د. عدنان الظاهر
وهل لعالم الجحود ربوعٌ ؟ يا للعجب ! لا من عجب في شهر رجب ! لِمَ لا يكونُ للجحود ربوعٌ وربعٌ وطابورٌ من ناكري وناكرات الجميل طويلُ ؟ لِمَ لا يكونُ وكلُّ ما هو كائنٌ الآنَ ما كان كائناً قبل الآن ؟ هل المسألةُ مسالةُ جحودٍ ونكرانِ جميلٍ فقط أم أنها مسألةٌ مركّبةٌ معقدّةٌ لا تخلو من سوءِ أدبٍ وسوءِ نوايا وأنانيةٍ وضِعَةٍ في النفوس وإنحرافٍ خطيرٍ عن الطبيعة السويّة ؟! قال جليسي أوافقك حرفياً على كل ما قد قلتَ . للأسف ما زالت هذه النماذج المفرطة في السوء منتشرةً في مختلف أوساط البشر لا تخلو منها دوائر الأدب والصحافة بل وحتى معاهد العلم ومؤسساته . ما تفسيرُ ذلك يا جليس ؟ قال لا أدري . إنه ـ ربما ـ الَعوَجُ في تركيب بعض النفوس أو صَغارُ هذه النفوس أو الجهل بمبادئ الأخلاق وقواعد الأصول الإجتماعية . قلت له معك حق لو كان هؤلاء القوم من ناكري الجميل من بسطاء الناس وغير المتعلمين أو المحسوبين على الأشرار والمغمورين من البشر . إنهم في جُلّهم مثقفين ومتعلمين وحَمَلة شهادات جامعية وأخرى أعلى ، فما عذرهم وما تفسيرك ؟ لاذَ صاحبي بالصمت فالموضوعُ ثقيلُ الوقع على النفوس الكريمة الشفّافة . معه حق . سأصمتُ مثله لعله يفتحُ موضوعاً آخرَ أخفَّ وطأةً عليَّ . خاب ظني ! صمتَ جليسي لا لإراحتي من همّي وألمي ولكنْ لينكأَ جرحي من جديد . قال مَن همْ هؤلاء وكيف عرفتَ أنهم جحدوا أفضالك وأنكروا جميلك وما أسديتَ لهم وما بذلتَ من جهود ؟ ليسوا بالكثرة لحسن الحظ ولكنَّ عملاً سيئاً واحداً يطغى على مئات الأعمال الجيدة ويظلُّ المرءُ يتذكره ربما طوال حياته . قال وهل عاتبتهم وهل إستجابوا واعترفوا فاعتذروا ؟
عاتبتُ بعضَهم فكابرَ هذا البعضُ ولم يعترفْ ولم يعتذرْ بل وبررَ الإساءةَ بمنطقٍ سخيفٍ مُهلهَلٍ واستكثرَ عِتابي بل واستثقله . أخذته العزّةُ بالإثم !! عجيب ؟ قال صاحبي . أيُّ زمانٍ هذا وأيُّ نوعٍ من البشر ؟ تذكّرتُ حكمةً قديمةً تقول [[ إتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه ]]. ما أبلغها من حكمة ما كنتُ أعرفُ مصداقيتها حتى جرّبتها وقد شَخُصتْ أمام بصري بكل قوتها وبلاغة منطقها . إتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه ! كيف إذاً سنواصل الإحسان للناس ونحن لا نعرف أيهم يستحق هذا الإحسان وأيهم لا يستحقه ؟ كذلك تذكرتُ قولةً كانت ترددها كثيراً سيدةٌ صالحةٌ في مدينتي هي [[ ولماذا يُخازي الذي لا يُجازي ]] ؟ هؤلاء يخازون ولا يُجازون علماً أني أقدّمُ لهم ما أقدّمُ من مجهودات وأفضال لوجه الله تبرعاً لا أنتظر منهم جزاءً ولا شكورا . لستُ بحاجة لحسن الحظ لهم ولن أكونَ يوماً بحاجةٍ لأمثالهم . وما قرارك اليوم يا صديق ؟ سألني صاحبي . سأواصل ذات النهج وسأسدي ما أسدي من جميلٍ وأفضالٍ حسبَ إستطاعتي وقناعاتي خاضعاً لتوجيهات البوصلة الإنسانية في داخلي ففيها النورُ الذي يتحكّمُ في سلوكي العام تجاه البشرية لما فيه خيرُ الناس ومساعدتهم على كشف ظلام دروبهم وتحسين أحوالهم والكفاح من أجل نوال حرياتهم وحقوقهم حتى لو عقّني عاقٌّ وأنكرني ناكرُ جميلٍ وأساءَ لي معتوهٌ مشبوهٌ موسوّسٌ سيّءُ الخُلق والتربية مشبوهُ الأصلِ . سأصِرُّ على إنتهاج ذات النهج الذي التزمتُ طوال عمري وأواصل جهودي التي نذرتها لغيري وضحيتُ بالكثير في سبيلها ومن أجلها ولم أبالِ بخسارةٍ مهما عظُمتْ لأنَّ رسالتي لا شأنَ لها بالربح والخسارة . ما قيمةُ الربحِ والخسارةِ بالنسبة لشخصٍ مستعدٍ دوماً للتضحية حتى بحياته وقد قال شاعرٌ [[ والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجودِ ]] . كان صاحبي منصتاً بخشوع لما كنتُ أقول كأني خطيبُ مسجدٍ في ظهر نهار يومِ جُمعة . قال وهل ستواصل تقديم المساعدات لهذا النفر الضال الجاحد العاق وتواصل الكتابة عنهم وعن نصوصهم كما كانَ دأبُكَ قبلَ أنْ يُسيئوا إليك ؟ قلتُ كلاّ ، نَفقتْ أرصدتي الإنسانية والأدبية التي خصّصتها لهم وسأجرّبُ غيرَهم ففي غيرهم لا ريبَ نماذجُ أفضلُ تربيةً وأشرفُ منهم وأكثرُ حِلماً وتواضعاً فما زالت الدنيا وما زالت البشرية بخير قبل أنْ ينشقَّ القمرُ ويرتطمَ كوكبُ زُحَلٍ بالأرض . أنشدتُ صاحبي [[ فارقْ تجدْ عِوَضاً عمّن تُفارقهُ ]] فبادر صاحبي مُصحِّحاً [[ سافرْ تجدْ ... ]] قلتُ له أعرفُ ذلك لكني أبدلتُ فعلَ أمرٍ بآخر عن عمدٍ ، لأنَّ المسألةَ هنا ليست مسألة سفرٍ إنما موضوع فراق رغمَ مرارة الفراق ! ضحك صاحبي وضحكتُ معه وانبسطت أساريري وتغيّرَ مزاجي فغدوتُ مَرِحاً أميلُ لحكايةِ النكاتِ الساخرة حتى البذيئة منها فمن البداهة أنه إذا ما طفحَ الكيلُ طافت المُهجةُ وإنفجرت المرارةُ وضاعت المقاييس وتهدّمت الجدرانُ وأتى صنعاءَ السيلُ العَرِمُ . ماذا بعد إنهيارِ سدّ مأرب وخراب البصرة ؟ ما مغزى التعلّق بوقارٍ زائف لا قيمةَ له في السوق العراقي والعالمي ؟ نعمْ ، النكتة الساخرة العائمة فوق طوفان سائل المرارة المنفجرة في جوف الإنسانِ المغبونِ ... هذه النكتة الساخرة هي الرد الطبيعي والتعبير الحقيقي عن إلإحساس بالغبن الذي لا يختلف في فعله المُدمِّرِ عن فعل حجيرات السرطان . أفلمْ يقلْ أبو الطيّب المتنبي :
واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جاني
هِ غذاءٌ تذوى بهِ الأجسامُ
(( تذوى أو تضوى شئٌ واحدٌ ، فالبيتُ يُروى بالشكلين )) .
هذا هو وضعي الحقيقي مع هؤلاء الناس . جحودُهم وأذيّتُهم تجعلني أُحسُّ كأني أذبلُ وأذوى وأمرضُ لأنني لا أستطيع كبحَ جُماحهم ولا أقدرُ أنْ أغيّرَ طباعهم وما جبلوا عليه من سوءِ خُلْقٍ متحكّمٍ فيهم ربما بالوراثة [ سأستشيرُ بهذا الصدد صديقي خبير الجينات الدكتور بهجت عبّاس . هل تسمعني أبا نيران وأنت هناك في كندا ؟ أم أنَّ محنتك مع معاملة التقاعد والجامعة المستنصرية في بغدادَ تفوقُ محنتي مع هؤلاء السوُقة فلا تُسعفني بعلمك ؟] . جُلَّ ما أقدرُ عليه أنْ أعتبَ وقد أتجاسرُ فألومُ وهذه غايةُ شجاعتي . وحين يعجزُ المرءُ عن ردع مَن ظَلَمهُ وأخذِ الحق منه ينكفئُ مُنسرِباً لظلماتِ سراديبِ ومغاراتِ دواخله ، مُتذكِّراً رَحِمَ أمّه ذاك الملاذ المُحصّن الأمين، باحثاً عن وسائل تحميهِ ومراهمَ وأدوية يعالج بها إحساسه بالعجز والهوان فيجد أول ما يجدُ متاحاً بين يديهِ ما يدخّرُ في ذاكرته من نكات هازئةٍ وحكايا وقصص خرافية حتى لو كانت هزيلة كثيرة التواضع . إنه نوع من الدفاع عن النفس والوجود . نوع ضعيفٌ من الدفاعات لكنه ناجعٌ ومخففٌ وناجحٌ كمخدِّرٍ لا أكثرَ وقتيِّ المفعول . فيا أيها الجاحدون والجاحدات والناكرون والناكرات ويا أيها النكراتُ من كلا الجنسين رفقاً بنا وبأنفسكم . لا تختالوا في الأرض ولا تمشوا عليها مَرَحاً فالعمرُ قصيرٌ والموتُ سريعُ الخُطى لا نهايةَ له . حاولوا أنْ تعرفوا أولاً مَنْ أنتمْ وما كنتمْ ومن هُمْ آباؤكم الأولون وما مصيرهم الذي آلوا إليه في آخرِ أمرِهمْ ؟ . لا نشكوكم إليكم لأنكم صُمٌّ بكمٌ عميٌّ لا تسمعون ولا تفقهون فويلٌ لكم من عذاب يوم تصحو فيه ضمائركم التي أعطبها الغلوُّ وعطّلها إنحراف الأخلاق وسوء التربية الشخصية والعائلية . ويلٌ لكم من عذاب يومٍ تصحون في بداياته على دمارٍ وبؤسٍ وخراب. مَن سيرحمك يومئذٍ ومَنْ سيرفعُ الهمَّ والغمَّ عنكم ؟ يومَ لا ينفعُ فيه مالٌ أو بنون . علّقَ صاحبي قائلاً وهل يسمعُ أو يعي جاحدٌ فضلاً وناكرُ جميل ؟ هؤلاء قلوبهم من حجرٍ وأعصابهم حبالٌ من مَسَدٍ أو ليفِ مكّة . عيونُهم عيونُ قارٍ وقَطَران فلا تُشغلْ بهم بالك وحاول أنْ تنساهم ولا تنسَ ما قال عيسى المسيحُ عن أعدائه والساخرين منه ( أبتاهُ ارحمهم فإنهم لا يدرون ما يقولون ) ... أو جملةً قريبةً من هذا . تنهدّتُ طويلاً وعميقاً ثم قلتُ لنفسي ليتني أستطيعُ ! لستُ مسيحاً ولا عيسى ولا أمّهُ أمي لسوء حظي . أشفقَ عليَّ ورقَّ صاحبي وقد رآني أهذي مع نفسي كَرّاً وفرّاً هجوماً ودفاعاَ كأني قائدُ فرقةٍ عسكريةٍ يخوضُ معاركَ طاحنة في ميدان خيالي لا وجودَ له إلا في مخيّلة المسكين صديقي دون كيخوت . هذا أفضلُ مني بكثير إذْ كان الرجلُ يحملُ سيفاً من خشب الصاج المتماسك القوي ويمتطي ظهرَ حصانٍ يُحاكيه هُزالاً ويشاركه في محنته . أما أنا فلا من حصانٍ تحتي ولا حتى حمارٍ أجرب أو جحش من جحوش الطرقات السائبة بحثاً عن قشرة بطيخة أو رقيّة أو خيار . ولا من سيفٍ في يميني حتى لو كان سيفَ تَنَك ! لا أجيدُ إستعمالَ السلاحِ لأنني بطبيعتي أبغضه أشدَّ البغض ولا أُطيقُ النظر إليه مهما صَغُرَ . عقدّتني الحروبُ منذ صغري ونعومة أظفاري إذْ ما أنْ بلغتُ الثالثةَ من عمري حتى نشبت الحرب العالميةُ الثانيةُ وقبلها ثورةٌ في فلسطين وحربٌ أهليةٌ مُدمِّرةٌ في إسبانيا . ولا أنسى إنتفاضة الجيش العراقي في شهر مايس من عام 1941 ضد الإنكليز الذين إستعمروا العراق وأذلّوا أهله . أما الإنقلابات الدموية الكثيرة فهي في نظري حروبٌ محليةٌ موضعيةٌ في زمن السلم تسيلُ فيها الدماءُ حتى الرِكاب . إذاً كيف أُطيقُ حَمْلَ أو حتى النظر إلى قطعة سلاح ؟ دون كيخوت أفضل مني وأكثر شجاعةً لأنه مقاتل إيجابي يحملُ سلاحاً وتحته وسيلةٌ من وسائل النقليات الآلية الحربية [ حُصان / كديش ] وله أهدافٌ عسكريةٌ محددة [ قتال طواحين الهواء ] . أما أنا ... فليس عندي وسائلُ نقلٍ ولا عتادٌ حربي وإني مقاتلٌ في الداخل أي إني مقاتلٌ سلبيٌّ في الظلام يقاتلُ أهدافاُ مرئيةً تحت النور هم الظَلَمةُ وناكرو وناكرات الجميل وجاحدات الفضل والمركوبات بإثم العزّة الجاهلية الأولى .
إنتبهتُ بعد هذه السياحة الطويلة لأجدَ نفسي وحيداً في بيتي . أين صاحبي وضيفي ؟ كيف تركني مغشيّاً عليَّ وغادرَ داري دون وداع وكلمة شكر على كرم ضيافتي له ؟ هل هو واحدٌ من أولئك الناكري والناكرات الجميل ؟ جائز . لا من مُحالٍ في الدنيا في هذه الأيام . تعالَ سيد دون كيخوت زرني في بيتي فلك عندي فيه طعامٌ وشرابٌ وعلفٌ للمسكين حصانك الذي لا يختلف عن أي كديش مقرود ( أي موبوء بالقراد وخاصةً في كَفَله أي مؤخّرته مع إعتذاري للسيد ذي الكِفْل ! ). تعالَ فأنت المعترفُ بالجميلِ ولأنتَ أنتَ إبنُ أبيك الذي ورثتَ منه الحصانَ والسيفَ . تعالَ شرّفنا بزيارةٍ فمثلك لا يُنكرُ إحساناً ولا يجحدُ فضلاً . قال شكراً جزيلاً ، سأزوركَ غداً فجهّز عَلَفاً لمركوبي وخبزَ شعيرٍ حارٍ لأخيك فإنه طعامي الوحيد المفضَّل . أنا وحصاني كلانا نقتاتُ على الشعير ، يأكله حصاني حبوباً وآكله أنا مطحوناً مخبوزاً والشعيرُ كما تعلمُ هو الشعيرُ ويبقى شعيراً مهما تبدّلت هيئتُهُ . هل أضحكُ أمْ أبكي على حال المسكين دون كيخوتة كما يسميه البعض ؟ لا يميزُ بين طعامه وطعام وسيلة نقله ومبارزة خصومه . لعلَّ قناعته أنه حصانٌ أو لا يختلفُ عن الحصان ما دام الإنسانُ حيواناً ناطقاً وللحصان صهيلٌ وللكديش ، وإنْ إختلفَ عن البغل ، شحيجٌ [ أو إسمٌ قريبٌ من هذا ] كما أنَّ للحمارنهيقا .
وهل لعالم الجحود ربوعٌ ؟ يا للعجب ! لا من عجب في شهر رجب ! لِمَ لا يكونُ للجحود ربوعٌ وربعٌ وطابورٌ من ناكري وناكرات الجميل طويلُ ؟ لِمَ لا يكونُ وكلُّ ما هو كائنٌ الآنَ ما كان كائناً قبل الآن ؟ هل المسألةُ مسالةُ جحودٍ ونكرانِ جميلٍ فقط أم أنها مسألةٌ مركّبةٌ معقدّةٌ لا تخلو من سوءِ أدبٍ وسوءِ نوايا وأنانيةٍ وضِعَةٍ في النفوس وإنحرافٍ خطيرٍ عن الطبيعة السويّة ؟! قال جليسي أوافقك حرفياً على كل ما قد قلتَ . للأسف ما زالت هذه النماذج المفرطة في السوء منتشرةً في مختلف أوساط البشر لا تخلو منها دوائر الأدب والصحافة بل وحتى معاهد العلم ومؤسساته . ما تفسيرُ ذلك يا جليس ؟ قال لا أدري . إنه ـ ربما ـ الَعوَجُ في تركيب بعض النفوس أو صَغارُ هذه النفوس أو الجهل بمبادئ الأخلاق وقواعد الأصول الإجتماعية . قلت له معك حق لو كان هؤلاء القوم من ناكري الجميل من بسطاء الناس وغير المتعلمين أو المحسوبين على الأشرار والمغمورين من البشر . إنهم في جُلّهم مثقفين ومتعلمين وحَمَلة شهادات جامعية وأخرى أعلى ، فما عذرهم وما تفسيرك ؟ لاذَ صاحبي بالصمت فالموضوعُ ثقيلُ الوقع على النفوس الكريمة الشفّافة . معه حق . سأصمتُ مثله لعله يفتحُ موضوعاً آخرَ أخفَّ وطأةً عليَّ . خاب ظني ! صمتَ جليسي لا لإراحتي من همّي وألمي ولكنْ لينكأَ جرحي من جديد . قال مَن همْ هؤلاء وكيف عرفتَ أنهم جحدوا أفضالك وأنكروا جميلك وما أسديتَ لهم وما بذلتَ من جهود ؟ ليسوا بالكثرة لحسن الحظ ولكنَّ عملاً سيئاً واحداً يطغى على مئات الأعمال الجيدة ويظلُّ المرءُ يتذكره ربما طوال حياته . قال وهل عاتبتهم وهل إستجابوا واعترفوا فاعتذروا ؟
عاتبتُ بعضَهم فكابرَ هذا البعضُ ولم يعترفْ ولم يعتذرْ بل وبررَ الإساءةَ بمنطقٍ سخيفٍ مُهلهَلٍ واستكثرَ عِتابي بل واستثقله . أخذته العزّةُ بالإثم !! عجيب ؟ قال صاحبي . أيُّ زمانٍ هذا وأيُّ نوعٍ من البشر ؟ تذكّرتُ حكمةً قديمةً تقول [[ إتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه ]]. ما أبلغها من حكمة ما كنتُ أعرفُ مصداقيتها حتى جرّبتها وقد شَخُصتْ أمام بصري بكل قوتها وبلاغة منطقها . إتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إليه ! كيف إذاً سنواصل الإحسان للناس ونحن لا نعرف أيهم يستحق هذا الإحسان وأيهم لا يستحقه ؟ كذلك تذكرتُ قولةً كانت ترددها كثيراً سيدةٌ صالحةٌ في مدينتي هي [[ ولماذا يُخازي الذي لا يُجازي ]] ؟ هؤلاء يخازون ولا يُجازون علماً أني أقدّمُ لهم ما أقدّمُ من مجهودات وأفضال لوجه الله تبرعاً لا أنتظر منهم جزاءً ولا شكورا . لستُ بحاجة لحسن الحظ لهم ولن أكونَ يوماً بحاجةٍ لأمثالهم . وما قرارك اليوم يا صديق ؟ سألني صاحبي . سأواصل ذات النهج وسأسدي ما أسدي من جميلٍ وأفضالٍ حسبَ إستطاعتي وقناعاتي خاضعاً لتوجيهات البوصلة الإنسانية في داخلي ففيها النورُ الذي يتحكّمُ في سلوكي العام تجاه البشرية لما فيه خيرُ الناس ومساعدتهم على كشف ظلام دروبهم وتحسين أحوالهم والكفاح من أجل نوال حرياتهم وحقوقهم حتى لو عقّني عاقٌّ وأنكرني ناكرُ جميلٍ وأساءَ لي معتوهٌ مشبوهٌ موسوّسٌ سيّءُ الخُلق والتربية مشبوهُ الأصلِ . سأصِرُّ على إنتهاج ذات النهج الذي التزمتُ طوال عمري وأواصل جهودي التي نذرتها لغيري وضحيتُ بالكثير في سبيلها ومن أجلها ولم أبالِ بخسارةٍ مهما عظُمتْ لأنَّ رسالتي لا شأنَ لها بالربح والخسارة . ما قيمةُ الربحِ والخسارةِ بالنسبة لشخصٍ مستعدٍ دوماً للتضحية حتى بحياته وقد قال شاعرٌ [[ والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجودِ ]] . كان صاحبي منصتاً بخشوع لما كنتُ أقول كأني خطيبُ مسجدٍ في ظهر نهار يومِ جُمعة . قال وهل ستواصل تقديم المساعدات لهذا النفر الضال الجاحد العاق وتواصل الكتابة عنهم وعن نصوصهم كما كانَ دأبُكَ قبلَ أنْ يُسيئوا إليك ؟ قلتُ كلاّ ، نَفقتْ أرصدتي الإنسانية والأدبية التي خصّصتها لهم وسأجرّبُ غيرَهم ففي غيرهم لا ريبَ نماذجُ أفضلُ تربيةً وأشرفُ منهم وأكثرُ حِلماً وتواضعاً فما زالت الدنيا وما زالت البشرية بخير قبل أنْ ينشقَّ القمرُ ويرتطمَ كوكبُ زُحَلٍ بالأرض . أنشدتُ صاحبي [[ فارقْ تجدْ عِوَضاً عمّن تُفارقهُ ]] فبادر صاحبي مُصحِّحاً [[ سافرْ تجدْ ... ]] قلتُ له أعرفُ ذلك لكني أبدلتُ فعلَ أمرٍ بآخر عن عمدٍ ، لأنَّ المسألةَ هنا ليست مسألة سفرٍ إنما موضوع فراق رغمَ مرارة الفراق ! ضحك صاحبي وضحكتُ معه وانبسطت أساريري وتغيّرَ مزاجي فغدوتُ مَرِحاً أميلُ لحكايةِ النكاتِ الساخرة حتى البذيئة منها فمن البداهة أنه إذا ما طفحَ الكيلُ طافت المُهجةُ وإنفجرت المرارةُ وضاعت المقاييس وتهدّمت الجدرانُ وأتى صنعاءَ السيلُ العَرِمُ . ماذا بعد إنهيارِ سدّ مأرب وخراب البصرة ؟ ما مغزى التعلّق بوقارٍ زائف لا قيمةَ له في السوق العراقي والعالمي ؟ نعمْ ، النكتة الساخرة العائمة فوق طوفان سائل المرارة المنفجرة في جوف الإنسانِ المغبونِ ... هذه النكتة الساخرة هي الرد الطبيعي والتعبير الحقيقي عن إلإحساس بالغبن الذي لا يختلف في فعله المُدمِّرِ عن فعل حجيرات السرطان . أفلمْ يقلْ أبو الطيّب المتنبي :
واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جاني
هِ غذاءٌ تذوى بهِ الأجسامُ
(( تذوى أو تضوى شئٌ واحدٌ ، فالبيتُ يُروى بالشكلين )) .
هذا هو وضعي الحقيقي مع هؤلاء الناس . جحودُهم وأذيّتُهم تجعلني أُحسُّ كأني أذبلُ وأذوى وأمرضُ لأنني لا أستطيع كبحَ جُماحهم ولا أقدرُ أنْ أغيّرَ طباعهم وما جبلوا عليه من سوءِ خُلْقٍ متحكّمٍ فيهم ربما بالوراثة [ سأستشيرُ بهذا الصدد صديقي خبير الجينات الدكتور بهجت عبّاس . هل تسمعني أبا نيران وأنت هناك في كندا ؟ أم أنَّ محنتك مع معاملة التقاعد والجامعة المستنصرية في بغدادَ تفوقُ محنتي مع هؤلاء السوُقة فلا تُسعفني بعلمك ؟] . جُلَّ ما أقدرُ عليه أنْ أعتبَ وقد أتجاسرُ فألومُ وهذه غايةُ شجاعتي . وحين يعجزُ المرءُ عن ردع مَن ظَلَمهُ وأخذِ الحق منه ينكفئُ مُنسرِباً لظلماتِ سراديبِ ومغاراتِ دواخله ، مُتذكِّراً رَحِمَ أمّه ذاك الملاذ المُحصّن الأمين، باحثاً عن وسائل تحميهِ ومراهمَ وأدوية يعالج بها إحساسه بالعجز والهوان فيجد أول ما يجدُ متاحاً بين يديهِ ما يدخّرُ في ذاكرته من نكات هازئةٍ وحكايا وقصص خرافية حتى لو كانت هزيلة كثيرة التواضع . إنه نوع من الدفاع عن النفس والوجود . نوع ضعيفٌ من الدفاعات لكنه ناجعٌ ومخففٌ وناجحٌ كمخدِّرٍ لا أكثرَ وقتيِّ المفعول . فيا أيها الجاحدون والجاحدات والناكرون والناكرات ويا أيها النكراتُ من كلا الجنسين رفقاً بنا وبأنفسكم . لا تختالوا في الأرض ولا تمشوا عليها مَرَحاً فالعمرُ قصيرٌ والموتُ سريعُ الخُطى لا نهايةَ له . حاولوا أنْ تعرفوا أولاً مَنْ أنتمْ وما كنتمْ ومن هُمْ آباؤكم الأولون وما مصيرهم الذي آلوا إليه في آخرِ أمرِهمْ ؟ . لا نشكوكم إليكم لأنكم صُمٌّ بكمٌ عميٌّ لا تسمعون ولا تفقهون فويلٌ لكم من عذاب يوم تصحو فيه ضمائركم التي أعطبها الغلوُّ وعطّلها إنحراف الأخلاق وسوء التربية الشخصية والعائلية . ويلٌ لكم من عذاب يومٍ تصحون في بداياته على دمارٍ وبؤسٍ وخراب. مَن سيرحمك يومئذٍ ومَنْ سيرفعُ الهمَّ والغمَّ عنكم ؟ يومَ لا ينفعُ فيه مالٌ أو بنون . علّقَ صاحبي قائلاً وهل يسمعُ أو يعي جاحدٌ فضلاً وناكرُ جميل ؟ هؤلاء قلوبهم من حجرٍ وأعصابهم حبالٌ من مَسَدٍ أو ليفِ مكّة . عيونُهم عيونُ قارٍ وقَطَران فلا تُشغلْ بهم بالك وحاول أنْ تنساهم ولا تنسَ ما قال عيسى المسيحُ عن أعدائه والساخرين منه ( أبتاهُ ارحمهم فإنهم لا يدرون ما يقولون ) ... أو جملةً قريبةً من هذا . تنهدّتُ طويلاً وعميقاً ثم قلتُ لنفسي ليتني أستطيعُ ! لستُ مسيحاً ولا عيسى ولا أمّهُ أمي لسوء حظي . أشفقَ عليَّ ورقَّ صاحبي وقد رآني أهذي مع نفسي كَرّاً وفرّاً هجوماً ودفاعاَ كأني قائدُ فرقةٍ عسكريةٍ يخوضُ معاركَ طاحنة في ميدان خيالي لا وجودَ له إلا في مخيّلة المسكين صديقي دون كيخوت . هذا أفضلُ مني بكثير إذْ كان الرجلُ يحملُ سيفاً من خشب الصاج المتماسك القوي ويمتطي ظهرَ حصانٍ يُحاكيه هُزالاً ويشاركه في محنته . أما أنا فلا من حصانٍ تحتي ولا حتى حمارٍ أجرب أو جحش من جحوش الطرقات السائبة بحثاً عن قشرة بطيخة أو رقيّة أو خيار . ولا من سيفٍ في يميني حتى لو كان سيفَ تَنَك ! لا أجيدُ إستعمالَ السلاحِ لأنني بطبيعتي أبغضه أشدَّ البغض ولا أُطيقُ النظر إليه مهما صَغُرَ . عقدّتني الحروبُ منذ صغري ونعومة أظفاري إذْ ما أنْ بلغتُ الثالثةَ من عمري حتى نشبت الحرب العالميةُ الثانيةُ وقبلها ثورةٌ في فلسطين وحربٌ أهليةٌ مُدمِّرةٌ في إسبانيا . ولا أنسى إنتفاضة الجيش العراقي في شهر مايس من عام 1941 ضد الإنكليز الذين إستعمروا العراق وأذلّوا أهله . أما الإنقلابات الدموية الكثيرة فهي في نظري حروبٌ محليةٌ موضعيةٌ في زمن السلم تسيلُ فيها الدماءُ حتى الرِكاب . إذاً كيف أُطيقُ حَمْلَ أو حتى النظر إلى قطعة سلاح ؟ دون كيخوت أفضل مني وأكثر شجاعةً لأنه مقاتل إيجابي يحملُ سلاحاً وتحته وسيلةٌ من وسائل النقليات الآلية الحربية [ حُصان / كديش ] وله أهدافٌ عسكريةٌ محددة [ قتال طواحين الهواء ] . أما أنا ... فليس عندي وسائلُ نقلٍ ولا عتادٌ حربي وإني مقاتلٌ في الداخل أي إني مقاتلٌ سلبيٌّ في الظلام يقاتلُ أهدافاُ مرئيةً تحت النور هم الظَلَمةُ وناكرو وناكرات الجميل وجاحدات الفضل والمركوبات بإثم العزّة الجاهلية الأولى .
إنتبهتُ بعد هذه السياحة الطويلة لأجدَ نفسي وحيداً في بيتي . أين صاحبي وضيفي ؟ كيف تركني مغشيّاً عليَّ وغادرَ داري دون وداع وكلمة شكر على كرم ضيافتي له ؟ هل هو واحدٌ من أولئك الناكري والناكرات الجميل ؟ جائز . لا من مُحالٍ في الدنيا في هذه الأيام . تعالَ سيد دون كيخوت زرني في بيتي فلك عندي فيه طعامٌ وشرابٌ وعلفٌ للمسكين حصانك الذي لا يختلف عن أي كديش مقرود ( أي موبوء بالقراد وخاصةً في كَفَله أي مؤخّرته مع إعتذاري للسيد ذي الكِفْل ! ). تعالَ فأنت المعترفُ بالجميلِ ولأنتَ أنتَ إبنُ أبيك الذي ورثتَ منه الحصانَ والسيفَ . تعالَ شرّفنا بزيارةٍ فمثلك لا يُنكرُ إحساناً ولا يجحدُ فضلاً . قال شكراً جزيلاً ، سأزوركَ غداً فجهّز عَلَفاً لمركوبي وخبزَ شعيرٍ حارٍ لأخيك فإنه طعامي الوحيد المفضَّل . أنا وحصاني كلانا نقتاتُ على الشعير ، يأكله حصاني حبوباً وآكله أنا مطحوناً مخبوزاً والشعيرُ كما تعلمُ هو الشعيرُ ويبقى شعيراً مهما تبدّلت هيئتُهُ . هل أضحكُ أمْ أبكي على حال المسكين دون كيخوتة كما يسميه البعض ؟ لا يميزُ بين طعامه وطعام وسيلة نقله ومبارزة خصومه . لعلَّ قناعته أنه حصانٌ أو لا يختلفُ عن الحصان ما دام الإنسانُ حيواناً ناطقاً وللحصان صهيلٌ وللكديش ، وإنْ إختلفَ عن البغل ، شحيجٌ [ أو إسمٌ قريبٌ من هذا ] كما أنَّ للحمارنهيقا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق