‏إظهار الرسائل ذات التسميات محمود درويش. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات محمود درويش. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، أغسطس 12، 2009

وثيقة: حديث صحفي مع محمود درويش / يونيو 1969


يوسف الغازي

نشرت صحيفة "زو هديرخ" الأسبوعية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العبرية، حديثاً صحفياً طويلاً مع محرر مجلة "الجديد" الشاعر محمود درويش ، في عددها الصادر في 19-11-1969 . كان الحديث أول لقاء مباشر بين محمود درويش والقارئ العبري ، وقد تناول عدة جوانب من حياة الشاعر وقضيته ، وخاصة ما يتعلق بالعلاقات العربية-اليهودية. أجرى الحديث الصحفي المحرر في "زو هديرخ" يوسف ألغازي ، ونشره بطريقة "مونولوج" . وفيما يلي ننشر ترجمة هذا الحديث الذي نشرته "الجديد", حيفا, العدد 11, نوفمبر تشرين الثاني 1969 :

تعرفت على محمود درويش ، لأول مرة ، عندما كان يلقي من شعره أمام الجمهور . آنئذ كان يلقي قصيدته التي تحولت ، في نظري ، إلى بطاقته الشخصية "سجّل : أنا عربي" . لقد هز محمود النحيل جمهور المستمعين وأثاره ، وحوله إلى موجة عارمة تحطم السدود . أي تناقض بين الاثنين : القصيدة والمبدع !. لقد جاء التناقض من الكلمات التي خرجت من فم محمود . آنئذ أصبح محمود درويش شاعر الشعب العربي الفلسطيني . تُرجمت قصائده إلى اللغات : الفرنسية ، والانجليزية والروسية ، والإيطالية ، والبلغارية . ولكنها لم تترجم إلى اللغة العبرية . وأصبحت مجموعاته الشعرية من أكثر الكتب مبيعاً ، لا في إسرائيل فحسب ، بل في البلدان العربية أيضاً .
قبل عدة أيام أطلق سراحه من سجنه الرابع . لماذا اعتقل وسجن ؟ إن محمود درويش وشعره شوكة في عيون السلطة لقد قررت تقديم محمود درويش إلى القارئ العبري بكلماته . ولذلك، فإني أنشر بصورة مونولوج ، الأشياء التي قالها في حوار ليلي جرى بيننا بعد إطلاق سراحه من السجن بثلاثة أيام .

هذا هو محمود درويش :

- أذكر نفسي عندما كان عمري ست سنوات . كنت أقيم في قرية جميلة وهادئة هي قرية البروة الواقعة على هضبة خضراء ، ينبسط أمامها سهل عكا . وكنت أبنا لأسرة متوسطة الحال عاشت من الزراعة .
عندما بلغت السابعة ، توقفت ألعاب الطفولة . وإني أذكر كيف حدث ذلك.. أذكر ذلك تماماً : في إحدى ليالي الصيف ، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل ، أيقظتني أمي من نومي فجأة ، فوجدت نفسي مع مئات سكان القرية أعدو في الغابة . كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا ، ولم أفهم شيئاً مما يجري . بعد ليلة من التشرد والهروب وصلت مع أحد أقاربي الضائعين في كل الجهات ، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين . تساءلت بسذاجة : أين أنا ؟ وسمعت للمرة الأولى كلمة "لبنان" .
يخيل لي أن تلك الليلة وضعت حداً لطفولتي بمنتهى العنف . فالطفولة الخالية من المتاعب – انتهت . وأحسست فجأة أني أنتمي إلى الكبار . توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب . منذ تلك الأيام التي عشت فيها في لبنان لم أنس ، ولن أنسى إلى الأبد ، تعرفي على الجبنة الصفراء.. هذا "المصطلح" الذي عرفني على كلمة الوطن . فلأول مرة وبدون استعداد سابق كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث . كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء . وهنا استمعت ، لأول مرة ، إلى كلمات جديدة : فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد : الوطن، الحرب ، الأخبار ، اللاجئون ، الجيش ، الحدود ، وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرف على عالم جديد ، على وضع جديد.. حرمني طفولتي .
بعد أكثر من سنة ، عشت خلالها حياة لاجئ ، أبلغوني ذات ليلة أننا سنعود غداً إلى البيت . أذكر جيداً أني لم أنم في تلك الليلة.. لم أنم من شدة الفرح . فالعودة إلى البيت تعني – بالنسبة لي – نهاية الجبنة الصفراء ، نهاية تحرشات الأولاد اللبنانيين الذين كانوا يشتمونني بكلمة "لاجئ" المهينة .
.. وخرجت إلى رحلة العودة . كان الظلام مخيماً على كل شيء . وكنا ثلاثة : أنا وعمي والدليل الذي كان يعرف مجاهل الدروب في الجبال وفي الوديان . إني أذكر الزحف على البطون لكي لا يرانا أحد . وبعد رحلة مضنية ، وجدت نفسي في إحدى القرى . ولكن ما أشد خيبة أملي : لقد وصلنا إلى قرية دير الأسد ، وهي ليست قريتي . لا بيتي هناك ولا زقاقي . سألت متى نعود إلى قريتنا.. إلى منزلنا . ولم تكن الأجوبة مقنعة . ولم أفهم شيئاً.. لم أفهم معنى أن تكون القرية مهدمة.. لم أفهم.. معنى أن يكون عالمي الخاص قد انتهى إلى غير رجعة . لم أفهم لماذا هدموا هذا العالم.. ولماذا هدموه.. ومن هم أولئك الذين هدموه !.
ورويداً رويداً اعتدت على حياة الكبار ، وقضايا الكبار . واتضح لي – بمنتهى خيبة الأمل ، أني لم أعد إلى منبع الأحلام ، لم أعد إلى زقاق الطفولة . كل ما في الأمر هو أن اللاجئ قد استبدل عنوانه بعنوان جديد . كنت لاجئاً في لبنان ، وأنا الآن لاجئ في بلادي . والآن ، عندما أتحدث إليك ، وأنا في الثامنة والعشرين من العمر ، فإنني قادر على تقويم تلك الفترة . إذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى وبين أن تكون لاجئاً في الوطن ، وقد خبرت النوعين من اللجوء ، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية . العذاب في المنفى ، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود – شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي . ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك – فلا مبرر لذلك ، ولا منطق فيه . وعندما نتقدم قليلاً في السن نتخلص من الغصة ، ونشعر أن الوجود هنا أكثر تبريراً . عندها يتدخل عنصر التحدي وعامل الوعي والبحث عن حل . وقد عثرت على الحل في سن لاحقة ، عندما انتهى الصبا وأدركت أن ثمة حاجة إلى الانتماء ، لا الانتماء السلبي العادي ، بل الانتماء الفعال.. الانتماء الملموس والسياسي . ومن الطبيعي ، أن السياسة تقضي على الحساسية المفرطة وعلى التمسك المتواصل ببقايا الذكريات ، وبوسعي أن أقول الآن إن وضعي الراهن أسهل . ولكن المواجهة النفسانية الداخلية تثور فيّ عندما أجلس لكتابة الشعر . عندها يجري الحوار بين إحساس الفنان وبين الوعي السياسي . وأنا أعتقد أن الفنان يجب أن يكون عارياً أمام نفسه .

* * *

-عندما عدت إلى دير الأسد ، كنت في الصف الثاني . كان مدير المدرسة إنساناً طيباً . وأنا أذكر عندما كان يزور المدرسة مفتش وزارة المعارف ، كيف كان المدير يستدعيني ويخبئني في غرفة ضيقة . فقد كانت السلطات تعتبرني "متسللاً" وكان المعلمون يرغبون بالدفاع عني . لقد أضاف ذلك الحادث كلمة أخرى إلى قاموسي الخاص ، إلى قاموس الحياة : كلمة "متسلل" . وكلما كانت الشرطة تأتي إلى القرية ، كانوا يخبئوني في خزانة أو في إحدى الزوايا ، لأنه من المحظور عليّ أن أعيش هنا.. في وطني . لقد منعوني من الإدلاء بهذا الاعتراف : "كنت في لبنان" . وعلموني القول إني كنت لدى إحدى القبائل البدوية في الشمال . وهكذا فعلت لكي أحصل على بطاقة الهوية الإسرائيلية . ولكني لا أزال – حتى اليوم – محروماً من الجنسية في وطني !.
واعتبرت تلميذاً متفوقاً . كنت أكثر من مطالعة الأدب العربي . وقلدت الشعر الجاهلي في محاولاتي الشعرية الأولى .
واليوم ، يبدو من المستهجن أن أكشف النقاب لأول مرة : أني كنت موهوباً آنئذ في الرسم . ربما كنت في ظروف وملابسات أخرى أتطور كرسام لا كشاعر . وقد تضحك عندما تعرف لماذا توقفت عن الرسم . السبب في منتهى البساطة : لم يملك والدي قدراً من المال يتيح له إمكانية أن يشتري ما أحتاجه من أدوات الرسم . لقد زودني بدفاتر الكتابة بشق النفس . آلمني ذلك كثيراً ، فبكيت وتوقفت عن الرسم . وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر . وكتابة الشعر لا تتطلب نفقات مالية !
كانت مواضيع محاولاتي الشعرية الأولى هي مشاعر الطفولة . وكنت أحاول الكتابة أحياناً ، عن مواضيع ذات وزن ، كانت أكبر من طاقتي في تلك السن . شجعني المعلمون على الكتابة . ولا أزال حتى اليوم مديناً لبعضهم – ومن بينهم معلم شيوعي هو نمر مرقس – قاموا بتوجيهي وساعدوا خطواتي الأولى في الشعر.

* * *
- لقد خلق لي شعري المتاعب منذ البداية . ودفعني إلى الصدام مع الحكم العسكري . وإذا أردت مثلاً على ذلك : كنت طالباً في الصف الثامن عندما احتفلوا بمناسبة إقامة دولة إسرائيل . وقد نظموا مهرجانات كبيرة في القرى العربية باشتراك تلامذة المدارس في هذه المناسبة . طلب مني مدير المدرسة أن أشترك في مهرجان عقد في قرية دير الأسد . وعندها ، ولأول مرة في حياتي ، وقفت أمام الميكرفون وبالبنطلون القصير ، وقرأت قصيدة كانت صرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي . لا أذكر القصيدة ولكني أذكر فكرتها : يا صديقي ! بوسعك أن تلعب تحت الشمس كما تشاء . بوسعك أن تصنع ألعاباً . ولكني لا أستطيع . أنا لا أملك ما تملكه . لك بيت ، وليس لي بيت ، فأنا لاجئ . لك أعياد وأفراح ، وأنا بلا عيد وفرح . ولماذا لا نلعب معاً ؟!
وفي اليوم التالي استدعيت إلى مكتب الحاكم العسكري في قرية مجد الكروم . هددني وشتمني ، فاحترت . لم أعرف كيف أرد عليه . وعندما خرجت من مكتبه بكيت بمرارة لأنه أنهى تهديده بقوله : إذا استمررت في كتابة مثل هذه الأشعار فلن نسمح لأبيك بالعمل في المحجر !. يؤلمني أن أذكر الآن أن تهديدات ذلك الحاكم العسكري أثرت عليّ تأثيراً سلبياً . وبمنطق الصبي قلت لنفسي : سأحصل على القصاص . ولن أكتب . وبالمنطق ذاته عجزت عن فهم السبب الذي يجعل مثل تلك القصيدة تثير حاكماً عسكرياً . وأسجل الآن أن ذلك الحاكم العسكري كان أول يهودي أقابله وأتحدث إليه ! لقد ضايقني سلوكه : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا أتحدث إلى الطفل اليهودي ؟ لقد تحول الحاكم العسكري إلى رمز الشر الذي يؤذي العلاقات بين الشعبين . ومن الواضح ، الآن فقط أستطيع الإجابة على الأسئلة التي ضايقتني آنئذ .
* * *

ومن حسن حظي ظهرت في حياتي صورة أخرى مناقضة للحاكم العسكري . بعد ذلك الحادث ببضعة شهور انتقلت إلى الدراسة في مدرسة كفرياسيف الثانوية . هناك التقيت بشخصية يهودية أخرى تختلف تمام الاختلاف ، هي المعلمة شوشنة (وردة) التي لا أمل الحديث عنها . لم تكن معلمة . كانت أما . لقد أنقذتني من جحيم الكراهية . كانت – بالنسبة لي – رمزاً للخدمة المخلصة التي يقدمها يهودي طيب لشعبه . لقد علمتني شوشنة أن أفهم التوراة كعمل أدبي ، وعلمتني دراسة بياليك بعيداً عن التحمس لانتمائه السياسي ، وإنما لحرارته الشعرية . لم تحاول أن تعبئنا بسموم البرامج الدراسية الرسمية التي ترمي إلى دفعنا للتنكر لتراثنا . لقد أنقذتني شوشنة من الحقد الذي ملأني به الحاكم العسكري . لقد حطمت الجدران التي أقامها ذلك الحاكم .

* * *
- قبل عدة أسابيع ، عقدنا – نحن محرري الصحف الشيوعية العربية – مؤتمراً صحفياً في حيفا . تصرف بعض الصحفيين بدون لياقة إذا استخدمت الكلمة اللينة وبدون فهم لمشاعرنا وقضايانا . وفي مجرى الحديث قلت لأحد الصحفيين إن صحيفة العبرية "عل همشمار" نشرت في ذلك الصباح خبراً بارزاً عن الاحتفالات بمرور عشرين سنة على إنشاء كيبوتس "يسعور" . جاء في الخبر أن الفرح بهذه المناسبة لم يكن له مثيل . وقلت للصحفي : يؤسفني أن أقول لك الحقيقة – أنا أفهم فرحك ولكنني عاجز عن مشاركتك فيه . لماذا ؟ لأن هذا الفرح قائم على أطلالي . فإن كيبوتس "يسعور" ومستوطنة "أحيهود" مبنيان على أنقاض قريتي.. على أنقاض حارتي وبيتي . ذلك ينتمي إلى الماضي ؟ ولكنه محفور في أعماقي ! .
عندما عدت من لبنان ، حذرني أهلي من "خطورة" رغبتي في زيارة المكان الذي ولدت فيه وقضيت طفولتي ، فإذا ألقي القبض عليّ هناك ، سأطرد إلى لبنان . وهكذا لم أزر المكان إلا عام 1963 . كانت زيارة سرية لأن دخول تلك المنطقة ممنوع . ولم أجد من كل القرية إلا مبنى الكنيسة الذي تحول إلى إسطبل . إن ما رأيته في ذلك المكان المهجور يفسر لك لماذا كانت هذه هي زيارتي الأولى والأخيرة . فتشت عن مرتع طفولتي فلم أجد إلا الأشواك ، لا منزل ولا شيء إلا الشوك . لن أعود إلى ذلك المكان . وكانت الزيارة بمثابة حج . قمت بتأدية هذه الفريضة مع مجموعة من الأصدقاء ، من أبناء القرية . خلدنا إلى الصمت التام طيلة تلك الزيارة وبعدها . التقينا هناك براعي أغنام من اليمن يقيم في مستوطنة "أحيهود" . قلت له : لقد أصبحنا أبناء قرية واحدة !. لم يفهم ما أعنيه ، ولم تكن بي رغبة في التفسير .

* * *
- أنا أفهم سوء فهم ذلك الراعي.. الشاب البسيط . ولكن يشق عليّ أن أفهم الأغلبية الساحقة من المثقفين اليهود المقيمين في إسرائيل . ويزيد من صعوبة فهمي كونهم شديدي الحساسية تجاه أي سوء يتعرض له أي مثقف يهودي في أية ناحية من أنحاء المعمورة . ولكنهم لا يحاولون إجراء أي اتصال من الفهم مع زملائهم العرب في إسرائيل . إني أذكر مشاعر الإحراج التي داهمتني في أوروبا ، عندما سألني عدد كبير من أدباء العالم عن التأثير المتبادل بين الشعر العربي والشعر العبري في إسرائيل . وأولئك الأدباء الذين سمعوا عن الملاحقات التي يتعرض لها الشاعر العربي في إسرائيل ، كانوا معنيين بمعرفة الجبهة المشتركة بين هؤلاء المضطهدين وبين أكثرية زملائهم العبريين . أجد لزاماً عليّ أن أؤكد هنا أني واجهت – بهذه الأسئلة – قضية جادة جديرة بالاهتمام والملاحقة ، لم تطرح في إسرائيل من قبل . وكان جوابي : "لا شيء" . ويؤسفني أن أمثال الأديب المناضل مردخاي أبي شاؤول هم قلائل في إسرائيل . وبوحي من هذه الأسئلة كتبت افتتاحية في مجلة "الجديد" طرحت فيها هذه القضية التي تتطلب الإجابة . أريد أن أؤمن بأننا سنحصل على الإجابة . إنني لا أطمح إلى التماثل والفهم التام من جانب زملائنا الشعراء والأدباء اليهود . إنني أدعو – بكل بساطة – إلى التعارف . أدعو إلى آذان صاغية ، ولا أدعو إلى الموافقة المسبقة . من المخجل أننا لا نعرف شيئاً عن بعضنا البعض . إن ما جرى في مؤتمر للكتّاب عقد مؤخراً في فرنسا ، بين الوفد الإسرائيلي الرسمي (حاييم غوري وأهرون ميغد) وبين كاتب لبناني قام بتوزيع بيان احتجاج على ملاحقة الشعراء العرب في إسرائيل ، هو بمثابة دعوة جديدة وملحة إلى النظر بجدية إلى قضية العلاقات بين حملة الأقلام العبرية والعربية في إسرائيل . وإني أحتج هنا على الحلول السهلة التي يقترحها قسم من الصحافة الإسرائيلية باختراعها أسماء غير معروفة وعديمة القيمة لتمثل بها حركة الأدب العربي في إسرائيل . وأريد أن أحتج أيضاً على ظاهرة أخرى هي الطريقة التي يقدمون بها الممثلين الحقيقيين للشعر العربي بصورة "حملة شعارات" و "معادين لليهود!"
إن الجهل التام بالأدب العربي في إسرائيل ينبع من اعتبارات وحسابات سياسية بحتة ، مع أنه ليس من المقبول الحديث عن السياسة والشعر في سياق واحد !! . إن أولئك الذين يسيطرون على أدوات الدعاية والنشر لا يريدون أن يقدموا للقارئ العبري حقيقة الأدب العربي في البلاد . إنهم يخافون مضمون هذا الأدب . ويدركون أن وصول هذا الأدب إلى الجمهور اليهودي سيحطم حواجز . فالأدب العربي هنا هو أدب احتجاج على وضع غير عادل ، كأي أدب احتجاج آخر في العالم . وإذا كان من المتاح لي أن أستعير مثلاً من أدب الاحتجاج العالمي المعاصر فسأذكر اسم "جيمس بلودوين" الزنجي الأمريكي ، صاحب الكتاب المثير "لا أحد يعرف اسمي" ، وأعرف أن رنين هذا الكتاب ليس عذباً للأذن الإسرائيلية بسبب تشابه الواقعين ، ولكن القلائل.. القلائل جداً في المجتمع الإسرائيلي هم الذين يعرفون أسماءنا وقضايانا . بيد أني أريد أن أفترض وجود شعراء مبدعين ، مثل يهودا عميحاي ودالية ريبكوفتش ، ذوي استعداد أولي لفهم أمثالنا . عندما ألتقي بالحيرة النفسية لدى هذين الشاعرين وغيرهما ، أحصل على حقنة من الأمل ، في أنه لا يزال في هذه البلاد من يحافظ على حاسة فهم الآخرين !.
وينبغي عليّ أن أضيف أنه بالإضافة إلى كل المتاعب والعقبات ، هناك عقبة اللغة إني أفهم لماذا يحصل عدد كبير من الأدباء اليهود على انطباع خاطئ عنا . إنهم لا يعرفوننا . لا يقرأوننا بلغتنا الأصلية . وبهذا الصدد أجد نفسي عاجزاً !. ولكن لماذا لا نتعارف على الأقل ؟ لا أطلب منهم أن يحكموا على إنتاجنا ، فالشرط الأول لهذا الحكم هو المعرفة ، وهم لا يعرفون . هذه القضية تشغل بالي . وأنا لا أمل تكرار دعوة الأدباء اليهود إلى التعرف على زملائهم العرب . وفي هذه المناسبة ، بودي أن ألفت نظر القارئ العبري – وليس بدافع السخرية – إلى حقيقة أن الكثيرين في إسرائيل يعرفون أسماء الشعراء العرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي منذ ما يزيد عن 21 سنة ! إن هذا السؤال موجع وخبيث . أعترف بذلك . ولكن حاولوا أن تفهموني . وأنا لا أعاتب الأدباء اليهود المتعصبين ، إني أعاتب الأدباء الذين يريدون أن نسميهم أدباء تقدميين . من هؤلاء أطلب : تعالوا نتعارف ونتناقش !.

* * *
- بدأ تعرفي على الأدب الثوري والشيوعي ، خلال دراستي الثانوية . قرأت "الاتحاد" و"الجديد" وغوركي ولينين . تحسست طريقي . وظهرت نقطة ضوء في حياتي . في سنوات دراستي الأخيرة شغلتني كثيراً مسألة الحيرة الأدبية . كيف أعبّر عن نفسي . أنا شاب أنتمي إلى قومية معينة ، ولي قضايا معينة . وفي الوقت ذاته أعيش في دولة إسرائيل . أريد العثور على حل لهذا السؤال : "هل من حكم القدر وجود تناقض بين هذين الانتمائين ؟" لا أخفي عليك أن هذا السؤال يتراءى أمام النظرة السطحية ، بالغ السهولة . ولكنه سؤال شاق وخاصة للشباب . وأنا لم أعثر على الجواب بسهولة . حللته على النحو التالي : "لا تناقض جوهري بين الشعوب ، إذا قامت العلاقات بين الشعوب على أساس المساواة" . أنت مدعو لأن تكون بطلاً ، من ناحية نفسية ، لكي تتغلب على هذا السؤال في ظروف بلادنا . وأنا لا أدعي البطولة النفسية إذا قلت لك إني وجدت الحل ، فالتناقض ليس قدراً على الرغم من أننا يجب أن نفهم أولئك الذين يعتبرونه كذلك
إني أحاول ، رغم الآلام والعذاب الناجمة عن الظلم ، المحافظة على أهم عناصر الإنسان: أن أكون إنساناً ، وأن أنجو من التعصب القومي . لا أقول ذلك نفاقاً ، ولا لأني أتحدث إليك ، وإلى القارئ العبري بواسطتك . لأتحدث بسذاجة : أنا لا أعادي اليهود . وأقول لك بإدراك تام إن الإنسان – مهما كان لونه ومهما كانت قوميته – هو كنزي .
وأريد أن أتباهى بإنسانيتي ، بأنني أول شاعر عربي عرض جندياً إسرائيلياً حتى بعد حرب حزيران ، بجوهره الإنساني . كيف حدث ذلك ؟ بعد حرب حزيران التي أعادت قتلي حافظت على انتمائي الإنساني . كتبت قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" . والقصيدة هي حوار مع جندي إسرائيلي عاد من الحرب خائباً لأنه فقد انتماءه الإنساني . شربت معه أربع كؤوس خلال حديثنا عن الحرب وعن حبه الأول وعن همومه اليومية ، بدون ظل من الكراهية القومية . لقد وضع الجندي قلبه أمامي ، وأنا استقبلته كصديق قبل الحرب . هاجمني أديب سوري، بشدة ، على هذه القصيدة . اتهمني بأنني أضلل الرأي العام العربي والعالمي . وقال إن هذا الجندي موهوم . ولكنني سررت عندما قرأت كتاب أحد النقاد الشباب البارزين هو رجاء النقاش . في كتابه عني رد على الكاتب السوري بأن الصراع في المنطقة ليس مع اليهود كبشر ، ولكنه صراع بين العرب والصهيونية . وقال رجاء النقاش إن العالم لم يفهم عداء العرب لإسرائيل ، ولمح إلى أن العقبة بين تفاهم العرب واليهود هي الصهيونية والاستعمار . وأنا أستغرب لماذا لا يستخلص الضمير اليهودي النتائج الحقيقية من تأثير الأدب العربي الإنساني في إسرائيل . إننا نشهد في الآونة الأخيرة ، ملاحقة إيجابية من العالم العربي للشعر العربي في إسرائيل . صحيح ، أن أغلبية الإسرائيليين تنظر إلى هذه الحقيقة بريبة وترى فيها دليلاً على موقف العرب السلبي . ولكنني أنظر إلى الأمر من زاوية أخرى . إن هذا الاهتمام علامة على التغييرات الإيجابية الجارية في النفسية العربية . العالم العربي يرى في الشعر العربي في إسرائيل رمزاً للصمود ، رمزاً لعدم الاستسلام ، ورمزاً للأمل . وقد كنا شهوداً على النقد الذي تعرض له شعر القضية الفلسطينية المكتوب في البلدان العربية . كان النقد يقول إن أغلبية هذا الشعر تتميز برفع الشعارات المتعصبة ، ولم تعرف كيف تجد السبيل إلى القلب الأوروبي وإلى حاسة العدل الإنساني . وقد وجد هؤلاء النقاد حلاً لهذه المسألة في الشعر العربي المكتوب في إسرائيل . رأوا فيه شعراً إنسانياً يسمو على مشاعر الحقد والمزاج النفسي البدائي . وعبّر عن ذلك بمستوى فني عال . وأنا ، كشاعر عربي يحافظ على طابعه القومي العربي والإنساني ، أرى في هذه الظاهرة كسباً للعقل السليم والإحساس المعافى وانتصاراً للإنسانية . لا يعني ذلك أني صرت عدمياً قومياً ، ولا يعني ذلك أني أسلم بأي شكل من أشكال الغبن والظلم ، ولكن ذلك يعني أنني قادر على التمييز بين الإنسان والسياسة .
يجري حوار بين الأدباء والنقاد في العالم العربي حول تسمية حركة الشعر العربي في إسرائيل التي يمثلها بشكل بارز : سميح القاسم ، توفيق زياد ، وسالم جبران وأنا . هناك من يسميها : شعر المقاومة . وكتب أحد النقاد البارزين في القاهرة غالي شكري : يمكن أن نسمي هذا الشعر شعر مقاومة ، ولكن علينا أن نذكر أن نقطة انطلاق هؤلاء الشعراء هي الاعتراف بحق اليهود والعرب في العيش في فلسطين ولذلك من الأصح أن نطلق عليهم اسم : شعراء الاحتجاج والمعارضة .
* * *
- لا . أنا لا أعتبر نفسي شاعراً ناضجاً . لا أشعر بالرضا الفني . وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره . صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية ، ونجحت في قهر تناقضاتي ، ولكنني لا أشعر بالرضا الفني .
إذا كان يشغلني في كل تجاربي الأدبية قضية الحقيقة والعدل في حياتنا . إنها تصبح قضية أكثر تعقيداً وتركيباً في هذا العصر المركب . ولكنني أتشبث بكل نقطة ضوء وسعادة في بحثي عن الأشياء التي تبرر قدرة الإنسان على الصمود أمام العذاب .
ليس من حقي القول إني سعيد . من السخف أن أدعي بأنني سعيد . ولكن مطاردتي للسعادة تمنحني السعادة . هذا هو – في رأيي – مبرر وجود الشاعر منذ قيام الإنسان بالتعبير عن نفسه .
أحاول المزج بين انتمائي القومي وانتمائي العالمي والإنساني . وأحاول أيضاً أن أعمق حاضري بخيرة العناصر الكامنة في الماضي ، وبأجمل ما يظهر لي من المستقبل .
من الطبيعي أن تحترم شاعراً وتعجب بشاعر وتحب آخر . كلنا نقدّر شكسبير على سبيل المثال . وكلنا نعجب بحكمت ونيرودا وأودن . ولكن رغم إعجابي البالغ بالكثيرين من الشعراء ، إلا أنني أحب لوركا.. نعم ، أنا أحب لوركا حباً . لا أعتبر لوركا شاعراً مبدعاً فحسب ، ولكنني أعتبره أيضاً صديقي .

* * *
- الكثيرون من أصدقائي يتألمون من أجلي . هذه الملاحقات.. الاعتقالات وأوامر الإقامة الجبرية التي تحدد حرية تجولي في وطني ، أصبحت جزءاً من حياتي اليومية ولكنني أنظر إليها باستهتار يكاد يكون خبيثاً . لست متوتراً ولست مندهشاً . أجلس في غرفتي ، كل مساء ويطربني أن ارتبط بالشمس ، لأني أمنع من مغادرة البيت بعد غروب الشمس . منحوني شرفاً كبيراً عندما ربطوا خطواتي بالشمس . اجلس في الغرفة ، أقرأ ، أسمع موسيقى ، وأنتظر البوليس . وفي الساعة الرابعة بعد كل يوم أثبت وجودي في محطة الشرطة بابتسامة حقيقية غير لئيمة دائماً . وأنا أنظر إلى ذلك برؤية شعرية : لقد تقاسمنا اليوم : لهم الليل ، والنهار لي . لا يحق لي الخروج في الليل ، وهم دائمو التجوال في الليل . وكل واحد منا يعرف النهار أجمل من الليل ، وضوء الشمس أحلى من الظلام . فمن انتصر.. أنا أم البوليس؟

* * *
- لا أنام قبل الاستماع إلى ألحان ميكيس ثيودوراكيس . بيني وبينه حكاية : قبل ثلاثة أسابيع قرأت في الصحف الإسرائيلية أن ميكيس قد اعتقل . كتبت قصيدة من وحي هذا الاعتقال ، عنوانه "ريتا.. أحبيني"" . كتبت في مقدمة القصيدة أن سبب اعتقال ميكيس ثيودوراكيس هو أنه "خطر على أمن الجمهور"" . أضحكني أن الصحف الإسرائيلية وضعت هذه الجملة ضمن أقواس تعبيراً عن سخريتها من هذا الإدعاء : "خطر على أمن الجمهور"" . ضحكت ، لأن هذه الصحف تنظر إلى هذا الإدعاء كأمر بعيد عنها وبعيد عن حدود إسرائيل ! إني أستمع إلى ألحان ميكيس كل مساء وأحس أننا صديقان . أنا أيضاً "خطر على أمن الجمهور" . ولكنني لم أتصور أن مصيري ، ذلك الأسبوع ، سيكون كمصيره . فعندما نشرت القصيدة في "الاتحاد" كنت أنا في الاعتقال لأنني "خطر على أمن الجمهور" !

joseph.algazy@gmail.com

الخميس، يوليو 02، 2009

ثلاث محاضرات في شعر محمود درويش ـ2

د. حبيب بولس

المرحلة الثانية - مرحلة المنفى والحصار والخروج من بيروت

مع بداية السبعينيات اشتد الخناق على محمود درويش، فالسلطة لم تكف عن مضايقته وملاحقته وتوقيفه واحتجازه في البيت وعن سجنه ايضا، حتى ضاقت به السبل فقرر ان يهجر هذا الوضع. ترك محمود الوطن الى منفاه الاختياري، وهناك بدأت مأساته الحقيقية، مأساة اللامكان، مأساة الرحيل، والموانئ، ومحطات القطار، والمطارات. (وطني حقيبة) كما يقول، حتى استقر في بيروت. في بيروت راح الجرح يتعمق والمعاناة راحت تتضاعف وتتثلث، والتجربة انفتحت واغتنت وتوسعت فكرا وثقافة، هناك رأى المأساة الفلسطينية عارية على حقيقتها. رأى الفقر في المخيمات، رأى حياة القهر والذل، كما شاهد المذابح والحرائق في تل الزعتر في صبرا وفي شاتيلا، ولكنه شاهد ايضا صمود الفلسطيني ونضاله وكفاحه وصبره وإصراره وايمانه بانتصار قضيته التي حمل السلاح لأجلها ولأجل عودة شعبها وتحريرها. ومثلما رأى الصمود والمذابح رأى الانكسار وعايش حالة الحصار الوحشية في بيروت، ثم شاهد خروج الفلسطينيين الفاجع منها، من منفى الى منفى والتجربة تتسع وتتعمق والهم يكبر. من هنا صارت القصيدة العادية التي الِفها محمود وبرع في نظمها في المرحلة الاولى ضيقة، وعاؤها الاستعاري ضاق عن تفاصيلها، وبنيتها صارت اكثر تعقيدا وصورها اكثر تركيبا، لذلك نراه في هذه المرحلة يميل الى المطولات ذات النفس الملحمي وتكفي الاشارة الى ثلاث مطولات من روائعه في هذه المرحلة هي: احمد الزعتر/ وقصيدة بيروت/ ومديح الظل العالي.
في هذه المرحلة تميل قصائد محمود درويش الى المسرحة والى الدرامية القصصية فالمبنى صار قصصيا، كما مالت القصائد الى كثير من التجريد والى توالد الصور بحيث صارت قراءة القصيدة هي متابعة للصور التي فيها وتفكر بعلاقات الصورة ورمزيتها (كما يقول "الياس خوري" في كتابه "دراسات في نقد الشعر" الصادر عن مؤسسة الابحاث العربية، بيروت طـ 3، 1986).
فكثرت الاستعارات الطريفة والتشبيهات المولدة والايقاع المتقافز النابع من التكرار ومن الترادف والاختلاف والتضاد. في هذه القصائد يجنح نحو التجريب غير هياب، أي الى اللحظة المتوترة دراميا داخل بنية شعرية مركبة. القصيدة في هذه المرحلة هي كثافة الشعر في تجربة كلية متماسكة والصورة تصبح هنا جزءا من كل توتري أي انها تتحول من لحظة توقف تأملية مفاجئة الى سياق بحيث تصير شبكة من السياقات تضمها وحدة بنائية تتداعى داخل حركة لولبية. القصيدة هنا هي محاولة اختصار الحركة بالصورة المتوالدة والبناء الشعري يكتفي بالتلميح والاشارات مرتكزا على عاملَي التداعي الصوري والجملة الشحنة الممتدة لتشمل بناء عالم من اللحظات المتتابعة والتي تشكل بينها وحدة داخلية.
تتميز القصيدة في هذه المرحلة بأصواتها المتعددة الجوانب والمختلفة، بحيث تختلط هذه الاصوات داخل البناء لتلح على توترها وعلى مبناها الدرامي الشعري في محاولة للوصول الى القصيدة الشبكية المعقدة التي تتجاوز الانفعال المباشر والصراخ الواضح في محاولة ايضا للابتعاد عن الموضوع كمقدمة والنظر اليه ككل متكامل.
وهذا المبنى يركز في قصائد محمود درويش على شخصية واحدة هي البطل ويقيم حوارين المباشر وغير المباشر، كما ويجلد السلطة المسيطرة ويدينها دائما وهذه السلطة هي التي تشكل الاطار الثابت في القصيدة. كما وتتميز القصائد بحالة من النبوءة، حالة يمتزج فيها الحلم بالوعي، فتصبح القصيدة سيالة دافقة لا شيء يعثرها في مسراها الحريري. كما ان اللغة ايضا في هذا البناء الجديد تتغير وتتوالد وتتآلف وتتخالف وتبارح مرجعياتها السابقة فكلمة الارض مثلا كمفردة وكإيحاء لا تعود معطى كما المرحلة السابقة ولا اطارا للحنين وللتواصل انما هنا هي تتفجر في علاقة جدلية مع عنصر ايديولوجي بحيث تصير هنا يدا ورصاصة وتفارق ثبوتها. وعنصر الزمن ايضا لا يعود مجرد اطار ساكن انما يصير قاعدة للمسار العام وجزءا اساسيا من البنية الداخلية للقصيدة.
فلنستمع الآن الى بعض المقاطع من شعر هذه المرحلة، وأبدأ بملحمة "احمد الزعتر" يقول محمود:


ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد.. لأحمد المنسي بين فراشتين
مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني
نازلا من نحلة الجرح القديم الى تفاصيل
البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي
آه يا وحدي! وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيما ينمو وينجب زعترا ومقاتلين
وساعدا يشتد في النسيان
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين..
....
في كل شيء كان احمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاما كان يسأل
عشرين عاما كان يرحل
عشرين عاما لم تلده امه الا دقائق في اناء الموز
وانسحبت
يريد هوية فيصاب بالبركان
سافرت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني

هذا المقطع الذي قبسناه يشي بما تقدم يشي بالتجريد "نازلا من نحلة الجرح" "لم تلده امه الا دقائق في اناء الموز" ويشي ايضا بالبناء الدرامي المتلاحم وبالصور المتوالدة المركبة وبالترميز وما ينتج عنه. كما ان المقطع والذي بعده يزخران بالتوتر – يريد هوية فيصاب بالبركان.
يستمر محمود قائلا، لا بل راويا:

"راح احمد يلتقي بضلوعه ويديه كان الخطوة – النجمة/ ومن المحيط الى الخليج- من الخليج الى المحيط/ كانوا يعدون الرماح/ واحمد العربي يصعد كي يرى حيفا ويقفز/ احمد الآن الرهينة/ تركت شوارعها المدينة، أتت اليه/ لتقتله/من الخليج الى المحيط، من المحيط الى الخليج/ كانوا يعدون الجنازة/ وانتخاب المقصلة.
انا احمد العربي – فليأت الحصار/ جدي هو الاسوار – فليأت الحصار/ وانا حدود النار – فليأت الحصار/ وأنا احاصركم/ احاصركم/ وصدري باب كل الناس فليأت الحصار.

ما يجعل هذه المطولة جميلة تهز قارئها او متلقيها هو تعدد الاصوات فيها وثنائية الخطاب القصصي كما في المقطع التالي:

يا ايها الولد المكرس للندى/ قاوم!/ يا ايها البلد – المسدس في دمي/ قاوم/ الآن اكمل فيك اغنيتي/ وأذهب في حصارك/ والآن اكمل فيك اسئلتي/ واولد من غبارك/ فاذهب الى قلبي تجد شعبي/ شعوبا في انفجارك. ويختتم محمود درويش هذه الملحمة بصوت يصرخ ألما وحلما وبنبرة "واثقة" حيث يقول: كتبتْ مراثيها الطيور وشردتني/ورمت معاطفها الحقول وجمعتني/ فاذهب بعيدا في دمي! واذهب بعيدا في الطحين/ لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين.
يا احمد اليومي!/ يا اسم الباحثين عن الندى وبساطة الاسماء/ يا اسم البرتقالة/ يا احمد العادي!/ كيف محوتَ هذا الفارق اللفظي بين الصخر والتفاح/ بين البندقية والغزالة!/ لا وقت للمنفى واغنيتي/ سنذهب في الحصار/ حتى نهايات العواصم/فاذهب عميقا في دمي/ اذهب براعم/ واذهب عميقا في دمي/ اذهب خواتم/ واذهب عميقا في دمي/ اذهب سلالم/ يا احمد العربي قاوم!
فاذهب عميقا في دمي واذهب عميقا في الطحين/ لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين.

ثم يتبدل الصوت وتتبدل النبرة فيخاطبنا الشاعر عن احمد الزعتر ويقول:

وله انحناءات الخريف/ له وصايا البرتقال/ له القصائد في النزيف/ له تجاعيد الجبال/ له الهتاف/ له الزفاف/ له المجلات الملونة/ المراقي المطمئنة/ ملصقات الحائط/ العَلم/ التقدم/ فرقة الانشاد مرسوم الحداد/ وكل شيء كل شيء كل شيء/ حين يعلن وجهه للذاهبين الى ملامح وجهه.
يا أحمد المجهول!/ كيف سكتنا عشرين عاما واختفيت/ يا احمد السري مثل النار والغابات/ اشهر وجهك الشعبي فينا/ واقرأ وصيتك الاخيرة؟/
أخي احمد!
وأنت العبد والمعبود والمعْبد
متى تشهد
متى تشهد
متى تشهد؟

واذا انتقلنا الى "قصيدة بيروت" سنجد نفس الظواهر والسمات التي وجدناها في "احمد الزعتر"، بمعنى سنجد وتلاقي الاضداد والنص الملحمي والصور المركبة والتجريد والزخم والتناص والاتكاء على الرمز، فلنسمع مقاطع منها، تقطر حزنا لأنه سيفارق المدينة التي احب يقول:

تفاحة للبحر، نرجسة الرخام/ فراشة غجرية. بيروت شكل الروح في المرآة/ وصف المرأة الاولى، ورائحة الغمام/ بيروت من تعب ومن ذهب، واندلس وشام/ فضة. زبد. وصايا الارض في ريش الحمام/ وفاة سنبلة. تشرد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت/ لم اسمع دمي من قبل ينطق باسم عاشقة تنام على دمي.. وتنام/ من مطر على البحر اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأننا اسلافنا نأتي الى بيروت كي نأتي الى بيروت.
من مطر بنينا كوخنا، والريح لا تجري فلا نجري، كأن الريح مسمار على الصلصال تحفر قبوَنا فننام مثل النمل في القبو الصغير كأننا كنا نغني خلسة/ بيروت خيمتنا/ بيروت نجمتنا/ سبايا نحن في هذا الزمان الرخو/ أسلمنا الغزاة الى اهالينا/ فما كدنا نعض الارض حتى انقض حامينا على الاعراس والذكرى فوزعنا اغانينا على الحراس/ من ملك على عرش/ الى ملك على نعش/ سبايا نحن في هذا الزمان الرخو/ لم نعثر على شبه "نهائي" سوى دمنا/ ولم نعثر على ما يجعل السلطان شعبيا/ ولم نعثر على ما يجعل السجان وديا/ ولم نعثر على شيء يدل على هويتنا/ سوى دمنا الذي يتسلق الجدران/ ننشد خلسة بيروت خيمتنا/ بيروت نجمتنا.
هذه المرارة القاسية التي تفوح في ارجاء القصيدة هي المسيطرة ولكنها تنفرج في النهاية وتنفتح على الاصرار حيث يقول:

احرقنا مراكبنا، وعلقنا كواكبنا على الاسوار
نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي:
بيروت تفاحة/ والقلب لا يضحك/ وحصارنا واحة/ في عالم يهلك/ سنرقّص الساحة/ ونزوّج الليلك.
ثم يقول:

لم نولد لنسأل: كيف تم الانتقال الفذ مما ليس عضويا الى العضوي؟ لم نولد لنسأل:
قد وُلدنا كيفما اتفق/ انتشرنا كالنمال على الحصيرة/ ثم اصبحنا خيولا تسحب العربات/ نحن الواقفين على خطوط النار/ احرقنا زوارقنا/ وعانقنا بنادقنا/ سنوقظ هذه الارض التي استندت الى دمنا/ سنوقظها، ونخرج من خلاياها ضحايانا/ سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء/ نسكب فوق ايديهم حليب الروح كي يستيقظوا/ ونرش فوق جفونهم اصواتنا:
قوموا ارجعوا للبيت يا احبابنا/ عودوا الى الريح التي استلت جنوب الارض من اضلاعنا/ عودوا الى البحر الذي/ لا يذكر الموتى ولا الاحياء/ عودوا مرة اخرى/ فلم نذهب وراء خطاكم عبثا/ مراكبنا هنا احترقت/ وليس سواكم ارض ندافع عن تعرجها وحنطتها/ سندفع عنكم النسيان، نحميكم/ بأسلحة صككناها لكم من عظم ايديكم/ نسيجكم بجمجمة لكم/ وبركبة زلقت/ فليس سواكم ارض نسمّر فوقها اقدامنا/ عودوا لنحميكم/ ولو انا على حجر ذبحنا/ لن نغادر ساحة الصمت التي سوّت اياديكم/ سنفديها ونفديكم.
ثم يختتم بقوله:

نحن الواقفين على خطوط النار نعلن ما يلي: لن نترك الخندق/ حتى يمر الليل/ بيروت للمطلق/ وعيوننا للرمل/ في البدء لم نخلق/ في البدء كان القول/ والآن في الخندق/ ظهرت سمات الحمل.
وبعد خروج الفلسطينيين من بيروت يطل محمود درويش مع ملحمة رائعة هي "مديح الظل العالي" وهي تحتوي ايضا على نفس موتيفات وتقنيات القصائد السابقة، يقول فيها:

بحرلأيلول الجديد/ خريفنا يدنو من الابواب
بحر للنشيد المر. هيأنا لبيروت القصيدة كلها
بحر لمنتصف النهار/ بحر لرايات الحمام، لظلنا، لسلاحنا الفردي/ بحر للزمان المستعار/ ليديكَ، كم من موجة سرَقتْ يديك/ من الاشارة وانتظاري
ضع شكلنا للبحر. ضع كيس العواصف عند اول صخرة
واحمل فراغك... وانكساري
.. واستطاع القلب ان يرمي لنافذة تحيته الاخيرة،
واستطاع القلب ان يعوي، وان يعد البراري
بالبكاء الحر
ثم يقول مخاطبا الفلسطيني المقاوم:

خذ بقاياك، اتخذني ساعدا في حضرة الاطلال. خذ قاموس ناري وانتصر/ في وردة ترمى عليك من الدموع/ ومن رغيف يابس، حاف وعار/ وانتصر في آخر التاريخ/ لا تاريخ الا ما يؤرخه رحيلك في انهياري/ قلنا لبيروت القصيدة كلها، قلنا لمنتصف النهار/ بيروت قلعتنا/ بيروت دمعتنا/ ومفتاح لهذا البحر/ كنا نقطة التكوين/ كنا وردة السور الطويل وما تبقى من جدار/ ماذا تبقى منك غير قصيدة الروح المحلق في الدخان قيامة وقيامة بعد القيامة.
خذ نثاري/ وانتصر فيما يمزق قلبك العاري/ ويجعلك انتشارا للبذار/ قوسا يلم الارض من اطرافها جرسا لما ينساه سكان القيامة من معانيك.
انتصر/ ان الصليب مجالك الحيوي، مسراك الوحيد من الحصار الى الحصار.
بحر لأيلول الجديد. وأنت ايقاع الحديد تدقني سحُبا على الصحراء، فلتمطره لأسحب هذه الارض الصغيرة من إساري.
لا شيء يكسرنا/ وتنكسر البلاد على اصابعنا كفخار، وينكسر المسدس من تلهفك. انتصر، هذا الصباح، ووحد الرايات والامم الحزينة والفصول بكل ما اوتيت من شبق الحياة،
بطلقة الطلقات/ باللاشيء/ وحدنا بمعجزة فلسطينية..
بيروت قصتنا/ بيروت غصتنا/ وبيروت اختبار الله/ جربناك جربناك. من اعطاك هذا اللغز؟ من سمّاك؟
وفي مقطع آخر منها يهاجم الحكام العرب الذين وقفوا متفرجين على جراح الفلسطيني وموته يقول:

هي هجرة اخرى/ فلا تكتب وصيتك الاخيرة والسلاما/ سقط السقوط، وأنتَ تعلو/ فكرة/ ويدا/ و... شاما!
كسروكَ، كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشا
وتقاسموك وأنكروك وخبؤوك وأنشؤوا ليديك جيشا
حطّوك في حجر.. وقالوا: لا تسلّم/ ورموك في بئر وقالوا: لا تسلم/ وأطلت حربك، يا ابن امي، الف عام الف عام، الف عام في النهار/ فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار.
ثم يجلد العرب على تقصيرهم وخياناتهم فيقول:

نحن البداية والبداية والبداية. كم سنة
وأنا التوازن بين ما يجب؟/ كنا هناك. ومن هنا ستهاجر العرب/ لعقيدة اخرى وتغترب
قصب هياكلنا/ وعروشنا قصب/ في كل مئذنة حاو ومغتصب/ يدعو لأندلس/ ان حوصرت حلب.
وأنهي بهذا المقطع الذي يلخص مأساة الفلسطيني، يقول محمود في نفس القصيدة:

"وطني حقيبة/ وحقيبتي وطني/ ولكن... لا رصيف، ولا جدار/ لا ارض تحتي كي اموت كما اشاء/ ولا سماء حولي/ لأثقبها وادخل في خيام الانبياء.

واخيرا هذا هو شعر درويش في المرحلة الثانية مرحلة المنفى والحصار والخروج من بيروت. وقد رأينا كيف تطور هذا الشعر وانفتح ليعانق كل تقنيات القصيدة الحديثة مع محافظته على الموسيقا والايقاع وهذه هي فرادة محمود وتفرده وتميزه.

( يتبع )

الاثنين، يونيو 01، 2009

نادي حوارات الأدب والفكر بكلية آداب تطوان المغربية يحتفي بمحمود درويش





محمد العناز

خطوة في الشعر..خطوة في الحياة

الطرق التي تؤدي إلى قلب كلية الآداب بتطوان شبه مقطوعة هذا اليوم. لم يكن سبب ذلك احتجاجات الطلبة. هذه المرة كان المحتجون هم عشاق محمود درويش: مثقفين وأساتذة جامعيين وطلبة باحثين وأناس بسطاء، جمعهم فضاء قاعة الندوات من أجل الاحتفاء بالملتقى الوطني الثالث: خطوة في الشعر..خطوة في الحياة، دورة محمود درويش، الشاعر الذي ترك قطاره وحيدا في منتصف الرحلة بين هيوستن ورام الله.

هذا الملتقى الذي يشرف على تنظيمه نادي حوارات الأدب والفكر، وكلية آداب تطوان، وجامعة عبد المالك السعدي، بتعاون مع شعبة اللغة العربية، والمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل، وفرقة البحث في الإبداع النسائي، ومجموعة البحث في الدراسات السينمائية والسمعية البصرية.

الجلسة الافتتاحية التي ترأسها الدكتور عبد العزيز الحلوي الذي أشار إلى الدينامية التي ما فتئت تعرفها أنشطة النادي الذي يؤطره الطلبة الباحثون، إعلانا منهم بتجدد الوصال والولاء للشعر، بخاصة حينما يتعلق الأمر بشاعر كقامة محمود درويش. ليسلم الكلمة بعد ذلك إلى عميد كلية الآداب الدكتور عبد العزيز العلاتي الذي هنئ جميع الفعاليات المشاركة في هذه التظاهرة الشعرية النوعية والوازنة، وشجع الأنشطة التي تقوم بها النوادي المتنوعة وعلى رأسها نادي حوارات الأدب والفكر الذي ينظم سنويا تظاهرات مهمة لها صدى على الصعيد الجامعي والمحلي والوطني والعربي، وأكد بأن النادي كان موفقا في اختيار الشاعر "محمود درويش" للاحتفاء به وبالشعر الفلسطيني. أما رئيس شعبة اللغة العربية الدكتور محمد الأمين المؤدب فقد عبر عن سعادته بهذا الملتقى لكونه يحتفي بمكون أساس من مكوناتنا الثقافية والحضارية ألا وهو الشعر، فلقد عاش درويش للشعر وبالشعر، آملا أن يستمر هذا التقليد الشعري الذي يتطلب منا جميعا كامل التشجيع والدعم.

في حين أكدت كلمة مدير المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل الأستاذ الجيلالي عارض على ضرورة الانفتاح على الطاقات الإبداعية التي تحفل بها جامعة عبد المالك السعدي، انطلاقا من ضرورة إيلاء الأهمية للأنشطة الثقافية في سنوات التكوين الجامعي، والتي من شأنها أن تخلق طالبا مثقفا ينخرط في تنمية الوطن. وأعربت بعد ذلك رئيسة فرقة البحث في الإبداع النسائي الدكتورة سعاد الناصر عبق اللقاء الذي يتألق فيه الشعر المشع بالحياة، وكما أنه لا حياة بدون هواء وماء، فلا حياة بدون شعر أو جمال، مؤكدة على أن الاحتفاء بمحمود درويش هو احتفاء بمعاني الإنسانية، معان دالة على ثنائية لا يكاد يخرج عنها شعره عبر مراحل تطوره، وهي ثنائية الأرض/ المرأة، باعتبارهما مصدرين للحياة.

أما رئيس مجموعة البحث في الدراسات السينمائية و السمعية البصرية الدكتور حميد العيدوني فقد اعتبر أن مبادرة نادي حوارات الفكر و الأدب بتنظيم هذا التكريم تكتسي أهمية بالغة لأن المحتفى به محمود درويش يمثل للأجيال جميعها رمزا شعريا رائدا ومرادفا لقضية... قضية فلسطين. و قد أكد العدوان الأخير على غزة مدى تضامن الشباب المغربي مع القضية الفلسطينية في وقت كان يسود الاعتقاد بوجود قطيعة بين الشباب والقضايا المصيرية للعرب و المسلمين. إن النجاح الذي عرفه هذا التكريم سواء من خلال مستوى الحضور، والبرمجة المتنوعة والغنية من شعر وسينما وغناء، يبرهن مرة أخرى على المستوى المرموق لطلبتنا. يضيف العيدوني أنا اكرر دعوتي للمسؤولين في كلية الآداب على ضرورة ايلاء هذه الأنشطة الوازنة ما تستحقه من دعم معنوي ومادي.

فكلية الآداب تزخر بطاقات مبدعة هائلة في جميع أنواع الفنون. أما كلمة رئيس نادي حوارات الأدب و الفكر محمد العناز انطلقت من أهمية الاحتفاء بالشعر من داخل جامعة عبد المالك السعدي بوصفه محاولة للإحساس بجدوى الشعر، في زمن الإسمنت بامتياز، معتبرا أن الاحتفاء بمحمود درويش هو احتفاء بشاعر راصد لعصره ولتحولات العالم. وبالرغم من غيابه إلا أنه يظل بيننا مقيما في جوارحنا وأحاسيسنا الأولى، شاكرا دعم رئيس جامعة عبد المالك السعدي الأستاذ مصطفى بنونة لهذه المبادرة الثقافية العلمية، وأيضا عميد كلية الآداب على احتضانه لهذا الملتقى، مؤكدا على أهمية الفعل الثقافي الذي تقوم به المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل في سبيل تشجيع الطاقات الشابة. كما عبر عن رغبة أعضاء النادي في تحويل ملتقى خطوة في الشعر خطوة في الحياة إلى أول مزار عربي للإبداع الشعري الطلابي.


آملا من السيد رئيس الجامعة والسيد العميد أن يعملوا على تحقيق هذا الحلم. ومباشرة بعد هاته الكلمات افتتح المعرض التشكيلي الذي شارك في تأثيثه كل من الفنانة التشكيلية ثورية بلكناوي التي شكلت لوحاتها لحظة سحرية، بفعل قوتها في استخدام الجسد الأنثوي بوصفه موضوعا مركزيا، حيث يصير لون الجسد عند بلكناوي مماثلا للون الصحراء، ولون مغيب الشمس، والسينمائي التشكيلي عمر سعدون الذي استخدم تقنية جديدة في الرسم تتمثل في تفجير البالونات الممتلئة بالألوان كتعبير منه عن ما يشهده الوضع الفلسطيني من تردي وانتهاكات من قبل العدو الصهيوني. ليتم بعد ذلك عرض شريط وثائقي للمخرجة الشابة سارة العيدوني"يا أيها المارون" الذي قدمه السينمائي والمحرج المسرحي هشام بن عبد الوهاب، مؤكدا أن هذا الشريط هو نتاج العمل الرصين الذي تقوم به مجموعة البحث في الدراسات السينمائية والسمعية البصرية، الشريط يتحدث عن الحس العميق عند محمود درويش وفهمه للسياسة في معناها الشامل، وكذا علاقته بالقضية الفلسطينية عن طريق استثمار مجموعة من الصور والشهادات ترجمت أيضا معاناة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال الصهيوني لقطاع غزة، كما تضمن الشريط قراءات شعرية بصوت الراحل، استحضرت أخد أقوى قصائده" أيها المارون بين الكلمات العابرة" التي أفزعت قوات الاحتلال.

وتحت عنوان "ليس كل الشعراء بلغاء" صاغ الأكاديمي محمد مشبال الكلمة التي افتتح بها المائدة المستديرة حول موضوع "الجمالي والتاريخي في تجربة محمود درويش الشعرية"؛ حيث أشار إلى أن هذا الشاعر قدم للقارئ بلاغة إنسانية فريدة، بلاغة جسدت الجمال والفعالية؛ هناك تصوير شعري فائق إلى جانبه قدرة مذهلة على التأثير الفعلي في المتلقي.كلمة محمد مشبال دعت إلى ضرورة استخلاص الدروس من تجربة هذا الشاعر؛ منها أن الشعر ليس صناعة نخبوية، وليس مجرد تعبير عن ذات فردية، وليس لعبا بالكلمات.

الشعر بلاغة تتجسد في تواصله مع الناس، وفي دفاعه عن القيم، وفي قدرة صاحبه على الاستحواذ على المتلقي بالصورة المبتدعة والقيمة الإنسانية والإنشاد النافذ. وقد ختم مشبال كلمته بقوله إن القارئ العربي في حاجة إلى شعراء بلغاء أمثال محمود درويش لمخاطبة إحساسه الجمالي باعتباره كائنا يتطلع إلى تحسين وجوده في العالم.

أما الشاعر والأكاديمي أحمد هاشم الريسوني فقد انطلق من قرية البُرْوة التي ولد فيها درويش التاريخية بمحافظة عكا، والتي دمرها الصهاينة تدميرا تاما والتي أحياها محمود درويش شعريا وإلى الأبد. وتلك هي المعادلة الصعبة التي لم يستوعبها العدو أبدا، واصفا أن قصيدته تمتد خمسين عاما، وهو عمر شعري خرافي وآسر، كما توقف الباحث عند مسيرته الشعرية وانعراجاتها المتشعبة والمعقدة، والتي تغنى فيها بفلسطين غناء تراجيديا غير مسبوق، وهو في هذا لم يجعل القضية موضوعا، بل جعلها قصيدة تنفتح على أفقها الجمالي والإنساني في شموليته، فكان ذلك تميزه وتألقه. من وحي الذاكرة.

واستوحت الدكتورة فريدة بنعزوز مداخلتها "من وحي الذاكرة". فتعميق علاقتها بمحمود درويش ترجع إلى أواسط السبعينيات من القرن الماضي، عندما كانت طالبة بآداب الرباط، ومن خلال بحث كانت قد أعدته في موضوع أدب المقاومة الفلسطيني، عندما كان الطلبة يؤثثون معاركهم النضالية بقصائده الملهبة لمشاعرهم الثورية.

ولقد وجدت نفسها إزاء شاعر لا يمكنه أن ينس أبدا كيف سحب بساط الوطن من تحت قدميه، عندما وجد نفسه فجأة طفلا لم يتعد السابعة من عمره، يعدو بين التلال والوديان خلف أهله الهاربين من رصاص لم يكن، والحال هذه، ليستطيع أن يدركه أو يفهم له أي معنى. ولقد بينت كيف ساهم هذا الأمر في تكوين شاعرنا النفسي، ثم الفني الذي رفده امتياحه من القرآن والتوراة والإنجيل والفكر الماركسي اللينيني، ومن الأدب العربي بشقيه القديم والحديث، وكذا من شعر المقاومة والرفض العالميين وآدابهما.

أما الدكتور الإمام العزوزي فقد انطلق في مداخلته"شعرية درويش في ضوء التحولات الكبرى" من مجموعة من الأسئلة التي تفرض نفسها على قارئ شعر درويش، أولها التأثير العميق الذي مارسه هذا الشعر طوال أربعة عقود دون أن يفقد بريقه ولا توهجه والذي يستمر، وثانيها، دورانه حول موضوع واحد وهو القضية الفلسطينية دون السقوط في التكرار والرتابة. وكان الجواب أن الأمر يعود إلى التحولات في الرؤية والبعد الفني الذي عرفه شعر الشاعر. ورصد العرض ثلاث تحولات كبرى في هذا الشعر.

اشتملت الأولى نوعا من الغنائية الممزوجة بالتحدي. والإيمان بالغد الأفضل. وجعلت هذه الرؤية الأرض موضوعها الأثير، واستمرت إلى غاية سقوط بيروت وصدور قصيدته مديح الظل العالي. حيث سيعين محمود زلزالا مهولا على مستوى الرؤية والقصيدة، فيبني رؤية تجسد وجدانية الفلسطيني وسط محيطه، وتخلى عن تفاؤليته المفرطة وركز في موضوعاته على الإنسان الفلسطيني الذي عليه أن يبني ملحمته الخاصة، وعلى المستوى الشعري تجاوزت القصيدة شفافيتها وإيقاعاتها الخطابية نحو تكثيف الصورة عن طريق الرمز والاستعارة، والنفس الطويل في الجملة والفقرة والقصيدة الشعرية. أما المرحلة الثانية فلقد حملت على مستوى تعميق أزمة الفلسطيني، وعبرت عن رؤية مأساوية وسوداوية ممزوجة بقلق عميق على مصير الإنسان والأرض. ولقد تجلت في قصيدته ما قبل الأخيرة" سقط القطار على الخريطة"، وتميزت فنيا بتجاوز القصيدة التعبير والقصيدة البوح إلى ما يسميه القصيدة التشكيل حيث يتم تجسيد اللحظة والموقف والرؤية شعريا.

في حين سلطت مداخلة الدكتور يونس الأسعد الرياني الضوء على محمود درويش السياسي في علاقته بالمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد. فانتماء الرجلين إلى فلسطين يقول الباحث جعل منهما صوتان متميزان استطاعا أن يجعلا من القضية الفلسطينية قضية عالمية كونية. فعلاقة محمود درويش وإدوارد سعيد تعود إلى سنة 1974 عندما التقيا لأول مرة في نيويورك بمناسبة إلقاء الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات خطابه الشهير أمام الجمعية العامة في الأمم المتحدة، مؤكدا أن هذا اللقاء كان بداية علاقة طويلة بين الرجلين رغم اختلاف موقعهما السياسي من المسار التاريخي الذي اتخذت القضية الفلسطينية منذ إعلان منظمة التحرير قيام دولتين: دولة فلسطين، ودولة إسرائيل.

لكن رغم هذا الاختلاف في الموقف السياسي، فإن العلاقة الفكرية والأدبية انتصرت على ما هو سياسي، لتبقى كلمة محمود درويش وإدوارد سعيد ترسم رؤية جديدة تسعى إلى ما هو كوني وإنساني. وتطرقت مداخلة الدكتورة جميلة رزقي الموسومة ب" الشاعر لم يمت" من لمحة موجزة عن درويش وحياته بقرية البروة متوقفة عند علاقة درويش بالمرأة التي شغل عنها بفعل ارتباطه بالقضية الفلسطينية والكتابة التي لم تكن سوى قضيته الأولى، واعتبرت الباحثة أن محمود درويش بالرغم من جاذبيته وصداقاته الكثيرة مع الجنس الناعم، كانت نظرته إليهن مثالية، مستشهدة ببعض حواراته التي يقول فيها: " إن الأم هي كل شيء في هذه الحياة، وكل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة".


أما الأمسية الشعرية التي أدارها الأستاذ سليمان الحقيوي بلمساته المبدعة احتفاءا بمحمود درويش، وبأصوات نسائية وبكل اللغات، سافرت بعيدا في حدائقه ليتنفس الحياة من جديد شِاركت فيها كل من الشاعرات فاطمة الزهراء بنيس، وفاطمة مرغيش، وفاطمة الميموني، ونهاد المودن، ولبنى الفقيهي، ونسيمة الراوي، وبثينة بن الأمين، وسارة المرتجي، اللائي قدمن القصائد الدرويشية بأصواتهم. وزاوج الفنان علي بن سعيد بين اللحن والأداء ليجعل من تحفة محمود درويش"لاعب النرد" أغنية شدت مسامع الحضور لتميزها قصيدة ولحنا وأداءا.


واختتمت أشغال الملتقى بأغاني من الريبرتوار الملتزم لكل من مارسيل خليفة وأميمة الخليل وفيروز وسعيدة فكري عكست بصدق الثقافة الملتزمة للفنانين أمينة السليماني، ورضوان قدوري. وتميزت هذه الدورة بالتنظيم المحكم تحت إشراف طاقم شاب يتكون من: عمر لعزيز، عادل بن عبد اللطيف، رباب الفضالي، مريم الوكيلي، فاطمة الزهراء الهبطي، ريم المسعودي، حنان حميدوش، كوثر المدوغري، واعتبر في الأخير حميد العيدوني أن الاحتفاء بمحمود درويش لا يسعه يوم دراسي واحد، وهو ما سيترجم إلى مشاريع قادمة ستجاوز بين بين القصيدة والصورة السينمائية.

الخميس، أكتوبر 23، 2008

أربعون كاتباً ومؤلفاً ومنصّة مميزة لجبران



المستقبل
كوليت مرشليان

برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، ممثلاً بوزير الثقافة تمام سلام، افتتح »صالون الكتاب الفرنكوفوني« في دورته الخامسة عشرة في »البيال« في بيروت عند السادسة من مساء أمس بحضور حشد كبير من رجال السياسة والإعلام والصحافة، وبتنظيم مشترك للمعرض هذا العام ما بين »نقابة مستوردي الكتب في لبنان« والسفارة الفرنسية. وقد أخذت النقابة على عاتقها كل التفاصيل، في حين نظّمت السفارة الفرنسية الندوات واللقاءات مع الكتّاب الفرنكوفونيين والفرنسيين الذين يحضرون بدعوة من »مكتب الكتاب« في السفارة.
كما مثّل رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، الوزير ابراهيم شمس الدين، ومثّل رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، النائب نبيل دي فريج، وحضر السفير الفرنسي اندريه باران إلى جانب عدد من المسؤولين والمنظمين للمعرض.
وكانت كلمة لوزير الثقافة تمام سلام بالعربية وبعدها بالفرنسية تناول فيها »القراءة بالفرنسية« التي هي في الطليعة في لبنان بعد العربية، وتحدّث عن القراءة بشكل عام التي يتوجّب تفعيلها بقوة حيث وعد بالتزام وزارة الثقافة هذه المهمة عبر تعزيز القراءة وتأمين التواصل بين كل أطراف صناعة الكتاب في لبنان.
وبعدها كانت جولة للحضور على المنصّات التي تشعّ هذا العام بتنظيم مميّز وجمالية في المكان المعد للزوّار الذين يصلون كل عام إلى حدود المئة ألف زائر.
ويحضر إلى لبنان في هذه المناسبة نحو أربعين كاتباً ومؤلفاً، وأعلن عن لقاءات وندوات مميزة معهم ومن بينهم: لويس غارديل، شارل دانتزيك، اوليفييه بوافر دارفور، الكسندر جاردان، مارك ليفي، فيليب دومينك، دانيال روندو، غيّوم موسو، ماتياس اينار وغيرهم.. وسيشاركون يومياً ما بين 24 تشرين الأول والثاني من تشرين الثاني المقبل في توقيع كتبهم أمام منصّات المعرض.
وسيتم اللقاء معهم في محاضرات في صالة مخصصة للقاءات يومية داخل الصالون، وستكون ثمة احتفالية بموضوع رئيسي وهو »الترجمة العربية« التي كان لها دورها في نشر الآداب الفرنكوفونية والفرنسية.
وفي الصالون واحة ومنصّة مميزتان تكرّمان الأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران وتضم كتبه ومؤلفات عنه، واللافت هذا العام مجموعة كتب جبرانية مترجمة الى الفرنسية وبتواقيع مختلفة أبرزها للمترجمين تييري جيلبوف وكميل ابو صوان وأنيس شاهين وغيرهم.
كذلك يكرّم المعرض الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي رحل منذ بضعة شهور في منصّة خاصة به تضعه أمام الزائر هو ووجه وكتبه وكأنه هنا حاضر بيننا في عناوين وغلافات كتبه. من ناحية ثانية، ستكون »منطقة البحر المتوسط والحوار الأوروبي ـ المتوسطي« نقطة حوار ونقاش أساسي في معظم الندوات المقترحة وذلك لاستكمال الخطوة التي قامت بها الدولة الفرنسية لإطلاق »الاتحاد من أجل المتوسط«.
الدار المكرمة لهذه الدورة هي »دار أكت سود« الفرنسية، وتكريمها عبر عرض كمية هائلة من منشوراتها، خصوصاً تلك التي ترجمت عن أعمال عربية وتحمل هموم وصراعات العالم العربي.

الأحد، أغسطس 31، 2008

أربعينية الشاعر محمود درويش

دعوة عامة
ستقام أربعينية الشاعر الراحل

محمود درويش

يوم السبت الموافق 20.9.2008 على مسرح مكتبة بريزبن العامة .
Brisbane Square
Library (central City)

التجمع الثقافي في ولاية كوينزلاند (ثقافة بلا حدود)
Boundless Culture
Invites you to a
Celebration of the Life and Works
Of
Palestinian Poet and Hero
Mahmoud Darwish
1941 – 2008
Saturday, September 20, 12:00 P.M
Brisbane Square Library (central City) NQG Tiered Theatrette Auditorium
Brisbane Square -266 George Street,
Brisbane QLD 4000

Please call Dina Saleem at 0402743656

or email Dina_saleem@hotmail.com

for program information
Free invitation

الأحد، أغسطس 17، 2008

محمود درويش: فلسفة الموت والانتصار

مفيد نبزو
هل برعمَ البرتقال؟
هل أزهرَ البرتقال؟
سلاماً لك في انطفاء الجسد،
واعتزال الخيال.
أما آن للقلب أن يستريح؟
سلاماً لوجهٍ تحدَّى الرياح..
سلاماً لصوتٍ تحدَّى الجراح..
وقاوم قاوم حتى استعدَّ ،
وآن الأوانُ لتجرعَ كأس المسيح.
سلاماً وأججت نار القصيدة..
وأشعلت كل الدروب..
وأضرمت كل الحرائق..
ونمت على القش بين البيادر..
وعلمتنا كيف نمشي..
وعلمتنا كيف نزهو..
وعلمتنا كيف نشمخ..
وكيف ُتحَّلُ جميع المسائل..
ومن يبذر الأرض قمحاً يغلُّ السنابل..
ومن أدمن القتل لا ينام..
ومن عاقر الإثم لا ينام..
ومن صادر الأمن لا ينام..
وَمِن تحتهِ بَرْكنََ البحرُ موجَهُ بالقنابل.
سلاماً لمحمود كل السلام..
سلاماً وسبعة وسبعون عام..
ومليون زيتونةٍ ليمونةٍ بيَّارةٍ لو أزهرت بالكلام..
لما شرَّدَ البومُ رفَّ الحمام..
سلاماً لمحمود من ميمه الموت مثوى
ومنفى ومسرى..
ومن حائه الحب حرية حمراء..
ومن ميمه الثانية ماء ومغزى ومغمى..
وواو هي الورد والوعد والوداع..
لمحمود فاء الفضاء الفراشات فجر الفداء..
ولام الخليل الجليل العصافير والليل
واللهيب..
وسين السنونو سماء سهول سفوح..
وطاء الطيور الطريق الطويل..
وياء اليمام يطير يطير ويخضورة الينابيع..
ونون النواطير ناي النشيج النحيب النداء:
صبَّارة ٌفي الروح
والشوك موَّالي
صوت المسا مجروح
غير الأسى مالي
يا ربِّ أرسلْ نوح
طوفاننا عالي
باب السما مفتوح
محمود يا غالي.
ودار من الطين مزرابها للمطر
وسطح من القمح والعصافير تنقر حباته..
وله سَّلمٌ من خشب..
لمحمود شتلة التبغ حبل الغسيل، وزيتونة في الرصيف..
وفي مدخل البيت عريشةٌ للعنب..
سلاماً لمحمود شدَّ الرحال إلى أمِّهِ..
ونادت له الأرض لبى النداء..
خذيني إليك وبين يديك..
فموتي وعيشي سواء سواء..
سلاماً لمحمود والموت ليس انهزام..
فمن عَّلم الحرَّ أن لا يموت، ولو مات
يبقى بفلسفة الموت انتصار.

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

شعر : سعيد حيفاوي

" القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير "

هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

" هنالك ورد أقلُّ ُ"

" أنا يوسف يا أبي "

أمامي طقوس ٌ كثار ٌ وليلٌ طويلٌ طويلْ

" أنا يوسف يا أبي "

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين ، من البسطاء ، من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم

وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي ، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بازاحة أمي واخوتي الطيبين

وحولي من الزعماء اناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيب ، غير اني

قليل السذاجة ، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كل الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب !

السبت، أغسطس 16، 2008

إضاءة شموع وفاء لذكرى الشاعر محمود درويش



دينا سليم – أستراليا

قام التجمع الثقافي في مدينة (بريزبن) في ولاية (كوينزلاند) الأسترالية بإضاءة شموع وفاء للشاعر الراحل محمود درويش الذي فارق الحياة في 9\8\2008 في مستشفى (ميموريال هيرمان) في هيوستن الولايات المتحدة، وذلك يوم الخميس المصادف 14\8\ على ضفاف نهر (بريزبن) ويعد المكان المذكور من أهم المناطق السياحية في الولاية وذلك تقربا الى روح الشاعر وحسه الجميل.
شارك بإضاءة الشموع عدد لا بأس به من مثقفي الجالية العربية والأجنبية. وبعد وقفة حداد أضيئت الشموع في حضرة الشاعر الذي غاب عنا، لكن روحه كانت موجودة في المكان. ومن ثم قرأ عدد من الزملاء كلمات تشيد بالمنجز الشعري الذي تركه لنا محمود درويش وتجربته المريرة داخل الوطن وخارجه، وفي كلمة للشاعر العراقي سعد حمزة جاء فيها: ( ... كنت وحدك أيها الجميل في تمردك العالي، علمتنا أن نكون الصعاليك والنبلاء في آن واحد، ودربتنا على ابتسامتك الحقيقية وظلك العالي... كم كنت حزينا، كان مطر عينيك المالح يبلل فطير خبز الجياع، دربتنا على هذا النشيد في عصر أخرس، وصوتك كان متوحدا فينا...)
وجاء في كلمة الكاتبه الفلسطينية دينا سليم: (... وتركتنا نحلم بفنجان قهوة أمك وأنتَ تغزونا بأجمل القصائد، وتقول لنا أنا شاعر أحب الكلمات والكلمات مهنتي، أنا الباحث في أزقة عكا عن روح تألفني، أنا صاحب الحلم الذي تركته على أحد شواطيء وطني.
جعلتنا نتدفأ بقصائدك ليلا وأنتَ في برد المنفى تبحث عن قصيدة تتمدد معك في سريرك...)
ثم قرأت الدكتورة الدكتورة ابتسام الانصاري قصيدة ( أحن لخبز أمي..).
والفنانة التشكيلية رلى مزيان قرأت مقاطعا من قصائد الشاعر المرحوم. وقرأ الفنان التشكيلي جاسم علي قصيدة (أحمد الزعتر)، وقرأ الفنان التشكيلي طالب صبحي بعض الكلمات المرسلة من سائر الولايات الأسترالية، منها: يقول المخرج السينمائي رياض حسن (أداليد) (... وأنا خلف الكاميرا سمعت خبر رحيل الشاعر فبكيت وبكت معي حتى الكاميرا...)، وجاء في كلمة القاص جمال البستاني (سيدني): ( في رحيل درويش خسر الشعر عمود من أعمدته وبذلك يلتحق الشاعر في قوافل الموت جسديا وتبقى روحه الشعرية وتجربته الفذة شاهدة على أبديته، حلّق أيها المسكون بالوجع واسترح من رحلتك المتعبة...)، كما أرسل الشاعر عباس الأزرق (بيرث) كلمة جاء فيها: ( الفواجع كثيرة، لكن بعضها يسلب الأحشاء وبمرارة قاسية، بالدموع المحبوسة نودع قامة من قامات الشعر العربي المعاصر الذي ألهب الأرض والأشجار والزيتون بعبير كلماته وسطر للأرض أسمى آيات الانتماء، انه شاعرنا الكبير ولسوف يظل حيا شامخا بين قوافي الشعر وأهازيج آلامها).
وفي الختام قرر التجمع الثقافي إحياء أربعينية الشاعر في ذات المكان، ومن يحب المشاركة بصورة شخصية أو بإرسال مبادراته نرجو الكتابة لنا على هذا الايميل dina_saleem@hotmail.com


الخميس، أغسطس 14، 2008

بيان (ملتقى الوعد الثقافي) في نعي الشاعر الفلسطيني محمود درويش

أيها الطاووس النبيل

بحُزنٍ طاعنٍ ، و ببُكائيةٍ خانقةٍ نهبُ الوردَ عطركَ ، و نحنُ نهيمُ على جداريّتك/ على قلبكَ البريء من ثورةِ الظلِّ بأفيائك أيها الطاووس النبيييييييل ، هاهُنا أمُّك التي كُنتَ تحنُّ إلى خُبزها ، باتتْ تحِنُّ إلى بقاياك/ كُن شبها لكْ ، كُنْ حاضرا في الغيابِ ، كُنْ حارسَ الموتِ ، و اهزأ مرة ً أخرى من سنينِ الغُربةِ التي فلتتْ من قميصكَ ذاتَ نهارٍ ، و أنتَ تقتلُ التبغ المواربَ قبلَ أن يقتُلَك ، هاهي فلسطين أيضا .... تنعى شبابكَ على دكةِ نائيةٍ في المفترق !

الوطنُ كُلّه :
أجهشَ بالوفاءِ لئلا تسيلَ أقدامكَ على الحافةِ و أنتَ القادمُ المصلوبُ في حنايا أُمّك ، كُن كما أنتَ موجزا في الوشاية أو اترك الشعر وحيدا ، كي تنوء الأبجدية ُ برحيلكَ !

أي شيء ننعى ... فيك ؟!!
قلبكَ المفخخ ُ بالودِّ/الذي أوغلَ في عصيانه ، أم شهامة ُ النّاي في ضلوعِ مرسيل خليفة و هو يلتبسُ مخطوفا بأنينكَ الحافي !

أي شيء ننعى ...
قُمصانُك التي تُدركُ حساسية َ الأرواحِ الشغوفةِ بك ، أم (أثر الفراشة) أم (سريرُ الغريبة) أم (أوراق الزيتون) أم ماذا ؟!!!

أبدااااا
لا يموت النبلاء ، لكنهم يؤثثون وطنا ورديًا في الغياب !

لكَ الحُب يادرويش
لكَ الجنة ُ حتى إشعارٍ آخر
سنفتقدك جدااااااا
أعضاء ملتقى الوعد الثقافي / السعودية
حسين الجفال
محمد الفـــوز
فاضل عمران

الأربعاء، أغسطس 13، 2008

الفلسطينيون يشيعون محمود درويش في رام الله بجنازة رسمية وشعبية

عمان - وكالات
شيع جثمان الشاعر الفلسطيني محمود درويش صباح الأربعاء 13-8-2008 رسميا وشعبيا في رام الله. وتقدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، المشيعون في مقر المقاطعة.ووصل الجثمان على متن مروحية قادما من الأردن، حيث أقيمت له هناك مراسم تأبين، حيث ألقى سلام فياض رئيس الحكومة الفلسطينية وعدد من السياسيين والمفكرين الأردنيين والفلسطينيين كلمات في وداع شارع الثورة الفلسطينية.

أول جنازة رسمية تقيمها السلطة الفلسطينية منذ جنازة عرفات عام 2004
وشارك في الجنازة والدة الراحل التي جاءت على كرسي متحرك. وأقيمت لدرويش جنازة رسمية شبيهة بالمراسم الرسمية والتكريم الذي صاحب الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الى مثواه الاخير. وجنازة درويش هي أول جنازة رسمية تقيمها السلطة الفلسطينية منذ جنازة عرفات عام 2004.وفي بداية المراسم، سجي جثمان درويش داخل مقر المقاطعة، حيث ألقى عباس كلمة تأبين للشاعر الكبير، واعتبر أن يوم رحيله يوما فارقا في تاريخ الثقافة الفلسطينية.وبعد انتهاء مراسم التأبين الرسمية، سارت جنازة شعبية بجثمان الفقيد حيث دفن عند تلة تشرف على القدس.يذكر أن الإمارات العربية المتحدة قامت بنقل جثمان الشاعر الكبير من هيوستن، وخصصت الأردن مروحية لنقله من عمان إلى رام الله. وكانت بلدية رام الله قد بدأت منذ الاثنين في إعداد الموقع الذي سيقام فيه ضريح الشاعر الكبير، إلى جوار قصر الثقافة في البلدية، والذي القى فيه آخر قصائده الجديدة "لاعب النرد" و"محطة قطار سقط عن الخريطة" في يوليو/ تموز الماضي. وقال رجل الأعمال الفلسطيني محمد سقف الحيط، وهو يقف في الموقع الذي سيدفن فيه درويش": "إنه لم يمت لأنه خلف وراءه إرثا من الشعر، إنه باق في قلوبنا"

ثلاثة أيام من الحداد الوطني

وخلال ثلاثة أيام من الحداد الوطني على الشاعر الفلسطيني الكبير، علقت صور درويش في شوارع رام الله، إلى جانب مقولته الشهيرة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".وكان درويش قد جعل من رام الله دارا له منذ عودته في التسيعينيات الى الضفة بعد بقائه في المنفى سنوات طويلة. وتوفي درويش السبت نتيجة مضاعفات عقب جراحة في القلب أجريت له بمستشفى في هيوستون بولاية تكساس الامريكية.وترجمت قصائد درويش الذي نال الكثير من الجوائز، وكان شاهدا على الشتات الفلسطيني وضياع الوطن، إلى أكثر من 20 لغة.كما ترجم العديد من دواوينه الى العبرية، وإن حظرت رسالته الوطنية في الدولة اليهودية، كما ألغيت سريعا خطة لعام 2000 بتدريس أشعاره في المدارس الاسرائيلية. وولد درويش في أراض هي الآن ضمن الأراضي الإسرائيلية، وسجنته إسرائيل عدة مرات لنشاطه السياسي. وغادر درويش عام 1971 للاتحاد السوفيتي السابق ثم تبعتها سنوات منفى قضاها في القاهرة وبيروت وتونس وباريس. وخلال سنواته في الخارج، تدرج الى موقع مرموق في منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة عرفات وعاد الى الضفة في التسعينيات. ثم استقال من المنظمة عام 1993 بعد وقت قصير من توقيع عرفات واسرائيل اتفاقات أوسلو المؤقتة. ويقول أصدقاء درويش انه عارض أوسلو لانها لا ترقى الى مطالب الفلسطينيين بانسحاب إسرائيل من كل الأراضي التي احتلتها في حرب عام 1967 وبحق العودة للاجئين الفلسطينيين.

الاثنين، أغسطس 11، 2008

سميح القاسم يرثي صديقه محمود درويش

مَا مٍن حوارِ مَعك بعدَ الآن.. إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارِ آخر!

سميح القاسم

(إلى محمود درويش)

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟
* * *
عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابلٍ بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ..
* * *
تَخَفَّيْتَ بِالموتِ،
تَكتيكُنا لم يُطِعْ إستراتيجيا انتظارِ العَجَائِبْ
ومَا مِن جيوشٍ. ومَا مِن زُحوفٍ. ومَا مِن حُشودٍ.
ومَا مِن صُفوفٍ. ومَا مِن سَرايا. ومَا مِن كَتائِبْ
ومَا مِن جِوارٍ. ومَا مِن حِوارٍ. ومَا مِن دِيارٍ.
ومَا مِن أقارِبْ
تَخَفَّيْتَ بِالموْتِ. لكنْ تَجَلَّى لِكُلِّ الخلائِقِ
زَحْفُ العَقَارِبْ
يُحاصِرُ أكْفانَنا يا رفيقي ويَغْزو المضَارِبَ تِلْوَ المضارِبْ
ونحنُ مِنَ البَدْوِ. كُنّا بثوبٍ مِنَ الخيشِ. صِرنا
بربطَةِ عُنْقٍ. مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا.
وذُبيانُ تَغزو. وعَبْسٌ تُحارِبْ.
* * *
وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ
وسِرِّ حُضورِكَ مِلءَ غِيابِكْ
وفَتَّشْنَ عمَّا تقولُ الوصيَّهْ
فَهَلْ مِن وَصيَّهْ؟
جُموعُ دُخانٍ وقَشٍّ تُجَلجِلُ في ساحَةِ الموتِ:
أينَ الوصيَّهْ؟
نُريدُ الوصيَّهْ!
ومَا أنتَ كسرى. ولا أنتَ قيصَرْ
لأنَّكَ أعلى وأغلى وأكبَرْ
وأنتَ الوصيَّهْ
وسِرُّ القضيَّهْ
ولكنَّها الجاهليَّهْ
أجلْ يا أخي في عَذابي
وفي مِحْنَتي واغترابي
أتسمَعُني؟ إنَّها الجاهليَّهْ
وَلا شيءَ فيها أَقَلُّ كَثيراً سِوى الوَرْدِ،
والشَّوكُ أَقسى كَثيراً. وأَعتى كَثيراً. وَأكثَرْ
ألا إنَّها يا أخي الجاهليَّهْ
وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوَصيَّهْ
وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ
واللهُ أكبَرْ..
* * *
سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا
وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا
قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ،
نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا
وَلاميّةَ الشّنفرى
وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون
ومُعجزَةَ المتنبّي،
أَلَمْ يصهَر الدَّهرَ قافيةً.. والرَّدَى منبرا
قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت
وشوقَ 7-7-أتاتورك7-7-. هذا الحقيقيّ
شَوقَ أخينا الشّقيّ المشَرَّدْ
لأُمِّ محمَّدْ
وطفلِ العَذابِ 7-7-محمَّد7-7-
وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ
قرأْنا مَعاً مَا كَتَبنا مَعاً وكَتَبنا
لبِروَتنا السَّالِفَهْ
وَرامَتِنا الخائِفَهْ
وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ
لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ
وللأمَّةِ الصَّابرَهْ
وللثورَةِ الزَّاحفَهْ
وَلا شَيءَ. لا شَيءَ إلاّ تَعاويذ أحلامِنا النَّازِفَهْ
وساعاتِنا الواقِفَهْ
وأشلاءَ أوجاعِنا الثَّائِرَهْ
* * *
وَمِن كُلِّ قلبِكَ أنتَ كَتبتُ
وَأنتَ كَتبتَ.. ومِن كُلِّ قلبي
كَتَبْنا لشعْبٍ بأرضٍ.. وأرضٍ بشعبِ
كَتَبْنا بحُبٍّ.. لِحُبِّ
وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشَّاحبَهْ
كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ،
وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ،
وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ،
كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذِبَهْ

وَقُطعانَ أوْباشِها السَّائِبَهْ
كَرِهْنا جنازيرَ دبَّابَةٍ غاصِبَهْ
وأجنحَةَ الطائِراتِ المغيرَةِ والقُوَّةَ الضَّارِبَهْ
كَرِهْنا سَوَاطيرَ جُدرانِهِم في عِظامِ الرّقابِ
وأوتادَهُم في الترابِ وَرَاءَ الترابِ وَرَاءَ الترابِ
يقولونَ للجوِّ والبَرِّ إنّا نُحاولُ للبحْرِ إلقاءَهُم،
يكذبُونْ
وهُم يضحكُونَ بُكاءً مَريراً وَيستعطفونْ
ويلقونَنَا للسَّرابِ
ويلقونَنَا للأفاعِي
ويلقونَنَا للذّئابِ
ويلقونَنَا في الخرابِ
ويلقونَنا في ضَياعِ الضَّياعِ
وتَعلَمُ يا صاحبي. أنتَ تَعلَمْ
بأنَّ جَهَنَّم مَلَّتْ جَهّنَّمْ
وعَافَتْ جَهَنَّمْ
لماذا تموتُ إذاً. ولماذا أعيشُ إذاً. ولماذا
نموتُ. نعيشُ. نموتُ. نموتُ
على هيئَةِ الأُممِ السَّاخِرهْ
وَعُهْرِ ملفَّاتِها الفاجِرَهْ
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..
ومَا كُلُّ هذا الدَّمار وهذا السقوط وهذا العذاب
ومَا كلُّ هذا؟ وهذا؟ وهذا؟
* * *
تذكَّرْ
وقدْ يُسعِفُ اللهُ مَيْتاً بأنْ يتذكَّرَ. لله نحنُ.
فحاول إذن.. وتذكَّرْ
تذكَّرْ رضا الوالِدَهْ
لأُمَّينِ في واحِدَهْ
ونعمةَ كُبَّتِها.. زينة المائِدَهْ
وطُهرَ الرَّغيفِ المقمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يُجيدُ الصّياحْ
ولا يتذمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يضيقُ ولا يتأفَّفُ مِن سَهَرٍ صاخِبٍ للصَّباحْ
تذكَّرْ كَثيراً. ولا تتذكَّرْ
كَثيراً. فبعضُ الحِكاياتِ سُكَّرْ
وكُلُّ الخرافاتِ سُمٌّ مُقَطَّرْ
ونحنُ ضَحايا الخرافاتِ. نحنُ ضَحايا نبوخذ نصّرْ
وأيتام هتلَرْ
ومِن دَمِنا للطُّغاةِ نبيذٌ
ومِن لَحمِنا للغُزاةِ أكاليلُ غارٍ ووردٍ
ومِسْكٌ. وَعَنبَرْ
فَلا تتذكِّرْ

قيوداً وسجناً وعسكَرْ
وبيتاً مُدَمَّرْ
وَليلاً طَويلاً. وَقَهراً ثقيلاً وسَطواً تكرَّرْ
وَلا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ..
* * *
لأنّا صديقانِ في الأرضِ والشّعبِ والعُمرِ والشِّعرِ،
نحنُ صريحانِ في الحبِّ والموتِ.. يوماً غَضِبْتُ عليكَ..
ويوماً غَضِبْتَ عَلَيّ
وَمَا كانَ شَيءٌ لدَيكَ. وَمَا كانَ شَيءٌ لَدَيّ
سِوَى أنّنا مِن تُرابٍ عَصِيّ
وَدَمْعٍ سَخيّ
نَهاراً كَتبْتُ إليكَ. وَليلاً كَتَبْتَ إليّ
وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّ
وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّ
ويومَ احتَفَلْتَ بخمسينَ عاماً مِنَ العُمرِ،
عُمرِ الشَّريدِ الشَّقيّ البَقيّ
ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى
يُعايدُكَ الصَّاحبُ الرَّبَذيّ:
على وَرَقِ السنديانْ
وُلِدْنا صباحاً
لأُمِّ الندى وأبِ الزّعفرانْ

ومتنا مساءً بِلا أبوَينِ.. على بَحرِ غُربتِنا
في زَوارِقَ مِن وَرَقِ السيلوفانْ
على وَرَقِ البَحرِ. لَيلاً.
كَتَبْنا نشيدَ الغَرَقْ
وَعُدْنا احتَرَقْنا بِنارِ مَطالِعِنا
والنّشيدُ احتَرَقْ
بنارِ مَدَامِعِنا
والوَرَقْ
يطيرُ بأجْنِحَةٍ مِن دُخانْ
وهَا نحنُ يا صاحبي. صَفحَتانْ
وَوَجهٌ قديمٌ يُقَلِّبُنا مِن جديدٍ
على صَفَحاتِ كتابِ القَلَقْ
وهَا نحنُ. لا نحنُ. مَيْتٌ وَحَيٌّ. وَحَيٌّ وَمَيْتْ
بَكَى صاحبي7-7-،
على سَطحِ غُربَتِهِ مُستَغيثاً
بَكَى صاحبي7-7-..
وَبَكَى.. وَبَكَيْتْ
على سَطحِ بَيْتْ
ألا ليتَ لَيتْ
ويا ليتَ لَيتْ
وُلِدنا ومتنا على وَرَقِ السنديانْ..
* * *
ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّ
أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي7-7-..
وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي
وقلبُكَ.. قلبي..
* * *
يقولونَ موتُكَ كانَ غريباً.. ووجهُ الغَرابَةِ أنّكَ عِشْتَ
وأنّي أعيشُ. وأنّا نَعيشُ. وتعلَمُ. تَعلَمُ أنّا
حُكِمْنا بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ
وتَعلَمُ تَعْلَمُ أنّا اجترَحْنا الحياةَ
على خطأٍ مَطْبَعِيّ
وتَعلَمُ أنّا تأجَّلَ إعدامُنا ألف مَرَّهْ
لِسَكْرَةِجَلاّدِنا تِلْوَ سَكْرهْ
وللهِ مَجْدُ الأعالي. ونصلُ السَّلام الكلام على الأرضِ..
والناسُ فيهم ـ سِوانا ـ المسَرَّهْ
أنحنُ مِن الناسِ؟ هل نحنُ حقاً مِن الناسِ؟
مَن نحنُ حقاً؟ ومَن نحنُ حَقاً؟ سألْنا لأوّلِ مَرَّهْ
وَآخرِ مَرَّهْ
وَلا يَستَقيمُ السّؤالُ لكي يستَقيمَ الجوابُ. وها نحنُ

نَمكُثُ في حَسْرَةٍ بعدَ حَسْرَهْ
وكُلُّ غَريبٍ يعيشُ على ألفِ حَيْرَهْ
ويحملُ كُلُّ قَتيلٍ على الظَّهرِ قَبرَهْ
ويَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّةِ.. يَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّهْ..
* * *
تُعانقُني أُمُّنا. أُمُّ أحمدَ. في جَزَعٍ مُرهَقٍ بعذابِ
السِّنينْ
وعِبءِ الحنينْ
وَتَفْتَحُ كَفَّينِ واهِنَتَينِ موبِّخَتَينِ. وَتَسأَلُ صارخةً
دُونَ صَوتٍ. وتسألُ أينَ أَخوكَ؟ أَجِبْ. لا تُخبِّئ عَلَيَّ.
أجِبْ أينَ محمود؟ أينَ أخوكَ؟
تُزلزِلُني أُمُّنا بالسّؤالِ؟ فماذا أقولُ لَهَا؟
هَلْ أقولُ مَضَى في الصَّباحِ ليأْخُذَ قَهوَتَهُ بالحليبِ
على سِحرِ أرصِفَةِ الشانزيليزيه. أمْ أدَّعي
أنَّكَ الآن في جَلسَةٍ طارِئَهْ
وَهَلْ أدَّعي أنَّكَ الآن في سَهرَةٍ هادِئهْ
وَهَلْ أُتْقِنُ الزَّعْمَ أنّكَ في موعِدٍ للغَرَامِ،
تُقابِلُ كاتبةً لاجئَهْ
وَهَلْ ستُصَدِّقُ أنّكَ تُلقي قصائِدَكَ الآنَ
في صالَةٍ دافِئَهْ
بأنْفاسِ ألفَينِ مِن مُعجَبيكَ.. وكيفَ أقولُ
أخي راحَ يا أُمَّنا ليَرَى بارِئَهْ..
أخي راحَ يا أُمَّنا والتقى بارِئَهْ..
* * *
إذنْ. أنتَ مُرتَحِلٌ عن دِيارِ الأحبَّةِ. لا بأسَ.
هَا أنتَ مُرتَحِلٌ لدِيارِ الأحبَّةِ. سَلِّمْ عَلَيهِم:
راشد حسين
فدوى طوقان
توفيق زيّاد
إميل توما
مُعين بسيسو
عصام العباسي
ياسر عرفات
إميل حبيبي
الشيخ إمام
أحمد ياسين
سعدالله ونُّوس
كاتب ياسين
جورج حبش
نجيب محفوظ
أبو علي مصطفى
يوسف حنا
ممدوح عدوان
خليل الوزير
نزيه خير
رفائيل ألبرتي
ناجي العلي
إسماعيل شمُّوط
بلند الحيدري
محمد مهدي الجواهري
يانيس ريتسوس
ألكسندر بن
يوسف شاهين
يوسف إدريس
سهيل إدريس
رجاء النقاش
عبد الوهاب البياتي
غسَّان كنفاني
نزار قباني
كَفاني. كَفاني. وكُثرٌ سِواهم. وكُثرٌ فسلِّم عليهم. وسَوفَ
تُقابِلُ في جَنَّةِ الخُلدِ 7-7-سامي7-7-. أخانا الجميلَ الأصيلَ.
وَهلْ يعزِفونَ على العُودِ في جَنَّةِ الخُلْدِ؟ أَحبَبْتَ
سامي مَع العودِ في قَعدَةِ 7-7-العَينِ7-7-.. سامي مَضَى
وَهْوَ في مِثلِ عُمرِكَ.. (67).. لا. لا أُطيقُ العَدَدْ
وأنتُمْ أبَدْ
يضُمُّ الأبَدْ
ويَمْحُو الأبَدْ
وَأَعلَمُ. سوفَ تَعودونَ. ذاتَ صباحٍ جديدٍ تعودُونَ
للدَّار والجار والقدس والشمس. سَوفَ تَعودونَ.
حَياً تَعودُ. وَمَيْتاً تَعودُ. وسَوفَ تَعودون. مَا مِن كَفَنْ
يَليقُ بِنا غيرَ دَمعَةِ أُمٍّ تبلُّ تُرابَ الوَطَنْ
ومَا مِن بِلادٍ تَليقُ بِنا ونَليقُ بِها غير هذي البلادْ
ويوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ
وحُلم المغنّي كِفاحٌ
وموتُ المغنّي جهادُ الجِهادْ..
* * *
إذاً أنتَ مُرتحلٌ عَن دِيارِ الأحِبَّةِ
في زّوْرَقٍ للنجاةِ. على سَطْحِ بحرٍ
أُسمّيهِ يا صاحبي أَدْمُعَكْ
وَلولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً. ولكنْ ببطءٍ..
لكُنتُ زَجَرْتُكَ: خُذني مَعَكْ
وخُذني مَعَكْ
خُذني مَعَكْ..
هامش
عمان ـ موسى برهومة ـ وهذه القصيدة خصّ بها الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم "المستقبل"، وكتبها متدفقة ما إن وافاه خبر رحيل صديقه الشاعر محمود درويش.

محمود درويش كما عرفته


نبيل عودة

في أواخر سنة 1969 ، وكنت حينها أدرس في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو- الاتحاد السوفييتي السابق، وصل لعلمنا ان محمود درويش حصل أخيرا على جواز سفر مؤقت ، لمدة سنة واحدة أو أقل قليلا .. لمغادرة اسرائيل الى موسكو .. الى معهدنا . ( معهد الأحزاب الشيوعية كما كان يعرف ).
هذا الخبر شدني بشكل خاص. كنت أعلم وانا في الوطن ، ان السلطات الاسرائيلية ترفض منحه جواز سفر اسرائيليا ، لأنها لا تعتبره مواطنا ، انما مقيما ، ربما نزل من السماء ، في دولة اسرائيل ، وهذه المشكلة عانى منها الكثير من الفلسطينيين الذين هربوا من التصفيات العرقية في العام 1948 التي كانت تنفذ ضد المواطنين العرب الباقين في وطنهم ، ثم عادوا بعد هدوء الأحداث الى وطنهم ، لاجئين ، مشردين في وطنهم بعد ان هدمت قراهم وصودرت اراضيهم ومنعوا من العودة اليها. وكان الجيش الاسرائيلي غالبا ما يجمعهم ويقذفهم من جديد وراء الحدود نحو الدول العربية . وقد خاض الحزب الشيوعي وقتها ، مع محامي الحزب المرحوم حنا نقارة معركة شعبية بطولية وقانونية لمنع تهجير اللاجئين في وطنهم .. وكثيرا ما منع الشيوعيون الأوائل تهجير اهلنا باجسادهم حين استلقوا امام السيارات المحملة بالفلسطينيين الذين عادوا ولم يتسجلوا في سجلات دولة اسرائيل. واشتهرت هذه المعارك باسم معركة الهويات ، اذ كان الهدف الحصول على هوية زرقاء لمنع التهجير.
قضية الحصول على جوازات سفر ، حتى لمن لا توجد مشكلة حول مواطنته ، أيضا لم تكن سهلة ، وقد عانيت شخصيا من ذلك ، بسبب تسجيلي اني ساسافر للاتحاد السوفييتي ، ولم أحصل على جواز سفري الا بعد أكثر من نصف سنة وتدخل محامي من طرفي .رغم عدم وجود مشكلة " قانونية " حول مواطنتي !!
كنت في بداياتي الأدبية... كاتبا مبتدئا تشده رومانتيكية الأدب ، وكان يومها محمود درويش نجمنا الأدبي الأعلى الذي لا تخلو مهرجاناتنا من قصائده.
كانت قصائد محمود درويش قد بدأت تتحول الى محفوظات وطنية نرددها .. وما زلت أذكر قصيدته ( سجل أنا عربي ) التي ألهبت الجماهير ، في معركة التحدي ضد الحكم العسكري المفروض على العرب في اسرائيل ، حين قررت السلطات انشاء قوائم سوداء ضد "السلبيين " من العرب ، والقصد ضد القوى الشيوعية والوطنية التي تناضل بلا كلل وبطولة ، ضد سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري. وكانت تفرض على هذه القوى الاقامات الجبرية وتحديد التنقل واثبات الوجود في مراكز الشرطة ، وهو ما عانى منه محمود درويش والعشرات من رفاقه لسنوات طويلة. وقد قيدت حرية تنقلي أيضا ولم أكن قد تجاوزت سن العشرين ، والمضحك اني وصلت بتصريح عسكري لا أشك ان محمود درويش وصل بتصريح مثله لمطار اللد ( بن غوريون اليوم ) وسجل تحت الهدف من الوصول للمطار " السفر للاتحاد السوفييتي فقط "وكأنهم يحددون مكان وجودي خارج اسرائيل أيضا، رغم اني سافرت أولا لقبرص ...وقد ُسجلت حتى الطريق التي يجب ان التزم بها للوصول الى المطار مع ملاحظة تمنعني من الدخول للبلدات في الطريق ، ما عدا لمحطات الوقود ... في مثل هذه الظروف نشط محمود درويش وكتب قصائد المقاومة ، في مفهوم التحدي للسلطات العنصرية الغاشمة ،والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني من داخل الوطن المغتصب. وكانت القصيدة أهم من خطاب سياسي ، وخطاب مجند للنضال .. من هنا انا على قناعة تامة ان شعرنا المهرجاني الوطني لعب دورا تثقيفيا وسياسيا هاما لا يمكن مقارنته بأي شعر منصات آخر . لذلك حين تقييم هذا الشعر ، يجب ان نفهم ان حديثنا عن الشعر الوطني أو المهرجاني التقليدي ، له قيمة خاصة في الشعر الفلسطيني الذي كتبه الشعراء العرب الفللسطينيون في اسرائيل . قيمته تتجاوز فنيا أيضا ، كل الشعر الشبيه الآخر الذي كان يغرق فيه الشعر العربي .
كانت المهرجانات الشعرية تتحول الى مهرجانات سياسية نضالية حتى بدون خطابات وشعارات حماسية ... كان الشعر زادا ثوريا ثقافيا للجماهير ، وحين أستعرض واقعنا الثقافي اليوم اصاب بالصدمة ... كم تغيرنا ، كم تراجعنا ، ليس سياسيا فقط ، بل ثقافيا ايضا ... اليوم ندوة شعرية صار عدد الشعراء فيها أكثر من عدد الحضور .. ولكن ذاكرة شعبنا لا تنسى ، حين حضر محمود درويش الى حيفا ، قبل أشهر قليلة ، امتلأت القاعة لتسمعه ، وعدد الذين لم يحظوا بتذكرة دخول للقاعة كان أكبر من عدد الحضور .. حقا كانت أمسية نوستالجيا ( حنين ) أيضا... حنين الى الماضي القريب ، الماضي الطاهر .. كلمة وموقف وشعار وقصيدة.
لم تكن معرفة سابقة شخصية بيني وبين محمود درويش ، رغم اننا كنا من نفس الموقع السياسي ، وكان محررا للمجلة التي اعتبرت فخر ثقافتنا المحلية.مجلة "الجديد" التي تعتبر ايضا من افضل المجلات الثقافية العربية على الأطلاق. ولا ابلغ بالقول ان الجديد كانت جامعة ثقافية لعشرات المثقفين .. وما زلت أعتبر نفسي خريج هذه الجامعة الثقافية ، التي لعبت دورا تقافيا سياسيا هاما ، في كسر دائرة التجهيل بتراثنا العربي ، وكسر عزلنا عن الثقافة العربية .. وتنشئة جيل جديد من المثقفين بعد النكبة .
كنت أعرفه من المنصات ويعرفني من القصص التي ارسلها للنشر في الجديد ... وقد شعرت بتوتر من لحظة اللقاء مع محود درويش وانتظرتها قلقا من طول الدقائق ...
وصل محمود درويش الى موسكو ، ونقلوه كالعادة الى "الداتشا " – قصر للنقاهة في الجبال .. حيث كانت تجرى الفحوصات الطبية لكل الوافدين للمدرسة الحزبية في موسكو.. قبل نقلهم الى الداخلية وبدء برامج التعليم في المعهد.
ذهبنا ، نحن الطلاب – الرفاق العرب من اسرائيل لزيارة محمود درويش ورفاقه في " الداتشا " .. وكانت تلك اول مرة ألتقي به وجها لوجه ، ونتعارف ، ونتبادل التصافح بالأيدي .
راقبت كل حركات محمود درويش لسبب لا أفهمه، ربما لأفهم العلاقة بين هذا الانسان الهادئ الوديع ، الذي اسمه محمود ، وله مظهر الانسان الحالم ... وبين شعره المتفجر بنار الغضب والثورة والجرأة . ربما توقعت ان أرى انسانا حديديا رهيبا لكلماته فعل الرصاص ... ولكني وجدت انسانا حلو المعشر ، حديثه عذب جذاب ، يحب الحياة ، يضحك بطلاقة ، رقيق لأقصى ما تحملة الرقة والدماثة من معنى. له مظهر حالم كما قلت ، وربما حتى بعض الحياء.
هذا هو انطباعي الأول عنه .
وسألت نفسي وقتها : ترى هل وراء هذا الانسان الرقيق الهادئ ، الذي يرعب دولة اسرائيل .. يختبئ أسد متوثب ، مرعب ؟!
هل حقا هذا هو محمود الذي سجن وعانى من الاضطهاد ، والحبس المنزلي وتقييد حرية التنقل لدرجة عدم السماح له بزيارة أهله على بعد نصف ساعة سفر من حيفا؟!
هل هو محمود نفسه ، الرافع لراية شعبه ، المعبر عن مآسيه ، من النكبة حتى مجزرة كفرقاسم الرهيبة ( 50 ضحية ) ومقتل الشباب العرب الخمسة والتنكيل بجثثهم بصورة وحشية ، وغيرها من مآسينا المتواصلة ، مثل مصادرة أراضينا ومنعنا من العودة الى قرانا المهجرة ، وتقييد حرية العمل ؟!
أعرف ان بعض ما أكتبه اليوم يبدو كتابة عن عالم آخر .. مساحة الحرية اليوم واسعة جدا .. القيود تحطمت .. رغم استمرار سياسات التمييز العنصري ، الا اننا أنجزنا بنضالنا مكاسب تبدو اليوم شيئا عاديا لا يحتاج الى تفكير ونضال. ولكن الويل لشعب ما زال مشردا في وطنه وخارج وطنه ، من الاطمئنان لمنجزاته ، واعتبارها أمرا لا عودة عنه ، لأن القوى الفاشية ما زالت تتحين الفرصة للانقضاض على ما انجزناه وما حققناه من قامة مرفوعة .. ما زالت الحية الرقطاء حرة طليقة ... وما زال وجودنا مشروطا باستمرار يقظتنا ، ويقلقني ظن البعض ان التاريخ لم يبدأ الا بهم ، متجاهلين ما أنجزه الشيوعيون والوطنيون الأوائل ، وما دفعوه من ثمن شخصي مأساوي بكل الحسابات. كانت القيادة تعني السجون والملاحقة والنفي ، والمسؤولية عن مصير شعب . واليوم صارت تزعما غبيا وشعارات خاوية من المضمون ، وتحزبات شخصية داخل التنظيم الواحد ، ومكاسب انتهازية شخصانية لا ترى ابعد من انفها. ومظاهر كاذبة ، وتبوؤ الصدارة بشكل يبعث على السخرية والقرف .. حين تعرف ان متبوء الصدارة كان جبانا ، منعزلا ، عميلا لأحزاب صهيونية .. وحين صار النضال مكاسب ومراكز ، ومنافع شخصية ، تغير الوضع ، ولكن شعبنا الطيب يعرف الزؤان من القمح.
هذه الأفكار تراودني اليوم وانا أستعيد ما سجلته عن لقائي الأول بمحمود درويش .
وسالت نفسي أيضا : هل حقا هو محمود نفسه الذي أطلق عليه شعبنا لقب " شاعر النكبة "؟!
قلت كنت في بداياتي ، وكان محمود قد بدأ اسمه يسبقه أينما ذهب.كان العالم العربي منبهرا بشعره وشعر زملائه لدرجة تجاوزت المنطق. . مما جعله يطلق صرخته الشهيرة وقتها ، عبرمجلة الجديد : " انقذونا من هذا الحب القاسي" . كأنها كانت نبوءة لخطر العشق العربي بلا منطق لكل ما ينتجه أدبنا المحلي .
شعرت بالرهبة والارتباك وانا بالقرب منه ، اسما مبتدئا لا يعرف لغة التودد ، ولا أعرف أن أبني علاقات على اساس المنفعة الذاتية ، أو التعلق بسماجة بالآخرين .
بعد الفحوصات وانتهاء الترتيبات المختلفة ، التحق محمود بمعهدنا.
لا أدري كيف ذاب الثلج بيننا ، وكيف استقرت العلاقة الفريدة التي جمعتني به في المعهد .ولكنها لم تستغرق غير اسابيع قليلة على ما اذكر.. حتى استطعت التخلص من ارتباكي والحديث الحر معه ..
سحرتني شخصيته بوداعته التي تبلغ حد الطفولة.ومع ازدياد معرفتي به ، كنت أكتشف أمامي معدنا صلبا نقيا ، انسانا حقيقيا لا تتنازعه الميول الطارئة ، ولا يبني علاقاته الا على اساس الاحترام .
قلت اني لا أذكر تماما كيف تطورت علاقتنا . ولكن الواضح ان وجودنا في نفس بيت الطلبة ، وفي نفس المعهد ، وفي نفس طبقة بيت الطلبة ، وفي فرقة واحدة لا يتعدى أفرادها الثمانية ... جعل المسافة بيننا تتقلص ، واللقاء اليومي بدا يولد تفاهما في الذوق والميول وحب الحياة ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني .. الى جانب معرفتي الجيدة نسبيا باللغة الروسية وبالعاصمة موسكو ومطاعمها الجيدة وحدائقها الجميلة وشوارعها وسائر تفاصيلها ... وقد اكتشفت ان هذا الانسان الحالم لا يحفظ الشوارع بسهولة ، ولا يحب التقيد بنظام بيت الطلبة الذي يحدد ساعات بقائنا خارج المنزل حتى الحادية عشرة مثلا ، حيث كان الحارس للمبنى يغلق الأبواب ومن يتأخر يواجه مشكلة الدخول ، ثم تنبيها وانتقادا .. ألخ. في أول سهراتنا بالخارج أخبرت محمود بهذا التحديد. . فرفضه ضاحكا معبرا عن امنيته التي طالت بقضاء سهراته خارج غرفته لساعات الفجر. ففهمت انه يعني ان هذه فرصة العمر ، فبعد سنة سيعود الى حيفا والى الحبس المنزلي بعد غروب الشمس وحتى شروقها، حسب قانون الطوارئ الانتدابي الذي واصلت اسرائيل فرضه على المواطنين العرب. ولتذهب كل التقييدات الى الجحيم!!
حاولنا ان نحصل على اذن بالبقاء خارج المنزل لوقت أطول ، فلم ننجح ، فوجدنا طريقة لا يمكن ان تفشل ، باهداء الحارس للمبني ، قنينة فودكا كلما شئنا ان لا نعود في الوقت المحدد ... كنا نعلمه مسبقا .. وكان دائما على استعداد للتغاضي عن موعد عودتنا . وهكذا نجحنا في التحرر من قيود النظام .
كان جليا ان متعته الكبرى ان لا يعود للمنزل قبل الفجر.كأنه يقهر شرطة اسرائيل بسهراته حتى الفجر هنا في موسكو.
في موسكو التقى محود درويش بالناقد والمفكر اللبناني حسين مروة ، الذي كان يعد رسالة الدكتوراة في نفس المعهد. والذي اعتبر في وقته ( 1969) محمود درويش كأبرز شاعر عربي معاصر. في مداخلة قدمها في اطار المعهد امام اساتذة وطلاب المعهد .
التقى محمود درويش في موسكو بعدد من ادباء العربية ، بقي في ذهني منهم الكاتب السوري سعيد حورانية ، الذي كان يحرر اسبوعية " انباء موسكو " باللغة العربية ، حيث كنت أنشر قصصا ونشر محمود احد قصائده الجديدة التي كتبها في موسكو ، وأظن انها كانت انتقادا لأنظمة عربية تعاملت معنا كعملاء للصهيونية. كذلك التقى مع الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، و مع الناشر اللبناني ، من دار العودة ، محمد سعيد محمدية ، والأديب اللبناني د. سهيل ادريس صاحب الآداب اللبنانية ، والكاتب اللبناني محمد دكروب ، محرر مجلة "الطريق" اللبنانية وغيرهم تفوتني أسمائهم ... وقد حضر بعضهم الى موسكو بعد انتشار خبر وصول درويش اليها ، خاصة ادريس ومحمدية بهدف الحصول منه على حقوق نشر أعماله ، اذ كان الناشران على خلاف قضائي حول حقوق نشر أعمال درويش في لبنان ، رغم عدم حصول أي منهما رسميا على هذا الحق.
قضيت اكثر من نصف سنة مع محمود درويش ، في لقاء يومي وأحاديث يومية ، للأسف لم أسجل أيا منها ، وبعضها كان يتعلق بأدبنا المحلي ، مشاكله ومشاكل تطويره ، والتجديد في الشعر ، وقد بدات ألمس من وقتها انطلاقة محمود درويش نحو ما بات يعرف في شعره اليوم بالفضاء الانساني العالمي ... خارجا من مرحلة الشعر الوطني التقليدي . وقبلها شعره الغنائي الغزلي بمعظمه ...
لا أقول هذا للتقليل من مرحلة الشعر الوطني ، أو أن محمودا لم يعد يكتب شعرا وطنيا ، ولكن حتى في شعره الوطني بدات ملامح الفكر الانساني الشمولي تأخذ مساحة هامة في كتاباته .
صحيح اني أتحدث عن ذكريات بات عمرها اليوم أربعة عقود ، وقد نشرت بعض تفاصيلها قبل عقدين من الزمن ، وهي التي أعتمدتها في هذه المراجعة ..
في موسكو كتبت عدة قصص جديدة ، كان محمود أول قارئ لقصصي ، وعدلت بعضها حسب ملاحظاته ، وأذكر انه تحدث بايجابية مع حسين مروة حول كتابتي القصصية ، لدرجة جعلت حسين مروة يطلب مني مجموعة لينشرها في لبنان ، كذلك لجريدة الأخبار ومجلة الطريق التي يصدرهما الحزب الشيوعي اللبناني.
لسبب لا أفهمه اليوم ، لم أستغل الفرصة لنشر أعمالي في مجموعة قصصية في لبنان . ربما خوف المبتدئ ومسؤوليته سيطرت علي . وقد حثني حقا محمود درويش بأن استجيب لطلب حسين مروة ، وعشت ترددي ، وأعتقد اني ارتكبت أكبر خطأ ثقافي بعدم استغلال الفرصة التي فتحت أمامي ، لم أفهم هذا الأمر الا بعد عودتي للوطن ، وظواهر التجاهل المهين لنا نحن الأدباء الشباب . من حزبنا وحركتنا النقدية ... وطال الوقت حتى نجحت بعد جهود غير سهلة ، شخصية ومادية ' من اصدار أول مجمعة قصصية ، وقد جاء اصدارها مهين من ناحية الطباعة والمنتجة والغلاف، وخسارة عشرين عاما كاملة .
في ذكرياتي عن لقائي بمحمود درويش تختلط امور كثيرة .. هناك ما أعتبره من المسائل الذاتية جدا التي لا أحب الخوض فيها.
عندما سمعت ، بعد عودتي بشهر أو أكثر محمود درويش يعلن عبر اذاعة القاهرة ( 1970) انتقاله لموقع آخر ، حزنت وفرحت في نفس الوقت. حزنت لفقداننا هذا الركن الهام في شعرنا المحلي ، وفرحت لإنطلاقة النسر من أسره. بنفس الوقت لم أتفاجأ من خطوته. ربما يصعب علي تفسير ذلك ، ولن أحاول تفسير خطوته التي لم تفاجئني.لأنها قد تحمل الكثير من باب التأويل ، وهذا لا أحب التطرق اليه ، لأني اذا لمست بعضه ، فذلك بسبب قربي الشخصي من محمود في تلك الفترة. وهي تقع في باب ذاتي وموقف محمود بأني أهل للثقة .
كتبت النص الأول عن لقائي مع محمود قبل عشرين سنة ، وبعد عشرين سنة من ذلك التعارف الذي جعلني أفهم الأدب أكثر من مجرد أسم في جريدة .. او نص لغوي جميل ... وبلا شك ان وجود محمود درويش في نفس المعهد ، وما أثاره وصوله الى موسكو في وقته من أهتمام واسع ، حفزني على المزيد من الابداع ، ومن جعل الابداع والفكر والنشاط الثقافي عامة مبدأ ومنهجا لحياتي . وكان الطلاب العرب يتساءلون عن مكان درويش في موسكو ، وكثيرا ما عرفوه في الشوارع ونادوه باسمه ليحيوه بحب وتقدير ما رايت مثله في حياتي.

الانعكاس الأساسي علي انه جعلني أفهم الأدب كالتزام واع بقضايا الناس وتطلعاتهم ، وان الوطني حقا هو انساني بالمقام الأول أيضا.
اليوم حين أنظر لخارطة العالم العربي الثقافية ، وارى المكانة المرموقة لمحمود درويش ، ودوره الطليعي في خريطة الشعر العربي ، واسمه الذي صار عنوانا لقضية ، وطنية وانسانية في نفس الوقت ، أفكر وأقول لنفسي : الا تبدو كتابتي عنه نوعا من التزلف والتفاخر الأجوف؟!
ليس من طبيعتي شيء من ذلك .ولكنها حقيقة أفخر بها وأعتز بها .
اليوم حين نودع سنديانتا الشعرية .. وحلمنا ونموذجنا الأعلى ... أشعر كم سنبقى مقصرين ، بحق الانسان والشاعر .. المتألم لآلام شعبه ، والذي ترك في نفس كل واحد منا شيئا من ذاته .شيئا من طهارته. شيئا من انسانيته وشيئا من تحديه ...
سيبقى محمود درويش علامة فاصلة لشعرنا ، لثقافتنا ، لانسانيتنا ، ولقدرتنا على مواصلة الابداع .. ومواصلة التحدي والنضال لتحقيق الحلم الكبير لمحمود ولشعب محمود ، باقامة دولة فلسطين الدمقراطية ، بيتا دافئا للشعب الفلسطيني ، ويكفي فخرا لشعب فلسطين شاعرهم القومي الانساني ، الذي صار اسمه مرادفا لما هو جميل وراق في الأدب العربي والعالمي كله.
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

الى اللقاء يا ابن فلسطين … الى اللقاء يا محمود


تنعى اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المناضل والقائد السياسي والشاعر الإنساني المبدع محمود درويش ، ابن فلسطين وحامل قضية شعبها التحررية والإنسانية .
والذي تتلمذ على أشعاره ، وحفظها عن ظهر قلب أجيال من أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية .
المناضل وعضو اللجنة التنفيذية والشاعر الذي قال : "سجل أنا عربي … ووطني ليس حقيبة"، والمئات من القصائد التي سجلت الذاكرة الفلسطينية وحفظتها ، ومجدت الوطن والشعب والنضال من اجل الحرية ، وأعلت من شان الإنسان .
احمد الزعتر الذي تغنى بخبز أمه ، ولم يقلقه حالته بقدر حزنه على دمع أمه.
الراحل الكبير محمود درويش يا ابن البروة المهجرة ، أنت من رفض لنفسه ولشعبه الخروج من الجغرافيا أو من التاريخ وقلت : " على هذه الأرض ما يستحق الحياة ، كانت تسمى فلسطين ، صارت تسمى فلسطين ."
إننا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، نعزي أنفسنا وعائلة الفقيد الراحل . وننعي لأبناء شعبنا وامتنا وكل محبيه رحيله المفجع .
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

الأحد، أغسطس 10، 2008

تشييع محمود درويش من رام الله وتفكير في تخليده بنصب تذكاري


رام الله (الضفة الغربية) - رويترز

العربية نت
ينظم الفلسطينيون جنازة رسمية الثلاثاء القادم للشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي توفي بعد جراحة أجريت له في مستشفى بالولايات المتحدة، وفقا لتصريحات وزيرة الثقافة الفلسطينية تهاني أبو دقة الأحد 10-8-2008. وقالت الوزيرة الفلسطينية إن الجنازة ستكون، على الأرجح، الأكبر منذ وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 2004، وستقام في مدينة رام الله بالضفة الغربية حيث مقر السلطة الفلسطينية. وذكر مسؤول آخر أن السلطات تعتزم إقامة نصب تذكاري عند قبر درويش يخلد أعماله وتمثالا له.

وتوفي الشاعر (67 عاما) أمس السبت بعد مضاعفات عقب خضوعه لجراحة في القلب في مستشفى بولاية تكساس الأمريكية. وأعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحداد العام لمدة ثلاثة أيام، وتجمع فلسطينيون مساء الجمعة في شوارع رام الله في الظلام وهم يحملون الشموع ويبكون.

وكان درويش جعل من مدينة رام الله مقرا له منذ عودته في التسعينيات من المنفى. وتوفي درويش بعد وضعه على أجهزة التنفس الاصطناعي ليومين، في محاولة لمواجهة مضاعفات عملية القلب المفتوح التي خضع لها الأربعاء.

وقال طبيب الشاعر، عبد العزيز الشيباني، إن قرارا اتخذ بالتشاور بين الأطباء وأسرة الشاعر الكبير بنزع أجهزة الإعاشة عنه بعد أن تبين استحالة عودة وظائفه الحيوية إلى طبيعتها.وخضع الشاعر الفلسطيني للجراحة على أيدي الجراح العراقي حازم صافي، الذي يعتبر من أمهر الاختصاصيين في هذا المضمار.

وذكرت صحيفة "الأيام" الفلسطينية أن العملية تضمنت إصلاح ما يقارب 26 سنتيمترا من الشريان الأبهر (الأورطي) الذي تعرض لتوسع شديد تجاوز درجة الأمان الطبيعية المقبولة طبيا.

ويعتبر درويش أحد أهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين، الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن، وبين أبرز من ساهموا بتطوير الشعر العربي الحديث الذي مزج شعر الحب بالوطن.وقام درويش بكتابة إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي تم إعلانه في الجزائر عام 1988.

السبت، أغسطس 09، 2008

وفاة الشاعر محمود درويش


بي بي سي

"روى بالكلمة قصة شعب وقضية وأمة"
نعى الرئيس الفلسطينى محمود عباس الشاعر محمود درويش الذي توفي بعد إجراء جراحة في القلب بالولايات المتحدة.
وقال عباس في نعيه: خسرت الأمة العربية شاعرا كبيرا روى بالكلمة قصة شعب وقضية وأمة.
وأعلن الرئيس الفلسطيني حدادا شاملا فى كافة الأراضي الفلسطينية مدة ثلاثة أيام، تنكس خلالها الأعلام فيما انطلقت مسيرة شموع فى وسط مدينة رام الله حدادا على روح الفقيد.
وكان الشاعر الفلسطيني الذي توفي عن 67 عاما قد خضع صباح الاربعاء الماضي لعملية قلب مفتوح لعلاج أحد الشرايين الذي تعرض لتضخم خطير، أجريت له في مستشفى " ميموريال هيرمان" الامريكي في هيوستن بولاية تكساس.
ووضع إثر العملية على جهاز تنفس صناعي إثر مضاعفات نجمت عن العملية. "سجل"
ولد درويش عام 1941 في قرية البروة قضاء عكا.
وبعد أن تعرضت للتدمير عام 1948، هاجر مع أسرته الى لبنان قبل العودة للعيش في الجليل.
أجبر على مغادرة موطنه مرة أخرى في سبعينيات القرن الماضي بعد أن اعتقل عدة مرات قبل أن يعود على أثر التوقيع على اتفاقيات سلام أوسلو عام 1993، ولكن لفترات محدودة وبهدف زيارات شخصية.
وكان عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي حين غادر للدراسة في الاتحاد السوفيتي السابق، ثم انضم بعد ذلك إلى منظمة التحرير الفلسطينية وصار مسؤولا عن الدائرة الثقافية وعاش متنقلا بين عدة دول عربية. ثم استقال من منظمة التحرير احتجاجا على اتفاقات أوسلو في عام 1993.
ويعتبر درويش واحدا من اهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين امتزج شعرهم بحب الوطن والحبيبة وترجمت اعماله الى ما يقرب من 22 لغة وحصل على العديد من الجوائز العربية العالمية منها جائزة ابن سينا، وجائزة لينين للسلام
وتحولت بعض قصائده، التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، إلى شعارات سياسية وأغاني للفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الشتات وأشهرها قصيدة بطاقة هوية التي يقول مطلعها " سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفا"، وقصائد "يوميات جرح فلسطيني" و "إلى أمي" و "أحمد الزعتر".

الخميس، نوفمبر 15، 2007

بين "حكاية" يوسف رزوقة و"صرخة" محمود درويش




ناجية بوبكر / تونس
ناقد على أرض محايدة

أثناء تصفّح بعض المواقع ذات الصّلة بالإبداع الأدبيّ، استرعى انتباهي تعليق خاطف على مسألة تخصّ " التقاء شاعرين، وهما يكتبان قصيدتها، في تقنية واحدة" وممّا جاء في التّعليق: "لعلّه من باب التّخاطر أن يلتقي شاعران في شرك التّقنية نفسها سواء على صعيد معمار المعالجة الفنية أو في مستوى النسق الإيقاعي لقصيدة كل واحد منهما إلى جانب ما ينتظم هذه القصيدة وتلك من قواسم مشتركة مضمونا وروحا تبدو خاصّة في تسويغ الأسلوب الحكائيّ، شعريّا حيث تتناسل الجملة الشعرية من نظيرتها السّابقة على نحو سرديّ، يضفي على المقول الشّعريّ وبما انطوى عليه من انزياح هو من خصائص الشّاعرين، يضفي عليه أكثر من ظلّ إيحائيّ يستدعي التّأويل مدخلا للقصيدتين. لعلّه من باب التّخاطر الشعريّ ( ولا نقول التّناصّ فشاعرنا هنا لا تعوزه الكلمة ومفاتيحها في مسيرة عمر شعريّ بأكمله) أن تلتقي قصيدة محمود درويش " البنت / الصرخة" الواردة في "يوميّات" التي كتبها درويش في رام الله / تموز 2006 مع قصيدة " الحكاية" ليوسف رزوقة، نشرت بديوانه "بلاد ما بين اليدين" الصّادر عن الإتحاف، تونس 2001
يقول يوسف رزوقة في "الحكاية" : في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء / وفصل الشّتاء / على قاب قوسين أو لست أدري من الجسم / والجسم يهفو/ إلى ما به يصبح الجسم فجرا / وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود المغنّي إلى غابة/ ليرى ما يرى:/ حفرا وينابيع فادحة وقبابا / وعشبا عظيما وأشياء أخرى / وبابا / فلا يملك الذّئب إلاّ عواء/ على صخرة في خلاء اللّغه.
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / ولا بيت لي في الحكاية ../ ما دام في البيت صمت / وفي الصّمت غار/ وفي الغار نار/ وفي الّنار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيله/ يثور هنا و..هناك غبار/ وقبل اشتعال الفتيل/ - كما في الحكاية إلاّ قليلا -/تسافر روح القتيله. ( انظر قصيدة: الحكاية، بلاد ما بين اليدين،دار الإتحاف،تونس 2001 ).
في حين يقول محمود درويش في"البنت / الصّرخة": على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهل / وللأهل بيتٌ / وللبيت نافذتانِ وبابْ / وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ / على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ / يسقطون على الرمل والبنتُ تنجو قليلاً / لأنَّ يداً من ضبابْ / يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي / يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا / لم يُجِبْها أَبوها المُسَجَّى على ظلِّهِ / في مهبِّ الغِيابْ / دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ / يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية،/ لا صدى للصدى / فتصير هي الصَرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ عاجل / لم يعد خبراً عاجلاً عندما عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ. ( انظر قصيدة: البنت / الصّرخة، يوميّات، رام الله، تموز 2006).
خارج المدح، خارج القدح:
ما حفزني على تحبير هذا المقال هو الأسلوب النّقديّ الهادئ الّذي عولج به مثل هذا "الالتقاء التخاطريّ، إن جاز التّعبير، بين شاعرين" فلم تعقبه، كما حدث مثلا بين إبراهيم نصر الله وسعدي يوسف، شوشرة تزيّنها شهوة تشويهيّة لرمز من رموز الشّعر العربيّ الحديث بل اكتفى البعض من نقّادنا بالإشارة عرضا إلى هذا التخاطر ، بتنزيله في سياق عهدناه في منهاج الأدب المقارن.
نسوق على سبيل المثال ما كتبه في هذا السياق الناقد والشّاعر العراقيّ علي حسن الفواز تحت عنوان" خيانة الذّاكرة أم تلاقي المجسّات؟"، فأورد رأيه الموضوعيّ، وفق المقاربة التالية للقصيدتين، يقول: "تحت يافطة اختلاط ما يمكنه أن تصنعه الذاكرة من اشتباكات وتلاق في التخاطرات والحوافر، نحاول ان نلقي الضوء على قصيدتين لشاعرين مهمّين في مشهدنا الشعري العربيّ هما محمود درويش ويوسف رزوقة، اذ تعمد هذه المحاولة إلى مقاربة شهوة التخاطر !! و التناص أو التحافر بين القصيدتين !! وهل أن هذه الشهوة ومولداتها هي التي جعلت هذين الشاعرين يشتركان في قماشة شعرية/ صورية متقاربة وتركيب تفعيلي يهدج بالغناء رغم اختلاف زمن كتابتهما !...
القصيدتان تثيران فينا النزوع إلى وقع كتابة بصرية لها التماهي في التشكيل والمناخ وكثافة جريان الشعر المخفي بسردية الحكاية ، تفتحان لنا فضاء للتأويل ومراودة في الكشف عمّا بعد هذه الكتابة البصرية / الشعرية، فضلا عن حساسية الشاعرين إزاء كتابة نصين يوظفان تقنية التوالي واللذين يبدوان وكأنهما يشتركان في محاولة تجلية الجوهر الحرّ الذي تجسده الرغبة في الإمساك بالسرّ الخفيّ الذي تشي به روح القتيلة والصرخة الأبدية) ...
القصيدتان تبدآن باستهلال حكواتي بحرف الجر (في) و (على) والذي يفضي إلى ( زمن موحش) يشتركان في تجنيسه المكاني الشكلي ، لكنهما يختلفان في خاصية التلمس، رزوقة هو الأقرب إلى الصوفي الباحث عن سرّه العرفانيّ الذي يبدأ من ظاهر الحكاية إلى باطنها المغلول إلى لذة الكشف عن التورية والمعنى وتوالي ما توحيه هذه اللذة من استغراقات لغوية/ استعارية باهرة ومكثفة. درويش يمارس لعبة المحترف الذي يسحب النص من سرده الحكواتي ، الى كتابته التأمليّة التي لا تنزع إلى الفضاء الصوفي قدر نزوعها إلى المتن المرجعي الأثير ( فضاؤه الفلسطيني ) الذي يعيد إنتاجه عبر صيغة التوالي الحكائي ، وهذا ما يجعل درويش الأقرب إلى الإنحاء على نموذجه (البنت) باعتبارها موّلد الحدث وشفرته في الكشف عن يوميات الفلسطينيّ التائه والمكشوف لاصطياد البارجات والمغلول إلى أمكنته القديمة / الأليفة في آن معا.... وإزاء هذا، فان المتن الذي تنزاح إليه القصيدتان مختلف إلى حدّ ما ويعمد إلى توظيف مرجعيات متباينة رغم استخدام نص الحكاية وثيمة التوالي، اذ نجد نزعة الرائي الكاشف الساحر عند رزوقة بكل استدعاءاتها التي ينحني عليها الشاعر ساردا ومتأملا رؤيويا و كاشفا وتلك أغلب مجسات رزوقة في التعاطي مع المقول الشعريّ الذي يجعل من القماشة اللغوية / الشعرية جسدا متوترا يمور بالسيولة المكثفة التي تنداح فيها التوليدات الصورية كمقابل رمزي للبنية السردية للحكاية ، وأعتقد أن هذه المعالجة الشعرية لسردية المعنى تؤشر حيوية (الشعريّ) في تجربته المميزة في الشعر التونسي والعربي إذ هو شاعر تصويري ، يشحذ من اللغة توهجها العميق ويتركها في نوبة من الجريان الباهي . النص رغم كثافته، فهو يحتشد باشتباك المعاني والدلالات، النزوع من الكتابة السرانية الى المقول الشعري ،هي ذاتها الكتابة التعويضية المتعالية التي ترمم الفراغ والبحث عن السر الذي لا يمكن الإمساك به، وكأنه سر كلكامش أو شفرته التي تجعل الشاعر راحلا في ( أوديسات ) متعددة وشاقة ..
شعرية هذه القصيدة تكمن في تركيبها البنائي الذي ينكشف على بنية تصويرية عميقة ، تجعل من الشاعر أركولوجيا في المعنى وفي اللغة وصانعا أيضا لذاكرة مكان افتراضي فيه (البيت / البنت / فصل الشتاء/ الجسر/ الذئب / الغابة / النار/ القباب) وهذه كلها محمولات شفروية لانزياح شعري، يمنح الحكاية/ دالة السرد إيقاعا خاصا له جمله وأصواته التي تجعل من البناء التفعيلي يلتقي مع البناء السردي في توليفة مشدودة متواترة وكأنها تشي بنص توليدي له روح الأنوثة وهي تمارس إغواء العرض والكشف عن العري اللغوي الذي يقود نص اللذة عبر نص التوالي :
في الحكاية بيت وفي البيت بنت / وفي البنت باء ونون وتاء../ وللفجر جسر/ وللجسر سحر/ يقود الى غابة / ليرى ما يرى (...)/ ما دام في البيت صمت / وفي الصمت غار/ وفي الغار نار/ وفي النار قلب / وفي القلب قنبلة وقبيلة..
ان قصيدة يوسف رزوقه مكتوبة تحت هاجس الرؤيا الذي يختلط فيه السرد المفضي إلى تبئير الشعر مع النزوع العرفاني الذي تصنعه تلك الرؤيا، رؤيا العارف ، ورؤيا الرائي الذي ينزع أغطية السر عن جسد اللغة / المعنى ليكشف جوهر المعنى / جوهر القلب ولا شك أن هذا الهاجس يظل هو الأقرب في مقاربة ما تصنعه اللغة وما يصنعه العواء كبنية انزياح، إذ تتحول الشفرة السردية إلى مولدة للاستعارات مثلما تتحول إلى نداء استحضار تعويضي يوازي ما تصنعه الحكاية من توال سردي ينتهي يقوم على تقابلات بنائية تبدأ بإشارة حضورية قوية ( في الحكاية بيت وفي البيت بنت وفي البنت باء وتاء ونون) وتنتهي بحضور مضاد لفعل الموت، وهذا الحضور/ التقابلي هو نوع من الحلول الذي أراد الشاعر أن يترك خلفه الفراغ الموحي للدلالات أو ما يمكنه أن يصنعه الانزياح كبنية في المقول الشعري..
وفي قصيدة محمود درويش ( البنت/ الصرخة) الواردة في اليوميات 2006، نجد ثمة بنية سردية /تكوينية متقاربة إلى حد ما !!! رغم أن درويش أعطى لهذه البنية نزوعا أقرب إلى الواقع منها إلى الإيهام ، فالبنت!! مفردة طالما تتكرر في نصوص درويش، لكن السياق الذي اعتمده درويش التقى (في الاستهلال) مع السياق الذي استخدمه رزوقة في قصيدته (الصرخة) والتي كتبها عام 2001 في مجموعته بلاد ما بين اليدين، دار الاتحاف تونس .. وهذا التلاقي يقع في إطار ما يمكن أن تبثه الذاكراة من إغواءات وتقاربات، ليس في إطار التراسل أو التخاطر حسب وإنما في إطار التلذذ بما قد يبتكره الآخرون ،،، اذ ليس كل ما يكتب في الشعر هو ابتكار خالص وصناعة لغوية لا مرجعية تشكلية وبنائية ولا حتى استعارية لها !!!
على شاطىء البحر بنت، وللبنت أهل/ وللأهل بيت / وللبيت نافذتان وباب / وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة / على شاطىء البحر أربعة، خمسة ، سبعة / على الرمل والبنت تنجو قليلا / لأن يدا من ضباب / يدا ما إلهية أسعفتها فنادت أبي.
إن شاعرا بحجم محمود درويش صاحب السيولة اللغوية المعروفة،لا أ ظنه يحتاج لتقليب أوراق الذاكرة أو النبش في صناديقها السرية بحثا عن ثيمة حكواتية ،، فهذا الشاعر اعتاد أن يغني لوحده ،وربما يصنع لقصيدته مزاج العاشق والمريد، إذ هو شاعر (صنايعي) بامتياز ، في قصيدته تنفرش الحكاية دائما وكأنه لم يتخلص من ذاكرة الراوي الفلسطيني السريّ الذي يلامس جوهر المعنى، يحرض على إثارة شهوة القراءة عبر استخدام تقنيات الحضور والغياب ، التلاقي والافتراق!!، التوتر والاسترخاء، وهو عبر كل هذا، شاعر استعادات، استعادة التعامل مع رموزه، أمكنته، تفاصيله، روائحه، شخوصه( البنات،الأمهات ، الآباء)
وأعتقد أنه في هذه القصيدة (على افتراض) التلاقي والتخاطر!! كان في المقطع الثالث تأمليا في لحظة طاعنة بتضاد الواقع المرعب ( تتسلى.. بصيد المشاة) عاد بعدها في مقاطعه الأخرى إلى تدفقه وانثيالاته .....
إن قصيدتي الشاعرين (يوسف رزوقه ومحمود درويش) وما يمكن إن تثيراه لدى البعض من أسئلة أو إشكالات في (التناص والتراسل) كما يقصدها البعض !! تكشف في حقيقية عن حساسية الشعرية العربية المفرطة إزاء قماشة لغوية كثر التداول فيها !!مثلما تكشف عن الكثير من اشتباكات (الذاكرة الشعرية) وان حدود انزياحاتها في التجريب وفي اعتماد التقنيات السرد كمحركات للمقول الشعري تظل محدودة مهما اتسعت وتنوعت !! بحكم تلك الحساسية المفرطة ...
أعتقد أن الشاعرين يملكان مجسات دقيقة في التقاط ما يبثه الشعريّ من حيوات سرية ومن تشكلات عميقة ومتوالدة ولا يمكن أن تلتقطها إلاّ الخفقة الشعرية المسكونة بالإغواء والمراودة والافتراس..."لقد عالج هنا علي حسن الفواز ما توارد من خواطر تيمية أو تقنية بين درويش ورزوقة بعين ناقدة ومنصفة، في غير تهويل منه أو تشهير فسوّغ اشتباك الشّاعرين في نقطة ما، بالاحتكام إلى خلفيّة كل واحد منهما في المقول الشّعريّ الذي قد يعكسه التثاقف، عبر الذّاكرة، بشكل أو بآخر ليشتبك أكثر من ظل على أرض البياض.