د. عدنان الظاهر
( أقصوصةٌ لأطفالِ العراق )
إجتمع هذا الرهطُ المسكينُ المُبتلى بعلل زمانه ومصائبه في مصحة عقلية تُدعى " أكاديمية المعتوهين " تقع في أطراف مدينة ميونيخ الألمانية في مدينة صغيرة تُسمّى
Tutzing
قريباً من ساحل بحيرة واسعة شاسعة هي
Starnbergersee
التي ذكرها الشاعر توماس إليوت في قصيدته الشهيرة " الأرض الخراب " . قلتُ إجتمع هذا الرهط إحتراماً لمشاعر أعضائه وإلا ... فإنَّ الحكومة قد حشرتهم قسراً من باب التحوّط ومنعاً لإنتشار ما حملوا أو حُمِّلوا من فايروسات قاتلة إذا ما انتقلت للبشر الذي لا يُطيقُ الحياة بدونها ... بدون لحومها . إجتمعوا بعد وجبة عشاء خفيفة نباتية وقرروا أنْ يقضوا بعض الوقت تمشياً على ساحل البحيرة . قدموا طلباً ( عرضحال ) إلى مدير المصحة وهو طبيبٌ بيطري مختّصٌ بتشخيص أعراض ومعالجة حالات الجنون بكافة أنواعه . ولكثرة إحتكاكه ومعايشته لمثل هذه الحالات غدا الرجلُ نصفَ مجنون ، هو نفسه يعترف بذلك ، هو نفسه إعترف لي في لقاءٍ عابرٍ ذاتَ يومٍ . وافق الطبيبُ المُختصُّ على طلب الجماعة ولكن بشرط : أنْ يعودوا للمصحّة قبلَ العاشرةِ ليلاً ، وكان الوقت صيفاً والشهر كان حزيران ( يونيو بالمصري ) . إرتدوا أفضلَ ما لديهم من ملابس ووضعوا في أقدامهم أرقى الأحذية الإيطالية وجميعها هِباتٌ يتبرعُ بها أهلُ الخير وأثرياء الناس إعترافاً وردّاً للجميل . [ أيُحبُّ أحدُكم أنْ يأكلَ لحمَ أخيه ميّتاً ؟ ] مساكين . مأكولون مذمومون في دنياهم وآخرتهم . فهذا الخنزيرُ المسكينُ مُحرَّمٌ أكله بالنسبة لأتباع أكثرِ من دين علماً أنه غزير الإنتاج سريع التوالد والتكاثر [ الهاكمُ التكاثرُ حتى زرتم المقابرَ ] ثم إنَّ لحومه رخيصة للسبب آنف الذِكر : سرعة وكثرة الإنتاج بالتوالد . بعضُ أهلِ الخيرِ يردون الجميلَ حتى للبهائم . المهم . أخذ الربعُ المنتشي المنتصرُ على قيودِ المصحّات وأوامر الحكومات والأطباء العقلاء منهم والمعتوهين ... أخذوا يتمشون الهوينى على الساحل الضيّق المعبّد جيداً المحصور بين الغاب الكثيف وماء البحيرة العذب يتبادلون الأحاديث وآخر أخبار العالم ولا سيّما أخبار جنون البقر وإنفلوّنزا الطيور ثم إنفلوّنزا الخنازير . أحرجَ هذا الموضوعُ الجميعَ دون إستثناء . تبرأ الجميعُ من هذا الوباء وأنكروا أنهم قد أُصيبوا به ثم لعنوا الحكومة والمؤسسات الطبية ولعنوا الحظَ الذي أوقعهم في هذه الورطة وهم أصحّاء أبرياء منها . قال الثور يا رفاق السرور : كيف أكون مريضاً وأنا أصارع البشر صيفاً وشتاءً في ميادين مصارعة الثيران في إسبانيا وخاصةً مدنها الأندلسية ؟ أصارعهم مُجبَراً ولا رأيَ لي في ذلك . إنهم يكسبون نقوداً سواءً إنتصروا عليَّ قتيلاً أو إنتصرتُ عليهم جرحى أو قتلى . إنهم وحدهم ـ البشر ـ الفائزون . لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله ، قال الديكُ منتفشَ الريشِ مُحتقنَ العُرف . لم يُعلّق الخنزير . هزَّ رأسَهُ بأسى . سأله رفيقه الديكُ المنتفشُ والمنتفخُ ريشاً وأُبّهةً وخيلاءً ما لك صامتٌ يا خنزيرُ لا تتكلم ولا تُعلّق ؟ ضحك الثور عالياً ثم قال : ألا تعرفُ أنه خنزيرٌ إبن خنزير والمسلمون لا يأكلونه ؟ غضبَ الخنزيرُ فقال أما أنتَ فما أنتَ واللهِ إلاّ ثورٌ إبنُ ثور حتى سابع ظهر . أراد الديكُ حسمَ النزاع فصاح [ عي عو عي عو ]ُ فمال المتخاصمان للهدوء . هيّا ، قال الديكُ ، هيّا تصالحا ، ما دنياكم إلاّ كعفطةِ عنزٍ. ما جئنا لنتخاصمَ ونتعاركَ ونتلامزَ ونتنابزَ بالألقاب السيّئة إنمّا جئنا لنلهو ونضحك ونتبادل النكات وأخبار الدنيا فحريق هائلٌ هناك في غابات كالفورنيا الأمريكية وهنا حربُ تحريرٍ أو إنقلاب وفي مياه المحيط الأطلسي غاصت طائرةٌ فرنسيةٌ عملاقةٌ بجميع راكبيها البالغين 238 راكباً بينهم مواطنون ألمان ومواطنات مع الأسف الشديد . علّقَ الخنزيرُ قائلاً هذه أمور عادية يومية الحدوث لا جديدَ فيها إعتدنا سماعها من أجهزة التلفزيون والفضائيات العربية بشكل خاص . تثاءبَ الثور وطلب من رفيقيه الإنتقالَ سريعاً إلى موضوع آخرَ لا يُثيرُ الأحزانَ والأشجانَ . سأله رفيقاهُ وما الذي يُشجيكَ في شؤون البشر ؟ ما لك ولهم ؟ دعْ ما لهم لهم وما لنا لنا ففينا ما يكفينا كما كان يقولُ أحدُ زعماءِ العرب حين كان حيّاً . قال الثورُ ساخراً : إي نعم ! إنهم أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون . ضحك الخنزيرُ والديكُ وحين هَدَءا سألا وما رزقُهم عند ربّهم ؟ قال رزقُهم في الآخرة هو عينُ رزقي في دنياي . شعيرٌ وحشيش بايو وقشورُ موزٍ وبطيخ . قال الديكُ المشاكسُ الذي يحبُّ المِزاح : أهذا كل ما يأكلون ؟ ألا من لحم ضأنٍ وماعيزَ وسمكٍ مقليٍّ أو مشويٍّ ( مسكوف ) على ضفافِ نهرِ دجلةَ الخيرِ وأمِّ البساتين والسلاطين والشياطينِ وغير ذلك من لحوم ومواجيل ؟ أجابَ الثورُ إتقِ اللهَ يا رجلُ ، إتقِ ربّك الذي خلقك وسوّاك في أحسن تقويمٍ . إتقِ الله . إنهم في آخرتهم مثلي نباتيين لأنهم يخشون الإصابة بما تحملُ وأحملُ ويحملُ الخنزيرُ من فايروسات ممُيتة . لا لحوم في جنّات الآخرة . الوقايةُ خيرٌ من العلاج . هذا هو شعارُهم المرفوع فوق رؤوسهم ليلاً ونهاراً . الوقايةُ خيرٌ من العلاج لأنَّ عالمهم مصممٌ ـ ربما خطأً ـ خالياً من الأطباء والمصحّاتِ والمستشفيات . قال الديكُ المشاغبُ وإذا مرضَ أحدهم لا سمحَ اللهُ ؟ إنهم قومٌ لا يمرضون ! ربما ، ربما تُصيبُ أحدَهم حمّى بسيطةٌ عابرةٌ فتتولى عندئذٍ أمرَ تمريضه والسهرِ عليه مُمرضةٌ جميلةٌ مختصّةٌ يفعل بها ومعها ما يشاءُ حتى يشفى ويعودُ إلى سيرته الأولى قوياً نشيطاً . هكذا هنَّ كُلهنَّ حورياتُ جنّات الخُلدِ العين أعددتهنَّ القُدرةُ الخفيةُ القاهرةُ ممُرضاتٍ خبيراتٍ مدرّباتٍ في أكثر المعاهد والمستشفيات البريطانية خبرةً وسمعةً وتأريخاً . قرروا ، وقد أُتخِموا ضَحِكاً وتنكيتاً وسخريةً منهم ومن دنياهم ، قرروا الرجوعَ لمعهدهم قبل العاشرة ليلاً كما عاهدوا طبيبهم المعتوه نصف المجنون . صادفوا في طريقِ أوبتهم تمثالَ أسدٍ حجريٍّ قديمٍ مشوّهِ الوجهِ مكسورِ الأنفِ مثل أسدِ بابلَ فحاولوا تجنّبَه لا خشيةً منه فإنه حجرٌ قبيحٌ لا أكثر ولكن لقبح وجهه . لكنَّ الثور ، ولأنه ثورٌ إبن ثور لسابع ظهر ، طلب من جماعته أنْ يلتقطوا له صورةً مع هذا السبع السُمَمبع . قال له الديك الظريف المشاغب : ويلك يا ثورٌ محسوبٌ خطأً على عالم الثيران وأنتَ لا تحلُّ ولا تربطُ ، ويلك من ثور غبيٍّ مفرطٍ في غبائه ! ألا تخافُ من بطشِ وصولة هذا الأسد ؟ إحتجَّ الثورُ فخارَ وحفر الأرضَ بحوافره وهزَّ ذيلَه مهدداً متوعداً ثم قال : كنتُ أحسَبُكَ صديقاً يا ديكُ ويا رفيقَ الشدّة والمصائب وإذا بك عدوٌّ وخصمٌ لدودُ . وما الذي يُخيفني في هذا الحجر القبيح وحالهُ في أفضلِ أحواله ليس بأفضلَ من حالي فكلانا حيوانٌ مغلوبٌ على أمره ، أنا متهمٌ بجنون البقر رغمَ أني ثورٌ وليس بقرةً كما تراني ، ثم إنه أكثر من مغلوبٍ على أمره إذْ ظلمه وغبنه إبنُ عمّه الإنسان فجمّده بعد أنْ أوقعَ به فأصطاده وحوّله إلى حجرٍ أصمَّ لا يسمعُ ولا يقرأُ ولا يكتبُ ، لا من حولٍ له ولا قوّةٍ لكأنه إذا أمعنتَ فيه النظرَ تحسبه ديكاً أجربَ مخصيّاً تماماً مثل كافور الإخشيدي زعيم مصر في الزمن الأغبر الغابر . إحتجَّ الديكُ قائلاً : لعلمك يا ثورُ ويا أسوأَ ثيرانِ الكرةِ الأرضيةِ ليس كلُ الديَكَةِ مخصيين ... فقد أفلتُ الكثيرُ منهم من عملية الختان الإخصائية ، الختانُ إخصاءٌ ... لعلمك ، وإذا لم تصدقْ إسالْ أمّك ! ردَّ الثورُ مبتسماً منتصراً كأنه قد حقق نصراً في ميادين المصارعة ... إبتسمَ قائلاً قبلتُ حجتكَ وأعتذرُ عمّا قلتُ في لحظة غضبٍ وإنفلات السيطرة على النفس الأمّارة بالسوءِ وما هو أسوأُ من السوءِ . هيا خذ لي صورةً مع هذا الحيوان الأجرب القبيح الخلقة لا غراماً بحبه بل شماتةً به لما آلَ إليه مصيرهُ بعد أنْ كان يُدعى مليكُ الغاب . هزَّ الخنزيرُ رأسه موافقاً الثورَ ثم أضاف [ إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها ... ] هذا هو حال كل ملوك الأرض الحاضرين والغابرين مآلهم الخرابُ والدمارُ أو القتلُ والسحلُ وتقطيعُ الجثث .
ما أنْ وصلَ الركبُ الميمونُ مُدخلَ معهدهم حتى فوجئوا بطبيهم في الأنتظار . رحب بهم بحرارةٍ صادقة ثم قال لهم ما كنتُ أحسبكم توفون بالعهد وتعودون أدراجكم قبل الساعة العاشرة . صفقوا وغنوا ثم طلب الخنزيرُ من الطبيب البيطري أنْ يسمحَ له أنْ يقبّلَه من وجنتيه . إحتجَّ زعيمُ المشاغبين الديكُ قائلاً ويلكً يا خنزيرُ ! هل أنت مِثليُّ الطبيعة الجنسية ؟ إذاً ما تفسيرُ طلبك أنْ تقبّلَ الطبيبَ ؟ قال له الخنزيرُ وما تقترحُ يا صديقَ الضيق والسوء والطريق ؟ قبّلْ مراشف طبيبةٍ أياً ما كانت ، ردَّ الديكُ ثم أضاف: قبلْ طبييةَ أمراضٍ باطنيةٍ أو عيونٍ أو أسنان أو حتى طبيبة بيطرية مثل هذا الحيوان الذي يسمونه طبيباً . هزَّ الخنزيرُ رأسه وذيله محتجاً رافضاً مقترح الديك قائلاً : ويلك يا ديكُ ، ويلك وألف مرة ويلك من غبيٍّ مشوّه الذوق . ألا تعلمُ أنَّ الطبيبات عامةً قبيحات فالفتاةُ الجميلة لا تدرسُ الطبَّ أبداً . الجميلةُ تفضّلُ أنْ تكونَ ممثلة أو نجمةً سينمائية أو مذيعة ً أو مقدمة برامج في فضائيات العرب وخاصةً الخليجية منها . لا ينسجمُ الجمالُ مع الموت والموتى وتشريح الجثث ومشارط الجراحة وتجبير الكسور وباقي الأمراض النسائية لذا فأطباء النسائية من الرجال أكثر عدداً من الطبيبات النساء المختصات بالنسائية .
بعد أخذٍ وجرٍّ وعرٍّ هدأ الجو وتصافى الرفاقُ وتنازلَ خنزيرُ القوم عن مطلبه وإلحاحه على تقبيل الطبيب مقابلَ أنْ يتبادلَ القُبَلَ مع زميله الثور علناً وليس سرّاً أو على إنفراد تحاشياً للشائعات والقال والقيل . وهكذا حلوا مشاكلهم العويصة بالتراضي والتنازلات المتقابلة والتوافق وليس بالقوة والسلاح .
( أقصوصةٌ لأطفالِ العراق )
إجتمع هذا الرهطُ المسكينُ المُبتلى بعلل زمانه ومصائبه في مصحة عقلية تُدعى " أكاديمية المعتوهين " تقع في أطراف مدينة ميونيخ الألمانية في مدينة صغيرة تُسمّى
Tutzing
قريباً من ساحل بحيرة واسعة شاسعة هي
Starnbergersee
التي ذكرها الشاعر توماس إليوت في قصيدته الشهيرة " الأرض الخراب " . قلتُ إجتمع هذا الرهط إحتراماً لمشاعر أعضائه وإلا ... فإنَّ الحكومة قد حشرتهم قسراً من باب التحوّط ومنعاً لإنتشار ما حملوا أو حُمِّلوا من فايروسات قاتلة إذا ما انتقلت للبشر الذي لا يُطيقُ الحياة بدونها ... بدون لحومها . إجتمعوا بعد وجبة عشاء خفيفة نباتية وقرروا أنْ يقضوا بعض الوقت تمشياً على ساحل البحيرة . قدموا طلباً ( عرضحال ) إلى مدير المصحة وهو طبيبٌ بيطري مختّصٌ بتشخيص أعراض ومعالجة حالات الجنون بكافة أنواعه . ولكثرة إحتكاكه ومعايشته لمثل هذه الحالات غدا الرجلُ نصفَ مجنون ، هو نفسه يعترف بذلك ، هو نفسه إعترف لي في لقاءٍ عابرٍ ذاتَ يومٍ . وافق الطبيبُ المُختصُّ على طلب الجماعة ولكن بشرط : أنْ يعودوا للمصحّة قبلَ العاشرةِ ليلاً ، وكان الوقت صيفاً والشهر كان حزيران ( يونيو بالمصري ) . إرتدوا أفضلَ ما لديهم من ملابس ووضعوا في أقدامهم أرقى الأحذية الإيطالية وجميعها هِباتٌ يتبرعُ بها أهلُ الخير وأثرياء الناس إعترافاً وردّاً للجميل . [ أيُحبُّ أحدُكم أنْ يأكلَ لحمَ أخيه ميّتاً ؟ ] مساكين . مأكولون مذمومون في دنياهم وآخرتهم . فهذا الخنزيرُ المسكينُ مُحرَّمٌ أكله بالنسبة لأتباع أكثرِ من دين علماً أنه غزير الإنتاج سريع التوالد والتكاثر [ الهاكمُ التكاثرُ حتى زرتم المقابرَ ] ثم إنَّ لحومه رخيصة للسبب آنف الذِكر : سرعة وكثرة الإنتاج بالتوالد . بعضُ أهلِ الخيرِ يردون الجميلَ حتى للبهائم . المهم . أخذ الربعُ المنتشي المنتصرُ على قيودِ المصحّات وأوامر الحكومات والأطباء العقلاء منهم والمعتوهين ... أخذوا يتمشون الهوينى على الساحل الضيّق المعبّد جيداً المحصور بين الغاب الكثيف وماء البحيرة العذب يتبادلون الأحاديث وآخر أخبار العالم ولا سيّما أخبار جنون البقر وإنفلوّنزا الطيور ثم إنفلوّنزا الخنازير . أحرجَ هذا الموضوعُ الجميعَ دون إستثناء . تبرأ الجميعُ من هذا الوباء وأنكروا أنهم قد أُصيبوا به ثم لعنوا الحكومة والمؤسسات الطبية ولعنوا الحظَ الذي أوقعهم في هذه الورطة وهم أصحّاء أبرياء منها . قال الثور يا رفاق السرور : كيف أكون مريضاً وأنا أصارع البشر صيفاً وشتاءً في ميادين مصارعة الثيران في إسبانيا وخاصةً مدنها الأندلسية ؟ أصارعهم مُجبَراً ولا رأيَ لي في ذلك . إنهم يكسبون نقوداً سواءً إنتصروا عليَّ قتيلاً أو إنتصرتُ عليهم جرحى أو قتلى . إنهم وحدهم ـ البشر ـ الفائزون . لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله ، قال الديكُ منتفشَ الريشِ مُحتقنَ العُرف . لم يُعلّق الخنزير . هزَّ رأسَهُ بأسى . سأله رفيقه الديكُ المنتفشُ والمنتفخُ ريشاً وأُبّهةً وخيلاءً ما لك صامتٌ يا خنزيرُ لا تتكلم ولا تُعلّق ؟ ضحك الثور عالياً ثم قال : ألا تعرفُ أنه خنزيرٌ إبن خنزير والمسلمون لا يأكلونه ؟ غضبَ الخنزيرُ فقال أما أنتَ فما أنتَ واللهِ إلاّ ثورٌ إبنُ ثور حتى سابع ظهر . أراد الديكُ حسمَ النزاع فصاح [ عي عو عي عو ]ُ فمال المتخاصمان للهدوء . هيّا ، قال الديكُ ، هيّا تصالحا ، ما دنياكم إلاّ كعفطةِ عنزٍ. ما جئنا لنتخاصمَ ونتعاركَ ونتلامزَ ونتنابزَ بالألقاب السيّئة إنمّا جئنا لنلهو ونضحك ونتبادل النكات وأخبار الدنيا فحريق هائلٌ هناك في غابات كالفورنيا الأمريكية وهنا حربُ تحريرٍ أو إنقلاب وفي مياه المحيط الأطلسي غاصت طائرةٌ فرنسيةٌ عملاقةٌ بجميع راكبيها البالغين 238 راكباً بينهم مواطنون ألمان ومواطنات مع الأسف الشديد . علّقَ الخنزيرُ قائلاً هذه أمور عادية يومية الحدوث لا جديدَ فيها إعتدنا سماعها من أجهزة التلفزيون والفضائيات العربية بشكل خاص . تثاءبَ الثور وطلب من رفيقيه الإنتقالَ سريعاً إلى موضوع آخرَ لا يُثيرُ الأحزانَ والأشجانَ . سأله رفيقاهُ وما الذي يُشجيكَ في شؤون البشر ؟ ما لك ولهم ؟ دعْ ما لهم لهم وما لنا لنا ففينا ما يكفينا كما كان يقولُ أحدُ زعماءِ العرب حين كان حيّاً . قال الثورُ ساخراً : إي نعم ! إنهم أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون . ضحك الخنزيرُ والديكُ وحين هَدَءا سألا وما رزقُهم عند ربّهم ؟ قال رزقُهم في الآخرة هو عينُ رزقي في دنياي . شعيرٌ وحشيش بايو وقشورُ موزٍ وبطيخ . قال الديكُ المشاكسُ الذي يحبُّ المِزاح : أهذا كل ما يأكلون ؟ ألا من لحم ضأنٍ وماعيزَ وسمكٍ مقليٍّ أو مشويٍّ ( مسكوف ) على ضفافِ نهرِ دجلةَ الخيرِ وأمِّ البساتين والسلاطين والشياطينِ وغير ذلك من لحوم ومواجيل ؟ أجابَ الثورُ إتقِ اللهَ يا رجلُ ، إتقِ ربّك الذي خلقك وسوّاك في أحسن تقويمٍ . إتقِ الله . إنهم في آخرتهم مثلي نباتيين لأنهم يخشون الإصابة بما تحملُ وأحملُ ويحملُ الخنزيرُ من فايروسات ممُيتة . لا لحوم في جنّات الآخرة . الوقايةُ خيرٌ من العلاج . هذا هو شعارُهم المرفوع فوق رؤوسهم ليلاً ونهاراً . الوقايةُ خيرٌ من العلاج لأنَّ عالمهم مصممٌ ـ ربما خطأً ـ خالياً من الأطباء والمصحّاتِ والمستشفيات . قال الديكُ المشاغبُ وإذا مرضَ أحدهم لا سمحَ اللهُ ؟ إنهم قومٌ لا يمرضون ! ربما ، ربما تُصيبُ أحدَهم حمّى بسيطةٌ عابرةٌ فتتولى عندئذٍ أمرَ تمريضه والسهرِ عليه مُمرضةٌ جميلةٌ مختصّةٌ يفعل بها ومعها ما يشاءُ حتى يشفى ويعودُ إلى سيرته الأولى قوياً نشيطاً . هكذا هنَّ كُلهنَّ حورياتُ جنّات الخُلدِ العين أعددتهنَّ القُدرةُ الخفيةُ القاهرةُ ممُرضاتٍ خبيراتٍ مدرّباتٍ في أكثر المعاهد والمستشفيات البريطانية خبرةً وسمعةً وتأريخاً . قرروا ، وقد أُتخِموا ضَحِكاً وتنكيتاً وسخريةً منهم ومن دنياهم ، قرروا الرجوعَ لمعهدهم قبل العاشرة ليلاً كما عاهدوا طبيبهم المعتوه نصف المجنون . صادفوا في طريقِ أوبتهم تمثالَ أسدٍ حجريٍّ قديمٍ مشوّهِ الوجهِ مكسورِ الأنفِ مثل أسدِ بابلَ فحاولوا تجنّبَه لا خشيةً منه فإنه حجرٌ قبيحٌ لا أكثر ولكن لقبح وجهه . لكنَّ الثور ، ولأنه ثورٌ إبن ثور لسابع ظهر ، طلب من جماعته أنْ يلتقطوا له صورةً مع هذا السبع السُمَمبع . قال له الديك الظريف المشاغب : ويلك يا ثورٌ محسوبٌ خطأً على عالم الثيران وأنتَ لا تحلُّ ولا تربطُ ، ويلك من ثور غبيٍّ مفرطٍ في غبائه ! ألا تخافُ من بطشِ وصولة هذا الأسد ؟ إحتجَّ الثورُ فخارَ وحفر الأرضَ بحوافره وهزَّ ذيلَه مهدداً متوعداً ثم قال : كنتُ أحسَبُكَ صديقاً يا ديكُ ويا رفيقَ الشدّة والمصائب وإذا بك عدوٌّ وخصمٌ لدودُ . وما الذي يُخيفني في هذا الحجر القبيح وحالهُ في أفضلِ أحواله ليس بأفضلَ من حالي فكلانا حيوانٌ مغلوبٌ على أمره ، أنا متهمٌ بجنون البقر رغمَ أني ثورٌ وليس بقرةً كما تراني ، ثم إنه أكثر من مغلوبٍ على أمره إذْ ظلمه وغبنه إبنُ عمّه الإنسان فجمّده بعد أنْ أوقعَ به فأصطاده وحوّله إلى حجرٍ أصمَّ لا يسمعُ ولا يقرأُ ولا يكتبُ ، لا من حولٍ له ولا قوّةٍ لكأنه إذا أمعنتَ فيه النظرَ تحسبه ديكاً أجربَ مخصيّاً تماماً مثل كافور الإخشيدي زعيم مصر في الزمن الأغبر الغابر . إحتجَّ الديكُ قائلاً : لعلمك يا ثورُ ويا أسوأَ ثيرانِ الكرةِ الأرضيةِ ليس كلُ الديَكَةِ مخصيين ... فقد أفلتُ الكثيرُ منهم من عملية الختان الإخصائية ، الختانُ إخصاءٌ ... لعلمك ، وإذا لم تصدقْ إسالْ أمّك ! ردَّ الثورُ مبتسماً منتصراً كأنه قد حقق نصراً في ميادين المصارعة ... إبتسمَ قائلاً قبلتُ حجتكَ وأعتذرُ عمّا قلتُ في لحظة غضبٍ وإنفلات السيطرة على النفس الأمّارة بالسوءِ وما هو أسوأُ من السوءِ . هيا خذ لي صورةً مع هذا الحيوان الأجرب القبيح الخلقة لا غراماً بحبه بل شماتةً به لما آلَ إليه مصيرهُ بعد أنْ كان يُدعى مليكُ الغاب . هزَّ الخنزيرُ رأسه موافقاً الثورَ ثم أضاف [ إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها ... ] هذا هو حال كل ملوك الأرض الحاضرين والغابرين مآلهم الخرابُ والدمارُ أو القتلُ والسحلُ وتقطيعُ الجثث .
ما أنْ وصلَ الركبُ الميمونُ مُدخلَ معهدهم حتى فوجئوا بطبيهم في الأنتظار . رحب بهم بحرارةٍ صادقة ثم قال لهم ما كنتُ أحسبكم توفون بالعهد وتعودون أدراجكم قبل الساعة العاشرة . صفقوا وغنوا ثم طلب الخنزيرُ من الطبيب البيطري أنْ يسمحَ له أنْ يقبّلَه من وجنتيه . إحتجَّ زعيمُ المشاغبين الديكُ قائلاً ويلكً يا خنزيرُ ! هل أنت مِثليُّ الطبيعة الجنسية ؟ إذاً ما تفسيرُ طلبك أنْ تقبّلَ الطبيبَ ؟ قال له الخنزيرُ وما تقترحُ يا صديقَ الضيق والسوء والطريق ؟ قبّلْ مراشف طبيبةٍ أياً ما كانت ، ردَّ الديكُ ثم أضاف: قبلْ طبييةَ أمراضٍ باطنيةٍ أو عيونٍ أو أسنان أو حتى طبيبة بيطرية مثل هذا الحيوان الذي يسمونه طبيباً . هزَّ الخنزيرُ رأسه وذيله محتجاً رافضاً مقترح الديك قائلاً : ويلك يا ديكُ ، ويلك وألف مرة ويلك من غبيٍّ مشوّه الذوق . ألا تعلمُ أنَّ الطبيبات عامةً قبيحات فالفتاةُ الجميلة لا تدرسُ الطبَّ أبداً . الجميلةُ تفضّلُ أنْ تكونَ ممثلة أو نجمةً سينمائية أو مذيعة ً أو مقدمة برامج في فضائيات العرب وخاصةً الخليجية منها . لا ينسجمُ الجمالُ مع الموت والموتى وتشريح الجثث ومشارط الجراحة وتجبير الكسور وباقي الأمراض النسائية لذا فأطباء النسائية من الرجال أكثر عدداً من الطبيبات النساء المختصات بالنسائية .
بعد أخذٍ وجرٍّ وعرٍّ هدأ الجو وتصافى الرفاقُ وتنازلَ خنزيرُ القوم عن مطلبه وإلحاحه على تقبيل الطبيب مقابلَ أنْ يتبادلَ القُبَلَ مع زميله الثور علناً وليس سرّاً أو على إنفراد تحاشياً للشائعات والقال والقيل . وهكذا حلوا مشاكلهم العويصة بالتراضي والتنازلات المتقابلة والتوافق وليس بالقوة والسلاح .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق