د. عدنان الظاهر
{{ إلى سيدة أنوار الحكمة في بابل . إليها ... نجمة الصباح البابلي ومليكة ومالكة الصور الأسطورية الفحوى والفتنة والجمال . إليها أينما كانت وحيثما رحلت ... أكانت هناك متوطِّنة أوهنا مُتغرِّبة . غادرت وحمّلتْ عينيها بأمواه نهر فرات بابلَ صافيةً رقراقةً كالدرِّ المنثورِ ... ذكرى مَنْ أحبّت وتركتْ هناكَ ومناديلَ لتجفيف الدموع هنا وجبران الخواطر .
إليها في برلين تعاني من الغربة والوحدة وآلام المعدة . لا من يُشاركها الوحدة إلا دُبّها الأزرق الصغير . تكلّمهُ فلا يردُّ فأي مُوأسٍ صامتٍ قاسٍ هذا ؟ همستُ في الهواء ناصحاً : بدّليه بقطّة حيّة تموءُ إذا جاعت وتجاملُ وتنامُ على ذراعك. إنها تتحرّك ودبّك ساكنٌ لا يتحرك ولا يموء }} .
قالت همساً في الفضاء تكلّم دبّها أو دبتها :
((ما يهم عندي هو رؤيتك ما وراء الصورة و ما وراء الأشكال )) .
كيف أرى ما وراء الصورة من غير أن أراها أولاً ؟ الصورة أولاً يأتي بعدها المخفي وراءّها بحكم طبائع الأشياء . المنظور ثم المستور . من خلل المنظور يبدو المخفي جليّاً واضحاً وقد يتعكر ولا يصفو . الصورة هي مفتاح الدخول إلى عوالم وأرواح البشر . الصورة ولا سيّما العيون . العيونُ هي نوافذُ ومنافذ الرؤية ... خلا ذلك لا من شيءٍ إلاّ العَتمة والظلام . كيف أرى ما وراء الصورة وليس في عينيَّ أشعة سينية { أشعة رونتكن ، أشعة أكس } ؟ بلى ، أشعة أخرى موجودة تختلف عن أشعة أكس . أسميها تحصيل أو محصلّة تبادل وتفاعل إشعاعات النفوس البشرية لا بين سائر الناس عامةً ولكنْ بين بعضهم وخاصة هذا البعض . أفلم يقصد الشاعر أبو الطيب المتنبي هذا النوع من الإشعاعات الخاصة التي تربط قوياً بين إنسانين حين قال مخاطباً الأديب الكاتب إبنَ العميد :
نافستُ فيه صورةً في سترهِ
لو كُنتُها لخفيتُ حتى يظهرا
الصورة هنا هي صورة الرجل الممدوح . لكنها صورةٌ أخرى سريّة مستترة وراء حجاب لا يستطيع خرقه إلا نفرٌ معدودٌ من البشر . إخترقه المتنبي بالفعل والقول . نافس الممدوحَ في صورته أو شكله المستتر الغائب وراء ستار لا يُرى . نافس الصورة ولم ينافس صاحبها الواضح للعيان . ليس المتنبي مهتماً بالعيان وبالظاهر للعيان . العيان مبذول ومبتذل ورخيص . القيمة الحقيقية تقبع خلف العيان الشاخص المرئي . في الصورة . فيما وراء وجه الإنسان . العيان يتبدل ويتحول دواماً فهو خدّاعٌ مراوغٌ وهو رمال متحركة فيها بعض الخطر وتحمل ضمن ما تحمل في تضاعيفها مسألة أو مشكلة التمرد على الثبات والثوابت . فيما وراء الصورة يأتينا مما هو أمامها فماذا نرى في المرآة ؟ صورتنا أم صورة ما وراءها ؟ يتطابقُ في المرآة الإثنان : الظاهر والمخفي وتلك من المعجزات التي لم يولها البشرُ ما تستحق من دراسة وإهتمام . المرايا تجمع الشبح وصورته لكنه جمع تفريق لا جمعُ صهر وضم ودمج وحلول صوفي . الظاهر ـ خلاف المخفي ـ سريع التحول كثير التبدل فكيف إذا ما إجتمعا في جسم ثالث هو المرأة ؟ المرآة من الزجاج أصلاً ، وفي قديم الزمان كانت المرايا تُصنعُ من الفضة الصقيلة أي الممرّدة أو حتى من الذهب الخالص ، حسب مرتبة ودرجة ثراء أصحابها وكلهم من عليّة أقوامهم كالملوك ومن هم في مستوى الملوك وإلا ، ففقراء الناس ليسوا مهتمين برؤية وجوههم البتّة . لذا فإنهم لا يعرفون ما في هذه الوجوه ولا كيف هي إلا من خلال وصف الآخرين لها . هل كان في بيت زليخا ، قرينة عزيز مصر ، مرآة يرى فيها يوسف { الذي أكله الذئبُ البريءُ وما أكله أبداً } صورته ويدرك أنَّ وجهه جميلٌ يستهوي نساء عصره وزمانه ؟ أم أنه كان جميلاً في عيني هذه المرأة لا أكثر ؟
كان جميلاً في عيون العديد من النساء بدليل أنهنَّ قطّعنَ أيديهنَّ لما أخرجته زليخا ، التي راودته عن نفسه ، من سجنه عليهنَّ (( فلما رأينه أكبرنه وقطّعنَ أيديهنَّ وقُلنَ حاشَ للهِ ما هذا بشراً إنْ هذا إلا مَلَكٌ كريمٌ / سورة يوسف ، الآية 31 )) . على أية حال ، إنْ لم يرَ هذا الفتى صورته في مرآة زليخا فقد رآها في عينيها وتصورها في وصفها لمعالم وجهه وقوة جاذبية شخصيته إذْ يكفي أنْ تقول إمرأةٌ لرجل [ إنك جميلٌ أو أراك جميلاً ] فكيف إذا راودته عن نفسه وأغرته أنْ يمارسَ الجنس معها ؟ لقد أقسم الشاعر المصري أحمد شوقي في يعض شعره بجمال يوسفَ إذْ قال :
الحسنُ حلفتُ بيوسفهِ
والصورةِ ، أنك مُفرَدهُ
... من قصيدة " مضناكَ جفاهُ مرقده " التي جارى فيها قصيدة الحصري القيرواني :
يا ليلُ الصبُّ متى غدهُ
أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
أو :
يا ليلَ الصبِّ متى غدُهُ
أقيامُ الساعةِ موعدهُ
وفي هذا الشكل ضعف لغوي بيّن ، فالصياغة الأولى أفضل وأكثر دقةً وأقومُ لغةً. هل رآى شوقي أو سواه صورة يوسفَ ؟ الجواب معروف . إذاً كيف جوّز لنفسه شوقي أنَّ يتخذَ من وجه أو شئ لم يره قطُّ مثالاً للحسن ؟ الخيال ؟ خيال الشعراء ؟ نعم ، إنهم يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون على وجوههم . وفي كل عزاءٍ تراهم لاطمين ، وفي كل عُرسٍ راقصين وفي كل حفلٍ ومحفلٍ تجدهم ثملين . إنهم الشعراء وكفى ! قسمُ أحمد شوقي هذا لا قيمة فنية له سوى الإشارة إلى جمال وجه لا أحد يدري بالضبط هل كان صاحب هذا الحسن موجوداً فعلاً أم أنه محض أساطير وخرافات موضوعة ؟ أقول هذا الكلام إذْ أقارنه بما قال المتنبي قبل شوقي بقرون وقرون عن حسن الوجوه وكان يخاطب إمرأةً لا رجلاً ! قال أبو الطيّب :
ما لنا كلُنا جوٍ يا رسولُ
أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ
كلّما عادَ مَنْ بعثتُ إليها
غارَ منّي وخانَ فيما يقولُ
...
زوّدينا من حُسنِ وجهكِ ما دا
مَ ، فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصِلينا نصلْكِ في هذه الدن
يا ، فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ
فما أروع هذا الكلام وما أشد وقعه في أذن ونفس قارئه . فيه حرارة وفيه صدق معاناة وفيه تحرّك وتحرّق ولوعة وخوف من المجهول ومما قد يأتينا مع مرِّ الزمان [[ فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ ]] فالتحول طبع وقانون الحياة . [[ وصلينا نصلكِ في هذه الدن / يا فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ ]] ... أعمارنا قصيرة وأجلنا محتوم . المتنبي في سباق محموم وصراع مُرٍّ مع الزمن لكأنه يتنبأ بقرب أجله ومفارقته الحياة . وبالفعل ، أغتيلَ الشاعر بعد عامين من كتابته لهذه القصيدة التي إختصَّ بها صديقه السابق سيف الدولة الحمداني . لم يتكلم أبو الطيّب عن حسن يوسف لأنه ـ ربما ـ كان يتغزل بفتاة يحبها وليس بفتى . لا أتذكر جيداً هل ذكر أبو نؤاس يوسفَ في غزله بالفتيان والغلمان أم لا ؟ عليَّ الرجوع إلى ديوانه لأقطع في هذا الأمر . كان أغلبُ غزله الغلماني بالنصارى أتباع المسيح ، ربما لكثرتهم في بغدادَ عهدذاك مقارنةً باليهود .
الصورة وما وراءها
أين يقبعُ هذا [[ الوراء ]] ؟ أيّةُ مسافةٍ تفصلُ الحقيقةَ الظاهرة عن الشبح الغائب عن العيان ؟ مقدارُ وسعة وطبيعة هذه المسافة تختلفُ بإختلاف البشر وطبائعهم وتراكيبهم العصبية والعقلية والجسدية وحسب جبلّتهم التي وُلدوا فيها ، بل وحتى ثقافتهم وأوضاعهم في السلّم الطبقي الإجتماعي . يكادُ التطابق بين الحقيقة الظاهرة وشبحها الغائب يكونُ تاماً لدى بسطاء الناس . ليس لديهم أو فيهم ما يخفونه أو يخافون عليه . إنهم شفّافون تقريباً . جلودهم لباسهم الذي يقيهم من حر الصيف وقرّ الشتاء . فالباحث عن الحقيقة لا يجدها إلاّ هنا ، في عالم البساطة والبسطاء . الحقيقة بسيطة رغم عِظمِ شأنها وجلال قدرها .
الآن ، الفيزيك والميتا فيزيك ! هل صورة المرء الظاهرة فيزيك وشبحها المخفي ميتافيزيك ؟ الطبيعة وما وراء الطبيعة ؟ لا أحسبُ الأمرَ كذلك . ليس الأمرُ كذلك . كلاهما فيزيك ، لكنَّ أحدهما ظاهرٌ بيّنٌ يتحدى المجهول ويرفض الغياب . أما الآخر الغائب أو المختفي أو المُغيّب فإنه غائبٌ لأنه أُريد منه أنْ يغيبَ . فعلُ الأول فعلٌ حرٌّ واضحٌ سافرٌ يتحدى حتى الظلام . أما الآخر فإنه تحت ضغط ، لذا فإنه فاقدٌ للحرية . غُيّبَ قهراً وقسراً . وعليه فإنه في طبيعته يختلف جذرياً وكليّاً عن المياه الجوفية المخفية تحت الأرض ولو أنها واقعة تحت ثقل أو ضغط طبقات الأرض فوقها . لكنها من حيث المنشأ سقطت مطراً ثم سالت حرّةً فاخترقت طبقات الأرض عنوةً لتجدَ نفسها في نهاية المطاف حبيسة هناك في جوف الأرض . شبح الصورة ليس كذلك .
هل يتغيرُ ما وراءَ الصورة إذا تغيّرتْ هذه ؟ أتبقى كما هي إذا ما بقيت الصورةُ الأصل كما هي في أول عهدها ؟ الجواب : إذا كانت الصورة وما وراءها { شبحها } خاضعتين للزمن الواحد الأزلي الطبيعة والحركة فلا من سبيل للتغيّر أمامهما أو فيهما . الزمن سيد وخالق وقاتل الجميع دون إستثناء . إذاً ، يبقى شبح الصورة الخافي ما بقيت الصورة الأصلُ نسخةً طبق الأصل منه . الصورة وشبحها في المرآة . الزمن لا يميّزُ بين الصورة وشبحها سواءً أكان مخفيّاً أو ملاصقاً لأصله . لا يخفى شيء على الزمن . الزمنُ ثاقبُ وقاهرُ وسيدُ المكان رغم أنهما معاً لم يفترقا يوماً أو لحظةً وسوف لن يفترقا .هل المكانُ صورةٌ والزمن إطارها ؟ سؤال ساذج . لأنَّ من شأنِ هذا السؤال أنْ يفصل الإثنين عن بعضهما وذاك أمرٌ محالٌ . بل إنهما معاً معاً معاً وأبداً ، الصورة والإطار . الصورة في إطارها والإطارُ في صورته . لكأنما يتبادلان الأدوار ثانيةً فثانية حتى لو فنيَّ هذا الكون غير المتناهي . لا من نهايةٍ للزمن ولا من نهاية للمكان فالمكانُ هو مادة هذا الكون .
تعقيبٌ لاحق / صورتها معي لكنها هناك . فمن الفيزيك ومَن الميتافيزيك ؟ صورتها معي هنا أم هي نفسها جَسَداً وروحاً هناك ؟ ماذا لو كانت هي هنا وصورتها هناك ؟ ما الذي سيتبدّلُ في أطراف هذه المعادلة المعقّدة من الدرجة العاشرة بعد المائة ؟ أحسبُ أنني أنا مَن يتبدّلُ وتلك هي المصيبة . أنا الذي يتبدّلُ فيا ويلي من صورتها ظالمةً ويا ويلها مني مظلوماً ! هل أريدُ المزيد من الصور ثم المزيد ؟ نعمْ ، ظمأي لماءِ فراتِ بابلَ لشديدٌ . ظمأي قاسٍ صامتٌ قسوةَ صمتِ دبّها الأزرق الذي يقاسمها حجرة نومها ولا يُجيدُ تقبيلَ أناملها .
بابلُ يا بابلُ يا بابلُ ... ردّي بناتكِ المغتربات لجنّاتك المُعلّقة فالفراتُ يبكي وينتحبُ وقواعد وعُمُد الجنّات تهتزُّ وتختضُّ إذْ لا مِن جنّةٍ دون بناتِ بابلَ من حورِ العِين . قال دبّها همساً كأنه يكلّمُ نفسه : وهل سيهون عليك فراقها ؟ لا واللهِ ... لا واللهِ يا دبُّ ... لا يهونُ عليَّ فراقها وسوف لن يهون . أما سمعتَ ما قال الشاعر العراقي معروف عبد الغني الرُصافي :
وإني جبانٌ في فراقِ أحبّتي
وإنْ كنتُ في غير الفراقِ شجاعا
هل كان هذا حُلُماً أم رؤيا خيال ؟ فيزيك أم ميتافيزيك ؟ حقيقة أم لوحة بالألوان إفتراضية مُعلّقة على شاشة الكومبيوتر ؟ نهض حمورابي من قدّام مسلّته الشهيرة ليقولَ مؤشّراً نحوي بعصاه : أوهام ... أوهام ... قضيّتَ عمرك يا رجل وأنت تحلم وتتمنى وتتوهم . أفقتُ من نومي مرتعباً وَجِلاً أردّدُ شعر الأخطل الصغير :
كفانيَ يا قلبُ ما أحملُ
أفي كلِّ يومٍ هوىً أوّلُ ؟
تلفّتُ هنا وهناك فلم أجدْ معي في بيتي إلا الدب الصغير الأزرق !
