يوسف الغازي
نشرت صحيفة "زو هديرخ" الأسبوعية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العبرية، حديثاً صحفياً طويلاً مع محرر مجلة "الجديد" الشاعر محمود درويش ، في عددها الصادر في 19-11-1969 . كان الحديث أول لقاء مباشر بين محمود درويش والقارئ العبري ، وقد تناول عدة جوانب من حياة الشاعر وقضيته ، وخاصة ما يتعلق بالعلاقات العربية-اليهودية. أجرى الحديث الصحفي المحرر في "زو هديرخ" يوسف ألغازي ، ونشره بطريقة "مونولوج" . وفيما يلي ننشر ترجمة هذا الحديث الذي نشرته "الجديد", حيفا, العدد 11, نوفمبر تشرين الثاني 1969 :
تعرفت على محمود درويش ، لأول مرة ، عندما كان يلقي من شعره أمام الجمهور . آنئذ كان يلقي قصيدته التي تحولت ، في نظري ، إلى بطاقته الشخصية "سجّل : أنا عربي" . لقد هز محمود النحيل جمهور المستمعين وأثاره ، وحوله إلى موجة عارمة تحطم السدود . أي تناقض بين الاثنين : القصيدة والمبدع !. لقد جاء التناقض من الكلمات التي خرجت من فم محمود . آنئذ أصبح محمود درويش شاعر الشعب العربي الفلسطيني . تُرجمت قصائده إلى اللغات : الفرنسية ، والانجليزية والروسية ، والإيطالية ، والبلغارية . ولكنها لم تترجم إلى اللغة العبرية . وأصبحت مجموعاته الشعرية من أكثر الكتب مبيعاً ، لا في إسرائيل فحسب ، بل في البلدان العربية أيضاً .
قبل عدة أيام أطلق سراحه من سجنه الرابع . لماذا اعتقل وسجن ؟ إن محمود درويش وشعره شوكة في عيون السلطة لقد قررت تقديم محمود درويش إلى القارئ العبري بكلماته . ولذلك، فإني أنشر بصورة مونولوج ، الأشياء التي قالها في حوار ليلي جرى بيننا بعد إطلاق سراحه من السجن بثلاثة أيام .
هذا هو محمود درويش :
- أذكر نفسي عندما كان عمري ست سنوات . كنت أقيم في قرية جميلة وهادئة هي قرية البروة الواقعة على هضبة خضراء ، ينبسط أمامها سهل عكا . وكنت أبنا لأسرة متوسطة الحال عاشت من الزراعة .
عندما بلغت السابعة ، توقفت ألعاب الطفولة . وإني أذكر كيف حدث ذلك.. أذكر ذلك تماماً : في إحدى ليالي الصيف ، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل ، أيقظتني أمي من نومي فجأة ، فوجدت نفسي مع مئات سكان القرية أعدو في الغابة . كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا ، ولم أفهم شيئاً مما يجري . بعد ليلة من التشرد والهروب وصلت مع أحد أقاربي الضائعين في كل الجهات ، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين . تساءلت بسذاجة : أين أنا ؟ وسمعت للمرة الأولى كلمة "لبنان" .
يخيل لي أن تلك الليلة وضعت حداً لطفولتي بمنتهى العنف . فالطفولة الخالية من المتاعب – انتهت . وأحسست فجأة أني أنتمي إلى الكبار . توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب . منذ تلك الأيام التي عشت فيها في لبنان لم أنس ، ولن أنسى إلى الأبد ، تعرفي على الجبنة الصفراء.. هذا "المصطلح" الذي عرفني على كلمة الوطن . فلأول مرة وبدون استعداد سابق كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث . كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء . وهنا استمعت ، لأول مرة ، إلى كلمات جديدة : فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد : الوطن، الحرب ، الأخبار ، اللاجئون ، الجيش ، الحدود ، وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرف على عالم جديد ، على وضع جديد.. حرمني طفولتي .
بعد أكثر من سنة ، عشت خلالها حياة لاجئ ، أبلغوني ذات ليلة أننا سنعود غداً إلى البيت . أذكر جيداً أني لم أنم في تلك الليلة.. لم أنم من شدة الفرح . فالعودة إلى البيت تعني – بالنسبة لي – نهاية الجبنة الصفراء ، نهاية تحرشات الأولاد اللبنانيين الذين كانوا يشتمونني بكلمة "لاجئ" المهينة .
.. وخرجت إلى رحلة العودة . كان الظلام مخيماً على كل شيء . وكنا ثلاثة : أنا وعمي والدليل الذي كان يعرف مجاهل الدروب في الجبال وفي الوديان . إني أذكر الزحف على البطون لكي لا يرانا أحد . وبعد رحلة مضنية ، وجدت نفسي في إحدى القرى . ولكن ما أشد خيبة أملي : لقد وصلنا إلى قرية دير الأسد ، وهي ليست قريتي . لا بيتي هناك ولا زقاقي . سألت متى نعود إلى قريتنا.. إلى منزلنا . ولم تكن الأجوبة مقنعة . ولم أفهم شيئاً.. لم أفهم معنى أن تكون القرية مهدمة.. لم أفهم.. معنى أن يكون عالمي الخاص قد انتهى إلى غير رجعة . لم أفهم لماذا هدموا هذا العالم.. ولماذا هدموه.. ومن هم أولئك الذين هدموه !.
ورويداً رويداً اعتدت على حياة الكبار ، وقضايا الكبار . واتضح لي – بمنتهى خيبة الأمل ، أني لم أعد إلى منبع الأحلام ، لم أعد إلى زقاق الطفولة . كل ما في الأمر هو أن اللاجئ قد استبدل عنوانه بعنوان جديد . كنت لاجئاً في لبنان ، وأنا الآن لاجئ في بلادي . والآن ، عندما أتحدث إليك ، وأنا في الثامنة والعشرين من العمر ، فإنني قادر على تقويم تلك الفترة . إذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى وبين أن تكون لاجئاً في الوطن ، وقد خبرت النوعين من اللجوء ، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية . العذاب في المنفى ، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود – شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي . ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك – فلا مبرر لذلك ، ولا منطق فيه . وعندما نتقدم قليلاً في السن نتخلص من الغصة ، ونشعر أن الوجود هنا أكثر تبريراً . عندها يتدخل عنصر التحدي وعامل الوعي والبحث عن حل . وقد عثرت على الحل في سن لاحقة ، عندما انتهى الصبا وأدركت أن ثمة حاجة إلى الانتماء ، لا الانتماء السلبي العادي ، بل الانتماء الفعال.. الانتماء الملموس والسياسي . ومن الطبيعي ، أن السياسة تقضي على الحساسية المفرطة وعلى التمسك المتواصل ببقايا الذكريات ، وبوسعي أن أقول الآن إن وضعي الراهن أسهل . ولكن المواجهة النفسانية الداخلية تثور فيّ عندما أجلس لكتابة الشعر . عندها يجري الحوار بين إحساس الفنان وبين الوعي السياسي . وأنا أعتقد أن الفنان يجب أن يكون عارياً أمام نفسه .
* * *
-عندما عدت إلى دير الأسد ، كنت في الصف الثاني . كان مدير المدرسة إنساناً طيباً . وأنا أذكر عندما كان يزور المدرسة مفتش وزارة المعارف ، كيف كان المدير يستدعيني ويخبئني في غرفة ضيقة . فقد كانت السلطات تعتبرني "متسللاً" وكان المعلمون يرغبون بالدفاع عني . لقد أضاف ذلك الحادث كلمة أخرى إلى قاموسي الخاص ، إلى قاموس الحياة : كلمة "متسلل" . وكلما كانت الشرطة تأتي إلى القرية ، كانوا يخبئوني في خزانة أو في إحدى الزوايا ، لأنه من المحظور عليّ أن أعيش هنا.. في وطني . لقد منعوني من الإدلاء بهذا الاعتراف : "كنت في لبنان" . وعلموني القول إني كنت لدى إحدى القبائل البدوية في الشمال . وهكذا فعلت لكي أحصل على بطاقة الهوية الإسرائيلية . ولكني لا أزال – حتى اليوم – محروماً من الجنسية في وطني !.
واعتبرت تلميذاً متفوقاً . كنت أكثر من مطالعة الأدب العربي . وقلدت الشعر الجاهلي في محاولاتي الشعرية الأولى .
واليوم ، يبدو من المستهجن أن أكشف النقاب لأول مرة : أني كنت موهوباً آنئذ في الرسم . ربما كنت في ظروف وملابسات أخرى أتطور كرسام لا كشاعر . وقد تضحك عندما تعرف لماذا توقفت عن الرسم . السبب في منتهى البساطة : لم يملك والدي قدراً من المال يتيح له إمكانية أن يشتري ما أحتاجه من أدوات الرسم . لقد زودني بدفاتر الكتابة بشق النفس . آلمني ذلك كثيراً ، فبكيت وتوقفت عن الرسم . وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر . وكتابة الشعر لا تتطلب نفقات مالية !
كانت مواضيع محاولاتي الشعرية الأولى هي مشاعر الطفولة . وكنت أحاول الكتابة أحياناً ، عن مواضيع ذات وزن ، كانت أكبر من طاقتي في تلك السن . شجعني المعلمون على الكتابة . ولا أزال حتى اليوم مديناً لبعضهم – ومن بينهم معلم شيوعي هو نمر مرقس – قاموا بتوجيهي وساعدوا خطواتي الأولى في الشعر.
* * *
- لقد خلق لي شعري المتاعب منذ البداية . ودفعني إلى الصدام مع الحكم العسكري . وإذا أردت مثلاً على ذلك : كنت طالباً في الصف الثامن عندما احتفلوا بمناسبة إقامة دولة إسرائيل . وقد نظموا مهرجانات كبيرة في القرى العربية باشتراك تلامذة المدارس في هذه المناسبة . طلب مني مدير المدرسة أن أشترك في مهرجان عقد في قرية دير الأسد . وعندها ، ولأول مرة في حياتي ، وقفت أمام الميكرفون وبالبنطلون القصير ، وقرأت قصيدة كانت صرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي . لا أذكر القصيدة ولكني أذكر فكرتها : يا صديقي ! بوسعك أن تلعب تحت الشمس كما تشاء . بوسعك أن تصنع ألعاباً . ولكني لا أستطيع . أنا لا أملك ما تملكه . لك بيت ، وليس لي بيت ، فأنا لاجئ . لك أعياد وأفراح ، وأنا بلا عيد وفرح . ولماذا لا نلعب معاً ؟!
وفي اليوم التالي استدعيت إلى مكتب الحاكم العسكري في قرية مجد الكروم . هددني وشتمني ، فاحترت . لم أعرف كيف أرد عليه . وعندما خرجت من مكتبه بكيت بمرارة لأنه أنهى تهديده بقوله : إذا استمررت في كتابة مثل هذه الأشعار فلن نسمح لأبيك بالعمل في المحجر !. يؤلمني أن أذكر الآن أن تهديدات ذلك الحاكم العسكري أثرت عليّ تأثيراً سلبياً . وبمنطق الصبي قلت لنفسي : سأحصل على القصاص . ولن أكتب . وبالمنطق ذاته عجزت عن فهم السبب الذي يجعل مثل تلك القصيدة تثير حاكماً عسكرياً . وأسجل الآن أن ذلك الحاكم العسكري كان أول يهودي أقابله وأتحدث إليه ! لقد ضايقني سلوكه : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا أتحدث إلى الطفل اليهودي ؟ لقد تحول الحاكم العسكري إلى رمز الشر الذي يؤذي العلاقات بين الشعبين . ومن الواضح ، الآن فقط أستطيع الإجابة على الأسئلة التي ضايقتني آنئذ .
* * *
ومن حسن حظي ظهرت في حياتي صورة أخرى مناقضة للحاكم العسكري . بعد ذلك الحادث ببضعة شهور انتقلت إلى الدراسة في مدرسة كفرياسيف الثانوية . هناك التقيت بشخصية يهودية أخرى تختلف تمام الاختلاف ، هي المعلمة شوشنة (وردة) التي لا أمل الحديث عنها . لم تكن معلمة . كانت أما . لقد أنقذتني من جحيم الكراهية . كانت – بالنسبة لي – رمزاً للخدمة المخلصة التي يقدمها يهودي طيب لشعبه . لقد علمتني شوشنة أن أفهم التوراة كعمل أدبي ، وعلمتني دراسة بياليك بعيداً عن التحمس لانتمائه السياسي ، وإنما لحرارته الشعرية . لم تحاول أن تعبئنا بسموم البرامج الدراسية الرسمية التي ترمي إلى دفعنا للتنكر لتراثنا . لقد أنقذتني شوشنة من الحقد الذي ملأني به الحاكم العسكري . لقد حطمت الجدران التي أقامها ذلك الحاكم .
* * *
- قبل عدة أسابيع ، عقدنا – نحن محرري الصحف الشيوعية العربية – مؤتمراً صحفياً في حيفا . تصرف بعض الصحفيين بدون لياقة إذا استخدمت الكلمة اللينة وبدون فهم لمشاعرنا وقضايانا . وفي مجرى الحديث قلت لأحد الصحفيين إن صحيفة العبرية "عل همشمار" نشرت في ذلك الصباح خبراً بارزاً عن الاحتفالات بمرور عشرين سنة على إنشاء كيبوتس "يسعور" . جاء في الخبر أن الفرح بهذه المناسبة لم يكن له مثيل . وقلت للصحفي : يؤسفني أن أقول لك الحقيقة – أنا أفهم فرحك ولكنني عاجز عن مشاركتك فيه . لماذا ؟ لأن هذا الفرح قائم على أطلالي . فإن كيبوتس "يسعور" ومستوطنة "أحيهود" مبنيان على أنقاض قريتي.. على أنقاض حارتي وبيتي . ذلك ينتمي إلى الماضي ؟ ولكنه محفور في أعماقي ! .
عندما عدت من لبنان ، حذرني أهلي من "خطورة" رغبتي في زيارة المكان الذي ولدت فيه وقضيت طفولتي ، فإذا ألقي القبض عليّ هناك ، سأطرد إلى لبنان . وهكذا لم أزر المكان إلا عام 1963 . كانت زيارة سرية لأن دخول تلك المنطقة ممنوع . ولم أجد من كل القرية إلا مبنى الكنيسة الذي تحول إلى إسطبل . إن ما رأيته في ذلك المكان المهجور يفسر لك لماذا كانت هذه هي زيارتي الأولى والأخيرة . فتشت عن مرتع طفولتي فلم أجد إلا الأشواك ، لا منزل ولا شيء إلا الشوك . لن أعود إلى ذلك المكان . وكانت الزيارة بمثابة حج . قمت بتأدية هذه الفريضة مع مجموعة من الأصدقاء ، من أبناء القرية . خلدنا إلى الصمت التام طيلة تلك الزيارة وبعدها . التقينا هناك براعي أغنام من اليمن يقيم في مستوطنة "أحيهود" . قلت له : لقد أصبحنا أبناء قرية واحدة !. لم يفهم ما أعنيه ، ولم تكن بي رغبة في التفسير .
* * *
- أنا أفهم سوء فهم ذلك الراعي.. الشاب البسيط . ولكن يشق عليّ أن أفهم الأغلبية الساحقة من المثقفين اليهود المقيمين في إسرائيل . ويزيد من صعوبة فهمي كونهم شديدي الحساسية تجاه أي سوء يتعرض له أي مثقف يهودي في أية ناحية من أنحاء المعمورة . ولكنهم لا يحاولون إجراء أي اتصال من الفهم مع زملائهم العرب في إسرائيل . إني أذكر مشاعر الإحراج التي داهمتني في أوروبا ، عندما سألني عدد كبير من أدباء العالم عن التأثير المتبادل بين الشعر العربي والشعر العبري في إسرائيل . وأولئك الأدباء الذين سمعوا عن الملاحقات التي يتعرض لها الشاعر العربي في إسرائيل ، كانوا معنيين بمعرفة الجبهة المشتركة بين هؤلاء المضطهدين وبين أكثرية زملائهم العبريين . أجد لزاماً عليّ أن أؤكد هنا أني واجهت – بهذه الأسئلة – قضية جادة جديرة بالاهتمام والملاحقة ، لم تطرح في إسرائيل من قبل . وكان جوابي : "لا شيء" . ويؤسفني أن أمثال الأديب المناضل مردخاي أبي شاؤول هم قلائل في إسرائيل . وبوحي من هذه الأسئلة كتبت افتتاحية في مجلة "الجديد" طرحت فيها هذه القضية التي تتطلب الإجابة . أريد أن أؤمن بأننا سنحصل على الإجابة . إنني لا أطمح إلى التماثل والفهم التام من جانب زملائنا الشعراء والأدباء اليهود . إنني أدعو – بكل بساطة – إلى التعارف . أدعو إلى آذان صاغية ، ولا أدعو إلى الموافقة المسبقة . من المخجل أننا لا نعرف شيئاً عن بعضنا البعض . إن ما جرى في مؤتمر للكتّاب عقد مؤخراً في فرنسا ، بين الوفد الإسرائيلي الرسمي (حاييم غوري وأهرون ميغد) وبين كاتب لبناني قام بتوزيع بيان احتجاج على ملاحقة الشعراء العرب في إسرائيل ، هو بمثابة دعوة جديدة وملحة إلى النظر بجدية إلى قضية العلاقات بين حملة الأقلام العبرية والعربية في إسرائيل . وإني أحتج هنا على الحلول السهلة التي يقترحها قسم من الصحافة الإسرائيلية باختراعها أسماء غير معروفة وعديمة القيمة لتمثل بها حركة الأدب العربي في إسرائيل . وأريد أن أحتج أيضاً على ظاهرة أخرى هي الطريقة التي يقدمون بها الممثلين الحقيقيين للشعر العربي بصورة "حملة شعارات" و "معادين لليهود!"
إن الجهل التام بالأدب العربي في إسرائيل ينبع من اعتبارات وحسابات سياسية بحتة ، مع أنه ليس من المقبول الحديث عن السياسة والشعر في سياق واحد !! . إن أولئك الذين يسيطرون على أدوات الدعاية والنشر لا يريدون أن يقدموا للقارئ العبري حقيقة الأدب العربي في البلاد . إنهم يخافون مضمون هذا الأدب . ويدركون أن وصول هذا الأدب إلى الجمهور اليهودي سيحطم حواجز . فالأدب العربي هنا هو أدب احتجاج على وضع غير عادل ، كأي أدب احتجاج آخر في العالم . وإذا كان من المتاح لي أن أستعير مثلاً من أدب الاحتجاج العالمي المعاصر فسأذكر اسم "جيمس بلودوين" الزنجي الأمريكي ، صاحب الكتاب المثير "لا أحد يعرف اسمي" ، وأعرف أن رنين هذا الكتاب ليس عذباً للأذن الإسرائيلية بسبب تشابه الواقعين ، ولكن القلائل.. القلائل جداً في المجتمع الإسرائيلي هم الذين يعرفون أسماءنا وقضايانا . بيد أني أريد أن أفترض وجود شعراء مبدعين ، مثل يهودا عميحاي ودالية ريبكوفتش ، ذوي استعداد أولي لفهم أمثالنا . عندما ألتقي بالحيرة النفسية لدى هذين الشاعرين وغيرهما ، أحصل على حقنة من الأمل ، في أنه لا يزال في هذه البلاد من يحافظ على حاسة فهم الآخرين !.
وينبغي عليّ أن أضيف أنه بالإضافة إلى كل المتاعب والعقبات ، هناك عقبة اللغة إني أفهم لماذا يحصل عدد كبير من الأدباء اليهود على انطباع خاطئ عنا . إنهم لا يعرفوننا . لا يقرأوننا بلغتنا الأصلية . وبهذا الصدد أجد نفسي عاجزاً !. ولكن لماذا لا نتعارف على الأقل ؟ لا أطلب منهم أن يحكموا على إنتاجنا ، فالشرط الأول لهذا الحكم هو المعرفة ، وهم لا يعرفون . هذه القضية تشغل بالي . وأنا لا أمل تكرار دعوة الأدباء اليهود إلى التعرف على زملائهم العرب . وفي هذه المناسبة ، بودي أن ألفت نظر القارئ العبري – وليس بدافع السخرية – إلى حقيقة أن الكثيرين في إسرائيل يعرفون أسماء الشعراء العرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي منذ ما يزيد عن 21 سنة ! إن هذا السؤال موجع وخبيث . أعترف بذلك . ولكن حاولوا أن تفهموني . وأنا لا أعاتب الأدباء اليهود المتعصبين ، إني أعاتب الأدباء الذين يريدون أن نسميهم أدباء تقدميين . من هؤلاء أطلب : تعالوا نتعارف ونتناقش !.
* * *
- بدأ تعرفي على الأدب الثوري والشيوعي ، خلال دراستي الثانوية . قرأت "الاتحاد" و"الجديد" وغوركي ولينين . تحسست طريقي . وظهرت نقطة ضوء في حياتي . في سنوات دراستي الأخيرة شغلتني كثيراً مسألة الحيرة الأدبية . كيف أعبّر عن نفسي . أنا شاب أنتمي إلى قومية معينة ، ولي قضايا معينة . وفي الوقت ذاته أعيش في دولة إسرائيل . أريد العثور على حل لهذا السؤال : "هل من حكم القدر وجود تناقض بين هذين الانتمائين ؟" لا أخفي عليك أن هذا السؤال يتراءى أمام النظرة السطحية ، بالغ السهولة . ولكنه سؤال شاق وخاصة للشباب . وأنا لم أعثر على الجواب بسهولة . حللته على النحو التالي : "لا تناقض جوهري بين الشعوب ، إذا قامت العلاقات بين الشعوب على أساس المساواة" . أنت مدعو لأن تكون بطلاً ، من ناحية نفسية ، لكي تتغلب على هذا السؤال في ظروف بلادنا . وأنا لا أدعي البطولة النفسية إذا قلت لك إني وجدت الحل ، فالتناقض ليس قدراً على الرغم من أننا يجب أن نفهم أولئك الذين يعتبرونه كذلك
إني أحاول ، رغم الآلام والعذاب الناجمة عن الظلم ، المحافظة على أهم عناصر الإنسان: أن أكون إنساناً ، وأن أنجو من التعصب القومي . لا أقول ذلك نفاقاً ، ولا لأني أتحدث إليك ، وإلى القارئ العبري بواسطتك . لأتحدث بسذاجة : أنا لا أعادي اليهود . وأقول لك بإدراك تام إن الإنسان – مهما كان لونه ومهما كانت قوميته – هو كنزي .
وأريد أن أتباهى بإنسانيتي ، بأنني أول شاعر عربي عرض جندياً إسرائيلياً حتى بعد حرب حزيران ، بجوهره الإنساني . كيف حدث ذلك ؟ بعد حرب حزيران التي أعادت قتلي حافظت على انتمائي الإنساني . كتبت قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" . والقصيدة هي حوار مع جندي إسرائيلي عاد من الحرب خائباً لأنه فقد انتماءه الإنساني . شربت معه أربع كؤوس خلال حديثنا عن الحرب وعن حبه الأول وعن همومه اليومية ، بدون ظل من الكراهية القومية . لقد وضع الجندي قلبه أمامي ، وأنا استقبلته كصديق قبل الحرب . هاجمني أديب سوري، بشدة ، على هذه القصيدة . اتهمني بأنني أضلل الرأي العام العربي والعالمي . وقال إن هذا الجندي موهوم . ولكنني سررت عندما قرأت كتاب أحد النقاد الشباب البارزين هو رجاء النقاش . في كتابه عني رد على الكاتب السوري بأن الصراع في المنطقة ليس مع اليهود كبشر ، ولكنه صراع بين العرب والصهيونية . وقال رجاء النقاش إن العالم لم يفهم عداء العرب لإسرائيل ، ولمح إلى أن العقبة بين تفاهم العرب واليهود هي الصهيونية والاستعمار . وأنا أستغرب لماذا لا يستخلص الضمير اليهودي النتائج الحقيقية من تأثير الأدب العربي الإنساني في إسرائيل . إننا نشهد في الآونة الأخيرة ، ملاحقة إيجابية من العالم العربي للشعر العربي في إسرائيل . صحيح ، أن أغلبية الإسرائيليين تنظر إلى هذه الحقيقة بريبة وترى فيها دليلاً على موقف العرب السلبي . ولكنني أنظر إلى الأمر من زاوية أخرى . إن هذا الاهتمام علامة على التغييرات الإيجابية الجارية في النفسية العربية . العالم العربي يرى في الشعر العربي في إسرائيل رمزاً للصمود ، رمزاً لعدم الاستسلام ، ورمزاً للأمل . وقد كنا شهوداً على النقد الذي تعرض له شعر القضية الفلسطينية المكتوب في البلدان العربية . كان النقد يقول إن أغلبية هذا الشعر تتميز برفع الشعارات المتعصبة ، ولم تعرف كيف تجد السبيل إلى القلب الأوروبي وإلى حاسة العدل الإنساني . وقد وجد هؤلاء النقاد حلاً لهذه المسألة في الشعر العربي المكتوب في إسرائيل . رأوا فيه شعراً إنسانياً يسمو على مشاعر الحقد والمزاج النفسي البدائي . وعبّر عن ذلك بمستوى فني عال . وأنا ، كشاعر عربي يحافظ على طابعه القومي العربي والإنساني ، أرى في هذه الظاهرة كسباً للعقل السليم والإحساس المعافى وانتصاراً للإنسانية . لا يعني ذلك أني صرت عدمياً قومياً ، ولا يعني ذلك أني أسلم بأي شكل من أشكال الغبن والظلم ، ولكن ذلك يعني أنني قادر على التمييز بين الإنسان والسياسة .
يجري حوار بين الأدباء والنقاد في العالم العربي حول تسمية حركة الشعر العربي في إسرائيل التي يمثلها بشكل بارز : سميح القاسم ، توفيق زياد ، وسالم جبران وأنا . هناك من يسميها : شعر المقاومة . وكتب أحد النقاد البارزين في القاهرة غالي شكري : يمكن أن نسمي هذا الشعر شعر مقاومة ، ولكن علينا أن نذكر أن نقطة انطلاق هؤلاء الشعراء هي الاعتراف بحق اليهود والعرب في العيش في فلسطين ولذلك من الأصح أن نطلق عليهم اسم : شعراء الاحتجاج والمعارضة .
* * *
- لا . أنا لا أعتبر نفسي شاعراً ناضجاً . لا أشعر بالرضا الفني . وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره . صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية ، ونجحت في قهر تناقضاتي ، ولكنني لا أشعر بالرضا الفني .
إذا كان يشغلني في كل تجاربي الأدبية قضية الحقيقة والعدل في حياتنا . إنها تصبح قضية أكثر تعقيداً وتركيباً في هذا العصر المركب . ولكنني أتشبث بكل نقطة ضوء وسعادة في بحثي عن الأشياء التي تبرر قدرة الإنسان على الصمود أمام العذاب .
ليس من حقي القول إني سعيد . من السخف أن أدعي بأنني سعيد . ولكن مطاردتي للسعادة تمنحني السعادة . هذا هو – في رأيي – مبرر وجود الشاعر منذ قيام الإنسان بالتعبير عن نفسه .
أحاول المزج بين انتمائي القومي وانتمائي العالمي والإنساني . وأحاول أيضاً أن أعمق حاضري بخيرة العناصر الكامنة في الماضي ، وبأجمل ما يظهر لي من المستقبل .
من الطبيعي أن تحترم شاعراً وتعجب بشاعر وتحب آخر . كلنا نقدّر شكسبير على سبيل المثال . وكلنا نعجب بحكمت ونيرودا وأودن . ولكن رغم إعجابي البالغ بالكثيرين من الشعراء ، إلا أنني أحب لوركا.. نعم ، أنا أحب لوركا حباً . لا أعتبر لوركا شاعراً مبدعاً فحسب ، ولكنني أعتبره أيضاً صديقي .
* * *
- الكثيرون من أصدقائي يتألمون من أجلي . هذه الملاحقات.. الاعتقالات وأوامر الإقامة الجبرية التي تحدد حرية تجولي في وطني ، أصبحت جزءاً من حياتي اليومية ولكنني أنظر إليها باستهتار يكاد يكون خبيثاً . لست متوتراً ولست مندهشاً . أجلس في غرفتي ، كل مساء ويطربني أن ارتبط بالشمس ، لأني أمنع من مغادرة البيت بعد غروب الشمس . منحوني شرفاً كبيراً عندما ربطوا خطواتي بالشمس . اجلس في الغرفة ، أقرأ ، أسمع موسيقى ، وأنتظر البوليس . وفي الساعة الرابعة بعد كل يوم أثبت وجودي في محطة الشرطة بابتسامة حقيقية غير لئيمة دائماً . وأنا أنظر إلى ذلك برؤية شعرية : لقد تقاسمنا اليوم : لهم الليل ، والنهار لي . لا يحق لي الخروج في الليل ، وهم دائمو التجوال في الليل . وكل واحد منا يعرف النهار أجمل من الليل ، وضوء الشمس أحلى من الظلام . فمن انتصر.. أنا أم البوليس؟
* * *
- لا أنام قبل الاستماع إلى ألحان ميكيس ثيودوراكيس . بيني وبينه حكاية : قبل ثلاثة أسابيع قرأت في الصحف الإسرائيلية أن ميكيس قد اعتقل . كتبت قصيدة من وحي هذا الاعتقال ، عنوانه "ريتا.. أحبيني"" . كتبت في مقدمة القصيدة أن سبب اعتقال ميكيس ثيودوراكيس هو أنه "خطر على أمن الجمهور"" . أضحكني أن الصحف الإسرائيلية وضعت هذه الجملة ضمن أقواس تعبيراً عن سخريتها من هذا الإدعاء : "خطر على أمن الجمهور"" . ضحكت ، لأن هذه الصحف تنظر إلى هذا الإدعاء كأمر بعيد عنها وبعيد عن حدود إسرائيل ! إني أستمع إلى ألحان ميكيس كل مساء وأحس أننا صديقان . أنا أيضاً "خطر على أمن الجمهور" . ولكنني لم أتصور أن مصيري ، ذلك الأسبوع ، سيكون كمصيره . فعندما نشرت القصيدة في "الاتحاد" كنت أنا في الاعتقال لأنني "خطر على أمن الجمهور" !
joseph.algazy@gmail.com
نشرت صحيفة "زو هديرخ" الأسبوعية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العبرية، حديثاً صحفياً طويلاً مع محرر مجلة "الجديد" الشاعر محمود درويش ، في عددها الصادر في 19-11-1969 . كان الحديث أول لقاء مباشر بين محمود درويش والقارئ العبري ، وقد تناول عدة جوانب من حياة الشاعر وقضيته ، وخاصة ما يتعلق بالعلاقات العربية-اليهودية. أجرى الحديث الصحفي المحرر في "زو هديرخ" يوسف ألغازي ، ونشره بطريقة "مونولوج" . وفيما يلي ننشر ترجمة هذا الحديث الذي نشرته "الجديد", حيفا, العدد 11, نوفمبر تشرين الثاني 1969 :
تعرفت على محمود درويش ، لأول مرة ، عندما كان يلقي من شعره أمام الجمهور . آنئذ كان يلقي قصيدته التي تحولت ، في نظري ، إلى بطاقته الشخصية "سجّل : أنا عربي" . لقد هز محمود النحيل جمهور المستمعين وأثاره ، وحوله إلى موجة عارمة تحطم السدود . أي تناقض بين الاثنين : القصيدة والمبدع !. لقد جاء التناقض من الكلمات التي خرجت من فم محمود . آنئذ أصبح محمود درويش شاعر الشعب العربي الفلسطيني . تُرجمت قصائده إلى اللغات : الفرنسية ، والانجليزية والروسية ، والإيطالية ، والبلغارية . ولكنها لم تترجم إلى اللغة العبرية . وأصبحت مجموعاته الشعرية من أكثر الكتب مبيعاً ، لا في إسرائيل فحسب ، بل في البلدان العربية أيضاً .
قبل عدة أيام أطلق سراحه من سجنه الرابع . لماذا اعتقل وسجن ؟ إن محمود درويش وشعره شوكة في عيون السلطة لقد قررت تقديم محمود درويش إلى القارئ العبري بكلماته . ولذلك، فإني أنشر بصورة مونولوج ، الأشياء التي قالها في حوار ليلي جرى بيننا بعد إطلاق سراحه من السجن بثلاثة أيام .
هذا هو محمود درويش :
- أذكر نفسي عندما كان عمري ست سنوات . كنت أقيم في قرية جميلة وهادئة هي قرية البروة الواقعة على هضبة خضراء ، ينبسط أمامها سهل عكا . وكنت أبنا لأسرة متوسطة الحال عاشت من الزراعة .
عندما بلغت السابعة ، توقفت ألعاب الطفولة . وإني أذكر كيف حدث ذلك.. أذكر ذلك تماماً : في إحدى ليالي الصيف ، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل ، أيقظتني أمي من نومي فجأة ، فوجدت نفسي مع مئات سكان القرية أعدو في الغابة . كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا ، ولم أفهم شيئاً مما يجري . بعد ليلة من التشرد والهروب وصلت مع أحد أقاربي الضائعين في كل الجهات ، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين . تساءلت بسذاجة : أين أنا ؟ وسمعت للمرة الأولى كلمة "لبنان" .
يخيل لي أن تلك الليلة وضعت حداً لطفولتي بمنتهى العنف . فالطفولة الخالية من المتاعب – انتهت . وأحسست فجأة أني أنتمي إلى الكبار . توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب . منذ تلك الأيام التي عشت فيها في لبنان لم أنس ، ولن أنسى إلى الأبد ، تعرفي على الجبنة الصفراء.. هذا "المصطلح" الذي عرفني على كلمة الوطن . فلأول مرة وبدون استعداد سابق كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث . كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء . وهنا استمعت ، لأول مرة ، إلى كلمات جديدة : فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد : الوطن، الحرب ، الأخبار ، اللاجئون ، الجيش ، الحدود ، وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرف على عالم جديد ، على وضع جديد.. حرمني طفولتي .
بعد أكثر من سنة ، عشت خلالها حياة لاجئ ، أبلغوني ذات ليلة أننا سنعود غداً إلى البيت . أذكر جيداً أني لم أنم في تلك الليلة.. لم أنم من شدة الفرح . فالعودة إلى البيت تعني – بالنسبة لي – نهاية الجبنة الصفراء ، نهاية تحرشات الأولاد اللبنانيين الذين كانوا يشتمونني بكلمة "لاجئ" المهينة .
.. وخرجت إلى رحلة العودة . كان الظلام مخيماً على كل شيء . وكنا ثلاثة : أنا وعمي والدليل الذي كان يعرف مجاهل الدروب في الجبال وفي الوديان . إني أذكر الزحف على البطون لكي لا يرانا أحد . وبعد رحلة مضنية ، وجدت نفسي في إحدى القرى . ولكن ما أشد خيبة أملي : لقد وصلنا إلى قرية دير الأسد ، وهي ليست قريتي . لا بيتي هناك ولا زقاقي . سألت متى نعود إلى قريتنا.. إلى منزلنا . ولم تكن الأجوبة مقنعة . ولم أفهم شيئاً.. لم أفهم معنى أن تكون القرية مهدمة.. لم أفهم.. معنى أن يكون عالمي الخاص قد انتهى إلى غير رجعة . لم أفهم لماذا هدموا هذا العالم.. ولماذا هدموه.. ومن هم أولئك الذين هدموه !.
ورويداً رويداً اعتدت على حياة الكبار ، وقضايا الكبار . واتضح لي – بمنتهى خيبة الأمل ، أني لم أعد إلى منبع الأحلام ، لم أعد إلى زقاق الطفولة . كل ما في الأمر هو أن اللاجئ قد استبدل عنوانه بعنوان جديد . كنت لاجئاً في لبنان ، وأنا الآن لاجئ في بلادي . والآن ، عندما أتحدث إليك ، وأنا في الثامنة والعشرين من العمر ، فإنني قادر على تقويم تلك الفترة . إذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى وبين أن تكون لاجئاً في الوطن ، وقد خبرت النوعين من اللجوء ، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية . العذاب في المنفى ، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود – شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي . ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك – فلا مبرر لذلك ، ولا منطق فيه . وعندما نتقدم قليلاً في السن نتخلص من الغصة ، ونشعر أن الوجود هنا أكثر تبريراً . عندها يتدخل عنصر التحدي وعامل الوعي والبحث عن حل . وقد عثرت على الحل في سن لاحقة ، عندما انتهى الصبا وأدركت أن ثمة حاجة إلى الانتماء ، لا الانتماء السلبي العادي ، بل الانتماء الفعال.. الانتماء الملموس والسياسي . ومن الطبيعي ، أن السياسة تقضي على الحساسية المفرطة وعلى التمسك المتواصل ببقايا الذكريات ، وبوسعي أن أقول الآن إن وضعي الراهن أسهل . ولكن المواجهة النفسانية الداخلية تثور فيّ عندما أجلس لكتابة الشعر . عندها يجري الحوار بين إحساس الفنان وبين الوعي السياسي . وأنا أعتقد أن الفنان يجب أن يكون عارياً أمام نفسه .
* * *
-عندما عدت إلى دير الأسد ، كنت في الصف الثاني . كان مدير المدرسة إنساناً طيباً . وأنا أذكر عندما كان يزور المدرسة مفتش وزارة المعارف ، كيف كان المدير يستدعيني ويخبئني في غرفة ضيقة . فقد كانت السلطات تعتبرني "متسللاً" وكان المعلمون يرغبون بالدفاع عني . لقد أضاف ذلك الحادث كلمة أخرى إلى قاموسي الخاص ، إلى قاموس الحياة : كلمة "متسلل" . وكلما كانت الشرطة تأتي إلى القرية ، كانوا يخبئوني في خزانة أو في إحدى الزوايا ، لأنه من المحظور عليّ أن أعيش هنا.. في وطني . لقد منعوني من الإدلاء بهذا الاعتراف : "كنت في لبنان" . وعلموني القول إني كنت لدى إحدى القبائل البدوية في الشمال . وهكذا فعلت لكي أحصل على بطاقة الهوية الإسرائيلية . ولكني لا أزال – حتى اليوم – محروماً من الجنسية في وطني !.
واعتبرت تلميذاً متفوقاً . كنت أكثر من مطالعة الأدب العربي . وقلدت الشعر الجاهلي في محاولاتي الشعرية الأولى .
واليوم ، يبدو من المستهجن أن أكشف النقاب لأول مرة : أني كنت موهوباً آنئذ في الرسم . ربما كنت في ظروف وملابسات أخرى أتطور كرسام لا كشاعر . وقد تضحك عندما تعرف لماذا توقفت عن الرسم . السبب في منتهى البساطة : لم يملك والدي قدراً من المال يتيح له إمكانية أن يشتري ما أحتاجه من أدوات الرسم . لقد زودني بدفاتر الكتابة بشق النفس . آلمني ذلك كثيراً ، فبكيت وتوقفت عن الرسم . وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر . وكتابة الشعر لا تتطلب نفقات مالية !
كانت مواضيع محاولاتي الشعرية الأولى هي مشاعر الطفولة . وكنت أحاول الكتابة أحياناً ، عن مواضيع ذات وزن ، كانت أكبر من طاقتي في تلك السن . شجعني المعلمون على الكتابة . ولا أزال حتى اليوم مديناً لبعضهم – ومن بينهم معلم شيوعي هو نمر مرقس – قاموا بتوجيهي وساعدوا خطواتي الأولى في الشعر.
* * *
- لقد خلق لي شعري المتاعب منذ البداية . ودفعني إلى الصدام مع الحكم العسكري . وإذا أردت مثلاً على ذلك : كنت طالباً في الصف الثامن عندما احتفلوا بمناسبة إقامة دولة إسرائيل . وقد نظموا مهرجانات كبيرة في القرى العربية باشتراك تلامذة المدارس في هذه المناسبة . طلب مني مدير المدرسة أن أشترك في مهرجان عقد في قرية دير الأسد . وعندها ، ولأول مرة في حياتي ، وقفت أمام الميكرفون وبالبنطلون القصير ، وقرأت قصيدة كانت صرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي . لا أذكر القصيدة ولكني أذكر فكرتها : يا صديقي ! بوسعك أن تلعب تحت الشمس كما تشاء . بوسعك أن تصنع ألعاباً . ولكني لا أستطيع . أنا لا أملك ما تملكه . لك بيت ، وليس لي بيت ، فأنا لاجئ . لك أعياد وأفراح ، وأنا بلا عيد وفرح . ولماذا لا نلعب معاً ؟!
وفي اليوم التالي استدعيت إلى مكتب الحاكم العسكري في قرية مجد الكروم . هددني وشتمني ، فاحترت . لم أعرف كيف أرد عليه . وعندما خرجت من مكتبه بكيت بمرارة لأنه أنهى تهديده بقوله : إذا استمررت في كتابة مثل هذه الأشعار فلن نسمح لأبيك بالعمل في المحجر !. يؤلمني أن أذكر الآن أن تهديدات ذلك الحاكم العسكري أثرت عليّ تأثيراً سلبياً . وبمنطق الصبي قلت لنفسي : سأحصل على القصاص . ولن أكتب . وبالمنطق ذاته عجزت عن فهم السبب الذي يجعل مثل تلك القصيدة تثير حاكماً عسكرياً . وأسجل الآن أن ذلك الحاكم العسكري كان أول يهودي أقابله وأتحدث إليه ! لقد ضايقني سلوكه : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا أتحدث إلى الطفل اليهودي ؟ لقد تحول الحاكم العسكري إلى رمز الشر الذي يؤذي العلاقات بين الشعبين . ومن الواضح ، الآن فقط أستطيع الإجابة على الأسئلة التي ضايقتني آنئذ .
* * *
ومن حسن حظي ظهرت في حياتي صورة أخرى مناقضة للحاكم العسكري . بعد ذلك الحادث ببضعة شهور انتقلت إلى الدراسة في مدرسة كفرياسيف الثانوية . هناك التقيت بشخصية يهودية أخرى تختلف تمام الاختلاف ، هي المعلمة شوشنة (وردة) التي لا أمل الحديث عنها . لم تكن معلمة . كانت أما . لقد أنقذتني من جحيم الكراهية . كانت – بالنسبة لي – رمزاً للخدمة المخلصة التي يقدمها يهودي طيب لشعبه . لقد علمتني شوشنة أن أفهم التوراة كعمل أدبي ، وعلمتني دراسة بياليك بعيداً عن التحمس لانتمائه السياسي ، وإنما لحرارته الشعرية . لم تحاول أن تعبئنا بسموم البرامج الدراسية الرسمية التي ترمي إلى دفعنا للتنكر لتراثنا . لقد أنقذتني شوشنة من الحقد الذي ملأني به الحاكم العسكري . لقد حطمت الجدران التي أقامها ذلك الحاكم .
* * *
- قبل عدة أسابيع ، عقدنا – نحن محرري الصحف الشيوعية العربية – مؤتمراً صحفياً في حيفا . تصرف بعض الصحفيين بدون لياقة إذا استخدمت الكلمة اللينة وبدون فهم لمشاعرنا وقضايانا . وفي مجرى الحديث قلت لأحد الصحفيين إن صحيفة العبرية "عل همشمار" نشرت في ذلك الصباح خبراً بارزاً عن الاحتفالات بمرور عشرين سنة على إنشاء كيبوتس "يسعور" . جاء في الخبر أن الفرح بهذه المناسبة لم يكن له مثيل . وقلت للصحفي : يؤسفني أن أقول لك الحقيقة – أنا أفهم فرحك ولكنني عاجز عن مشاركتك فيه . لماذا ؟ لأن هذا الفرح قائم على أطلالي . فإن كيبوتس "يسعور" ومستوطنة "أحيهود" مبنيان على أنقاض قريتي.. على أنقاض حارتي وبيتي . ذلك ينتمي إلى الماضي ؟ ولكنه محفور في أعماقي ! .
عندما عدت من لبنان ، حذرني أهلي من "خطورة" رغبتي في زيارة المكان الذي ولدت فيه وقضيت طفولتي ، فإذا ألقي القبض عليّ هناك ، سأطرد إلى لبنان . وهكذا لم أزر المكان إلا عام 1963 . كانت زيارة سرية لأن دخول تلك المنطقة ممنوع . ولم أجد من كل القرية إلا مبنى الكنيسة الذي تحول إلى إسطبل . إن ما رأيته في ذلك المكان المهجور يفسر لك لماذا كانت هذه هي زيارتي الأولى والأخيرة . فتشت عن مرتع طفولتي فلم أجد إلا الأشواك ، لا منزل ولا شيء إلا الشوك . لن أعود إلى ذلك المكان . وكانت الزيارة بمثابة حج . قمت بتأدية هذه الفريضة مع مجموعة من الأصدقاء ، من أبناء القرية . خلدنا إلى الصمت التام طيلة تلك الزيارة وبعدها . التقينا هناك براعي أغنام من اليمن يقيم في مستوطنة "أحيهود" . قلت له : لقد أصبحنا أبناء قرية واحدة !. لم يفهم ما أعنيه ، ولم تكن بي رغبة في التفسير .
* * *
- أنا أفهم سوء فهم ذلك الراعي.. الشاب البسيط . ولكن يشق عليّ أن أفهم الأغلبية الساحقة من المثقفين اليهود المقيمين في إسرائيل . ويزيد من صعوبة فهمي كونهم شديدي الحساسية تجاه أي سوء يتعرض له أي مثقف يهودي في أية ناحية من أنحاء المعمورة . ولكنهم لا يحاولون إجراء أي اتصال من الفهم مع زملائهم العرب في إسرائيل . إني أذكر مشاعر الإحراج التي داهمتني في أوروبا ، عندما سألني عدد كبير من أدباء العالم عن التأثير المتبادل بين الشعر العربي والشعر العبري في إسرائيل . وأولئك الأدباء الذين سمعوا عن الملاحقات التي يتعرض لها الشاعر العربي في إسرائيل ، كانوا معنيين بمعرفة الجبهة المشتركة بين هؤلاء المضطهدين وبين أكثرية زملائهم العبريين . أجد لزاماً عليّ أن أؤكد هنا أني واجهت – بهذه الأسئلة – قضية جادة جديرة بالاهتمام والملاحقة ، لم تطرح في إسرائيل من قبل . وكان جوابي : "لا شيء" . ويؤسفني أن أمثال الأديب المناضل مردخاي أبي شاؤول هم قلائل في إسرائيل . وبوحي من هذه الأسئلة كتبت افتتاحية في مجلة "الجديد" طرحت فيها هذه القضية التي تتطلب الإجابة . أريد أن أؤمن بأننا سنحصل على الإجابة . إنني لا أطمح إلى التماثل والفهم التام من جانب زملائنا الشعراء والأدباء اليهود . إنني أدعو – بكل بساطة – إلى التعارف . أدعو إلى آذان صاغية ، ولا أدعو إلى الموافقة المسبقة . من المخجل أننا لا نعرف شيئاً عن بعضنا البعض . إن ما جرى في مؤتمر للكتّاب عقد مؤخراً في فرنسا ، بين الوفد الإسرائيلي الرسمي (حاييم غوري وأهرون ميغد) وبين كاتب لبناني قام بتوزيع بيان احتجاج على ملاحقة الشعراء العرب في إسرائيل ، هو بمثابة دعوة جديدة وملحة إلى النظر بجدية إلى قضية العلاقات بين حملة الأقلام العبرية والعربية في إسرائيل . وإني أحتج هنا على الحلول السهلة التي يقترحها قسم من الصحافة الإسرائيلية باختراعها أسماء غير معروفة وعديمة القيمة لتمثل بها حركة الأدب العربي في إسرائيل . وأريد أن أحتج أيضاً على ظاهرة أخرى هي الطريقة التي يقدمون بها الممثلين الحقيقيين للشعر العربي بصورة "حملة شعارات" و "معادين لليهود!"
إن الجهل التام بالأدب العربي في إسرائيل ينبع من اعتبارات وحسابات سياسية بحتة ، مع أنه ليس من المقبول الحديث عن السياسة والشعر في سياق واحد !! . إن أولئك الذين يسيطرون على أدوات الدعاية والنشر لا يريدون أن يقدموا للقارئ العبري حقيقة الأدب العربي في البلاد . إنهم يخافون مضمون هذا الأدب . ويدركون أن وصول هذا الأدب إلى الجمهور اليهودي سيحطم حواجز . فالأدب العربي هنا هو أدب احتجاج على وضع غير عادل ، كأي أدب احتجاج آخر في العالم . وإذا كان من المتاح لي أن أستعير مثلاً من أدب الاحتجاج العالمي المعاصر فسأذكر اسم "جيمس بلودوين" الزنجي الأمريكي ، صاحب الكتاب المثير "لا أحد يعرف اسمي" ، وأعرف أن رنين هذا الكتاب ليس عذباً للأذن الإسرائيلية بسبب تشابه الواقعين ، ولكن القلائل.. القلائل جداً في المجتمع الإسرائيلي هم الذين يعرفون أسماءنا وقضايانا . بيد أني أريد أن أفترض وجود شعراء مبدعين ، مثل يهودا عميحاي ودالية ريبكوفتش ، ذوي استعداد أولي لفهم أمثالنا . عندما ألتقي بالحيرة النفسية لدى هذين الشاعرين وغيرهما ، أحصل على حقنة من الأمل ، في أنه لا يزال في هذه البلاد من يحافظ على حاسة فهم الآخرين !.
وينبغي عليّ أن أضيف أنه بالإضافة إلى كل المتاعب والعقبات ، هناك عقبة اللغة إني أفهم لماذا يحصل عدد كبير من الأدباء اليهود على انطباع خاطئ عنا . إنهم لا يعرفوننا . لا يقرأوننا بلغتنا الأصلية . وبهذا الصدد أجد نفسي عاجزاً !. ولكن لماذا لا نتعارف على الأقل ؟ لا أطلب منهم أن يحكموا على إنتاجنا ، فالشرط الأول لهذا الحكم هو المعرفة ، وهم لا يعرفون . هذه القضية تشغل بالي . وأنا لا أمل تكرار دعوة الأدباء اليهود إلى التعرف على زملائهم العرب . وفي هذه المناسبة ، بودي أن ألفت نظر القارئ العبري – وليس بدافع السخرية – إلى حقيقة أن الكثيرين في إسرائيل يعرفون أسماء الشعراء العرب الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي منذ ما يزيد عن 21 سنة ! إن هذا السؤال موجع وخبيث . أعترف بذلك . ولكن حاولوا أن تفهموني . وأنا لا أعاتب الأدباء اليهود المتعصبين ، إني أعاتب الأدباء الذين يريدون أن نسميهم أدباء تقدميين . من هؤلاء أطلب : تعالوا نتعارف ونتناقش !.
* * *
- بدأ تعرفي على الأدب الثوري والشيوعي ، خلال دراستي الثانوية . قرأت "الاتحاد" و"الجديد" وغوركي ولينين . تحسست طريقي . وظهرت نقطة ضوء في حياتي . في سنوات دراستي الأخيرة شغلتني كثيراً مسألة الحيرة الأدبية . كيف أعبّر عن نفسي . أنا شاب أنتمي إلى قومية معينة ، ولي قضايا معينة . وفي الوقت ذاته أعيش في دولة إسرائيل . أريد العثور على حل لهذا السؤال : "هل من حكم القدر وجود تناقض بين هذين الانتمائين ؟" لا أخفي عليك أن هذا السؤال يتراءى أمام النظرة السطحية ، بالغ السهولة . ولكنه سؤال شاق وخاصة للشباب . وأنا لم أعثر على الجواب بسهولة . حللته على النحو التالي : "لا تناقض جوهري بين الشعوب ، إذا قامت العلاقات بين الشعوب على أساس المساواة" . أنت مدعو لأن تكون بطلاً ، من ناحية نفسية ، لكي تتغلب على هذا السؤال في ظروف بلادنا . وأنا لا أدعي البطولة النفسية إذا قلت لك إني وجدت الحل ، فالتناقض ليس قدراً على الرغم من أننا يجب أن نفهم أولئك الذين يعتبرونه كذلك
إني أحاول ، رغم الآلام والعذاب الناجمة عن الظلم ، المحافظة على أهم عناصر الإنسان: أن أكون إنساناً ، وأن أنجو من التعصب القومي . لا أقول ذلك نفاقاً ، ولا لأني أتحدث إليك ، وإلى القارئ العبري بواسطتك . لأتحدث بسذاجة : أنا لا أعادي اليهود . وأقول لك بإدراك تام إن الإنسان – مهما كان لونه ومهما كانت قوميته – هو كنزي .
وأريد أن أتباهى بإنسانيتي ، بأنني أول شاعر عربي عرض جندياً إسرائيلياً حتى بعد حرب حزيران ، بجوهره الإنساني . كيف حدث ذلك ؟ بعد حرب حزيران التي أعادت قتلي حافظت على انتمائي الإنساني . كتبت قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" . والقصيدة هي حوار مع جندي إسرائيلي عاد من الحرب خائباً لأنه فقد انتماءه الإنساني . شربت معه أربع كؤوس خلال حديثنا عن الحرب وعن حبه الأول وعن همومه اليومية ، بدون ظل من الكراهية القومية . لقد وضع الجندي قلبه أمامي ، وأنا استقبلته كصديق قبل الحرب . هاجمني أديب سوري، بشدة ، على هذه القصيدة . اتهمني بأنني أضلل الرأي العام العربي والعالمي . وقال إن هذا الجندي موهوم . ولكنني سررت عندما قرأت كتاب أحد النقاد الشباب البارزين هو رجاء النقاش . في كتابه عني رد على الكاتب السوري بأن الصراع في المنطقة ليس مع اليهود كبشر ، ولكنه صراع بين العرب والصهيونية . وقال رجاء النقاش إن العالم لم يفهم عداء العرب لإسرائيل ، ولمح إلى أن العقبة بين تفاهم العرب واليهود هي الصهيونية والاستعمار . وأنا أستغرب لماذا لا يستخلص الضمير اليهودي النتائج الحقيقية من تأثير الأدب العربي الإنساني في إسرائيل . إننا نشهد في الآونة الأخيرة ، ملاحقة إيجابية من العالم العربي للشعر العربي في إسرائيل . صحيح ، أن أغلبية الإسرائيليين تنظر إلى هذه الحقيقة بريبة وترى فيها دليلاً على موقف العرب السلبي . ولكنني أنظر إلى الأمر من زاوية أخرى . إن هذا الاهتمام علامة على التغييرات الإيجابية الجارية في النفسية العربية . العالم العربي يرى في الشعر العربي في إسرائيل رمزاً للصمود ، رمزاً لعدم الاستسلام ، ورمزاً للأمل . وقد كنا شهوداً على النقد الذي تعرض له شعر القضية الفلسطينية المكتوب في البلدان العربية . كان النقد يقول إن أغلبية هذا الشعر تتميز برفع الشعارات المتعصبة ، ولم تعرف كيف تجد السبيل إلى القلب الأوروبي وإلى حاسة العدل الإنساني . وقد وجد هؤلاء النقاد حلاً لهذه المسألة في الشعر العربي المكتوب في إسرائيل . رأوا فيه شعراً إنسانياً يسمو على مشاعر الحقد والمزاج النفسي البدائي . وعبّر عن ذلك بمستوى فني عال . وأنا ، كشاعر عربي يحافظ على طابعه القومي العربي والإنساني ، أرى في هذه الظاهرة كسباً للعقل السليم والإحساس المعافى وانتصاراً للإنسانية . لا يعني ذلك أني صرت عدمياً قومياً ، ولا يعني ذلك أني أسلم بأي شكل من أشكال الغبن والظلم ، ولكن ذلك يعني أنني قادر على التمييز بين الإنسان والسياسة .
يجري حوار بين الأدباء والنقاد في العالم العربي حول تسمية حركة الشعر العربي في إسرائيل التي يمثلها بشكل بارز : سميح القاسم ، توفيق زياد ، وسالم جبران وأنا . هناك من يسميها : شعر المقاومة . وكتب أحد النقاد البارزين في القاهرة غالي شكري : يمكن أن نسمي هذا الشعر شعر مقاومة ، ولكن علينا أن نذكر أن نقطة انطلاق هؤلاء الشعراء هي الاعتراف بحق اليهود والعرب في العيش في فلسطين ولذلك من الأصح أن نطلق عليهم اسم : شعراء الاحتجاج والمعارضة .
* * *
- لا . أنا لا أعتبر نفسي شاعراً ناضجاً . لا أشعر بالرضا الفني . وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره . صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية ، ونجحت في قهر تناقضاتي ، ولكنني لا أشعر بالرضا الفني .
إذا كان يشغلني في كل تجاربي الأدبية قضية الحقيقة والعدل في حياتنا . إنها تصبح قضية أكثر تعقيداً وتركيباً في هذا العصر المركب . ولكنني أتشبث بكل نقطة ضوء وسعادة في بحثي عن الأشياء التي تبرر قدرة الإنسان على الصمود أمام العذاب .
ليس من حقي القول إني سعيد . من السخف أن أدعي بأنني سعيد . ولكن مطاردتي للسعادة تمنحني السعادة . هذا هو – في رأيي – مبرر وجود الشاعر منذ قيام الإنسان بالتعبير عن نفسه .
أحاول المزج بين انتمائي القومي وانتمائي العالمي والإنساني . وأحاول أيضاً أن أعمق حاضري بخيرة العناصر الكامنة في الماضي ، وبأجمل ما يظهر لي من المستقبل .
من الطبيعي أن تحترم شاعراً وتعجب بشاعر وتحب آخر . كلنا نقدّر شكسبير على سبيل المثال . وكلنا نعجب بحكمت ونيرودا وأودن . ولكن رغم إعجابي البالغ بالكثيرين من الشعراء ، إلا أنني أحب لوركا.. نعم ، أنا أحب لوركا حباً . لا أعتبر لوركا شاعراً مبدعاً فحسب ، ولكنني أعتبره أيضاً صديقي .
* * *
- الكثيرون من أصدقائي يتألمون من أجلي . هذه الملاحقات.. الاعتقالات وأوامر الإقامة الجبرية التي تحدد حرية تجولي في وطني ، أصبحت جزءاً من حياتي اليومية ولكنني أنظر إليها باستهتار يكاد يكون خبيثاً . لست متوتراً ولست مندهشاً . أجلس في غرفتي ، كل مساء ويطربني أن ارتبط بالشمس ، لأني أمنع من مغادرة البيت بعد غروب الشمس . منحوني شرفاً كبيراً عندما ربطوا خطواتي بالشمس . اجلس في الغرفة ، أقرأ ، أسمع موسيقى ، وأنتظر البوليس . وفي الساعة الرابعة بعد كل يوم أثبت وجودي في محطة الشرطة بابتسامة حقيقية غير لئيمة دائماً . وأنا أنظر إلى ذلك برؤية شعرية : لقد تقاسمنا اليوم : لهم الليل ، والنهار لي . لا يحق لي الخروج في الليل ، وهم دائمو التجوال في الليل . وكل واحد منا يعرف النهار أجمل من الليل ، وضوء الشمس أحلى من الظلام . فمن انتصر.. أنا أم البوليس؟
* * *
- لا أنام قبل الاستماع إلى ألحان ميكيس ثيودوراكيس . بيني وبينه حكاية : قبل ثلاثة أسابيع قرأت في الصحف الإسرائيلية أن ميكيس قد اعتقل . كتبت قصيدة من وحي هذا الاعتقال ، عنوانه "ريتا.. أحبيني"" . كتبت في مقدمة القصيدة أن سبب اعتقال ميكيس ثيودوراكيس هو أنه "خطر على أمن الجمهور"" . أضحكني أن الصحف الإسرائيلية وضعت هذه الجملة ضمن أقواس تعبيراً عن سخريتها من هذا الإدعاء : "خطر على أمن الجمهور"" . ضحكت ، لأن هذه الصحف تنظر إلى هذا الإدعاء كأمر بعيد عنها وبعيد عن حدود إسرائيل ! إني أستمع إلى ألحان ميكيس كل مساء وأحس أننا صديقان . أنا أيضاً "خطر على أمن الجمهور" . ولكنني لم أتصور أن مصيري ، ذلك الأسبوع ، سيكون كمصيره . فعندما نشرت القصيدة في "الاتحاد" كنت أنا في الاعتقال لأنني "خطر على أمن الجمهور" !
joseph.algazy@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق