د. عدنان الظاهر
البحتري ( 205 ـ 284 للهجرة )
والمتنبي ( 303 ـ 354 للهجرة )
مُقدِّمة ليست طويلة !
أسرفَ بعضُ النقّاد القدامى في إتهام المتنبي بالسرقة أو التأثر بسابقيه من مشاهير شعراء العرب ولا سيّما الشاعر العباسي البحتري الذي سبقه زمنياً بقرابة قرن كاملٍ من الزمان . فهل كان هذا الإتهام صحيحاً وما مقدارُ صحته إنْ صحَّ وكيف التثبّتُ منه وما هي وسائل وسُبُل إثبات التهمة ؟ تابعتُ ما كتب الأستاذ محيي الدين صبحي في كتابه القيّم ( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه ) [1] وما عرض القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفي سنةَ 392 هجرية في كتبه الأكثر شهرة (( الوساطة ... )) فلم أجدْ ضالتي فيما توخيتُ من محاولة { وساطتي } المتواضعة لتقصّي ما كان يُسمّى بسرقات المتنبي مُحدِّداً دراستي بتأثر المتنبي بالبحتري بشكل خاص وليس بغيره . بلى ، جرت مقارنات متفرقة بين بعض أبيات المتنبي وما قال قبله سواه من الشعراء دفاعاً عنه وتبريراً لخروجه هنا أو هناك عن بعض قواعد اللغة العربية أو عن تصرفه بالألفاظ وتغيير معانيها أو سَرَفه في مجاراة قاعدة الأخذ بالقياس حتى لو كان هذا القياسُ غير شائعٍ كثيراً . كما بين القاضي الجرجاني عيوب بعض أبيات المتنبي أو سوء مطالع بعض قصائده أو ضعف مخارجها أو جنوحه لإقحام ألفاظ أو أسماء أعلامٍ غيرعربية . خلا محاولتين مبتسرتين متواضعتين واحدة ذكر القاضي الجرجاني فيها شذراتٍ من قصيدتين عن الأسد واحدة للبحتري والثانية للمتنبي ( المصدر الأول الصفحات 406 ـ 410 ) [1]. ذكر الجرجاني إسم شاعر ثالث هو " أبو زبيد " يبدو أنه هو الآخر كتب شعراً [[ ... فإنما وصفَ خلق الأسد وزئيره وجرأته وإقدامه وكأنما هو مرعوب أو مُحذر ، والفضلُ له على كل حال ، لكنْ هذا غرضٌ لم يَرُمْهُ ومذهبٌ لم يسلكه ]] / الصفحة 410 سالفة الذكر . ولكنْ ، من هو هذا أبو زبيد وأين قصيدته في الأسد ؟ لا من ذكرٍ لها فيما لديَّ من كتاب الأستاذ محيي الدين صبحي . أما المحاولة الخجول الثانية فهي في قصيدتين قيلتا في وصفِ الحُمّى قال إحداهما المتنبي وقال الثانية شاعر آخرهو " عبد الصَمَد بن المُعذّل " / الصفحات 399 ـ 405 / المصدر الأول . علّق الجرجاني عليهما تعليقين متناقضين فقال عن قصيدة المتنبي [[ وهذه القصيدة كلها مُختارة ، لا يعلمُ لأحدٍ في معناها مثلها ، والأبيات التي وصف بها الحُمّى أفرادٌ قد إخترع أكثر معانيها وسهل في ألفاظها فجاءت مطبوعة ، وهذا القسم من الشعر هو المطمع المؤيس / الصفحة 402 من المصدر الأول ]] . في حين عاد الجرجاني ليقول عن قصيدة عبد الصمد بن المُعذل ، وهي قصيدة رائعة حقاً ، ما يلي [[ وقد أحسن عبدُ الصمد بن المُعذّل في قصيدته الرائية التي وصف فيها الأسد ، وقصّرَ في الضادية وفي مقاطيع له في وصفها ، وكأنَّ أبا الطيّب قصد تنكّب معانيه فلم يلمَّ بشيءٍ منها / الصفحات 403 ـ 405 من المصدر الأول ]] . قال عبدُ الصمد في الحُمّى :
وبِنت المنيّةِ تنتابي
هدوّاً وتطرُقني سَحَرةْ
ثم سرد القصيدة كلها أو بعضها لستُ أدري لأنني لا أعرفُ إبن المُعذّل معرفة جيدة ولستُ مطلّعاً على مجمل أشعاره . بعد هذا السرد يقرر القاضي الجرجاني حكماً غاية في الطرافة والغرابة في عين الوقت ، حكماً إنهزامياً ، توافقياً ، يتنصل فيه عن مسؤوليته الكبيرة في إستصدار حكم عادل جريء فيما يرى . وفي المواقف الحاسمة يتبين معدن الرجال وصدقهم مع أنفسهم والآخرين . قال في الصفحة 405 [[ موازنة بين المتنبي وابن المُعذّل : فأحسنَ وأجادَ وملح واتسعَ ، وأنت ـ إذا قستَ أبياتِ أبي الطيّب على قصرها ، وقابلتَ اللفظَ باللفظِ ، والمعنى بالمعنى ، وكنتَ من أهل البصر ، وكان لك حظ في النقد تبيّنتَ الفاضلَ من المفضول ، فأما أنا فأكرهُ أنْ أبتَّ حكماً أو أفصلَ قضاءً أو أدخلَ بين هذين الفاضلين وكلاهما مُحسنٌ ومُصيب ]] !!
كنتُ أتمنى أنْ لو حاول القاضي الجرجاني ، أو غيره ممَن ظنَّ السوءَ بأبي الطيّب المتنبي ، عقد مقارنة مطوّلة بين قصيدتين واحدة للبحتري والثانية للمتنبي لإثبات درجات تأثر هذا الشاعر بذاك من حيث المفردات المستخدمة واللغة التي عالج الشاعران بها قصيدتيهما فضلاً عن الصور والمجازات والتشبيهات والكنايات والإستعارات وباقي الأساليب الفنية المعروفة و ربما المُبتَكَرة . لم أجدْ للأسف شيئاً من ذلك فكيف أستكين وأتقبل إتهامات باطلة لا يقوم عليها دليل بيّن قوي وحجة متينة واضحة ؟ لذا أخذتُ ، وقد نفدَ صبري ، على عاتقي المهمة العسيرة وقبلت أنْ أدلو بدلوي مغامراً . وجدتُ لحسن الحظ قصيدتين للشاعرين غرضهما واحد هو المديح وإنْ إختلف الممدوحان لوناً ومقاماً وثراءً وجاهاً .
إذاً فلأقارن ما بينهما ونرى هل تأثر المتنبي بقصيدة البحتري ؟ أين وكيف ؟ وهل سرق وادّعى ما ليس له ؟
أولاً : خدمتني الصُدفة إذْ وجدتُ القصيدتين وقد نُظمتا على وزن واحد وقافية واحدة ورويٍّ واحد فما أسعد حظي مع هذين الرجلين .
ثانياً : قصيدة البحتري { خلائقٌ كسواري المُزنِ } [2] ، في أربعين بيتاً ، يمدحُ بها أحمد بن محمد الطائي . أما قصيدة المتنبي { الملكُ الأستاذ } ، فهيَ في 46 بيتاً ، يمدح بها كافورَ الإخشيدي ( وأنشده إياها في سِلخِ شهرِ رمضانَ سنة ستٍ وأربعين وثلاث مئة ، 957 م ) [3] .
ثالثاً : مفتتحُ كلا القصيدتين غزلٌ جميلُ فلقد قال البحتري /
أتاركي أنتَ أمْ مٌغرىً بتعذيبي
ولائمي في الهوى إنْ كان يُزري بي
عَمْرُ الغواني لقد بيّنَ من كَثَبٍ
هضيمةً في مُحبٍّ غيرِ محبوبِ
في غزل البحتري هوانُ وعذاب لحقه ممن يحب . ثم تشكّى من غانيات والغواني فتيات حَضَريات .
أما المتنبي فكان تشبيبُهُ أفضل وأصدق وأجمل وأكثر تأثيراً في النفوس فهو يعرف كيف يتلاعب في قلوب العشّاق المتيمين وغير العشاق المحايدين . خلاف البحتري ، نرى المتنبي متعلقاً بالصبايا البدويات ويفضلهن على الحضريات بل ويسخر منهنَّ أيما سخرية في أبيات لاحقة أخرى راسماً لهنَّ صوراً شعرية كاريكاتورية تجعل القارئ يغرقُ في الضحك /
مَنْ الجآذرُ في زي الأعاريبِ
حُمرُ الحِلى والمطايا والجلابيبِ
إنْ كنتَ تسألُ شكّاً في معارفها
فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ ؟
إستهلَّ البحتري غزله بالنداء المستعطف الذي ينمُّ عن ضعف في النفس وإنكسار مهين < أتاركي > أي يا تاركي . أمّا أبو الطيّب المتنبي فكان أكثر ذكاءً وأحد فطنة وأقدرعلى رسم إفتتاحياته بأساليبَ تأخذُ بمجامع القلوب . قال المتنبي < مَنْ الجآذرُ > مستخدماً صيغة السؤال الصلب المتعالي الرجولي النبرة والأداء < مَنْ > ثم يستديرُ ملتفتاً لنفسه ليجيبَ هو نفسه على سؤاله بصيغة إستنكارية قوية تحمل الكثير من الإحتجاج ثم يوجّه لنفسه سؤالاً تقريعياً < فمن بلاكَ ... > ؟ أربعة أبيات توضح وتكشف الفروق الكبيرة بين شخصيتي ونفسيتي شاعرين إثنين جمعتهما قصيدتان مكرّستان أساساً لمديح رجلين لا من جامع يجمع ما بينهما لا زماناً ولا مكاناً ولا حتى في المكانة الإجتماعية والخصال الشخصية.
أخذ هذا الغزل الجميلُ من المتنبي 17 بيتاً بالتمام والكمال في حين لم يكتب البحتري في تغزله إلا ثمانية أبيات فقط ! ذهب المتنبي بعد الغزل منصرفاً لكيل المديح لكافور الإخشيدي لكنَّ البحتري ذهب مذهباً آخرَ لكأنه يأنفُ ، وقد فارق للتو الجميلاتِ ، أنْ ينصرف إلى ممدوحه منافقاً مرائياً يقول فيه كلاماً لا يستحق أغلبه لكنها صنعة الشعراء ووسيلة إرتزاقهم ومواصلة عيشهم وعوائلهم . وضع البحتري حاجزاً من الطبيعة لا غيرها يفصل بين ما قال في الغانيات وما سيقولُ في رجل قد يكونُ ثريّاً أو زعيم قبيلة أو أمير مقاطعة أو ثغر من الثغور . شكّلَ هذا الجدار العازل الطبيعي كذلك ثمانية أبيات وصف فيها الكثير من ظواهر الطبيعة من مطر وريح وسراب وكواكب وليل وبعض كائناتها الحيّة كالقطا مثلاً. بعد ذلك توجّه الشاعرُ لممدوحه ليقول مادحاً مسرفاً في الدجل والرياء لكي يقبض ثمن أتعابه في نهاية اللقاء . البحتري ضعيفٌ أمام الغواني لكنه قويٌّ شامخٌ في وجه ممدوحيه .
رابعاً : إذا جرى المتنبي في بناء قصيدته هذه على ذات بحر وقافية قصيدة البحتري فليس معنى ذلك أنه قلّده أو سرق منه البحر والقافية والروي . البحور مطروحة لمن يشاء والعِبرةُ ليس في شكل بناء القصيدة كما يعلم القاصي والداني. مضيتُ في سعيي أبعد قليلاً فلاحقتُ قوافيَ كلا القصيدتين فوجدت المتنبي قد أخذ من قصيدة البحتري 19 قافيةً مع كامل رويّها ، فهل أخذ شيئاً من معانيه وباقي فنونه الشعرية المعروفة من بلاغة وبيان وبديع وزخارف شكلية ومؤثرّات صوتية ـ لونية كما يقول أهل المسرح ؟ كلاّ ثم ثُمَّ كلاّ ! لم ألحظْ إلا آثاراً خفيفةً بسيطةً في بعض الأبيات . أُثبّت أبيات الشاعرين المتشابهة القوافي [ 19بيتاً ] كما وجدتها في ديوانيهما مبتدئاً أولاً بأبيات البحتري ( صاحب الدعوى المُقامة ضد خصمه ) ثم تليها أبياتُ المتنبي ( المتهم الشاخص في قفص الإتهام أمام القارئ ) :
1ـ أتاركي أنتَ أمْ مُغرىً بتعذيبي
ولائمي في الهوى إنْ كان يُزري بي
أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصبح يُغري بي
هل هناك من شبه في معاني وأغراض هذين البيتين عدا القافية والروي في الجار والمجرور {{ بي }} ؟ كلا ، والحكم للقارئ . لقد عاب وأزرى طه حسين [4] على المتنبي لأنه وقف ولم يحرّك آخرَ الجار والمجرور {{ بي }} لكنه لاذ بالصمت عمّا قال البحتري قبل المتنبي في البيت الأول {{ يُزري بي }} . علماً أنَّ حكم {{ بي }} الإعرابي هوهو في كلا البيتين . إلا إذا كنا جدَّ لؤماء وحقودين ومرتابين فنقول إنَّ الفعل الرباعي {{ يُغري }} شديد الشَبَه بأخيه الفعل {{ يُزري }} فكلاهما رباعي الحروف ويشتركان معاُ بثلاثة أحرف هي حرف الراء والياء مُكررة مرتين في كلا الفعلين . يُزري // يُغري . التاثير الصوتي واحد على الأذن السليمة . معنى ودلالة الفعل { يُزري } هي لا ريبَ مختلفة عن معنى ودلالة الفعل {{ يُغري }} . الزراية شئٌ والإغراءُ شئٌ آخر كما نعلم .
2ـ عَمْرُ الغواني ، لقد بيّنَ من كَثَبٍ
هضيمةً في مُحبٍّ غيرِ محبوبِ
أنتَ الحبيبُ ولكني أعوذُ بهِ
مِنْ أكونَ مُحبّاً غيرَ محبوبِ
نجد هنا شبهاً قوياً لا سيّما في واقع أنَّ الشاعرين واقعان تحت وضعية فيها ظلم وتعسف من قِبلِ الغواني في حالة البحتري ومن قبل كافور الإخشيدي في حالة المتنبي . حب مظلوم هضيم هناك وحب مثله هنا والحب هو الحب . ثم {{ في مُحبِّ غير محبوب }} و {{ محباً غيرَ محبوبِ }} !! هل قرأ المتنبي قصيدة البحتري ؟ كان المتنبي ينفي دوماً أنه يعرف شاعراً بإسم البحتري ويتعالى عليه بالقول [[ ومَنْ هو هذا البحتري ]] راداً على مَن يتهمه بالسرقة منه .
3ـ إذا مددنَ إلى إعراضهِ سبباً
وفَينَ من كُرههِ الشبّانَ بالشيبِ
فما الحداثةُ من حِلمٍ بمانعةِ
قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشيبِ
لا من وجهٍ للشبه بين هذين البيتين في المعنى والأهداف سوى ذكر { الشبّان والشيب } وهو مجرد ذِكرٍ دون تبعات وذيول . ثم إنَّ شبّان وشيب البحتري غير شبّان وشيب المتنبي من حيث التوظيف العام . هناك قال البحتري إنَّ الغانيات اللواتي عذبّنه وصددنَ عنه يفضلنَ عليه ـ من كرههنَّ له ـ رجالاً أكبر منه سنّاً ، هو شابٌّ والآخرون شيب . أما غرض المتنبي من { الشبان والشيب } في بيته فالأمر مختلفٌ جذرياً . { قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشيبِ } .
4ـ يَحنونَهُ من أعاليهِ على أَوَدٍ
حنوَ الثِقافِ جرى فوقَ الأنابيبِ
لما رأينَ صروفَ الدهرِ تغدرُ بي
وفينَ لي ووفتْ صُمُّ الأنابيبِ
في بيت البحتري صورة معبّرةٌ تقولُ إنَّ الشاعر واقعٌ تحت تأثير ألاعيب الغواني ، حيث أطلق عليهنَّ في البيت السابق صفة [ المها ] ، حتى أنهنَّ أخضعنه فانحنت قامته والتوت كما تنحني الرماح تحت تأثير الآلة التي تُستخدم لتكييفها إستقامةً أو إنحناءً حسب طلب الفارس ومقتضيات المتوقع من المعارك . أناخ واستخذى لحبيباته وحارقات كبده . أما المتنبي فشأن بيته بالمرّةِ شأنٌ آخر . تكلم في هذا البيت لا عن الغواني ولا عن سواهنَّ من بناتِ جنسهنَّ إنما ، عن الخيول التي حملته إلى ممدوحه { لما رأين } ثم { وفينَ لي } وأضاف إلى وفاء خيله وفاء رماحه له { الأنابيب } . الخيول هي وسائط حمله ونقله إلى ممدوحه والرماح هي وسائل الدفاع عن نفسه ضد الخصوم والأعداء وكانوا كثرةً للمتنبي كما يعرفُ الجميع .
5ـ أمْ هل مع الحبِّ حِلمٌ لا تُسفههُ
صبابةٌ أو عزاءٌ غيرُ مغلوبِ
إذا غزتهُ أعاديهِ بمسالةٍ
فقد غزتهُ بجيشٍ غير مغلوبِ
ما زال البحتري غارقاً حتى أُذنيه في الحبِّ ومشاكلِ مَنْ يُحِبُ . إنه محب من طَرْزٍ أو طِرازِ غريب بحيث لا حِلمُهُ ينفعُ ولا من عزاءٍ يشفعُ . إنه مستسلمٌ كليّةً لقدره في الحب كما يستسلمُ جنديٌّ جريحٌ سقط في أرض المعركة . لا علاقة لبيت المتنبي بالحب ، إنه مُكرَّسٌ لمديح كافور الإخشيدي . لقد بالغ في هذا المدح فكتب بيتاً شعرياً مُعقّدَ التركيب مصنوعَ الهدف فيه الكثير من الإفتعال والمبالغات التي ترفضها الذائقة الشعرية والسليقة البَدَهية . قال : إذا زارته أعاديه تطلب منه رِفداً أو رزقاً أو معونةً فلسوف يستجيب لما طلبتْ . وإنَّ وِفادتهم عليه كأنها غزوةُ جيشٍ لا يُغلب . مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي التي يصورّها ويشكّلها بالكلام المختار الذي يُحسن المتنبي فنَّ اللعب به .
6ـ قضيتُ من طلبي للغانياتِ وقدْ
شأونني حاجةً في نفسِ يعقوبِ
كأنَّ كلَّ سؤالٍ في مسامعهِ
قميصُ يوسفَ في أجفانِ يعقوبِ
مرةً أخرى نرى الفرقَ كبيراً واضحاً فيما رام البحتري من توظيفه لإسم يعقوب ، الذي كانت في نفسه حاجة كما جاءَ ذِكرُ ذلك في القرآن [[ ولمّا دخلوا من حيثُ أمرَهمْ أبوهمْ ما كان يُغني عنهم من اللهِ مِن شيءٍ إلاّ حاجةً في نفسِ يعقوبَ قضاها وإنه لذو عِلمٍ لِما علّمناهُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون / سورة يوسف ،الآية 68 ]] . الفرقُ كبيرٌ بين هذا التوظيف وتوظيف المتنبي لإسم يعقوبَ وقصته مع قميص ولده المفترى والمغضوبِ عليه من قِبلِ إخوته غير الأشّقاء معروفة ومُفصّلة في القرآن [[ إذهبوا بقميصيَ هذا فألقوهُ على وجهِ أبي يأتِ بصيراً واتوني بأهلكمْ أجمعين / سورة يوسف ، الآية 93 ]] . أراد المتنبي القولَ إنَّ مطالب محتاجيه تُفرحُ بل وتُشفي كافورَ الإخشيدي كما أشفى قميصُ يوسفَ عمى عيني أبيه يعقوب من شدّة الحزن وربما مداومة البكاء أسفاً على فقد ولده الأثير بدعوى إفتراس الذئبِ له في البريّة [[ وتولَى عنهمْ وقال يا أسفي على يوسفَ وابيضّتْ عيناهُ من الحُزنِ فهو كظيم / سورة يوسف ، الآية 84 ]] . رجع كلا الشاعرين لما ورد في القرآن من قصص في سورة يوسف ولكنْ لتوظيف ما ورد لأغراضٍ متباينةٍ شتّى . فهل في هذا ثمّة من سرقةٍ أو مجاراة أو وقوع المتنبي تحت تأثير البحتري ؟ كلاّ ، بالطبع كلاّ ثم كلاّ ثمَّ كلاّ حتى مطلع الفجرِ .
7ـ لم أرَ كالنُفّرِ الأغفالِ سائمةً
من الحَبلّقِ لم تُحفظْ من الذيبِ
كم زورةٍ لكَ في الأعرابِ خافيةٍ
أدهى وقد رقدوا من زورةِ الذيبِ
الحَبلّق : (( غنم صغار لا تكبر )) ... حاشية في أسفل الصفحة . وهي لفظة ثقيلة جداً بل وكريهة خاصةً وقد عنى البحتري بها الغانيات اللواتي أعرضن عنه وعذّبنه ولوّعنه فكيف شبههنَّ بالغنم ؟ على أية حال ، غانيات البحتري تركهن أهلوهنَّ بدون حرس وحماية ، الأمرُ الذي أثار دهشته وإستغرابه جزعاً عليهن . الطريف هو مجيء هذا البيت في هذه القصيدة مباشرةً بعد البيت الذي ذكر فيه إسم يعقوب ... ومحنة هذا الرجل مع الذئب معروفة وقد بينتها قبل قليل . أما ذيبُ أبي الطيّب فإنه ذئبٌ آخر جاء به لغرض التوصيف والتشبيه لا أكثر . الذئب داهيةٌ في زياراته للقرى والأرياف ليلاً يتصيّد ما قد يُلاقي من غنم وسواها وهو يعرف أنَّ بيوت القرويين [ الأعراب ] لا تخلوا من بهيمة أو سائمةٍ من قبيل الماعيز والغنم وغير ذلك . فزيارة المتنبي لديار [ أكواخ طين أو خيام ] حبيبته ليلاً تحاكي أو تُضاهي زيارة الذئب لمثل هذه الديار أو الأدؤر وإنْ إختلفت الأغراضُ والغايات . يزور المتنبي خلسةً وتلصصاً ليمارس الحب والهوى مع محبوبته بينما لا يزورُ الذئبُ حبيبةً ولا يزورُ ليطارحَ الهوى ولكنْ ليسدَّ جوع أحشائه . في المتنبي جوعٌ ولكن للحب وربما لممارسةِ الجنس ، وفي الذئبِ جوعٌ ولكنه جوعٌ حقيقيٌّ ليس مجازياً للحم حيوان أثيرٍ لديه من الضأن . جوع في شاعر وجوع في حيوان مفترس . المهم ، الذئبُ خطِرٌ سواء في التهديد المحتمل أو في واقع الهجوم الليلي المباغت بهدف الإفتراس لإدامة ومواصلة الحياة .
8ـ أغشى الخطوبَ فإمّا جئنَ مأربتي
فيما أُسيَّرُ ، أو أحكمنَ تأديبي
ترعرعَ الملكُ الأستاذُ مُكتَهِلاً
قبلَ اكتهالٍ أديباً قبلَ تأديبِ
قصد البحتري في بيته الشعري هذا تأديب نفسه [ تأديبي ] . أما المتنبي فكان قد قصد أدب وتأديب ممدوحه الإخشيدي [ ترعرعَ الملكُ ... قبلَ تأديبِ ] . الفرق شديد الوضوح فلا من وجه للشبه ولا من مكان للظُنّة وسوء الفهم والقصد .
9ـ إنْ تلتمِسْ تُمرِ أخلافَ الأمورِ وإنْ
تلبثْ مع الدهرِ تسمعْ بالأعاجيبِ
في جسمِ أروعَ صافي العقلِ تُضحكهُ
خلائقُ الناسِ إضحاكَ الأعاجيبِ
بعد الغزل والشكوى والنسيب والتشبيب إلتفتَ البحتريُّ إلى نفسه في مناجاة يشكو فيها دهره ويتفلسف وكيف لا تستقيم أمور بعض الرجال مع زمنهم إلا بالمجاملة والصبر والمداراة [ تُمرِ أخلافَ الأمور ] ... وخلاف ذلك فليس أمامك إلا العجائب فتوقعها ثم تقبّلها . أعاجيب المتنبي لا تختلف جوهرياً عن أعاجيب صاحبه البحتري فالأعاجيب هي الأعاجيب في كل زمان ومكان كما أنَّ المُضحكاتِ تبقى هي المُضحكات مهما تبدلت الأزمان ومهما تحولت الظروف . لقد جامل المتنبي ونافق وأسرف في كيل المدائح للإخشيدي فنعته بصافي العقل الذي تُضحكه أخلاق الناس المتدنية المتبدلة والمبتذلة لكأنها في تحولاتها من الأعاجيب . لماذا يضعُ المتنبي عبداً أسودَ << مِشفَرُهُ نصفُهُ >> (( كما وصفه لاحقاً في أحد أبياته الشعرية في ذمّه )) ... لماذا يضعه فوق باقي الرعية في مصر يومذاك فهو الرائع والصافي العقل وباقي الناس خلائق سيئة متبدّلة مُبتذلة، أليس الناسُ على دين ملوكهم يكونون كيفما كانوا ؟
10ـ وأربدُ القَطرِ يلقاكَ السرابُ به
بعدَ الترَبُّدِ مبيّضِ الجلابيبِ
مَنْ الجآذرُ في زيِّ الأعاريبِ
حمرُ الحِلى والمطايا والجلابيبِ
ورود صيغة الجمع ( جلابيب / جمع جلباب ) في كلا البيتين لا تعني أنَّ المتنبي جارى أو تأثر أو أخذ من سابقه الشاعر البحتري . فالبيتان مختلفان جملةً وتفصيلاً سواء من حيث المعاني والهدف الخاص من البيت ثم الخلاف العميق البيّن في صورتي البيتين البليغتين : معروفُ عن البحتري شغفه بالطبيعة وقدرته المتميزة على وصف ظواهرها المنوّعة وتقلباتها الهيّنة منها والهوجاء . وهو بهذا كان قد سبق بل وتفوّقَ على الكثيرين من شعراء زمانه وما تلا زمانه بقرنٍ من الزمان . أردتُ أنْ أقولَ أنَّ البحتري كان في بيته الشعري هذا منصرفاً للطبيعة من سحاب أسود ومطر وسراب أبيض ولكنْ من باب التورية والمجاز إذْ أنَّ مُراده من تفصيلات البيت أنَّ أمانيه ورجاءه في الناس هي أمانٍ خُلّبٌ فارغةٌ تماماً كالسحاب الثقيل الذي يوحي لرائيه بنزولِ مطرٍ غزيرٍ ولكنْ لا يأتي بعد هذا المشهد الطبيعي الواعد كثيراً إلا السراب الأبيض ! لا من أمنياتٍ تتحقق ولا من مطرٍ يُشفي ويُطفئ غليلاً أو يُروي أرضاً جدباء ! طابق البحتري بنجاح بين لون السحاب الأسود [ أربد القْطر ] ولون السراب الأبيض تطابقَ تناقضٍ بالطبع كما يقول نقّادُ الشعر . لقد سخر البحتري في هذا البيت سخريةً شديدة المرارة فالرجاء يخيبُ متحولاً إلى مجرّدِ سرابٍ في بريّةٍ خلاء متجلببٍ بعباءة بيضاء لا سوادَ غيمة مطرٍ فيها ولا من أملٍ .
أما المتنبي فكان شأنه في بيته غير شؤون البحتري على وجه الإطلاق . كان المتنبي مشغول بالتغزل بصبيات بدويات رآهنّ فوق ظهور جمالٍ حُمر اللون فرسم لوحةً خاصة لما قد رأى طابعها العام وخلفيتها كما يقولُ الرسّامون وفضاؤها من لون واحد هو اللون الأحمر . النوقُ حمرٌ وزينة الصبيات حمراء اللون ثمَّ أنَّ ما أرتدين من ملابس [ جلابيب ] هي الأخرى حمراء اللون . صورة تستفزُّ القارئ الهادئ الطبع ، فاللون الأحمر يهيّجُ الأعصاب ويذكّر القارئ بجولات مصارعة الثيران في إسبانيا . بل وزاد المتنبي وبالغ في دموية المشهد والصورة البليغة والبالغة التأثير فجعل ، في بيت لاحق ، من يتجاسر بالدنو من هوادج الصبيات (( بين مطعونٍ ومضروبِ )) ولا طعنة رمحٍ بالطبع ولا ضربة سيفٍ صارمٍ بدون مسيل دماء . دم دم دم ... هل كنتَ يا متنبيُّ دموياً حقاً إلى هذا الحد ؟ جلابيبُ المتنبي حمرٌ حقيقةً بينما جلابيب البحتري بيضٌ من باب المجاز والتشبيه والسخرية فشتّانَ بين القصد من اللفظتين .
11ـ مثلَ القطا الكُدرِ إلاّ أنْ يعودَ بها
لَطخٌ من الليلِ سودٌ كالغرابيبِ
بلى ، يروعُ بذي جيشٍ يُجدِّلُهُ
ذا مثلهِ في أحمِّ النقعِ غربيبِ
ما زال البحتري مع الطبيعة يصولُ ويجولُ ما شاءت له الصولات والتجوالات . وما زال يلفُ ويدورُ حول المطر وملحقاته وأسبابه وأوصافه ثمَّ خلط الطبيعة بما فيها من حيوان والحيوان كما نعلم هو من نتاج الطبيعة نفسها فلا من مجالٍ أمامه للفصل بين الأم ووليدها . إنتقل من السحاب الأسود الثقيل والسراب الأبيض في البيت السابق إلى الريح ومن الريح ثانيةً إلى السراب [ الآل ] الذي لا تمخرُ عُبابه إلا الجمال الضاربة في مختلف مناحي الصحارى . الآلُ ماءٌ سفائنه الجمالُ . لقد شبّهَ البحتريُّ لُججَ السراب كطائر القطا ، جمع قطاة ، ولكنها ملطّخة باللون الأسود الثقيل [ غرابيب ] . (( غرابيب سود )) تعبير ورد حرفياً في القرآن .
أما اللون الأسود الحالك في بيت المتنبي فشأنه شأنٌ آخرُ لا علاقة له بالطبيعة من مطر وسراب وطيور . إنه ما زال يلفُّ ويدور ولكن حول ممدوحه كافور الإخشيدي مادحاً متملقاً واهباً إياه ما لا يستحق من سمات وسجايا ومكرُمات . إنه في هذا البيت يرسم صورةً جدَّ بليغة في كيف يُلاقي الإخشيدي جيشَ عدوّه اللجب بطلاً مغواراً يقود جيشاً لجباً يبدو حالك السواد بما عليه من الحديد الواقي من الطعنات . جاء سوادُ البحتري جمعاً ( غرابيب ) ، أما سواد المتنبي فلقد جاء بصيغة المفرد ( غربيب ) تبعاً لمجرى تفصيلات كلا البيتين . سواد البحتري لطائر القطا وسواد المتنبي لحديد جيش كافور . هناك طيرٌ وهنا بشرٌ رغم أنَّ السوادَ يبقى سواداً .
12ـ إلى أبي جعفرٍ خاضت ركائبنا
خِطارَ كلِّ مَهولِ الخرقِ مرهوبِ
أضرتْ شَجاعتهُ أقصى كتائبهِ
على الحِمامِ فما موتٌ بمرهوبِ
نعم ، لا من ريبٍ ، هنا تطابقٌ بين معنى ( مرهوب ) في كلا بيتي الشاعرين ولكنه تطابق غير مقصود بتاتاً . في بيت البحتري إقدامٌ وجرأةٌ في جِماله ( ركائبه ) حين ترتضي فتتحدى مخاطر وأهوال الطرق والمفازات المؤدية إلى مكان إقامة ممدوحه . ليس في بيت المتنبي ذكرٌ لوسائط نقل ( ركائب أي مركوبات ) ولا ذكرٌ لطرق وبيدٍ ولا حركة تستهدفُ بلوغ ديار الممدوح . إنما فيه تعظيم لشجاعة كافور الإخشيدي التي تُغري جنده على الإقدام في سوح الوغى وتقبّل الموتِ الذي لا يخشاه الجُندُ . هناك نفيٌ للرهبةِ من الطُرُق المفضية للممدوح وهنا نفيٌ للرهبةِ من الموت . هناك حركةٌ وفعلُ حركةٍ ووسائطُ نقلٍ لا وجودَ لها في بيت المتنبي . غير أنهما كلاهما نفيا الرهبةَ سواءً أمام طريق تكتنفه مخاطرُ جمّةٌ أو أمامَ موتٍ في ساحةِ حربٍ . هناك حيوانات ، جمالٌ بهماءُ لا تخشى خطراً من طريقٍ أو سبيل ، أي أنها في مواجهة الطبيعة وخطر الطبيعة . حيوانٌ ضدَّ طبيعةٍ قاسيةٍ . أمّا هنا ، في بيت المتنبي ، فبشرٌ لا يهابُ الموتَ في قتاله ضد بشرٍ مثله لا ضدَّ الطبيعة غير الناطقة . بشرٌ ضدَّ بشر !!
13ـ مُحتَضرِ البابِ إمّا آذنِ النقرى
أو فائتٍ لعيونِ الوفدِ محجوبِ
حتى وصلتُ إلى نفسٍ مُحجّبةٍ
تلقى النفوسَ بفضلٍ غير محجوبِ
هنا إلتقى الشاعران جميعاً في معنى الحجاب (( محجوبِ )) . فممدوح البحتري لا يراهُ من يفدُ إليه لشدة الزحام على بابه منشغلاً بدعوة الناس على موائدَ للطعامِ خاصةٍ { النَقَرى } !! لا أرى في هذا مدحاً لممدوح البحتري . كرامُ العرب إنما تفخرُ بإقامةِ دعواتٍ للطعامِ عامةٍ تسميها { الجَفَلى } وقد قال شاعرهم :
نحنُ في مشتاةِ ندعو الجَفلى
لا ترى الآدِبَ فينا ينتقرْ
أي أننا نقيمُ موائدَ طعامٍ عامّةً رغم أننا في موسم شتاء حيث تقلُّ الغِلّةُ ويجف الزرعُ والضرعُ وتمحلُ مخازنُ البيوتِ .
ملاحظة : بيت البحتري هذا مُعقّد فيه إلتواءٌ وإلتباسٌ لذا أحسبُ أنّ من العسير فهمه على ظاهر حاله ومن هنا تأتي صعوبةُ التفسير الدقيق له .
أما المتنبي فقد إنتهجَ ذات السبيل في دسّه السُمَّ بالعسل ! لقد صوّرَ الإخشيدي في هذا البيت رجلاً غامضاً عسيراً على الفهم ( نفسٌ مُحجّبةٌ ) لكنَّ أفضاله لا تعرفُ الحجاب ، يده مبسوطةٌ كَرَماً . كيف جمع المتنبي النقيضين : النفس المحجّبة القابعة خلف ستار والفضل العميم المفتوح المكشوف ؟ كيف يكون المُعقّدُ الغامضُ المتسترُ كريمَ اليد سمحَ العطاء ؟ إنه يسخرُ ، كعادته ، من كافور حتى وهو في معرض مدحه .
14ـ أغرَّ يملكُ آفاقَ البلادِ فمن
مؤخَّرٍ لجدا يومٍ وموهوبِ
إلى الذي تَهَبُ الدولاتِ راحتُهُ
ولا يَمَنُّ على آثارِ موهوبِ
مديحٌ ، مديحٌ صريحٌ مكشوفٌ في كلا البيتين . الممدوحان يهبان بسخاء ، الأول لا وقتَ كافياً لديه لكي يُعطي لسائليه ولا سعة ما يملك تسمح له أنْ يهبَ على الفور . لذا فهو يُعطي اليوم ويؤجّلُ بقية السائلين ليوم غدٍ . إنه محصورٌ بين ضيق الوقت من جهة وسعة ما يملك من الجهة الأخرى . أما المتنبي فقد بالغ أكثرَ في مديح إخشيدِ مصرٍ . ذاك يمنح مالاً لكنَّ هذا يَهبُ دُوَلاً لا مالاً ولا إقطاعاً . ثم إنه يمنح ويتكرمُ ولا يذكرُ ما وهبَ . كلاهما يهبُ بسخاء وكلاهما إستعمل إسم المفعول {{ موهوب }} . ذاك يهب على قدر ما يسمح له به زمانه وسعة ممتلكاته . أما هذا فإنه يهبُ ولا يُبالي ولا يلتفتُ أو يذكرُ ما قد وهبَ . واهبان إثنان وموهوبون لا عدَّ لهم .
15ـ رضِيتُ إذْ أنا من معروفهِ غَمِرٌ
وازددتُ عنهُ رِضىً من بعدِ تجريبِ
ليتَ الحوادثَ باعتني الذي أخذتْ
منّي بحِلمي الذي أعطتْ وتجريبي
ما زال البحتري سادراً في جولات مديحه لأحمد بن محمد الطائي ( مَنْ هو ؟ ) معبّراً عن سروره ورضاه عنه بما قدّم له من أُعطيات ومال ورضاه هذا غيرُ ثابتٍ بل وإنه متحرّكٌ يكبرُ ويتسعُ كلما جرّبه أو إمتحنه واختبره فتزدادُ سِمنةُ الشاعر بعد كل إختبار يقوم به على ممدوحه . الرضى والسمنة في إطرّاد وتواصل وإستمرار . أما المتنبي فإنه يخاطب الحوادث عاتباً راجياً أنْ تٌعيدَ له ما أخذت منه . وما أخذت منه ؟ العمر ، الصحة ، الشَعَر ، أحبابه ، أو سيف الدولة الحمداني الذي تركه ليمدحَ عبداً أسودَ يحكمُ بعض بلاد المسلمين ؟ لقد قال فيه في مقارنةٍ مع الحمداني وقد هرب ليلاً من مصرَ :
وذاكَ أنَّ الفحولَ البيضَ عاجزةٌ
عن الجميلِ فكيفَ الخصيةُ السودُ ؟
إنه يُعلنُ عن كامل إستعداده للتنازل عن حِلمهِ وما تراكم لديه من تجارب حياتيه في مقابل أنْ يستعيدَ ما فقدَ وربما عودته لحلب وسيف الدولة . تجارب البحتري تجلبُ له أموالَ الممدوحين ، أما تجارب المتنبي فإنها معروضة للتبادل والمقايضة وليس للمديح ولا لإستجداء هبات الأثرياء وذوي النعمة السابغة . أيها الزمانُ الخؤون القُلّبُ : هاك حلمي وجميع تجاربي مقابل أنْ تُعيدَ لي ما سبق وأنْ أخذتَ . صفقة تجارية من غير نقود وذهب وفضة .
16ـ خلائقٌ كسواري المُزنِ مُوفيةٌ
على البلادِ بتصبيحٍ وتأويبِ
فالحمدُ قبلُ لهُ والحمدُ بعدُ لها
وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
كلاهما ما زال يمدحُ مبالغاً كاذباً مُدجّلاً واللعنةُ على الحاجة التي تُلجئُ كبار شعراء زمانهم إلى أنْ يقفوا مادحين مُرائين من أجل نوال هبات المتمكنين من رجالات عصرهم . فأخلاقُ الطائي ، ممدوح البحتري ، تماماً كسحِّ المطر الذي لا ينقطعُ في الصباح والمساء . أما تأويب المتنبي فإنه من صنف آخر وطبيعة أخرى وإنْ كان ما زال يدور في آفاق مديح الإخشيدي . إنه يشكره لا وحده ولكنْ ، يحمدُ ويشكر الرماحَ ومسيرات الليالي والعودة منها " الأوبة " . تأويب البحتري غير تأويب المتنبي وإنْ تشابه المصدران لفظاً وأحرفاً .
17ـ في كل أرضٍ وقومٍ من سحائبهِ
أُسكوبُ عارفةٍ من بعدِ أُسكوبِ
لا تَجزني بضنىٍ بي بعدها بقرٌ
تَجزي دموعيَ مسكوباً بمسكوبِ
سكائبُ البحتري من مطر السماء ، أما سكائبُ المتنبي فهي دموعه لا مطرُ السماء . الدمعُ ماءٌ مثل المطر فما يمنعه من أنْ ينسكبِ كما أمطار السحاب ؟ فعلُ الإنسكابِ واردٌ في كلا البيتين وليس من شيءٍ غيره .
18 ـ كمْ بثَّ في حاضرِ النهرينِ من نَفَلٍ
مُلقىً على حاضرِ النهرينِ مصبوبِ
وربّما وخدتْ أيدي المطيِّ بها
على نجيعٍ من الفرسانِ مصبوبِ
بيت البحتري هذا متعلّقٌ بالبيت الذي سبقه الذي تكلّمَ فيه عن السحائبِ والسكائبِ. لذا فالمطرُ هو المصبوب هنا أو الصبيبُ . أما مصبوب بيت المتنبي فهو الدمُ ، دماءُ من يتجرأ على الإقترابِ من هوادج الصبيات البدويات { الجآذر } . مياه أمطار البحتري تصبُّ في الأنهار ، أما دماء الفضوليين في بيت المتنبي فهي فراشٌ تتهادى عليه خَفافُ جِمالِ حبيبات الشاعر ، مهادٌ من دمٍ على الأرض وليس ماءُ مطرٍ يسيحُ ليصبَّ في الأنهار . البحتري ، كما رأيناه في العديد من الأبيات والمواقف ، مع الحركة في شعره لا مع الجمود والثبات . ماءُ المطرِ في حركةٍ متصلةٍ بدءاً من كونه بخاراً يتكثّفُ فيغدو ماءً سائلاً ، ثم تساقطه من السحاب إلى الأرض ثم سيلانه حتى يلاقي منخفضاً أو وادياً أو نهراً أو بحراً فيمضي إلى هناك ليواصل حركته التي بدأها في الأعالي .
19ـ ما انفكَّ مُنتضياً سَيفَيْ وغىً وقِرى
على الكواهلِ تَدمى ، والعراقيبِ
ولا برزنَ من الحمّامِ ماثلةً
أوراكهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ
عراقيبُ البحتري في بيته هذا هي بالضبط عراقيب المتنبي في بيته التالي . ولكنَّ الفروقَ هائلةٌ بين معاني البيتين . هناك سيفُ حربٍ وكَرَمُ ضيافة . أما في بيت المتنبي فلا شجاعة حروب ولا من أسلحةٍ ولا دماءٌ تسيلُ على الكواهلِ والعراقيب. إنما هنا نساء مصريات متبرجّات يخرجن من الحمام بأردية ضيّقة بحيث تبرز من خلالها مفاتنهنَّ ولا سيّما الأوراك فضلاً عمّا يبدو للعيان من أجزاء من أقدامهنَّ وتلك أمور ما كان يتقبلها مجتمعُ زمان المتنبي إلا في مصر كما يبدو مما جاء من وصفٍ في هذا البيت . كان المتنبي يقارن بين صبايا بدويات ونساء مصريات وإنه منحازٌ للبدويات لأسباب عرضها مع بعض التفاصيل . قال عنهنَّ مثلاً :
حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ
أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرَفنَ بها
مضغَ الكلامِ ولا صُبغَ الحواجيبِ
ولا برزنَ من الحمّامِ ماثلةً
أوراكهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ .
الخلاصة //
1ـ لم أجد في تسعة عشر بيتاً تشتركُ في الوزن والقافية من قصيدتين واحدة للبحتري والأخرى للمتنبي ... لم أجد إلا بيتاً واحداً للمتنبي فيه شبه كبير ببيت للبحتري من حيث التوصيف والتشبيه . بيت البحتري هو :
عَمْرُ الغواني ن لقدْ بيّنَ من كَثَبٍ
هضيمةً في محبٍّ غير محبوبِ
وبيت المتنبي موضوع الشٌبُهةِ هو :
أنتَ الحبيبُ ولكني أعوذُ بهِ
من أكونَ مُحبّاً غيرَ محبوبِ
هذا هو وجه الشبه الكبير الوحيد في هاتين القصيدتين {{ محب غير محبوب }} !
2ـ لقد أنجزتُ مهمتي ولا أحسبني وفيتُ بها الوفاء الكبير المتوقع . أنتظر ممن يهمهم هذا الأمر ، أمر ما يُشاع عن سُرَقِ المتنبي من البحتري ، أن يواصلوا جهدي المتواضع بتتبع باقي أبيات القصيدتين موضوعتي بحثي وتقصّي ما فيهما لعلهم أنْ يجدوا مواضعَ شَبَهٍ هنا أو هناك وكشف تفصيلات المتشابهات إنْ وُجدتْ. وإلاّ فلسوف يبقى المتنبي مظلوماً مُتّهَماً بالباطل وهو بريء .
هوامش
1ـ محيي الدين صبحي (( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه )) . الناشر : وزارة الثقافة والإرشاد القومي . دمشق 1978 .
2ـ ديوان البحتري ، المجلّد الأول . الناشر : دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 .
3ـ ديوان المتنبي . الناشر : دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 .
4ـ طه حسين (( من تأريخ الأدب العربي )) الجزء الثالث . الناشر : دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثالثة شباط ، فبراير 1980 . الصفحات 285 ـ 286. تكلم طه حسين عن الطباق في هذا البيت :
أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بي
وعن المشغوفين بالبديع ... ثم قال بكلماته هو دون تدخل مني أو تغيير<<< وهذا الطِباقُ نفسه قد يُرضيني ، لولا أني أجدُ في القافية إنحداراً ثقيلاً على السمعِ أشد الثقل . فأنتَ بين إثنين : إمّا أنْ تجعلَ قوله " يُغري بي " في مقام الكلمة الواحدة فتنطقُ بها موصولة ولا تشعرُ بما فيها من التفرّق لتستقيمَ لك القافية على نظامها الموسيقي المألوف . وإذن فقد أفسدتَ النُطق وأسأتَ إلى الصوت اللغوي نفسه . وإما أنْ تنطقَ بهذه الجملة على وجهها فتشعرُ بأنَّ لفظها يتألفُ من فعلٍ وحرف وضمير وتُنبرُ بالباء إنْ جاز هذا التعبير. وإذن فقد صحَّ لك النطقُ اللغويُّ ونبتْ عليكَ القافيةُ نبوّاً شنيعاً>>> .
لقد عقّد طه حسين الأمرَ علينا وعلى نفسه وهو لا يستحقُّ كل هذا العناء والإجتهاد الزائد . " يُغري بي " تعبير رائع جداً وناجحٌ جداً جداً لا يحتملُ تخريجات وتفسيرات لغوية وقد جاء تماماً في سياقه الصحيح مكاناً وتوقيتاً (( وأنثني وبياضُ الصبحٍ يُغري بي )) . واضحٌ أنَّ قصدَ طه حسين أن يكونَ (( يُغري بيَ )) بدل بي ساكنةً الأمر الذي يخلُّ بوزن البيت . ثمَّ ، وكما أسلفتُ القولَ ، لِمَ لمْ يعترضْ طه حسين على تركيبٍ لغويٍّ مشابه للبحتري (( يُزري بي )) الشبيه بِ (( يُغري بي )) ؟ حلالٌ هناك وحرامٌ هنا !! .
البحتري ( 205 ـ 284 للهجرة )
والمتنبي ( 303 ـ 354 للهجرة )
مُقدِّمة ليست طويلة !
أسرفَ بعضُ النقّاد القدامى في إتهام المتنبي بالسرقة أو التأثر بسابقيه من مشاهير شعراء العرب ولا سيّما الشاعر العباسي البحتري الذي سبقه زمنياً بقرابة قرن كاملٍ من الزمان . فهل كان هذا الإتهام صحيحاً وما مقدارُ صحته إنْ صحَّ وكيف التثبّتُ منه وما هي وسائل وسُبُل إثبات التهمة ؟ تابعتُ ما كتب الأستاذ محيي الدين صبحي في كتابه القيّم ( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه ) [1] وما عرض القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفي سنةَ 392 هجرية في كتبه الأكثر شهرة (( الوساطة ... )) فلم أجدْ ضالتي فيما توخيتُ من محاولة { وساطتي } المتواضعة لتقصّي ما كان يُسمّى بسرقات المتنبي مُحدِّداً دراستي بتأثر المتنبي بالبحتري بشكل خاص وليس بغيره . بلى ، جرت مقارنات متفرقة بين بعض أبيات المتنبي وما قال قبله سواه من الشعراء دفاعاً عنه وتبريراً لخروجه هنا أو هناك عن بعض قواعد اللغة العربية أو عن تصرفه بالألفاظ وتغيير معانيها أو سَرَفه في مجاراة قاعدة الأخذ بالقياس حتى لو كان هذا القياسُ غير شائعٍ كثيراً . كما بين القاضي الجرجاني عيوب بعض أبيات المتنبي أو سوء مطالع بعض قصائده أو ضعف مخارجها أو جنوحه لإقحام ألفاظ أو أسماء أعلامٍ غيرعربية . خلا محاولتين مبتسرتين متواضعتين واحدة ذكر القاضي الجرجاني فيها شذراتٍ من قصيدتين عن الأسد واحدة للبحتري والثانية للمتنبي ( المصدر الأول الصفحات 406 ـ 410 ) [1]. ذكر الجرجاني إسم شاعر ثالث هو " أبو زبيد " يبدو أنه هو الآخر كتب شعراً [[ ... فإنما وصفَ خلق الأسد وزئيره وجرأته وإقدامه وكأنما هو مرعوب أو مُحذر ، والفضلُ له على كل حال ، لكنْ هذا غرضٌ لم يَرُمْهُ ومذهبٌ لم يسلكه ]] / الصفحة 410 سالفة الذكر . ولكنْ ، من هو هذا أبو زبيد وأين قصيدته في الأسد ؟ لا من ذكرٍ لها فيما لديَّ من كتاب الأستاذ محيي الدين صبحي . أما المحاولة الخجول الثانية فهي في قصيدتين قيلتا في وصفِ الحُمّى قال إحداهما المتنبي وقال الثانية شاعر آخرهو " عبد الصَمَد بن المُعذّل " / الصفحات 399 ـ 405 / المصدر الأول . علّق الجرجاني عليهما تعليقين متناقضين فقال عن قصيدة المتنبي [[ وهذه القصيدة كلها مُختارة ، لا يعلمُ لأحدٍ في معناها مثلها ، والأبيات التي وصف بها الحُمّى أفرادٌ قد إخترع أكثر معانيها وسهل في ألفاظها فجاءت مطبوعة ، وهذا القسم من الشعر هو المطمع المؤيس / الصفحة 402 من المصدر الأول ]] . في حين عاد الجرجاني ليقول عن قصيدة عبد الصمد بن المُعذل ، وهي قصيدة رائعة حقاً ، ما يلي [[ وقد أحسن عبدُ الصمد بن المُعذّل في قصيدته الرائية التي وصف فيها الأسد ، وقصّرَ في الضادية وفي مقاطيع له في وصفها ، وكأنَّ أبا الطيّب قصد تنكّب معانيه فلم يلمَّ بشيءٍ منها / الصفحات 403 ـ 405 من المصدر الأول ]] . قال عبدُ الصمد في الحُمّى :
وبِنت المنيّةِ تنتابي
هدوّاً وتطرُقني سَحَرةْ
ثم سرد القصيدة كلها أو بعضها لستُ أدري لأنني لا أعرفُ إبن المُعذّل معرفة جيدة ولستُ مطلّعاً على مجمل أشعاره . بعد هذا السرد يقرر القاضي الجرجاني حكماً غاية في الطرافة والغرابة في عين الوقت ، حكماً إنهزامياً ، توافقياً ، يتنصل فيه عن مسؤوليته الكبيرة في إستصدار حكم عادل جريء فيما يرى . وفي المواقف الحاسمة يتبين معدن الرجال وصدقهم مع أنفسهم والآخرين . قال في الصفحة 405 [[ موازنة بين المتنبي وابن المُعذّل : فأحسنَ وأجادَ وملح واتسعَ ، وأنت ـ إذا قستَ أبياتِ أبي الطيّب على قصرها ، وقابلتَ اللفظَ باللفظِ ، والمعنى بالمعنى ، وكنتَ من أهل البصر ، وكان لك حظ في النقد تبيّنتَ الفاضلَ من المفضول ، فأما أنا فأكرهُ أنْ أبتَّ حكماً أو أفصلَ قضاءً أو أدخلَ بين هذين الفاضلين وكلاهما مُحسنٌ ومُصيب ]] !!
كنتُ أتمنى أنْ لو حاول القاضي الجرجاني ، أو غيره ممَن ظنَّ السوءَ بأبي الطيّب المتنبي ، عقد مقارنة مطوّلة بين قصيدتين واحدة للبحتري والثانية للمتنبي لإثبات درجات تأثر هذا الشاعر بذاك من حيث المفردات المستخدمة واللغة التي عالج الشاعران بها قصيدتيهما فضلاً عن الصور والمجازات والتشبيهات والكنايات والإستعارات وباقي الأساليب الفنية المعروفة و ربما المُبتَكَرة . لم أجدْ للأسف شيئاً من ذلك فكيف أستكين وأتقبل إتهامات باطلة لا يقوم عليها دليل بيّن قوي وحجة متينة واضحة ؟ لذا أخذتُ ، وقد نفدَ صبري ، على عاتقي المهمة العسيرة وقبلت أنْ أدلو بدلوي مغامراً . وجدتُ لحسن الحظ قصيدتين للشاعرين غرضهما واحد هو المديح وإنْ إختلف الممدوحان لوناً ومقاماً وثراءً وجاهاً .
إذاً فلأقارن ما بينهما ونرى هل تأثر المتنبي بقصيدة البحتري ؟ أين وكيف ؟ وهل سرق وادّعى ما ليس له ؟
أولاً : خدمتني الصُدفة إذْ وجدتُ القصيدتين وقد نُظمتا على وزن واحد وقافية واحدة ورويٍّ واحد فما أسعد حظي مع هذين الرجلين .
ثانياً : قصيدة البحتري { خلائقٌ كسواري المُزنِ } [2] ، في أربعين بيتاً ، يمدحُ بها أحمد بن محمد الطائي . أما قصيدة المتنبي { الملكُ الأستاذ } ، فهيَ في 46 بيتاً ، يمدح بها كافورَ الإخشيدي ( وأنشده إياها في سِلخِ شهرِ رمضانَ سنة ستٍ وأربعين وثلاث مئة ، 957 م ) [3] .
ثالثاً : مفتتحُ كلا القصيدتين غزلٌ جميلُ فلقد قال البحتري /
أتاركي أنتَ أمْ مٌغرىً بتعذيبي
ولائمي في الهوى إنْ كان يُزري بي
عَمْرُ الغواني لقد بيّنَ من كَثَبٍ
هضيمةً في مُحبٍّ غيرِ محبوبِ
في غزل البحتري هوانُ وعذاب لحقه ممن يحب . ثم تشكّى من غانيات والغواني فتيات حَضَريات .
أما المتنبي فكان تشبيبُهُ أفضل وأصدق وأجمل وأكثر تأثيراً في النفوس فهو يعرف كيف يتلاعب في قلوب العشّاق المتيمين وغير العشاق المحايدين . خلاف البحتري ، نرى المتنبي متعلقاً بالصبايا البدويات ويفضلهن على الحضريات بل ويسخر منهنَّ أيما سخرية في أبيات لاحقة أخرى راسماً لهنَّ صوراً شعرية كاريكاتورية تجعل القارئ يغرقُ في الضحك /
مَنْ الجآذرُ في زي الأعاريبِ
حُمرُ الحِلى والمطايا والجلابيبِ
إنْ كنتَ تسألُ شكّاً في معارفها
فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ ؟
إستهلَّ البحتري غزله بالنداء المستعطف الذي ينمُّ عن ضعف في النفس وإنكسار مهين < أتاركي > أي يا تاركي . أمّا أبو الطيّب المتنبي فكان أكثر ذكاءً وأحد فطنة وأقدرعلى رسم إفتتاحياته بأساليبَ تأخذُ بمجامع القلوب . قال المتنبي < مَنْ الجآذرُ > مستخدماً صيغة السؤال الصلب المتعالي الرجولي النبرة والأداء < مَنْ > ثم يستديرُ ملتفتاً لنفسه ليجيبَ هو نفسه على سؤاله بصيغة إستنكارية قوية تحمل الكثير من الإحتجاج ثم يوجّه لنفسه سؤالاً تقريعياً < فمن بلاكَ ... > ؟ أربعة أبيات توضح وتكشف الفروق الكبيرة بين شخصيتي ونفسيتي شاعرين إثنين جمعتهما قصيدتان مكرّستان أساساً لمديح رجلين لا من جامع يجمع ما بينهما لا زماناً ولا مكاناً ولا حتى في المكانة الإجتماعية والخصال الشخصية.
أخذ هذا الغزل الجميلُ من المتنبي 17 بيتاً بالتمام والكمال في حين لم يكتب البحتري في تغزله إلا ثمانية أبيات فقط ! ذهب المتنبي بعد الغزل منصرفاً لكيل المديح لكافور الإخشيدي لكنَّ البحتري ذهب مذهباً آخرَ لكأنه يأنفُ ، وقد فارق للتو الجميلاتِ ، أنْ ينصرف إلى ممدوحه منافقاً مرائياً يقول فيه كلاماً لا يستحق أغلبه لكنها صنعة الشعراء ووسيلة إرتزاقهم ومواصلة عيشهم وعوائلهم . وضع البحتري حاجزاً من الطبيعة لا غيرها يفصل بين ما قال في الغانيات وما سيقولُ في رجل قد يكونُ ثريّاً أو زعيم قبيلة أو أمير مقاطعة أو ثغر من الثغور . شكّلَ هذا الجدار العازل الطبيعي كذلك ثمانية أبيات وصف فيها الكثير من ظواهر الطبيعة من مطر وريح وسراب وكواكب وليل وبعض كائناتها الحيّة كالقطا مثلاً. بعد ذلك توجّه الشاعرُ لممدوحه ليقول مادحاً مسرفاً في الدجل والرياء لكي يقبض ثمن أتعابه في نهاية اللقاء . البحتري ضعيفٌ أمام الغواني لكنه قويٌّ شامخٌ في وجه ممدوحيه .
رابعاً : إذا جرى المتنبي في بناء قصيدته هذه على ذات بحر وقافية قصيدة البحتري فليس معنى ذلك أنه قلّده أو سرق منه البحر والقافية والروي . البحور مطروحة لمن يشاء والعِبرةُ ليس في شكل بناء القصيدة كما يعلم القاصي والداني. مضيتُ في سعيي أبعد قليلاً فلاحقتُ قوافيَ كلا القصيدتين فوجدت المتنبي قد أخذ من قصيدة البحتري 19 قافيةً مع كامل رويّها ، فهل أخذ شيئاً من معانيه وباقي فنونه الشعرية المعروفة من بلاغة وبيان وبديع وزخارف شكلية ومؤثرّات صوتية ـ لونية كما يقول أهل المسرح ؟ كلاّ ثم ثُمَّ كلاّ ! لم ألحظْ إلا آثاراً خفيفةً بسيطةً في بعض الأبيات . أُثبّت أبيات الشاعرين المتشابهة القوافي [ 19بيتاً ] كما وجدتها في ديوانيهما مبتدئاً أولاً بأبيات البحتري ( صاحب الدعوى المُقامة ضد خصمه ) ثم تليها أبياتُ المتنبي ( المتهم الشاخص في قفص الإتهام أمام القارئ ) :
1ـ أتاركي أنتَ أمْ مُغرىً بتعذيبي
ولائمي في الهوى إنْ كان يُزري بي
أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصبح يُغري بي
هل هناك من شبه في معاني وأغراض هذين البيتين عدا القافية والروي في الجار والمجرور {{ بي }} ؟ كلا ، والحكم للقارئ . لقد عاب وأزرى طه حسين [4] على المتنبي لأنه وقف ولم يحرّك آخرَ الجار والمجرور {{ بي }} لكنه لاذ بالصمت عمّا قال البحتري قبل المتنبي في البيت الأول {{ يُزري بي }} . علماً أنَّ حكم {{ بي }} الإعرابي هوهو في كلا البيتين . إلا إذا كنا جدَّ لؤماء وحقودين ومرتابين فنقول إنَّ الفعل الرباعي {{ يُغري }} شديد الشَبَه بأخيه الفعل {{ يُزري }} فكلاهما رباعي الحروف ويشتركان معاُ بثلاثة أحرف هي حرف الراء والياء مُكررة مرتين في كلا الفعلين . يُزري // يُغري . التاثير الصوتي واحد على الأذن السليمة . معنى ودلالة الفعل { يُزري } هي لا ريبَ مختلفة عن معنى ودلالة الفعل {{ يُغري }} . الزراية شئٌ والإغراءُ شئٌ آخر كما نعلم .
2ـ عَمْرُ الغواني ، لقد بيّنَ من كَثَبٍ
هضيمةً في مُحبٍّ غيرِ محبوبِ
أنتَ الحبيبُ ولكني أعوذُ بهِ
مِنْ أكونَ مُحبّاً غيرَ محبوبِ
نجد هنا شبهاً قوياً لا سيّما في واقع أنَّ الشاعرين واقعان تحت وضعية فيها ظلم وتعسف من قِبلِ الغواني في حالة البحتري ومن قبل كافور الإخشيدي في حالة المتنبي . حب مظلوم هضيم هناك وحب مثله هنا والحب هو الحب . ثم {{ في مُحبِّ غير محبوب }} و {{ محباً غيرَ محبوبِ }} !! هل قرأ المتنبي قصيدة البحتري ؟ كان المتنبي ينفي دوماً أنه يعرف شاعراً بإسم البحتري ويتعالى عليه بالقول [[ ومَنْ هو هذا البحتري ]] راداً على مَن يتهمه بالسرقة منه .
3ـ إذا مددنَ إلى إعراضهِ سبباً
وفَينَ من كُرههِ الشبّانَ بالشيبِ
فما الحداثةُ من حِلمٍ بمانعةِ
قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشيبِ
لا من وجهٍ للشبه بين هذين البيتين في المعنى والأهداف سوى ذكر { الشبّان والشيب } وهو مجرد ذِكرٍ دون تبعات وذيول . ثم إنَّ شبّان وشيب البحتري غير شبّان وشيب المتنبي من حيث التوظيف العام . هناك قال البحتري إنَّ الغانيات اللواتي عذبّنه وصددنَ عنه يفضلنَ عليه ـ من كرههنَّ له ـ رجالاً أكبر منه سنّاً ، هو شابٌّ والآخرون شيب . أما غرض المتنبي من { الشبان والشيب } في بيته فالأمر مختلفٌ جذرياً . { قد يوجدُ الحِلمُ في الشبّانِ والشيبِ } .
4ـ يَحنونَهُ من أعاليهِ على أَوَدٍ
حنوَ الثِقافِ جرى فوقَ الأنابيبِ
لما رأينَ صروفَ الدهرِ تغدرُ بي
وفينَ لي ووفتْ صُمُّ الأنابيبِ
في بيت البحتري صورة معبّرةٌ تقولُ إنَّ الشاعر واقعٌ تحت تأثير ألاعيب الغواني ، حيث أطلق عليهنَّ في البيت السابق صفة [ المها ] ، حتى أنهنَّ أخضعنه فانحنت قامته والتوت كما تنحني الرماح تحت تأثير الآلة التي تُستخدم لتكييفها إستقامةً أو إنحناءً حسب طلب الفارس ومقتضيات المتوقع من المعارك . أناخ واستخذى لحبيباته وحارقات كبده . أما المتنبي فشأن بيته بالمرّةِ شأنٌ آخر . تكلم في هذا البيت لا عن الغواني ولا عن سواهنَّ من بناتِ جنسهنَّ إنما ، عن الخيول التي حملته إلى ممدوحه { لما رأين } ثم { وفينَ لي } وأضاف إلى وفاء خيله وفاء رماحه له { الأنابيب } . الخيول هي وسائط حمله ونقله إلى ممدوحه والرماح هي وسائل الدفاع عن نفسه ضد الخصوم والأعداء وكانوا كثرةً للمتنبي كما يعرفُ الجميع .
5ـ أمْ هل مع الحبِّ حِلمٌ لا تُسفههُ
صبابةٌ أو عزاءٌ غيرُ مغلوبِ
إذا غزتهُ أعاديهِ بمسالةٍ
فقد غزتهُ بجيشٍ غير مغلوبِ
ما زال البحتري غارقاً حتى أُذنيه في الحبِّ ومشاكلِ مَنْ يُحِبُ . إنه محب من طَرْزٍ أو طِرازِ غريب بحيث لا حِلمُهُ ينفعُ ولا من عزاءٍ يشفعُ . إنه مستسلمٌ كليّةً لقدره في الحب كما يستسلمُ جنديٌّ جريحٌ سقط في أرض المعركة . لا علاقة لبيت المتنبي بالحب ، إنه مُكرَّسٌ لمديح كافور الإخشيدي . لقد بالغ في هذا المدح فكتب بيتاً شعرياً مُعقّدَ التركيب مصنوعَ الهدف فيه الكثير من الإفتعال والمبالغات التي ترفضها الذائقة الشعرية والسليقة البَدَهية . قال : إذا زارته أعاديه تطلب منه رِفداً أو رزقاً أو معونةً فلسوف يستجيب لما طلبتْ . وإنَّ وِفادتهم عليه كأنها غزوةُ جيشٍ لا يُغلب . مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي التي يصورّها ويشكّلها بالكلام المختار الذي يُحسن المتنبي فنَّ اللعب به .
6ـ قضيتُ من طلبي للغانياتِ وقدْ
شأونني حاجةً في نفسِ يعقوبِ
كأنَّ كلَّ سؤالٍ في مسامعهِ
قميصُ يوسفَ في أجفانِ يعقوبِ
مرةً أخرى نرى الفرقَ كبيراً واضحاً فيما رام البحتري من توظيفه لإسم يعقوب ، الذي كانت في نفسه حاجة كما جاءَ ذِكرُ ذلك في القرآن [[ ولمّا دخلوا من حيثُ أمرَهمْ أبوهمْ ما كان يُغني عنهم من اللهِ مِن شيءٍ إلاّ حاجةً في نفسِ يعقوبَ قضاها وإنه لذو عِلمٍ لِما علّمناهُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون / سورة يوسف ،الآية 68 ]] . الفرقُ كبيرٌ بين هذا التوظيف وتوظيف المتنبي لإسم يعقوبَ وقصته مع قميص ولده المفترى والمغضوبِ عليه من قِبلِ إخوته غير الأشّقاء معروفة ومُفصّلة في القرآن [[ إذهبوا بقميصيَ هذا فألقوهُ على وجهِ أبي يأتِ بصيراً واتوني بأهلكمْ أجمعين / سورة يوسف ، الآية 93 ]] . أراد المتنبي القولَ إنَّ مطالب محتاجيه تُفرحُ بل وتُشفي كافورَ الإخشيدي كما أشفى قميصُ يوسفَ عمى عيني أبيه يعقوب من شدّة الحزن وربما مداومة البكاء أسفاً على فقد ولده الأثير بدعوى إفتراس الذئبِ له في البريّة [[ وتولَى عنهمْ وقال يا أسفي على يوسفَ وابيضّتْ عيناهُ من الحُزنِ فهو كظيم / سورة يوسف ، الآية 84 ]] . رجع كلا الشاعرين لما ورد في القرآن من قصص في سورة يوسف ولكنْ لتوظيف ما ورد لأغراضٍ متباينةٍ شتّى . فهل في هذا ثمّة من سرقةٍ أو مجاراة أو وقوع المتنبي تحت تأثير البحتري ؟ كلاّ ، بالطبع كلاّ ثم كلاّ ثمَّ كلاّ حتى مطلع الفجرِ .
7ـ لم أرَ كالنُفّرِ الأغفالِ سائمةً
من الحَبلّقِ لم تُحفظْ من الذيبِ
كم زورةٍ لكَ في الأعرابِ خافيةٍ
أدهى وقد رقدوا من زورةِ الذيبِ
الحَبلّق : (( غنم صغار لا تكبر )) ... حاشية في أسفل الصفحة . وهي لفظة ثقيلة جداً بل وكريهة خاصةً وقد عنى البحتري بها الغانيات اللواتي أعرضن عنه وعذّبنه ولوّعنه فكيف شبههنَّ بالغنم ؟ على أية حال ، غانيات البحتري تركهن أهلوهنَّ بدون حرس وحماية ، الأمرُ الذي أثار دهشته وإستغرابه جزعاً عليهن . الطريف هو مجيء هذا البيت في هذه القصيدة مباشرةً بعد البيت الذي ذكر فيه إسم يعقوب ... ومحنة هذا الرجل مع الذئب معروفة وقد بينتها قبل قليل . أما ذيبُ أبي الطيّب فإنه ذئبٌ آخر جاء به لغرض التوصيف والتشبيه لا أكثر . الذئب داهيةٌ في زياراته للقرى والأرياف ليلاً يتصيّد ما قد يُلاقي من غنم وسواها وهو يعرف أنَّ بيوت القرويين [ الأعراب ] لا تخلوا من بهيمة أو سائمةٍ من قبيل الماعيز والغنم وغير ذلك . فزيارة المتنبي لديار [ أكواخ طين أو خيام ] حبيبته ليلاً تحاكي أو تُضاهي زيارة الذئب لمثل هذه الديار أو الأدؤر وإنْ إختلفت الأغراضُ والغايات . يزور المتنبي خلسةً وتلصصاً ليمارس الحب والهوى مع محبوبته بينما لا يزورُ الذئبُ حبيبةً ولا يزورُ ليطارحَ الهوى ولكنْ ليسدَّ جوع أحشائه . في المتنبي جوعٌ ولكن للحب وربما لممارسةِ الجنس ، وفي الذئبِ جوعٌ ولكنه جوعٌ حقيقيٌّ ليس مجازياً للحم حيوان أثيرٍ لديه من الضأن . جوع في شاعر وجوع في حيوان مفترس . المهم ، الذئبُ خطِرٌ سواء في التهديد المحتمل أو في واقع الهجوم الليلي المباغت بهدف الإفتراس لإدامة ومواصلة الحياة .
8ـ أغشى الخطوبَ فإمّا جئنَ مأربتي
فيما أُسيَّرُ ، أو أحكمنَ تأديبي
ترعرعَ الملكُ الأستاذُ مُكتَهِلاً
قبلَ اكتهالٍ أديباً قبلَ تأديبِ
قصد البحتري في بيته الشعري هذا تأديب نفسه [ تأديبي ] . أما المتنبي فكان قد قصد أدب وتأديب ممدوحه الإخشيدي [ ترعرعَ الملكُ ... قبلَ تأديبِ ] . الفرق شديد الوضوح فلا من وجه للشبه ولا من مكان للظُنّة وسوء الفهم والقصد .
9ـ إنْ تلتمِسْ تُمرِ أخلافَ الأمورِ وإنْ
تلبثْ مع الدهرِ تسمعْ بالأعاجيبِ
في جسمِ أروعَ صافي العقلِ تُضحكهُ
خلائقُ الناسِ إضحاكَ الأعاجيبِ
بعد الغزل والشكوى والنسيب والتشبيب إلتفتَ البحتريُّ إلى نفسه في مناجاة يشكو فيها دهره ويتفلسف وكيف لا تستقيم أمور بعض الرجال مع زمنهم إلا بالمجاملة والصبر والمداراة [ تُمرِ أخلافَ الأمور ] ... وخلاف ذلك فليس أمامك إلا العجائب فتوقعها ثم تقبّلها . أعاجيب المتنبي لا تختلف جوهرياً عن أعاجيب صاحبه البحتري فالأعاجيب هي الأعاجيب في كل زمان ومكان كما أنَّ المُضحكاتِ تبقى هي المُضحكات مهما تبدلت الأزمان ومهما تحولت الظروف . لقد جامل المتنبي ونافق وأسرف في كيل المدائح للإخشيدي فنعته بصافي العقل الذي تُضحكه أخلاق الناس المتدنية المتبدلة والمبتذلة لكأنها في تحولاتها من الأعاجيب . لماذا يضعُ المتنبي عبداً أسودَ << مِشفَرُهُ نصفُهُ >> (( كما وصفه لاحقاً في أحد أبياته الشعرية في ذمّه )) ... لماذا يضعه فوق باقي الرعية في مصر يومذاك فهو الرائع والصافي العقل وباقي الناس خلائق سيئة متبدّلة مُبتذلة، أليس الناسُ على دين ملوكهم يكونون كيفما كانوا ؟
10ـ وأربدُ القَطرِ يلقاكَ السرابُ به
بعدَ الترَبُّدِ مبيّضِ الجلابيبِ
مَنْ الجآذرُ في زيِّ الأعاريبِ
حمرُ الحِلى والمطايا والجلابيبِ
ورود صيغة الجمع ( جلابيب / جمع جلباب ) في كلا البيتين لا تعني أنَّ المتنبي جارى أو تأثر أو أخذ من سابقه الشاعر البحتري . فالبيتان مختلفان جملةً وتفصيلاً سواء من حيث المعاني والهدف الخاص من البيت ثم الخلاف العميق البيّن في صورتي البيتين البليغتين : معروفُ عن البحتري شغفه بالطبيعة وقدرته المتميزة على وصف ظواهرها المنوّعة وتقلباتها الهيّنة منها والهوجاء . وهو بهذا كان قد سبق بل وتفوّقَ على الكثيرين من شعراء زمانه وما تلا زمانه بقرنٍ من الزمان . أردتُ أنْ أقولَ أنَّ البحتري كان في بيته الشعري هذا منصرفاً للطبيعة من سحاب أسود ومطر وسراب أبيض ولكنْ من باب التورية والمجاز إذْ أنَّ مُراده من تفصيلات البيت أنَّ أمانيه ورجاءه في الناس هي أمانٍ خُلّبٌ فارغةٌ تماماً كالسحاب الثقيل الذي يوحي لرائيه بنزولِ مطرٍ غزيرٍ ولكنْ لا يأتي بعد هذا المشهد الطبيعي الواعد كثيراً إلا السراب الأبيض ! لا من أمنياتٍ تتحقق ولا من مطرٍ يُشفي ويُطفئ غليلاً أو يُروي أرضاً جدباء ! طابق البحتري بنجاح بين لون السحاب الأسود [ أربد القْطر ] ولون السراب الأبيض تطابقَ تناقضٍ بالطبع كما يقول نقّادُ الشعر . لقد سخر البحتري في هذا البيت سخريةً شديدة المرارة فالرجاء يخيبُ متحولاً إلى مجرّدِ سرابٍ في بريّةٍ خلاء متجلببٍ بعباءة بيضاء لا سوادَ غيمة مطرٍ فيها ولا من أملٍ .
أما المتنبي فكان شأنه في بيته غير شؤون البحتري على وجه الإطلاق . كان المتنبي مشغول بالتغزل بصبيات بدويات رآهنّ فوق ظهور جمالٍ حُمر اللون فرسم لوحةً خاصة لما قد رأى طابعها العام وخلفيتها كما يقولُ الرسّامون وفضاؤها من لون واحد هو اللون الأحمر . النوقُ حمرٌ وزينة الصبيات حمراء اللون ثمَّ أنَّ ما أرتدين من ملابس [ جلابيب ] هي الأخرى حمراء اللون . صورة تستفزُّ القارئ الهادئ الطبع ، فاللون الأحمر يهيّجُ الأعصاب ويذكّر القارئ بجولات مصارعة الثيران في إسبانيا . بل وزاد المتنبي وبالغ في دموية المشهد والصورة البليغة والبالغة التأثير فجعل ، في بيت لاحق ، من يتجاسر بالدنو من هوادج الصبيات (( بين مطعونٍ ومضروبِ )) ولا طعنة رمحٍ بالطبع ولا ضربة سيفٍ صارمٍ بدون مسيل دماء . دم دم دم ... هل كنتَ يا متنبيُّ دموياً حقاً إلى هذا الحد ؟ جلابيبُ المتنبي حمرٌ حقيقةً بينما جلابيب البحتري بيضٌ من باب المجاز والتشبيه والسخرية فشتّانَ بين القصد من اللفظتين .
11ـ مثلَ القطا الكُدرِ إلاّ أنْ يعودَ بها
لَطخٌ من الليلِ سودٌ كالغرابيبِ
بلى ، يروعُ بذي جيشٍ يُجدِّلُهُ
ذا مثلهِ في أحمِّ النقعِ غربيبِ
ما زال البحتري مع الطبيعة يصولُ ويجولُ ما شاءت له الصولات والتجوالات . وما زال يلفُ ويدورُ حول المطر وملحقاته وأسبابه وأوصافه ثمَّ خلط الطبيعة بما فيها من حيوان والحيوان كما نعلم هو من نتاج الطبيعة نفسها فلا من مجالٍ أمامه للفصل بين الأم ووليدها . إنتقل من السحاب الأسود الثقيل والسراب الأبيض في البيت السابق إلى الريح ومن الريح ثانيةً إلى السراب [ الآل ] الذي لا تمخرُ عُبابه إلا الجمال الضاربة في مختلف مناحي الصحارى . الآلُ ماءٌ سفائنه الجمالُ . لقد شبّهَ البحتريُّ لُججَ السراب كطائر القطا ، جمع قطاة ، ولكنها ملطّخة باللون الأسود الثقيل [ غرابيب ] . (( غرابيب سود )) تعبير ورد حرفياً في القرآن .
أما اللون الأسود الحالك في بيت المتنبي فشأنه شأنٌ آخرُ لا علاقة له بالطبيعة من مطر وسراب وطيور . إنه ما زال يلفُّ ويدور ولكن حول ممدوحه كافور الإخشيدي مادحاً متملقاً واهباً إياه ما لا يستحق من سمات وسجايا ومكرُمات . إنه في هذا البيت يرسم صورةً جدَّ بليغة في كيف يُلاقي الإخشيدي جيشَ عدوّه اللجب بطلاً مغواراً يقود جيشاً لجباً يبدو حالك السواد بما عليه من الحديد الواقي من الطعنات . جاء سوادُ البحتري جمعاً ( غرابيب ) ، أما سواد المتنبي فلقد جاء بصيغة المفرد ( غربيب ) تبعاً لمجرى تفصيلات كلا البيتين . سواد البحتري لطائر القطا وسواد المتنبي لحديد جيش كافور . هناك طيرٌ وهنا بشرٌ رغم أنَّ السوادَ يبقى سواداً .
12ـ إلى أبي جعفرٍ خاضت ركائبنا
خِطارَ كلِّ مَهولِ الخرقِ مرهوبِ
أضرتْ شَجاعتهُ أقصى كتائبهِ
على الحِمامِ فما موتٌ بمرهوبِ
نعم ، لا من ريبٍ ، هنا تطابقٌ بين معنى ( مرهوب ) في كلا بيتي الشاعرين ولكنه تطابق غير مقصود بتاتاً . في بيت البحتري إقدامٌ وجرأةٌ في جِماله ( ركائبه ) حين ترتضي فتتحدى مخاطر وأهوال الطرق والمفازات المؤدية إلى مكان إقامة ممدوحه . ليس في بيت المتنبي ذكرٌ لوسائط نقل ( ركائب أي مركوبات ) ولا ذكرٌ لطرق وبيدٍ ولا حركة تستهدفُ بلوغ ديار الممدوح . إنما فيه تعظيم لشجاعة كافور الإخشيدي التي تُغري جنده على الإقدام في سوح الوغى وتقبّل الموتِ الذي لا يخشاه الجُندُ . هناك نفيٌ للرهبةِ من الطُرُق المفضية للممدوح وهنا نفيٌ للرهبةِ من الموت . هناك حركةٌ وفعلُ حركةٍ ووسائطُ نقلٍ لا وجودَ لها في بيت المتنبي . غير أنهما كلاهما نفيا الرهبةَ سواءً أمام طريق تكتنفه مخاطرُ جمّةٌ أو أمامَ موتٍ في ساحةِ حربٍ . هناك حيوانات ، جمالٌ بهماءُ لا تخشى خطراً من طريقٍ أو سبيل ، أي أنها في مواجهة الطبيعة وخطر الطبيعة . حيوانٌ ضدَّ طبيعةٍ قاسيةٍ . أمّا هنا ، في بيت المتنبي ، فبشرٌ لا يهابُ الموتَ في قتاله ضد بشرٍ مثله لا ضدَّ الطبيعة غير الناطقة . بشرٌ ضدَّ بشر !!
13ـ مُحتَضرِ البابِ إمّا آذنِ النقرى
أو فائتٍ لعيونِ الوفدِ محجوبِ
حتى وصلتُ إلى نفسٍ مُحجّبةٍ
تلقى النفوسَ بفضلٍ غير محجوبِ
هنا إلتقى الشاعران جميعاً في معنى الحجاب (( محجوبِ )) . فممدوح البحتري لا يراهُ من يفدُ إليه لشدة الزحام على بابه منشغلاً بدعوة الناس على موائدَ للطعامِ خاصةٍ { النَقَرى } !! لا أرى في هذا مدحاً لممدوح البحتري . كرامُ العرب إنما تفخرُ بإقامةِ دعواتٍ للطعامِ عامةٍ تسميها { الجَفَلى } وقد قال شاعرهم :
نحنُ في مشتاةِ ندعو الجَفلى
لا ترى الآدِبَ فينا ينتقرْ
أي أننا نقيمُ موائدَ طعامٍ عامّةً رغم أننا في موسم شتاء حيث تقلُّ الغِلّةُ ويجف الزرعُ والضرعُ وتمحلُ مخازنُ البيوتِ .
ملاحظة : بيت البحتري هذا مُعقّد فيه إلتواءٌ وإلتباسٌ لذا أحسبُ أنّ من العسير فهمه على ظاهر حاله ومن هنا تأتي صعوبةُ التفسير الدقيق له .
أما المتنبي فقد إنتهجَ ذات السبيل في دسّه السُمَّ بالعسل ! لقد صوّرَ الإخشيدي في هذا البيت رجلاً غامضاً عسيراً على الفهم ( نفسٌ مُحجّبةٌ ) لكنَّ أفضاله لا تعرفُ الحجاب ، يده مبسوطةٌ كَرَماً . كيف جمع المتنبي النقيضين : النفس المحجّبة القابعة خلف ستار والفضل العميم المفتوح المكشوف ؟ كيف يكون المُعقّدُ الغامضُ المتسترُ كريمَ اليد سمحَ العطاء ؟ إنه يسخرُ ، كعادته ، من كافور حتى وهو في معرض مدحه .
14ـ أغرَّ يملكُ آفاقَ البلادِ فمن
مؤخَّرٍ لجدا يومٍ وموهوبِ
إلى الذي تَهَبُ الدولاتِ راحتُهُ
ولا يَمَنُّ على آثارِ موهوبِ
مديحٌ ، مديحٌ صريحٌ مكشوفٌ في كلا البيتين . الممدوحان يهبان بسخاء ، الأول لا وقتَ كافياً لديه لكي يُعطي لسائليه ولا سعة ما يملك تسمح له أنْ يهبَ على الفور . لذا فهو يُعطي اليوم ويؤجّلُ بقية السائلين ليوم غدٍ . إنه محصورٌ بين ضيق الوقت من جهة وسعة ما يملك من الجهة الأخرى . أما المتنبي فقد بالغ أكثرَ في مديح إخشيدِ مصرٍ . ذاك يمنح مالاً لكنَّ هذا يَهبُ دُوَلاً لا مالاً ولا إقطاعاً . ثم إنه يمنح ويتكرمُ ولا يذكرُ ما وهبَ . كلاهما يهبُ بسخاء وكلاهما إستعمل إسم المفعول {{ موهوب }} . ذاك يهب على قدر ما يسمح له به زمانه وسعة ممتلكاته . أما هذا فإنه يهبُ ولا يُبالي ولا يلتفتُ أو يذكرُ ما قد وهبَ . واهبان إثنان وموهوبون لا عدَّ لهم .
15ـ رضِيتُ إذْ أنا من معروفهِ غَمِرٌ
وازددتُ عنهُ رِضىً من بعدِ تجريبِ
ليتَ الحوادثَ باعتني الذي أخذتْ
منّي بحِلمي الذي أعطتْ وتجريبي
ما زال البحتري سادراً في جولات مديحه لأحمد بن محمد الطائي ( مَنْ هو ؟ ) معبّراً عن سروره ورضاه عنه بما قدّم له من أُعطيات ومال ورضاه هذا غيرُ ثابتٍ بل وإنه متحرّكٌ يكبرُ ويتسعُ كلما جرّبه أو إمتحنه واختبره فتزدادُ سِمنةُ الشاعر بعد كل إختبار يقوم به على ممدوحه . الرضى والسمنة في إطرّاد وتواصل وإستمرار . أما المتنبي فإنه يخاطب الحوادث عاتباً راجياً أنْ تٌعيدَ له ما أخذت منه . وما أخذت منه ؟ العمر ، الصحة ، الشَعَر ، أحبابه ، أو سيف الدولة الحمداني الذي تركه ليمدحَ عبداً أسودَ يحكمُ بعض بلاد المسلمين ؟ لقد قال فيه في مقارنةٍ مع الحمداني وقد هرب ليلاً من مصرَ :
وذاكَ أنَّ الفحولَ البيضَ عاجزةٌ
عن الجميلِ فكيفَ الخصيةُ السودُ ؟
إنه يُعلنُ عن كامل إستعداده للتنازل عن حِلمهِ وما تراكم لديه من تجارب حياتيه في مقابل أنْ يستعيدَ ما فقدَ وربما عودته لحلب وسيف الدولة . تجارب البحتري تجلبُ له أموالَ الممدوحين ، أما تجارب المتنبي فإنها معروضة للتبادل والمقايضة وليس للمديح ولا لإستجداء هبات الأثرياء وذوي النعمة السابغة . أيها الزمانُ الخؤون القُلّبُ : هاك حلمي وجميع تجاربي مقابل أنْ تُعيدَ لي ما سبق وأنْ أخذتَ . صفقة تجارية من غير نقود وذهب وفضة .
16ـ خلائقٌ كسواري المُزنِ مُوفيةٌ
على البلادِ بتصبيحٍ وتأويبِ
فالحمدُ قبلُ لهُ والحمدُ بعدُ لها
وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
كلاهما ما زال يمدحُ مبالغاً كاذباً مُدجّلاً واللعنةُ على الحاجة التي تُلجئُ كبار شعراء زمانهم إلى أنْ يقفوا مادحين مُرائين من أجل نوال هبات المتمكنين من رجالات عصرهم . فأخلاقُ الطائي ، ممدوح البحتري ، تماماً كسحِّ المطر الذي لا ينقطعُ في الصباح والمساء . أما تأويب المتنبي فإنه من صنف آخر وطبيعة أخرى وإنْ كان ما زال يدور في آفاق مديح الإخشيدي . إنه يشكره لا وحده ولكنْ ، يحمدُ ويشكر الرماحَ ومسيرات الليالي والعودة منها " الأوبة " . تأويب البحتري غير تأويب المتنبي وإنْ تشابه المصدران لفظاً وأحرفاً .
17ـ في كل أرضٍ وقومٍ من سحائبهِ
أُسكوبُ عارفةٍ من بعدِ أُسكوبِ
لا تَجزني بضنىٍ بي بعدها بقرٌ
تَجزي دموعيَ مسكوباً بمسكوبِ
سكائبُ البحتري من مطر السماء ، أما سكائبُ المتنبي فهي دموعه لا مطرُ السماء . الدمعُ ماءٌ مثل المطر فما يمنعه من أنْ ينسكبِ كما أمطار السحاب ؟ فعلُ الإنسكابِ واردٌ في كلا البيتين وليس من شيءٍ غيره .
18 ـ كمْ بثَّ في حاضرِ النهرينِ من نَفَلٍ
مُلقىً على حاضرِ النهرينِ مصبوبِ
وربّما وخدتْ أيدي المطيِّ بها
على نجيعٍ من الفرسانِ مصبوبِ
بيت البحتري هذا متعلّقٌ بالبيت الذي سبقه الذي تكلّمَ فيه عن السحائبِ والسكائبِ. لذا فالمطرُ هو المصبوب هنا أو الصبيبُ . أما مصبوب بيت المتنبي فهو الدمُ ، دماءُ من يتجرأ على الإقترابِ من هوادج الصبيات البدويات { الجآذر } . مياه أمطار البحتري تصبُّ في الأنهار ، أما دماء الفضوليين في بيت المتنبي فهي فراشٌ تتهادى عليه خَفافُ جِمالِ حبيبات الشاعر ، مهادٌ من دمٍ على الأرض وليس ماءُ مطرٍ يسيحُ ليصبَّ في الأنهار . البحتري ، كما رأيناه في العديد من الأبيات والمواقف ، مع الحركة في شعره لا مع الجمود والثبات . ماءُ المطرِ في حركةٍ متصلةٍ بدءاً من كونه بخاراً يتكثّفُ فيغدو ماءً سائلاً ، ثم تساقطه من السحاب إلى الأرض ثم سيلانه حتى يلاقي منخفضاً أو وادياً أو نهراً أو بحراً فيمضي إلى هناك ليواصل حركته التي بدأها في الأعالي .
19ـ ما انفكَّ مُنتضياً سَيفَيْ وغىً وقِرى
على الكواهلِ تَدمى ، والعراقيبِ
ولا برزنَ من الحمّامِ ماثلةً
أوراكهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ
عراقيبُ البحتري في بيته هذا هي بالضبط عراقيب المتنبي في بيته التالي . ولكنَّ الفروقَ هائلةٌ بين معاني البيتين . هناك سيفُ حربٍ وكَرَمُ ضيافة . أما في بيت المتنبي فلا شجاعة حروب ولا من أسلحةٍ ولا دماءٌ تسيلُ على الكواهلِ والعراقيب. إنما هنا نساء مصريات متبرجّات يخرجن من الحمام بأردية ضيّقة بحيث تبرز من خلالها مفاتنهنَّ ولا سيّما الأوراك فضلاً عمّا يبدو للعيان من أجزاء من أقدامهنَّ وتلك أمور ما كان يتقبلها مجتمعُ زمان المتنبي إلا في مصر كما يبدو مما جاء من وصفٍ في هذا البيت . كان المتنبي يقارن بين صبايا بدويات ونساء مصريات وإنه منحازٌ للبدويات لأسباب عرضها مع بعض التفاصيل . قال عنهنَّ مثلاً :
حسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ
أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرَفنَ بها
مضغَ الكلامِ ولا صُبغَ الحواجيبِ
ولا برزنَ من الحمّامِ ماثلةً
أوراكهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ .
الخلاصة //
1ـ لم أجد في تسعة عشر بيتاً تشتركُ في الوزن والقافية من قصيدتين واحدة للبحتري والأخرى للمتنبي ... لم أجد إلا بيتاً واحداً للمتنبي فيه شبه كبير ببيت للبحتري من حيث التوصيف والتشبيه . بيت البحتري هو :
عَمْرُ الغواني ن لقدْ بيّنَ من كَثَبٍ
هضيمةً في محبٍّ غير محبوبِ
وبيت المتنبي موضوع الشٌبُهةِ هو :
أنتَ الحبيبُ ولكني أعوذُ بهِ
من أكونَ مُحبّاً غيرَ محبوبِ
هذا هو وجه الشبه الكبير الوحيد في هاتين القصيدتين {{ محب غير محبوب }} !
2ـ لقد أنجزتُ مهمتي ولا أحسبني وفيتُ بها الوفاء الكبير المتوقع . أنتظر ممن يهمهم هذا الأمر ، أمر ما يُشاع عن سُرَقِ المتنبي من البحتري ، أن يواصلوا جهدي المتواضع بتتبع باقي أبيات القصيدتين موضوعتي بحثي وتقصّي ما فيهما لعلهم أنْ يجدوا مواضعَ شَبَهٍ هنا أو هناك وكشف تفصيلات المتشابهات إنْ وُجدتْ. وإلاّ فلسوف يبقى المتنبي مظلوماً مُتّهَماً بالباطل وهو بريء .
هوامش
1ـ محيي الدين صبحي (( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه )) . الناشر : وزارة الثقافة والإرشاد القومي . دمشق 1978 .
2ـ ديوان البحتري ، المجلّد الأول . الناشر : دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 .
3ـ ديوان المتنبي . الناشر : دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 .
4ـ طه حسين (( من تأريخ الأدب العربي )) الجزء الثالث . الناشر : دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثالثة شباط ، فبراير 1980 . الصفحات 285 ـ 286. تكلم طه حسين عن الطباق في هذا البيت :
أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بي
وعن المشغوفين بالبديع ... ثم قال بكلماته هو دون تدخل مني أو تغيير<<< وهذا الطِباقُ نفسه قد يُرضيني ، لولا أني أجدُ في القافية إنحداراً ثقيلاً على السمعِ أشد الثقل . فأنتَ بين إثنين : إمّا أنْ تجعلَ قوله " يُغري بي " في مقام الكلمة الواحدة فتنطقُ بها موصولة ولا تشعرُ بما فيها من التفرّق لتستقيمَ لك القافية على نظامها الموسيقي المألوف . وإذن فقد أفسدتَ النُطق وأسأتَ إلى الصوت اللغوي نفسه . وإما أنْ تنطقَ بهذه الجملة على وجهها فتشعرُ بأنَّ لفظها يتألفُ من فعلٍ وحرف وضمير وتُنبرُ بالباء إنْ جاز هذا التعبير. وإذن فقد صحَّ لك النطقُ اللغويُّ ونبتْ عليكَ القافيةُ نبوّاً شنيعاً>>> .
لقد عقّد طه حسين الأمرَ علينا وعلى نفسه وهو لا يستحقُّ كل هذا العناء والإجتهاد الزائد . " يُغري بي " تعبير رائع جداً وناجحٌ جداً جداً لا يحتملُ تخريجات وتفسيرات لغوية وقد جاء تماماً في سياقه الصحيح مكاناً وتوقيتاً (( وأنثني وبياضُ الصبحٍ يُغري بي )) . واضحٌ أنَّ قصدَ طه حسين أن يكونَ (( يُغري بيَ )) بدل بي ساكنةً الأمر الذي يخلُّ بوزن البيت . ثمَّ ، وكما أسلفتُ القولَ ، لِمَ لمْ يعترضْ طه حسين على تركيبٍ لغويٍّ مشابه للبحتري (( يُزري بي )) الشبيه بِ (( يُغري بي )) ؟ حلالٌ هناك وحرامٌ هنا !! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق