الاثنين، يونيو 29، 2009

هل من رومانس في كتاب حين يهبُّ الماء؟

د. عدنان الظاهر
( ديوان شعر للشاعرة المغربية صباح دبي )

الجواب : أجلْ . في هذا الديوان قصيدة واحدة فيها رومانس راقٍ وقورٌ عالي السمت والمستوى يعكس ويحاكي مقام وسمت الشاعرة نفسها ، فالشعرُ مولودُ شاعرهِ وصنيعة خالقهِ ومبدعه و [ والنجلُ بعضُ مَنْ نَجَلهُ ] كما قال المتنبي في إحدى قصائده المعروفة . إنها قصيدةُ " عمر الفراغ " . هناك قصيدة ثانية لا تقلُّ في مستوياتها الفنية والشعرية عن قصيدة عمر الفراغ ، إنها قصيدة " جوهرة الريح " . لا أستطيعُ إعتبارَ هذه القصيدة قصيدة رومانس وحب ووله ، ولا يستطيعُ ذلك غيري من ذوّاقة الشعر ومتتبعيه ومحبيه . إنها تبدو لأول وهلةٍ كأنها قصيدة حب وغرامٍ وهيام لأنها بالفعل متسربلة بنوع خاص من الحب . لم تقلْ الشاعرة مّنْ خاطبت في هذه القصيدة أو لمن كتبتها ، لكني أتكهن وأرجمُ بالغيب وأغامر فأقول إنها تخاطب والدتها فيها . إنها تحب والدتها حباً جمّاً مُضاعفاً سيّما وقد فقدت أباها فغدت والدتها لها أباً وأماً. هذه قراءتي لمضمون هذه القصيدة . فيها حب ، نعم ، ولكن ليس ذاك الحب الذي أقصد وأفتش عنه وأحفرُ وأنقب في المناجم والمغاور وفي كهوف الجبال . حبُّ الشاعرة لوالدتها شيءٌ وحبها لإنسانٍ آخرَ ، رجلٍ ، شيءٌ آخر لا ريبَ .

قصيدةُ " عمر الفراغ "

في قصيدة " عمر الفراغ " حبُّ أنثى شاعرةٍ لرجل لا نعرفُ مّن هو وليس مهماً أنْ نعرف . القصيدةُ في صفحةٍ ونصف الصفحة لكنها جمعت أفضل ما يمكن لأمرأةٍ شاعرةٍ أن تقول في الحب وفيمن تحب . عجيبٌ أمرُ هذه الإنسانة ! ليس في مجمل أشعار ديوانها هذا حزنٌ من النوع الذي يعرفه البشرُ . وليس فيه فَرحٌ طاغٍ ولا أمنياتٌ ولا إسرافٌ في هدر العواطف وكشف المشاعر والأحاسيس الدفينة وما تعاني المرأةُ في داخل صدرها وما يعتملُ في قلبها من لواعج وهموم. إنها متوازنة في كل أمر يخصُّ عواطفها ومشاعرها ومسيطرة عليها تمام السيطرة حتى لكأنها جُبلت من حديد أو صخر أصمَّ من البازلت . ليس من سبيلٍ للوصول إلى مفاتيح قلبها أو حتى الدنو من حدود مملكة ما يختزنُ صدرها من أسرار وما يمتلكُ من خزائن وكنوز . ما قالت السيدة صباح في هذه القصيدة التحفة النادرة ؟ نقرأها كما كتبتها صاحبتها بدون حركات ، لكي تتحمل هي تبعات القراءات الخاطئة .

[[ تماماً كخمر القصيدة

تذوبني في فراغ جميل

وما في يدي من تعاريش صمتي

ألوذُ به للنزولِ على سطح أقمارك الليلكية

الملم من شجرات المعاني غصونا

وأرتقها في غمام الحكاية

وأنسج من قطرات الرحيل بحارا

تسافر فيها مراكب همسي الدفين ...

وأشرب نورك

حتى تدلى الفراغ المعتق فوق < مماليك > روحي

رويدك إن جداول روحك قد غمرتني

تبللت فيها

وأمطرني أفقها القرمزي بجنات نار

وآه ... إلى أين تأخذني عصافير أحلامك الزئبقية

تهدهد ما كان لي من قدود الحروف

ومن عرائش هذا البياض

وما لم يكن من الثبج الملتوي في دوالي الكلام

فينبجس الكون نورا

وتنهمر الروح نورا

وفي لحظة الفيض تطفو كغابات ورد

وتولد من رحم الروح ضوءا

تماماً كمثل القصيدة

ويخضر من خمر عينيك عمر الفراغ ... ]]

ملاحظات على القصيدة :

1ـ أخطأت الشاعرة مرتين في بيت واحد إذْ قالت [[ وأشرب نورك حتى تدلى الفراغ المعتق فوق مماليك روحي ]] . أين أخطأت ؟ أخطأت إذْ جعلت الفعل الماضي " تدلى " كجواب شرط متمم لفعل الحاضر " أشربُ " . الصوابُ أنْ تقول : وأشربُ نوركَ حتى يتدلى الفراغُ المعتّقُ . لكن هنا سيختل نسق الإيقاع العام للقصيدة . كان على الشاعرة أنْ تختارَ فعلاً آخرَ في الزمن الحاضر بدل فعل الزمن الماضي " تدلّى " . الخطأ الثاني وقد تكرر مرتين في الديوان هو الجمع " مماليك " ! قصدت الشاعرةُ أنْ تجمعَ مملكة فجمعتها مماليك بدل الجمع الصحيح " ممالك " . نحن والناسُ جميعاً يعرفون ونعرف مَنْ هم المماليك ومن أين جلبهم الأجداد ولأية أغراض ليحكموا فيما بعد العراقَ ومصرَ لقرون طويلة . قد يقول قائلٌ إنما ذاك لضرورة الشعر ومعه حق ولكن ، إلى متى نظلُ نعلّق تقصيراتنا وعيوبنا على شماعة قديمة مهترئة بالت عليها الثعالبُ ؟ لماذا لا يخرج الأوربيون على قواعد ونواميس وقوانين لغاتهم ؟ هل من أحدٍ يجد لي زلةً لغويةً واحدة أو خطأً في قواعد اللغة أو خروجاً على المعروف من هذه اللغات ؟ هذه كتبهم أمامنا لا تُعدُّ ولا تُحصى نقية خالية من العيوب الشائعة في لغة كتبنا ودواوين شعرائنا . الممالك غير المماليك .

2ـ صباح والحب /

الآن ، ماذا قالت الشاعرة وهي تناجي مَن تحب همساً رصيناُ عالي الجناب كثير الوقار تصدره من مستوى نفسي وعاطفي متين راسخ الطبع والجذور بدون مبالغات ومن غير إستعطافٍ وتبذلٍ وإسترحامٍ . تخاطبُ حبيبها من مستوى يوازيه تماماً لا أعلى ولا أوطأ . لا أعرفُ بالضبط ، ولا غيري يعرفُ ، هل تتكلم الشاعرة عن تجربة تعيشها وظرف حقيقي تعانيه أو أنها تحلمُ متخيلة شكلاً من أشكال الحب أو تتخيلُ حباًّ في الحُلُم ؟ خيالها وحلمها مختلطان ببعضهما إختلاطاً مادياً دنيوياً لا إمتزاجاً وحلولا صوفياً غيبياً ميتافيزيكياً كما يزعم المتصوفون . نعمْ ، تذكرُ السيدةُ صباح الروحَ في أشعارها لكنَّ ذلك لا يعني بالحتم أنها إمرأةٌ روحانية . لا وجود في ديوانها هذا أيُّ ذكر لكلمة { الله } !! فمن أين وكيف يأتيها الروحُ الديني الذي هو (( من أمر ربّي )) حسبما ورد في القرآن والمأثور الديني للمسلمين . كلمة " فراغ " تُزيد من قوة ظني أنَّ الشاعرة ليست واقعة تحت طائلة حب جارف عميق . [[ عمر الفراغ ... تذوبني في فراغ جميل ]] . إنها تعاني من فراغ حقيقي مُقيم تواجهه بشجاعة وثقة وتجعل قارئها يستنتج حِدْساً لا يقيناً أنها إمرأةٌ خالية القلب وأنها ـ ربما ـ تسعى وتجدُّ تصريحاً وتلميحاً للعثورعلى مَن يستحق حبَّها وقلبَها . ما زال الطريق خالياً أمامها فارغاً للأسف .

3ـ الحلول ، حلول الشعر في شاعرته وهذه في ذاك /

إنه حلولٌ حقيقي تتبناه الشاعرةُ وتعتنقه مبدأً بل عقيدةً تذيبُ الحدودَ الفاصلة بين الحياة وفن الشعر فيغدو الشعرُ حياةَ الشاعرة وحياتها شعراً . إنها إمرأةٌ ترهّبت كلاًّ وطواعية فوهبتْ نفسَها لشعرها حتى أنها لم تعدْ تميّزُ بين ما لجسدها ونفسها وما للشعر. هل تزوجت الشعر الفيزيكي كما تزوجت رابحةُ العدوية الشعر الصوفي وكما وهب فريد الأطرش ، مثلاً ، حياته لموسيقاه وفنه الغنائي فعزفَ عن الزواج ؟ جوابي بدون تحفظٍ نعم . إنها راهبة وواهبة نذرت نفسها وحياتها قربانا لعشقها للشعر وقد خلا قلبها من أي أثرٍ لحب بشري دنيوي . هل يئست من الحب أم أنَّ الفصلَ في هذا الأمر سابقٌ لأوانه ؟ لا يأس في الحب فالحبُّ يأتي حتى بعد السبعين . الحب هو الحياة وفيه تتجددُ وتستمرُ الحياة .

هل تدخلتُ كثيراً في خصوصيات السيدة الشاعرة وهل سببتُ لها بعض الإحراجات ؟ جائز ، لكني أعتقد حدَّ الإيمان أنَّ ألكاتبَ الناقدَ محللٌ نفسانيٌّ وكيميائي وطبيبُ قلبٍ وجسدٍ ثم جرّاح وفنيُّ كسور وتجبير الكسور وما أكثر ظلم كسور الحب وعمق معاناة القلب المكسور حبّاً وغراماً !

كيف ومتى حلّت الشاعرة في شعرها وحلَّ فيها هذا ؟ جوابُ السؤال في مفتتح هذه القصيدة ، عمرُ الفراغِ ، وفي ختامها . قالت في بداية القصيدة [[ تماماً كخمرِ القصيدة ، تذوبني في فراغ جميل ]] ثم كانت الخاتمة عَوداً على بدء إذ إلتحمَ الجمعان واشتبك الإصبعان فقالت [[ وفي لحظةِ الفيضِ تطفو كغاباتِ وردٍ ، وتولدُ من رَحِم الروحِ ضوءاً ، تماما كمثل القصيدة ، ويخضرُّ من خمر عينيكَ عمرُ الفراغ ]] . فمولد قصيدة الشاعرة تماماً كعملية ميلاد ضوء ولكن من رحم آخر غير مألوف : الروح . روحُها رحمُ شعرها . هناك ينمو ويتغذى ويمكث تسعةَ أشهرٍ أو أقل حتى يحينَ أوانُ ولادة النور ضياءً كأشعة النجم الذي قاد المجوسَ إلى بيت لحم حيث جاءَ المسيحُ عيسى الدنيا بمعجزة كما تقول كتب الأديان . خُماسية مركّبة بشكل فني محكم جمعت صباحُ فيها ما بين الحبيب والروح والضوء والرحم والشعر . جمعت بقوة سحرٍ غامضةٍ وكثّفت في ثلاثة أبيات قصيرة ما لا يمكن جمعه وما لا يمكن تكثيفه . هل هي مقدرة فنية شعرية أم أنها قدرةٌ خارقةٌ فوق ـ شعرية مصدرها روحُ ـ رَحِمُ المرأة الشاعرةُ اللذان يلدان وينجبان ضوءاً وشعراً ؟ هذه هي شاعرة الطبيعة الكونية الحالّة في الطبيعة بدل الحلول في إله لا وجودَ له ! حبيبها [ يولد من رحم الروح ضوءاً ] فمتى ينوّرُ هذا الضوءُ ظلامَ وحدتها ويملأ فراغ قلبها من الحب ؟

[ ويخضّرُ من خمرِ عينيكَ عمرُ الفراغ ] .

إنها تسكر من خمرة عيني حبيبها . عيناه تُسكرانها . سيمتلئُ فراغ قلبها حباً وسكراً . سيختفي هذا الفراغ إذ ستملأه حقول كروم العنب وخمور العنب ومع العنب يأتي السكرُ بالحب ويغدو المحب ثَمِلاً نشوانَ بحضور مَنْ يهوى ويعشق. هل هذا من التصوف المعروف ؟ فيه شئٌ من تصوّف علماء المتصوفة . فهم كذلك يسكرون بحب خالقهم في بُعدهم وقربهم منه . أما حبُّ وسكرُ صاحبتنا فهما مختلفان جملةً وتفصيلاً . حبها وسكرها مشتبكان في معادلة معقدة صعبة من الدرجة الخامسة لا يفهمها إلا كبارُ علماءِ الرياضيات والفيزياء وعلم الفَلَك ، والمنجّمون والراسخون في علم الغيب .

4ـ تشكيلات شعرية رائعة /

[[ وما في يدي من تعاريش صمتي

ألوذ به للنزول على سطح أقمارك الليلكية

...

وأنسجُ من قطرات الرحيل بحارا

تسافر فيها مراكب همسي الدفين

...

رويدك إن جداول روحك قد غمرتني

تبللت فيها

وأمطرني أفقها القرمزي بجنات نار ]] .

هذه نماذج فائقة الجودة ، فيها كل عناصر ومستلزمات الشعر المتفوق والمتفرد إبداعاً وسحراً . إنها لم تقلْ دموع الرحيل أو الفراق ، إنما قالت قطرات الرحيل التي لكثرتها أضحت بحاراً تمخر عبابها مراكبُ حبها المكبوت غير المُعلن عنه. إنها تكتمه أو تخشى البوح به أو أنَّ كبرياءها لا تسمح لها بالكشف والتصريح . إنها تدفن حبها في أعماق سحيقة وتتحمل تبعات هذا الكبت والدفن ولا تبوح وتُعلن. ما أعلى رأسكِ وشأنكِ ومقامكِ إيتها السيدةُ الشاعرة ؟ من أية خامةٍ جبلتك الحياة ؟ [[ رويدكَ إنَّ جداولَ روحك قد غمرتني ]] ما أبلغ مكان [[ رويدك ]] هنا وما أحلى وقعها على أذن ونفس القارئ . تقول للحبيب المُفترض : مهلاً ، إنك تغرقني بحبك . ها قد وصلتني تباشيره وأوائلُ أذاه . بللتني جداولُ حبك وما بعد هذا البلل إلا الغرق . لا يجري ماءٌ في هذه الجداول حسبُ ، إنما فيه نارٌ فإنْ لم أغرقْ إحترقت فيها والنتيجة واحدةٌ : الموت غرقاً أو الموت بالنار إشتعالاً . نار حبيبها جنات فلتحترق بهذا الحب فالموت في الحب شهادة ونار حرائق الدنيا إنما تستحيلُ إلى جنات في آخر المطاف . ( ناركْ ولا جنّة هلي ) ... قول مأثور معروف في العراق . نار الحبيب جنة وبردٌ وسلامٌ لمن تحب .

ما زال الكثير الذي يمكن أن يُقالَ بشأن هذه القصيدة الفريدة غير أني رأيتُ أنْ أنتقلَ لقراءة القصيدة الأخرى الشقيقة ـ التوأم لها ، أعني قصيدة " جوهرة

الريح ".

قصيدة " جوهرة الريح "

1ـ إشكالية في القصيدة :

أقرأ هذه القصيدة وأعيد قراءتها فيغلبُ على ظني أن الشاعرة صباح قد كتبتها والقصيدة السابقة في زمن واحد أو في زمنين متقاربين جداً وفي حالتين نفسيتين متشابهتين . فالأجواء الرومانسية هي هي تقريباً وألفاظ مناجاة ومخاطبة الحبيب كثيرة الشبه ومتساوية البث الحراري بل ومتكافئة التأثير في وجدان القارئ وذبذبات تلقيه وإنفعاله بصدق وجمال ما يقرأ . علماً أني أظن أحياناً أنَّ الشاعرة صباح كتبت هذه القصيدة لوالدتها فقد ذكرت أباها الفقيد فغدت الوالدة لها أباً وأمّاً. الطريف أو الغريب أنها لو قالتها لحبيب أو في حبيب لما شعرنا بأي فارق . يبقى التأثير القوي فينا وتبقى أجواءُ وتفصيلات الرومانس هي هي فهل كتبتها أصلاً وإبتداءً في رجل تهواه ثم رأت أن تحولها بحركة إعراب صغيرة متواضعة من مخاطبة رجل إلى مخاطبة إمرأة ؟ أعني قولها في مطلع القصيدة [[ من جوهرة الريحِ تأتي ِأسواركِ ]] . هنا تحدّدَ الخطابُ وتوضّحَ : إنه كلامٌ موجّهٌ لإمرأة وليس لرجلٍ والفضلُ وحدُه يعود لهده الكسرة المتوارية والمتواضعة المُلحقة بحرف الكاف . لو وضعت هذه الكسرة فوق حرف الكاف لتغير الأمر ولصعد رجلٌ على مسرح القصيدة حالّا محلَ إمرأة ولغدا إسمها " فتحة " بدل " كسرة ". هكذا تتبدل بيسرٍ بعض شؤوننا في الحياة والشعر بعضٌ من حياتنا .

ملاحظة قوية ومعقولة : إذا كان ورود هذه الكسرة خطأ وكان المقصود أنَّ تكون فتحة فإنَّ القصيدة بكاملها ستكونُ موجهةٌ لوالد الشاعرة المتوفى وليس لوالدتها التي لم تزلْ على قيد الحياة . أو أنها مكتوبة لحبيب . كيف نفكُّ هذا الإشكال ؟ الجواب لدى الشاعرة .

2ـ صباح وصيغة الجمع

ما تفسير إغراق هذه القصيدة بصيغة جموع الكثرة وبعض جموع القلّة ؟ أحصيت ما فيها من هذه الجموع فوجدتها 22 جمعاً بالتمام ! علماً أنَّ القصيدة ليست طويلة إذ شغلت صفحتين ونصف الصفحة من الكتاب .

3ـ صباح والأخطل الصغير بشارة الخوري

يذكّرني قولُ الشاعرة :

[[ آهٍ ... أإليكَ أحنُّ وأنتَ النارُ بأوردتي

بل أنتَ الماءُ بساقيتي

بل انتَ ثرى جسدي ]]

يذكرني قولها [[ بل أنتَ ثرى جسدي ]] بقول الشاعر بشارة الخوري مخاطباً حبيبته سُلمى في قصيدة " المسلول "

سُلمايَ إنك أنت قاتلتي

وجميلُ جسمكِ مدفني الأبدي

وطويلُ شعركِ صارَ لي كفناً

كفنَ الشباب ذوى وكان ندي

كما قال أحدُ خلفاء بني العباس في بغدادَ يُرثي والده الراحل قولاً مشابهاً لا يحضرني نصه الدقيق فحواه ( ليت جسدي يصلحُ جدثاً لجثمانك ) . لقد إختصرت صباح هذه العبارات وصاغتها بثلاث كلمات مؤثرة بليغة فبلغت ما بلغوا بل وتفوّقت وهذه إحدى فضائل ومزايا الشعر الحديث [[ أنتَ ثرى جسدي ]] .

4ـ صباح وسورة مريم القرآنية

الشاعرة صباح واقعة تحت تأثيرات قصة مريم في القرآن . فقد أشارت إلى جزء بسيط من إحدى آيات سورة مريم الأكثر شُهرةً . أعني [[ وهُزي إليكِ بجذعِ النخلةِ تٌساقط عليك رُطباً جنيا ]] . قالت تخاطب اللغز الذي ما زال يحيرنا [[ في كل مكانٍ أرعاك ... وأهُزّ جذوعَ غيومك في ذاتي ... يتساقط قطرك ... يغمرني ... ويُزيحُ من الليل المنشور ... تعاريش الغربة ]] . يتساقط رُطبٌ إذا هزّت مريمُ جذع النخلة ، أما صباح فإنها ليست كمريمَ جائعة بل ظمأى ، ظمأى لماء يغمرها لذا فإنها تهزُّ أصول الغيوم لا جذوع النخيل فيسّاقط الغيمُ قطراً أو غيثاً يغمرها ويبلل روحها العطشى ثم يُزيح من أمام عينيها ظلمة لياليها ووحشة غربتها وما غربتها إلا غربة روحية سببها غياب حبيب أكان هذا الحبيبُ والداً أو والدةً أو رجلاً من سواد الناس . قطرُ الحبيب نورٌ يكشف الظلمة ويبدد الشعور بالغربة فأي قطر هذا وأي ماء ؟

5ـ تشكيلات شعرية متميزة في هذه القصيدة

[[ عيناك تسافر في عيني { الصواب : عيناك تسافران في عيني ولكن ، يجوز أنْ يحلَّ المفرد محل المثنى أو الجمع حتى في الشعر } .

ورحيلك في ركب الصحو

يتخطفني

ويدثرني ويذكرني ببراءة تلك الخطوات

بأبي

بفقيه الحيِّ

بأردية الأحلام البيضاء

آه ، أإليك أحنُّ وأنت النارُ بأوردتي

بل أنت الماءُ بساقيتي

بل أنت ثرى جسدي ]].

هذا فن شعري رائع وأكثر من رائع . [[ عيناك تسافر في عيني ... أإليك أحنُّ وأنت النار بأوردتي ... بل أنت الماءُ بساقيتي ... بل أنت ثرى جسدي ]] . أقرأ هذه الجمل القصيرة الشديدة التركيز فأحار كيف أفسرها وأحار أيّ تفسير هو التفسير الصائب وهذا أحد الغاز الشعر الحقيقي الناجح . يجعلك في حيرة من أمرك ويجبرك على التفكير وخوض أكثر من بحر وجدول وساقية . عينا الحبيب لا تغادران عينيها حلولا وارتحالا . حنينها إليه نارٌ لا تغادر عروق دمها ولكنْ لنيران الحب المتقدة معادلٌ طبيعي يُطفئ حرائق الحب . النارُ في الأوردة والماءُ في سواقي ومعابر وممرات جسد الشاعرة وروحها المُحبّة . فكيف تنسى وكيف تغادر أطياف الحبيب قلب وذاكرة الشاعرة ؟ كيف تنسى وجسدها مجبولٌ من تراب الحبيب أولا وفي ثراه لحدها ومدفنها آخراً ؟

ليست هناك تعليقات: