السبت، يونيو 06، 2009

نقض الجنون


نعمان إسماعيل عبد القادر
لقد طلع علينا في الآونة الأخيرة شخص بمقال جديد أطلق عليه اسم "جنون الفتحة والكسرة"- فتملكني الظن في بداية الأمر أن الكاتب أراد أن يطرح نظرية جديدة واقعية تفيد الأمة العربية وتحل مشكلاتها النحوية واللغوية. لكن ظنّي سرعان أن خاب بعد أن قرأت ما كتبه وأدركت أنه يرمي عكس ما توقعته. ويسوق لنا مثالاً من عالم سيبويه والكسائي العالمين النحويين الشهيرين، من مدرستي البصرة والكوفة، واختلافهما على قراءة جملة ما، ليوهم القراء أن الاختلاف كان على أمور غاية في البساطة والسذاجة. ثم يضرب لنا أمثلة أخرى من عالم الشدياق- صاحب الساق على الساق- وجبران خليل جبران- صاحب النبي- ليثبت للقراء أن الإبداع لا يرتبط بالنحو ولا صلة بينهما. وإلى هنا كنت أوافقه الرأي لكن الذي يثير القارئ هو ادّعاؤه في نهاية مقاله أن من يضبط كلامه من المثقفين بعلامات الإعراب إنما هو طائش كتلميذ الثانوية وسخيف كمعلم النحو.. ما كنت لأتوقع أن يقال هذا الكلام لأن الكاتب لم يدرك أن هناك قطاعات واسعة من الأمة عامةً ومن المثقفين خاصةً تتخصص بالنحو كأي طبيب يتخصص في موضوع ما في الطب بعد الانتهاء من دراسة الطب العام. ثم نسي أن اللغة منوطة بالقرآن لا يمكن أن فصل الواحد عن الآخر لذلك لا بد من الإدراك أن اللغة العربية ونحوها وأدبها لهم جميعًا قدسية خاصة في قلوب الكثير من الناس ينبغي احترام هذه القدسية ولا يمكن التطاول عليها.
إن من يظن أن نفسه وحيدًا في هذه الدنيا، إنما هو ضرب من الجنون، فلا يمكن تجاهل الآخر وضرب مشاعر الآخرين بعرض الحائط أبدًا. فالحرية أن تحافظ على حرية غيرك وتحترمها.
حاول طه حسين ذات مرة في كتابه "في الشعر الجاهلي" معتمدًا على أستاذه المستشرق مارجليوت وقد فُتن بمنهج الشك الديكارتي، أن يشكك في وجود الشعر الجاهلي، فأدت محاولته هذه إلى
تقديمه للمحاكمة. وكان ذلك في آخر شهر مايو، عندما تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم المخصوص بالأزهر ببلاغ للنائب العمومي يتهم فيه طه حسين بأنه ألف كتابا أسماه في الشعر الجاهلي ونشره على الجمهور، ويؤكد "أن في هذا الكتاب طعنا صريحا في القرآن، حيث نسب المؤلف الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم". وتحرك شيخ الأزهر فأرسل، بدوره بلاغا إلى النائب العام في أوائل يونيو سنة 1926 وتقريرا من علماء الجامع الأزهر عن طعن طه حسين بكتابه في القرآن والنبي. ثم تقدم أحد أعضاء مجلس النواب ببلاغ هو الآخر يتهم فيه طه حسين بالتعدي على الإسلام.
وقامت العاصفة حول الكتاب. ووصل الأمر إلى قيام مظاهرات توجهت إلى البرلمان. وتدخلت الأحزاب في المعركة، وأعلن الشيخ علي الغاياتي عزمه على استجواب رئيس الوزراء عدلي يكن في هذا الشأن، وقدم أحد نواب الوفد اقتراحا من ثلاثة أقسام: أولها إعدام الكتاب، وثانيها إحالة طه حسين إلى النيابة، وثالثها إلغاء وظيفته. وانتهى الأمر بموافقة البرلمان على إعدام الكتاب وإحالة طه حسين إلى النيابة. ثم قامت الجامعة بسحب نسخ الكتاب من الأسواق.
كان طه حسين بلا شك مفكّرًا عظيمًا ولا يخفى على أحد أنه ترك بصماته على الأدب العربي واللغة العربية. ولكن ما حصل معه جاء بسبب انشغاله بأمور تتعلق بالماضي السحيق كان معروفًا مسبقًا أنها لا يمكن بأي صورة من الصور أن تفيد الأمة في شيء. بل جاء مردودها عكسيًا أدى إلى إثارة حفيظة الأوساط المحافظة. ثم أدرك عميد الأدب العربي أن التفكير في المستقبل ووضع الحلول المناسبة أكثر نفعًا من نبش الماضي فسارع في وضع كتابه الرائع "مستقبل الثقافة في مصر". وما يحصل اليوم هو نبش جديد آخر في الماضي ونحن في غنى عن هذه الأمور الجديدة التي لا تنفع. ما لنا وخلافات سيبويه مع غيره. أما زلنا نتجادل أيهما أحق في الخلافة علي أم معاوية؟ متى ننتهي من هذا؟
لا شك أن النحو العربي فيه من الصعوبات الكثير الكثير.. ولكنها ليست على قدر النحو في اللغتين الفرنسية والألمانية، ونتساءل: هل يفكر الألمان والفرنسيون مثلنا؟ ولهذا فالأولى أن نفكر في إيجاد آليات جديدة لتدريس النحو بدلاً من توجيه النقد اللاذع لهذا أو ذاك.
وقد يسأل سائل: ماذا يفعل من لا يتقن النحو؟
ليس في ذلك عيبٌ، وإن من يلحن اليوم لا يمكن نسميه مرتكب جريمة لا يغتفر له عليها، وليس هناك أي حرج للإنسان إذا لم يتقن النحو، فالعامة اليوم لا تتقنه.. ومع هذا فبإمكان المرء إذا أراد أن يلقي خطبة ما أمام جمهور أن ينتهج منهج التسكين بدلا من محاولته دون فائدة، أن يترك انطباعًا أمام الناس ويظهر لهم مدى تمكنه من اللغة ونحوها كما كان يفعل أصحاب المقامات سابقًا.
(كفر قاسم)
naamankq@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: