الاثنين، يونيو 01، 2009

في المغرب / صباح والمتنبي

د. عدنان الظاهر

بعد لقائنا في جزيرة إيبيزا الإسبانية عرضتُ على صاحبي أنْ نقومَ بزيارة شاعرة مغربية ذات صوتٍ ملائكي تضاهي به أم كلثوم وأسمهان وفيروز . قال معترضاً وما شأني بأصوات الملائكة وغير الملائكة ، هل هي شاعرة أم مغنية ؟ إنها شاعرة يا مليك الشعراء ، ولكنَّ الشعرَ إذا شدا به أصحابه نافسوا أجود المطربين . ليس جميعُ الشعراء ( من كلا الجنسين ) قادرين على إلقاء أشعارهم بطرق وأساليب تطرب السامع وتهيّجُ قلبَ الثَمِلِ . قال قد أدخلتنا في إيرادٍ ومصرف ، طرب وشدو وهيجان قلوب الخمارين والسكارى فهل هذا شعر أم ملهى من الدرجة العاشرة مثل ملاهي بغداد القديمة في منطقة الميدان ؟ إنه شعرٌ يا متنبي ، شعر . لا أعرفُ كيف كنتَ تقرأُ شعرك على ممدوحيك يا أبا الطيّب ، أواقفاً تقرأه أم جالساً ؟ هل تترنم في قراءتك وتنشد إنشاداً وتنوّع في نبرات صوتك حسب قرب وبعد شعرك من قلبك ودرجة صدقك في مدحك ؟ قال كل ذلك كان وارداً لكننا كنا ننشدُ أشعارنا برصانة وثقة بلا تكلّف ولا تخنّث . أما كيف أقرأه واقفاً أم جالساً فتلك مسألةٌ تقررها ظروف القراءة ومناسبتها ومكانة الممدوح وشهرته ومقدار ما يهبُ مقابل المديح . كنتُ أقرأُ أشعاري على سيف الدولة الحمداني جالساً متقلّداً سيفي ليس بعيداً عنه ، لكنْ كان الأمرُ مختلفاً مع الخصيِّ الأسود كافورَ مصرٍ . كان يفرضُ عليَّ أنْ أقرأ له أشعاري واقفاً وكنتُ أشعر بالكثير من الهوان لذا قلتُ من بين ما قلتُ بهذا الشأن وأشباهه :

ذلَّ مَنْ يغبِطَ الذليلَ بعيشٍ

ربَّ عيشٍ أخفُّ منهُ الحِمامُ

واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جاني

هِ غذاءٌ تذوى به الأجسامُ

إنه ذلٌّ حقيقي أنْ تقفَ لتنشدَ شعركَ مادحاً عبداً مخصيّاً أسودَ مِشفرُهُ نصفهُ .

لقد خرجتَ بنا عن صلب الموضوع يا شاعر وتذكّرتَ بعض أسوأ ذكرياتك مع الحكام والسلاطين ومن كان أمرك بإيديهم أليس كذلك ؟ قال بل أنت أقحمتني في موضوع لا ناقةَ لي فيه ولا جمل . ما شأني بالشواعر وطريقة إنشادهنَّ لشعرهنَّ وقد كفاني ما عانيتُ في حياتي من الشعراء الرجال ومن حَسَدِهم وغَيرتهم وشغبهم ونفاقهم وما نقلوا زوراً وبهتاناً عني لأسيادهم ، لذا لا أجدُ فيَّ أدنى رغبةٍ للتعرف على جنس مغاير من قوّالة الشعر وناظميه . النساء الشواعر غير الرجال الشعراء يا أبا الطيّب . هل سبق وأنْ تعرّفتَ في حياتك على شاعرة معروفة في زمانك ؟ قال كلا ، كيف أتعرّف على إمرأة تقولُ الشعر وما كنتُ كإبن زيدون الذي تولّهَ بحب الولاّدة بنت المستكفي وكانت كذلك شاعرة لكنه لم يظفرْ بها لا كشاعرةٍ ولا كحليلة . طرده أبوها كما طردَ أبو ليلى قيساً ورفضه زوجاً لإبنته كما تعرف . المهم ، الظرف مختلفٌ ونحن في القرن الحادي والعشرين والزمن يتبدل فتتبدلُ عادات وأخلاق وسلوك الناس ، لذا لا من ضرر في أنْ تتعرفَ على شاعرة مغربية شابة إذا صدحت بإنشاد أشعارها أطربت الصخر وحرّكت الجبال وأسكتت هديرَ أمواج البحور والمحيطات . صوتها أوركسترا كاملة تعزف سمفونيات أشعارها ثم إنها ، لعلمك ، أستاذةٌ للغة العربية فما رأيك يا متنبي ؟ قال قد واللهِ غيّرتُ رأيي وموقفي من مجمل الموضوع . هيا سارعْ وخذني لأتعرّفَ على هذه التحفة الصوتية ـ الشعرية ـ اللغوية النادرة . أطربني ما طرأ من تبدّلٍ جوهريٍّ في موقف المتنبي فسارعتُ ـ قبلَ أنْ يغّيرَ رأيَه ويبدّلَ قراره ـ للحديث عَبَرَ التلفون مع الشاعرة صباح وأبلغتها قراري والمتنبي أنْ نزور فيلتها هناك في بلدها . رحبّت بالمشروع وطارت فَرَحاً وطلبت مني إعادة ما قلتُ ظناً منها أني ربما أمزحُ وإلا فهل في الدنيا وكل الوجود أفضل من لقاء أبي الطيّب المتنبي على أرض وطنها المغرب التي ما عرفها الرجلُ في حياته ؟ قالت هيا أنا في إنتظاركما وأنت تعرف عنوان داري ، هيا على عَجَلٍ ولا تتأخرا فالطعامُ جاهزٌ والبيت مفروشٌ خصيصاً لكبار وكرام الضيوف . هيا هيا ... لا أصدِّقُ ما سمعتُ منك فالشعراءُ متقلبون لا أمانَ لهم يقولون ما لا يفعلون وفي كلِّ وادٍ يهيمون . علّقتُ قبلَ أنْ أغلقَ التلفون قائلاً : إلا واديك ، إذا حلَّ الشعراءُ فيه أقاموا لا يتحركون ولا يرتحلون . ضحكت وقالت سنرى . أجلْ يا شاعرةُ ، سنرى مَن الذي يتقلّبُ : الشواعرُ أم الشعراءُ ؟

وجدناها في إنتظارنا لدى باب دارها الخارجي فسارعت إلى إحتضان المتنبي قبل أنْ يُقدِّمَ لها إكليل الورود وانهالت عليه شمّاً وتقبيلاً والرجلُ ذاهلٌ مُحرجٌ غيرَ مُصدِّقٍ ما يرى وما يجري له عَلَناً وأنا متسمّرٌ إلى جواره . مسحت صباحُ دموعها بمنديل حرير ورديِّ اللون مُعطّرٍ بالراقي من عطور باريس ثم إلتفتت نحوي لتعتذرَ مني أنَّ المفاجأةَ الكبرى جعلتها تسهو حتى أنها لم ترَ لدى باب بيتها من العالمين إلاّ المتنبي ، ضيفها الأكبر . تقدمت أمامنا فدخلت صالون إستقبال الضيوف وكان باذخ التاثيث حيث الكريستال المعلّق والسجاد العجمي المفروش وستائر الحرير المبطّن بالقماش القطني الأبيض ثمَّ اللوحات الزيتية لمشاهير الرسامين في العالم . كانت صورة لها تنتصبُ بأبّهةٍ وكبرياء إلى جانب جهاز التلفزيون الضخم وصورة أخرى كبيرة معلّقة بين لوحتين يبدو أنها لوالديها وطفلة صغيرة تقف أمامهما قالت إنها صورتها حين كانت في الثالثة من عمرها .

بعد الشاي المغربيِّ باللوز والنعناع والحلوى المغربية وأحاديث المجاملة والترحيب الحار طلب المتنبي من سيدة الدار أنْ تقرأ عليه شيئاً من أشعارها فقد أسرف صاحبه ـ يقصدني أنا ـ في مديح أسلوبها المتميّز في قراءة شعرها وأطنبَ في وصف ما يتميّزُ به صوتها من سحر نادر المثال . شعرت صباح بحرج كبير جرّاءَ إطراء المتنبي فتورّدت وجنتاها وتعرّقَ جبينها وتلعثمت حين قالت أشعر بالحرج والخجل أنْ أقرأ شعري على شاعر عظيم مثلك يا أبا الطيّب المتنبي . إذا إرتفعت الشمس في السماء غابت النجوم . مَن أنا حتى أقرأُ شعري عليك ؟ رفقاً بي يا متنبي ، رفقاً بالقواريرِ .تدخّلتُ لإنقاذها من حرجها وتواضعها وهوّنتُ الأمرَ عليها فقلتُ لا تثريبَ عليكِ إذا قرأتِ شعرك على مسامع ضيفك السامي فليس في نية الرجل أنْ يعقدَ مقارنةً بين شعره وشعرك وذلك أمرٌ مُحالٌ وغيرُ واردٍ أصلاً فعلامَ الترددُ والوجل ؟ ثم أنَّ الرجلَ في عمر ومقام أبيكِ فهيا توكّلي ولبّي طلبَ ضيفك قبل أنْ يُغيّرَ رأيه ويسحبَ طلبه وذلكم أمرٌ واردٌ دوماً . سألتْ هل أقرأُ واقفةً أم جالسةً ؟ إلتفتَ المتنبي ناحيتي وسألني رأيي في الجواب . قلتُ الرأيُ رأيك أولاً وقرارها هي ثانياً ولا شأنَ لي ولا رأيَ لي به . أطرق المتنبي إطراقة رجلٍ حكيم مُجَرِّبٍ يشعر بوطأةِ مسؤوليته المزدوجة حيال الشاعرة صباح ، فهو من جهة أبٌ أو في مقام وعمر الأب ، ومن الجهة الأخرى هو الشاعرُ الفحلُ وسيّد اللغة العربية فكيف سيحكم وما سيقولُ إذا لم يستحسن شعرها أو وجد فيه هفواتٍ وأخطاءَ لغوية ؟ سيشتمني في سرّه لأني ورّطته في هذه الزيارة ، وسيُضطرُ إلى أنْ يلعبَ دور الدبلوماسيّ فيقولُ ما لا يريدُ أنْ يقولَ ويستخدم لغة المجازات والألغاز ويقول نعم حين يقصد لا ويقول لا عندما يريدُ أنْ يقولَ نعمْ . أعرفُ أنه يكرهُ الإزدواجية في القول والسلوك وإنه رجلٌ مستقيمٌ في قوله جريءٌ لا يبالي بالنتائج إذا أعربَ صراحةً عمّا يجولُ في صدره من مشاعر وما في رأسه من أفكارٍ وخواطرَ . يقولُ للأعورِ أنتَ أعورُ وللأعمى أنتَ أعمى وللزنيم أنت زنيم . هذا هو المتنبي أحمد بن الحسين الكوفي الجُعفي ثم الكندي . تمنيتُ من كل قلبي أنْ يُغيّرَ المتنبي رأيَهُ ويسحبَ طلبه ويعتذرَ من الشاعرة فلقد كنتُ أكثرَ الحاضرين حَرَجاً ومسؤوليةً وأنا صاحبُ الفكرةِ وأنا مّن جاءَ بالشاعرِ إلى المغرب ليعرّفَهُ على السيدةِ صباح . لماذا أورّطُ نفسي في أمورٍ ليست محسوبة النتائج ؟ ما نفعي وما كسبي من تعارف رجلٍ شديد المِراس عنيدٍ كالمتنبي وإمرأةٍ شابةٍ في مُقتبلِ العمر ؟ هل سأدخلُ مقابلَ ذاك جنّاتِ الخلودِ ؟ لا أريدُها بل ولا أُطيقها . تركتها لغيري . لا طبيعتي تتقبّلها ولا هي مُصمّمةٌ أساساً لأمثالي من إخوان الأباليس الشياطين . إذاً لماذا ورّطتَ نفسكَ وورّطتَ غيرَك ؟ لا أدري . يقفُ الجبرُ أحياناً شاخصاً أمامي فلا أجدُّ منه مفرّاً ولا مهرباً . هذه إحدى المشاكل الجديّة التي تعترضُ حياتي بين الحين والآخر . أقدمُ على أفعالٍ أراها مفروضةً عليَّ أعجزُ عن مقاومتها أو صدّها أو ردّها . وها هو وجود المتنبي في بيت السيدة صباح مثالٌ صارخٌ ناطقٌ بجميع لغاتِ العالم يشهد على أني رجلٌ غير حكيمٍ متهوّرٍ لا أعرفُ مكاناً ثابتاً لي بين الأرضِ والسماءِ . هل أغيبُ هرباً من المسؤولية تاركاً المتنبي لأقداره العمياء يخوضُ مغامرةً رعناءَ مع شاعرة شابّة يلتقيها وتلتقيهِ لأول مرةٍ ؟ غيبتي عنهما لا أسهلَ منها . أعتذرُ أنَّ لي حاجةً أقضيها في الحمام ثم أذهبُ ولا أعودُ !! ما مصير المتنبي بعدي وكيف ستكونُ أمورُهُ مع صاحبةِ الدارِ ؟ كيف سيعودُ لبلده وحيداً ؟ لا أدري . أهمُّ ما في الأمر إنقاذ نفسي والتخلّص مما لا تُحمدُ عُقباهُ . غبتُ بالفعل فماذا حدث بعد غيابي ؟

إعتذرُ المتنبي ، وقد يئسَ من رجعتي بعد غيبتي التي طالت ، ... إعتذر من الست صباح ساحباً طلبه وأنَّ وضعَهُ غدا صعباً ومعقّداً بعد إختفاء أو هربِ أو غيبة صاحبه الذي أتى به إلى بلدها المغرب . قال لها سأعود إلى بلدي وحيداً وسأكتبُ لك من هناك رسالةً ألكترونيةً مُسهبةً أُفصّلُ فيها جملة مواقفي وأوضاعي منك وحيال طلبي أنْ أسمعك تُغردين بصوتك الملائكي مختاراتٍ من أشعارك . سأقترحُ أنْ تحددي لي موعداً آخرَ كي أزورك وحيداً وأنعمَ بسماع صوتك وربما مناقشتك في طبيعة شعرك وأقولُ لك رأيي صريحاً فيه . كان التأثرُ بادياً على عيني الشاعرة المرهفة الإحساس كأغلب الشواعر والشعراء . وبان التأثرُ أكثرَ في نبرات صوتها ، والعَبْرةُ تخنقها ، وهي تحاول تفهّم موقف المتنبي وقراره أنْ يغادرَ دارها . إلتقطتْ بصعوبةٍ أنفاسَها وجففت دموعَها وبللتْ شفتيها وقد جفّتا بقليلٍ من الماء ثم قالت : على الرحبة والسعة يا أبا الطيّب . هذا بيتك زرْهُ متى شئتَ وكيفما شئتَ وحجرة نومك جاهزة دوماً تنتظركَ في الطابق العلوي . قال لكني سأزوركِ وحيداً من غير صُحبةِ هذا الغائب الذي ورّطني ثم غاب . قالت القرارُ قرارك يا عزيزي الكوفاوي الكندي رغم أني أفضِّلُ أنْ تأتي بمعيّة صديقك الذي لعب عليك وعليَّ . أشعرُ أنَّ وجودَهُ بيننا معنا ضروريٌّ فلحضوره معانيَ شتى لا حصرَ لها ولقوله رونقٌ ومذاقٌ خاصّين ، لا سيّما وقد كتبتُ له ذاتَ يومٍ في سجلِّ زوّارِ موقعه [[

الجليل...

ماذا عساني أقول في حضرةالضوء تنثره الكلمات

،تلونه حينا فيحملك ،و السكر قد تملكك دونما مدام

إلى عوالم قزحية القسمات

و حينا آخر يذوب البياض خالصا

يكشف فتنته للقارئ

موقع هو من مواقع النجوم لا محالة ، يجذبك بهذا الشعاع الفائق

يفتح أمامك المدى نحو رحيل لانهائي

سيدي

تصادفت زيارتي لموقعك بعودتي إلى ديوان المتنبي

إلى عوالمه الموشومة على خد الكون

تصادفت أيضا بمشاهدتي مسرحية المتنبي التي أحياها غسان صليبا و كارول سماحة و جمال سليمان

حين ضغطت على زر حوار مع المتنبي طالعتني كما الأقمار الخرافية لياليك و يا لها من ليالي رفقته

وجدتني معكما على ضفتي دجلة و الفرات نثقب جدار الزمن البلوري

نمسك بتلابيبه

نحركه كما شئنا و نرحل فيه كما شئنا

شكرا لك على هذا الرحيل الذي تفضلت به على كل من يزورك دونما جواز سفر

كما المعري

كما دانتي

مكنتنا من صهوة الريح

فسافرنا في الزمن

سعدت بمعرفتك

صباح الدبي

شاعرة من المغرب

أرسل إليك نماذج من نصوصي الشعرية علها تروقك

لك تقديري ]] .

لهذه الأسباب مجتمعة أفضّلُ مجيئك برفقة صديقك ولك الأمرُ والقرارُ في نهاية الأمر .

نهض الضيفُ مصافحاً شاكراً ومعاهداً أنْ يأتيها قريباً بمعيّة صديقه حسب رغبتها وإرادتها فرافقته حتى باب دارها الخارجي وكان الوقتُ منتصفَ الليل .

ليست هناك تعليقات: