة الامتحان، فيشعر مع اقتراب موعد المقابلة بالراحة والطمأنينة والانتباه والثقة بالنفس والتفاؤل لأنه على استعداد تام لهذه المقابلة مهما كانت الأسئلة ومهما كان فريق المقابلة، هذا ينعكس بدوره على سلوكه وتعامله مع فريق المقابلة من خلال تصرفات إيجابية عدة مثل الإبتسامة عند لقاء أعضاء اللجنة، المرونة في الإجابة على الأسئلة والقدرة على الإجابة السريعة وبثقة على تساؤلات اللجنة.

إذا المشكلة التي يكتشفها هذا المقال هو عملية الخلل الدائرة في عقل الإنسان والتي يعاني منها الناس لأن كثير منهم غير قادرين على الموازنة بين الأجزاء الثلاثة المكونة لنموذج المرسيدس: التفكير والمشاعر والسلوك، وهناك الكثير من الأمثلة التي تبين اختلال عملية الموازنة لدى كثير من الناس بين المشاعر والتفكير والسلوك ، فجزء من رجال الأعمال ينفقون جل حياتهم في التفكير بالمشاريع والاستثمارات مهملين أسرهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وجزء آخر خصوصا فئات المراهقين والنساء يستنفذون كميات كبيرة من مشاعرهم وأحاسيسهم في العديد من المواقف الحياتية والأحداث اليومية دون الرجوع إلى التفكير والاعتماد على ما يشير به العقل الواعي، وهذا الخلل يعود بالأساس إلى جهل الناس وعدم وعيهم بكيفية التعامل مع مكونات العقل البشري من مشاعر وتفكير ومعرفة دوافع ومبررات هذه الأحاسيس أو تلك الأفكار.

إذا نحن بحاجة إلى إدارة واعية للمشاعر والتفكير والسلوك حتى ندفع بحياتنا إلى النجاح ونتجاوز كل العوائق والصعوبات وذلك من خلال امتلاك مهارات السيطرة الكاملة على المشاعر والافكار والسلوك والتعامل مع الأجزاء الثلاثة بصورة متجانسة، لأن كل جزء يؤثر في الجزء الآخر بالسلب أو بالإيجاب فإذا كانت المشاعر والأفكار باتجاه واحد فإن ذلك سينعكس على السلوك بحيث تصرفات الشخص ستكون في نفس الاتجاه وهذا يؤكد تبعية السلوك للتفكير والمشاعر، فلن يستطيع الإنسان عندئذ تحقيق النجاح أو الوصول إلى الهدف المنشود إذا لم يسعى لإحداث التوازن بين هذه الأجزاء وعندما يحدث الخلل في إحدى الأجزاء فذلك معناه فشل الإنسان في تحقيق ما يصبو إليه وما يتطلع لإنجازه.

كما إن الموازنة بين الأجزاء المكونة لنموذج المرسيدس ستمكن الفرد من إتقان عملية تحويل المشاعر السلبية إلى مشاعر ايجابية، بالإضافة إلى إدراك عملية تحويل الأفكار السلبية الى أفكار إيجابية والبحث عن حلول للمشاكل الناشئة وتسخيرها بما يحقق لنا ولمن حولنا الاستقرار والسعادة والإبتعاد عن المعاناة والخسائر المتكررة.

ولنفهم عملية تحويل المشاعر وتبديل الأفكار لابد من الإستناد على أحد الأمثلة الحية من واقع الحياة، فعلى سبيل المثال قد يتعرض أحد الأشخاص لحادث سير شنيع يخرج منه بأعجوبة، ولكن بمجرد تذكر الحادث رغم مرور فترات طويلة على وقوعه، تطغى على تفكير الإنسان مجموعة أفكار ومعاني ذات طابع سلبي حيث يتم استحضار الأزمة النفسية المفاجئة التي رافقت الحدث وما ترتب عليها من خسائر سواء اكانت مادية او جسدية، تلك الأفكار سيترافق معها مشاعر سلبية مثل الضيق والحزن على ما حدث والإحباط واليأس، وإن تكرار هذه الأفكار والمشاعر السلبية سيؤدي بمرور الزمن إلى انعكاسات خطيرة تتجلى في سلوك الإنسان الداخلي والخارجي وتظهر آثاره على الصعيد الاسري والمهني والمجتمعي.

وفي هذه الحالة يحتاج الإنسان لصياغة تفكيره من جديد حول هذا الموقف وإيجاد حلول مناسبة لما فعله ذلك الحادث من صدمات وأحاسيس متفرقة والسعي الحثيث نحو تصفية الذهن من الصور والرسائل السلبية، بالإضافة إلى استبسال الإنسان في عميلة دحر وتبديل المعتقد الخاطئ الذي نشأ وتكون مع مرور الزمن في خلايا العقل اللاواعي، وكل ذلك سيحتاج إلى قرار صارم وإجراء حازم.

وذلك لن يكون سهلا فلابد أن يبدأ الفرد أولا في عقد جلسة مصارحة طويلة مع النفس مليئة بالحوار والنقاش الداخلي وتجاذب الأسئلة وتنافر الأفكار واستخدام القلم والورق لتدوين ما هي سلبيات الحادث وما هي أضراره وما هي الخسائر بالتفصيل.

ومن الجانب الآخر عليه أن يحاول أيضا اكتشاف شئ مهم قد يغيب عن ذهنه في زحمة تفكيره ومشاعره السلبية ألا وهو إمكانية وجود إيجابيات لهذا الحدث الصعب، وربما يحاور ذاته مذكرا إياها بحدوث الخسائر، ولكن كان بالإمكان أن تصبح هذه الخسائر أكثر مما يتصور وربما حدوث الموقف سبب صدمة مكنته من معرفة الكثير من الحقائق الغائبة عن عقله والتي جعلته يدرك الأشياء بشكل أفضل وأحسن، ومن المحتمل أن يكون الحادث كشف لهذا الفرد عدة نقاط ومنها أن السرعة الطائشة والتهور وعدم الالتزام بقواعد المرور أسباب رئيسة لما حدث من أضرار وخسائر.

وتلعب عملية تسجيل تلك المعلومات على الورق دورا إيجابيا حتى تتلاشى معها أضرار وذكريات الحادث، بحيث يقوم هذا الشخص بإلغاء الورقة المحتوية على النقاط السلبية من خلال علامة اكس على الورقة وتقطيعها وتمزيقها وتكرار هذه الطريقة لعدة مرات، ومن جانب آخر عليه الاعتناء بالورقة ذات النقاط الإيجابية من خلال قراءتها بشكل مستمر ولفترة طويلة وتكرار فوائد الحادث وتعويد النفس على المراجعة الدائمة لهذا الموضوع .

بالإضافة إلى ذلك فإن مناقشة الآخرين حول الموضوع يعتبر نوع من الفضفضة النفسية والإستفادة من تجارب الآخرون وماذا حدث لهم من أحداث مشابهة حتى يستخلص الإنسان الصفات الإيجابية من الموقف الصعب ويغرس الأفكار الإيجابية في العقل ويقتلع الأفكار السلبية ويستبدل بأخرى إيجابية وندرك في النهاية بأن لا فائدة من الحزن والضيق عدا الأزمات وسلسلة من الأخطار القادمة فتتضخم بذلك المشاعر الإيجابية وتتصاغر معها المشاعر والأفكار السلبية، عندئذ يستغل ذلك الشخص وقته ويتجاوز الأزمة ويندفع نحو معترك الحياة بقدرات افضل أقوى ويصبح تفكيره وسلوكه في الطريق الصحيح، وبمرور الزمان سيجد ذلك الشخص تلك المشاعر والأفكار السلبية المتعلقة بالحادث تنكمش وتغدو ذات حجم صغير جدا في عقله وسيبقى الحادث مجرد ذكرى ماضية ودرس من دروس الحياة.

أخيرا يحتاج الإنسان إلى وسائل كثيرة ليتمكن من إدارة عقله وما يحتويه من مكونات وأيضا لبناء التوازن المطلوب في الحياة، لأن هناك مجموعة من الأشخاص تتضخم في حياتهم المشاعر فتطغى على الجزأين الآخريين: التفكير والسلوك، كذلك يتأزم مستوى التفكير في حياة بعض الاشخاص لينعكس على حالة الإنسان الشعورية مما يمهد نحو إستبعاد الأحاسيس وإنكماش المشاعر في حياة الإنسان.

عندئذ نلجأ إلى نموذج المرسيدس لإحداث المعادلة بين المكونات الثلاث الرئيسية في حياة الإنسان : التفكير، المشاعر، السلوك، لأن هناك أشياء كثيرة في حياتنا تحتاج للتفكير والتدبر وليس لتضخيم المشاعر وتأزم العواطف، وأيضا ليس كل ما حولنا يعتمد على التفكير بل وجود العواطف أمر ضروري في بعض الحالات، أما وسائل تعزيز إدارة المشاعر وإدارة التفكير وإدارة السلوك فهي تعتمد على عدة مصادر منها القراءة المستمرة، دراسة الشخصيات وأنواع الصفات وكيفية التعامل مع المشاعر والأفكار، ودراسة اختلاف صفات الناس في مشاعرهم وتصرفاتهم وأخلاقياتهم، والتأمل في النفس وأحوالها والربط بين الأحاسيس والأفكار وما يرافقهما من علامات جسدية وسلوكيات متعددة.
haitham_sulieman2020@yahoo.com

الخميس، يونيو 25، 2009

العَلْقَم

سيمون عيلوطي
تذكَّرتُ وأنا أقرأ هذا الكم الهائل من الكتابات التي تطل علينا كل يوم من قبل العديد العديد من الكتَّاب والأدباء يتحدَّثون فيها عن الشاعر محمود درويش بعد مغادرته لنا. أقول : ذكَّرتني هذه الكتابات بحكاية رواها لي المرحوم والدي عندما كنتُ صغيراً.. مفادها أن الشخص الكبير وصاحب الجاه والنُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّفوذ، يحاول الجميع التَّّقرب منه ومصادقته..بل حتى من تربطه به صلة قرابة بعيدة تخص جد جد الجد، يُظهِر نفسه وكأنّه ابن عمه(البدري) اللزم ، بهدف الإستفادة من سلطانه ونفوذه، في حين يتنكَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّر ويتهرَّّّّب ويخجل من أخيه إذا كان فقيراً معدماً، خوفاً من أن يسأله ذات يوم عن حاجة ما. ولما رأى انفعالي ودهشتي مما سمعت، ألحقها بحكاية أخرى، قال اسمع يا بُني: النَّجاح له مئة أب ، ذلك لأن الجميع يدَّعي بأنه صاحب الدَّور البارز في تحقيقه..، أما الفشل فيتيم، الجميع يتهرَّّّّّّّب من الإعتراف بالمسؤولية عن حدوثه .
ولأن محمود درويش شاعر كبير، ابتليَ ( وكان الله في عونه) بأن أصبح "من الواجب" على كل من عرفه أو لم يعرفه، وعلى كل من قرأه أو لم يقرأه، وكل من آمن بطريقه أو من أشاح بوجهه عنه خوفا على وظيفته من هذا الطَّريق،أن يكتب عنه كلاماً الكثير منه "لا يسمن ولا يغني عن جوع "، ولم يتوقَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت تقام الندوات والمنصًّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّات يتحدَّث فيها كل من ادَّعى أنه على صلة به أو على اطِّّلاع على شعره ، وأنا أستغرب أن كاتباً رفض أن أقرأ قصيدة أهديتها لمحمود درويش في أحد البرامج الإذاعية التي كان يقدِّّّّّّّمها ، وذلك خوفاً على وظيفته من اسم محمود درويش ، يكتب عنه اليوم ،(بعد تقاعده طبعاً) مقالة يشعرك فيها وكأنَّّّه من أقرب المقرَّّّبين إليه ، والأدهى أن كاتباً آخر انسحب من ندوة شعرية أقيمت في بيت الكرمة في حيفا، لأنني أعلنتُ أنني سأقرأ قصيدة وطنية في هذه الأمسية ، ولم تنفع معه شفاعة عريف النَّّّدوة آنذك ، طيَّّّّّّّّّّّب الذِّّّّّّّّّّّّكر الشاعر مؤيد إبراهيم ، فأصرَّ على الإنسحاب لأنه كان مدير احدى المدارس ويخاف على موقعه هذا أن "يطير من بين يديه"، والغريب العجيب أن هذا الكاتب اليوم ، وبعد غياب شاعرنا الكبير ، نراه يُفيد من هذا الغياب ، (فمصائب قوم عند قوم فوائد) والذي تزامن بعد تقاعده ومحاولة تقرُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّبه من المنابر والوطنية.. فأصبح يكتب في الصُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّحف التي كان يخاف أن (يجيب سيرتها) بالأمس ، ويتحدَّث في النَّدوات عن علاقته الحميمة بدرويش بعد أن منعَ توزيع كُتبه على المعلِّّّّّّّّّمين في مدرسته، إلى درجة أن درويش لم يكن يعرف تناول طعام العشاء – كما يقول - إلا بمشاركته له ، وأنا على يقين من أن الصحف التي تنشر له والقيِّمين على النَّدوات الذين يدعونه، لو كانوا يعرفون عنه هذه الأمور لما جعلوه يظهر بمظهر (دلِّّّّّّّّّيلوني ما إلْكو غيري) ولما دعيَ كذلك إلى مثل هذه المنابر والمنصَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّات ، وأعرف أن من تركه بعد التخرج من المدرسة ، لينتسب إلى حزب صهيوني بهدف الحصول على وظيفة معلِّم ، أصبح اليوم ، وبعد أن تقاعد ولم يعد بحاجة إلى ذلك الحزب ، إذ ضمن المعاش ، فأخذ يُظهر نفسه وكأنه أقرب إلى محمود درويش من محمود درويش إلى ذاته !!
والملاحظ أنهم لا يتحدَّّثون عن شعر محمود درويش ، أو عن ابداعه الذي تطوَّّر من خلال المراحل التي مرَّ بها مثلاً ، بل عن أمور لا تهم الجمهور ولا تفيده بشئ ، وسرَّّّني أنني وجدتُ كاتباً كبيرأ، وهو محرر الملحق الثقافي في جريدة "الحياة" ، عبده وازن، يكتب مقالاً حول هذا الكم الهائل من الكتابات التي خصَّّّّّّّّّّّّّّّّت محمود درويش بعد رحيله ، ولكن فاته وفاتني أن نذكر أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، بل تجاوزه إلى منح جوائز على اسمه، ولولا أن لحق نفسه ، وفزَّّ من مرقده في رام الله وفي اللحظة المناسبه، رافضاً تسمية جائزة اسرائيلية على اسمه،لربَّما مرَّّّّّّّّّّّ هذا الأمر، وذاق "لا سمح الله"، كل ما فيه من علقم .
(سيمون عيلوطي- شاعر بالفصحى وبالعامية، الناصرة).

الأربعاء، يونيو 24، 2009

يا لوعتي

محمد محمد علي جنيدي
يَا لَوْعَةَ السَّاهِرِ العَجُولِ
والدَّمْعُ دَوْماً لَفِي هُطُولِ
في مَعْبَدِي حَائِرٌ حَزِِينٌ
مُسْتَوْحِشٌ لَيْلَةَ الرَّحِيلِ
كَمْ أهْلَكَتْنِي ظُنُونُ قَلْبٍ
هَلْ مِنْ جَوَابٍ وَمِنْ دَلِيلِ؟!
تَقْضِي عَلَى غَيْرَتِي بِلَوْمٍ
والسِّحْرُ في قَدِّكَ الْجَمِيلِ!
لي قِصَّةٌ في هَوَى الحَبِيبِ
وشَوْقُ قَلْبِي زَكِيُ المَسِيلِ
بي لَهْفَةُ العَاشِقِ الصَّدُوقِ
والبُعْدُ سَهْمٌ عَلَى عَلِيلِ
كَمْ طَارَدَتْنِي سِهَامُ شَوقٍ
فَهَلْ بَكَيْتُمْ عَلَى قَتِيلِ!
بالحُبِّ أمْضِي إلَى يَقِينِي
ولَمْ أكُنْ مُنْصِفاً عَذُولِي
ما غَابَ دَوْماً لَهُ دبيبٌ
إنْ فَاتَنِي فَاتَنِي خَلِيلِي
والحُبُّ يَبْقَى نَدَى ظَامِئٍ
والشَّوْقُ مِنْ آهَةِ هَدِيلِ
باللهِ يا هَاجِرَ الدِّيارِ
تَحْنُو عَلَى عَاشِقٍ ذَلِيلِ
إنِّي هُنَا سَاهِرٌ بِشَوْقٍ
فَهَادِ قَلْبِي بِحُبٍّ أصِيلٍ
واجْعَلْ لِقَاءَ القُلُوبِ نُوراً
وكَفَى سُهَادُ الجَوَى الثَّقِيلِ

أم العزائم

د. نوري الوائلي

حواء يا أم العزائم ينهل = من صبرك الصبر الجميل ويذهلُ

أنت المدامع في المخاض ولوعة = والصبر أحلام بعطفك اكملُ

عجز الخيال وجف حبري حائرا = في وصف أم في الولادة تنزلُ

لله درك حين طفلك حابيا ً= بين الحشى والرحم كونا ينقلُ

ساعات آلام كأن دبيبها = جبل له ماء المفاصل محملُ

تأتين كالسكران حالك مؤلم = لكن جرحك في الهداية يدملُ

ألم وأخطار ودمعة حالم = هذا المخاض فكبوه لا يمهلُ

يا صبر تصغرُ في المخاض كأنما = أنت الضجور وعزمها لا يكسلُ

يا صبر هل دارت عليك مواجع = مثل المخاض وأنت منه أسفلُ

إعجاز ربي قد تمثل شاخصا = عند الولادة حيث رب يكفلُ

لم يعرف الآلام مثلك صابر= حبلى وقلبك في النواَئب مثقلُ

طفل من الأحشاء جاء بصرخة = فكأن أوصال الدما تتحللُ

ما كان من ألم وربك راحلا = حين الجنين من المواجع ينزلُ

ويزيد بشراها صريخ وليدها = فالقلب يطرب للوليد وينحلُ

تبكين آلاما ونبضك باسم = والعزم من هدي السماء مكمّلُ

من شدة الآلام تصرخ داويا = لا حمل بعد اليوم قلبي يجفلُ

لكنها تأتي بعزم بعدها = للوضع في شوق , أهذا يعقلُ !

عجبا فبعد الوضع تنسى أنها = كانت بآلام كجلد يفصلُ

لو أن آلام المخاض بكفة ٍ= ما كان في الدنيا لها ما يعدلُ

الحمل هون والولادة دمعة = لكنها من أجل طفل تقبلُ

الصبر آلاء وربك واهب = لولاك ربي لم تلد من تحملُ

حقاً وصدقا فالولادة لهفة = فيها المواجع للسما تتوسلُ

تبكين من وجع وقلبك ناطرا = ضيفا له صدر العواطف يحملُ

في بطن أمي كان قلبي يرتوي = من دمها دفء الحنان ويغسلُ

تزهو بمشيتها وتفخر أنها = أم , لها أفق الجنان يظلل

عامان من بعد الولادة كوثر = من صدرها يروي الرضيع ويوصل

عامان من سهر وصدق مشاعر= وعطاء شمس لا تزول وتأفل

عامان في حجر ينام وليدها = عامان وهن , والرضيع مدلل

قبلتُ رأسك واليدين بلهفة = وكبوت تحتك والشفاه تنهلُ

صباحكم أجمل/ همسات ـ بغداد 1


زياد جيوسي

مبنى من مباني رام الله التراثية
بعدسة: زياد جيوسي



يجاذبني هوى رام الله بقوة هذا الصباح، فأخرج من صومعتي رغم حرارة الجو الغير معتادة أجول في دروبها وشوارعها، في شارع النـزهة حيث الأشجار القديمة العمر التي تروي حكايات وحكايات، البنايات التي ما زالت تحافظ على إرث رام الله منذ طفولتنا ولم يلتهمها غول العمران الحديث إلا في بعض النواحي، ومن هناك إلى شارع البريد أرقب أشجاره القديمة الجميلة، تشدني قرب مدرسة رام الله للبنات شجرتين متقابلتين بلونين جميلين، أصفر غامق وأزرق نهدي جميل، تتساقط أوراقهما حول الجذوع، فأرى الشارع قد تحول إلى سجادة بديعة منقوشة، وكأن الشجرتين في كل مساء تنـزعان ملابس النهار وترتديان ملابس النوم.

منذ عودتي في بداية الشهر من عمّان الهوى وأمسيات رام الله الجميلة تشدني، فالمدينة لا تكاد تخلو كل مساء من نشاط فني أو أدبي، مما يعطي للمدينة نكهة خاصة للمهتمين والمتابعين، وتجعل الأمسيات مع النسمات الناعمة تزداد بهجة وفرح رغم عتمة الاحتلال وبشاعته، ورغم حجم المشكلات الداخلية التي تطيل في عمر الاحتلال والغلاء الفاحش الذي سيطر على الحياة وأرهق القدرات المالية للمواطنين.

تزداد رام الله جمالا يوماً بعد يوم، يزداد عشقي لها فتهمس لي: أخشى عليك من عشقي وحبي، فأبتسم وأهمس لها: لا تخشي عليّ من الحب، فهو الذي يسري في روحي وفي شرايين دمي، وقصة حبنا التي تمتد عبر عصور لا يمكنها إلا أن تستمر، فلقائنا بعد طول رحلة البحث والغياب أشعل الحب الذي لم يتوقف من جديد، فأصبحت رام الله في قلبي برعم ياسمين عطري جميل، لا يتوقف عن بث طيبه وجماله في روحي رغم قسوة الحب أحياناً.

منذ أن كتبت سلسلة حلقات من صباحكم أجمل عن القاهرة وزيارتي لها لم أكتب من جديد صباحات أخرى، فقد شدتني المعارض الفنية والنصوص الأدبية للكتابة عنها، إضافة لانشغالي بكتابي فضاءات قزح الذي سيصدر عن دار فضاءات في عمّان قريباً، والاستعداد لإصدار كتابي أطياف متمردة والذي يحوي بعض من نصوص باحت بها روحي عبر سنوات طويلة، ولم أنشر منها إلا القليل، فقد كنت أنتظر أن تأتي ملكة سبأ لتفتح القمقم وتنثر الأطياف في فضاء الكون، لكني في هذا الصباح الحار النسمات وشوق ينازعني بقوة بين رام الله وعمّان، تعيدني الذاكرة لفترة أوائل السبعينات من القرن الماضي ومغادرتي دمشق إلى بغداد للدراسة الجامعية، ولم يكن بتلك الفترة من خط طيران يسهل السفر، فركبت مع بعض الزملاء الذين تعرفت عليهم حافلة مغلقة اجتازت بنا البراري والصحراء في رحلة طويلة من دمشق إلى بغداد، كانت طريق قديمة متعبة، والرحلة طويلة جدا لشخص لم يعتد السفر الطويل، فأبعد مسافات عرفتها كانت بين دمشق وبيروت وعمّان، وهي مسافات كان يتم اجتيازها بأوقات قصيرة، أما رحلة بغداد فقد تجاوزت الثمانية عشر ساعة حتى وصلنا إلى ميدان الصالحية في بغداد، ومن هناك نقلنا سائق أجرة لفندق في ساحة الميدان قال لنا أنه مناسب لنا، وحين وصلنا الفندق كنا في غاية الإرهاق والوقت يقارب الفجر فنمنا بدون وعي حتى العصر، وحين صحوت وجدت نفسي في فندق غير مناسب إطلاقاً فقررت المغادرة إلى مكان آخر بمجرد أن أتعرف للمدينة، وحين خرجت لشرفة الفندق المطلة على الميدان، رأيت لأول مرة في حياتي قبة مسجد مغلفة ببلاط خزفي (سيراميك) بلون أزرق متدرج وأبيض، شدني جماله بقوة وبدأت أتأمل ملامح البنيان من الطوب الرملي الذي لم نعرفه من قبل، فعمّان ورام الله مدن مبنية بالحجر الجميل الأبيض.

أخذت حماماً بالماء الذي كنت قد ظننته بارداً، لكن حرارة الجو جعلته حاراً رغم أننا في تشرين، وغادرت الفندق للتعرف على المدينة التي ارتبطت بالذاكرة عبر القراءة والشعر، كنت أشعر بالجوع الشديد فدخلت في بداية شارع الرشيد إلى مطعم لأواجه مشكلة اختلاف اللهجة، فعلاقتي باللهجة العراقية لم تتجاوز سماع أغنيات ناظم الغزالي وعبد الجبار الدراجي التي كان يبثها التلفاز الأردني في فترة تأسيسه في نهاية ستينات القرن الماضي، وحين عرض النادل ما لديهم لم أفهم شيئاً، فطلبت أسماء أعجبتني بدون أن أعرف ماذا تعني، فطلبت (تكة) وطلبت (تِمن) لأفاجئ بطبق من الأرز وطبق من اللحم المشوي، فضحكت وأخرجت دفتراً صغيراً وسجلت الأسماء الجديدة حتى لا أنسى مرة أخرى، وأقع في مطب اللهجات المختلفة بين قطر عربي وآخر، وغادرت لأتجول في شارع الرشيد وأنا أشعر أني أتنسم عبق التاريخ وأتذكر محبوبة تركتها خلفي وروحها ترافقني، حتى وصلت ساحة التحرير فتجولت فيها، أذهلني نصب الحرية للفنان جواد سليم، ولعل هذه اللمحات الأولى للمدينة بين الخزف ونصب الحرية ونصب الشهداء في ساحة الطيران للفنان فائق حسن، كانت البدايات في بداية اهتمامي بالفن التشكيلي عبر السنوات اللاحقة.

عدت للفندق بعد جولة طويلة في مدينة ترسخت في الذاكرة عبر القراءة والدراسة، مدينة شعرت بها تسكن الروح من البدايات فصرت أخاطبها بلقب معشوقتي العربية السمراء، استعد لبرنامج اليوم التالي من تسجيل في الجامعة وترتيب مسائل الإقامة والسكن، التعرف على شعب طيب ورائع ومدينة عظيمة، سيكون لها في حديث الذاكرة الكثير في المستقبل.

أعود لصومعتي أحتسي القهوة مع طيفي الذي لا يفارقني، أرسم الأمل والفرح في نفسي، مع فنجان القهوة وصحف الصباح وفيروز تشدو: (كنا نتلاقى من عشية ونقعد على الجسر العتيق، وتنـزل على السهل الضباب، تمحي الندى وتمحي الطريق، ما حد يعدي بمطرحنا، غير السما وورق تشرين، ويقلي بحبك ويهرب فينا الغيم الحزين، يا سنين إلي راح ترجعيلي، ارجعيلي شي مرة ارجعيلي، وانسيني عا باب الطفولة، تا أركض بشمس الطرقات، ورديني ضحكاتي إلي راحوا، يلي بعدها بزوايا الساحات).

صباحكم أجمل.