{{ إلى سيدة أنوار الحكمة في بابل . إليها ... نجمة الصباح البابلي ومليكة ومالكة الصور الأسطورية الفحوى والفتنة والجمال . إليها أينما كانت وحيثما رحلت ... أكانت هناك متوطِّنة أوهنا مُتغرِّبة . غادرت وحمّلتْ عينيها بأمواه نهر فرات بابلَ صافيةً رقراقةً كالدرِّ المنثورِ ... ذكرى مَنْ أحبّت وتركتْ هناكَ ومناديلَ لتجفيف الدموع هنا وجبران الخواطر .
إليها في برلين تعاني من الغربة والوحدة وآلام المعدة . لا من يُشاركها الوحدة إلا دُبّها الأزرق الصغير . تكلّمهُ فلا يردُّ فأي مُوأسٍ صامتٍ قاسٍ هذا ؟ همستُ في الهواء ناصحاً : بدّليه بقطّة حيّة تموءُ إذا جاعت وتجاملُ وتنامُ على ذراعك. إنها تتحرّك ودبّك ساكنٌ لا يتحرك ولا يموء }} .
قالت همساً في الفضاء تكلّم دبّها أو دبتها :
((ما يهم عندي هو رؤيتك ما وراء الصورة و ما وراء الأشكال )) .
كيف أرى ما وراء الصورة من غير أن أراها أولاً ؟ الصورة أولاً يأتي بعدها المخفي وراءّها بحكم طبائع الأشياء . المنظور ثم المستور . من خلل المنظور يبدو المخفي جليّاً واضحاً وقد يتعكر ولا يصفو . الصورة هي مفتاح الدخول إلى عوالم وأرواح البشر . الصورة ولا سيّما العيون . العيونُ هي نوافذُ ومنافذ الرؤية ... خلا ذلك لا من شيءٍ إلاّ العَتمة والظلام . كيف أرى ما وراء الصورة وليس في عينيَّ أشعة سينية { أشعة رونتكن ، أشعة أكس } ؟ بلى ، أشعة أخرى موجودة تختلف عن أشعة أكس . أسميها تحصيل أو محصلّة تبادل وتفاعل إشعاعات النفوس البشرية لا بين سائر الناس عامةً ولكنْ بين بعضهم وخاصة هذا البعض . أفلم يقصد الشاعر أبو الطيب المتنبي هذا النوع من الإشعاعات الخاصة التي تربط قوياً بين إنسانين حين قال مخاطباً الأديب الكاتب إبنَ العميد :
نافستُ فيه صورةً في سترهِ
لو كُنتُها لخفيتُ حتى يظهرا
الصورة هنا هي صورة الرجل الممدوح . لكنها صورةٌ أخرى سريّة مستترة وراء حجاب لا يستطيع خرقه إلا نفرٌ معدودٌ من البشر . إخترقه المتنبي بالفعل والقول . نافس الممدوحَ في صورته أو شكله المستتر الغائب وراء ستار لا يُرى . نافس الصورة ولم ينافس صاحبها الواضح للعيان . ليس المتنبي مهتماً بالعيان وبالظاهر للعيان . العيان مبذول ومبتذل ورخيص . القيمة الحقيقية تقبع خلف العيان الشاخص المرئي . في الصورة . فيما وراء وجه الإنسان . العيان يتبدل ويتحول دواماً فهو خدّاعٌ مراوغٌ وهو رمال متحركة فيها بعض الخطر وتحمل ضمن ما تحمل في تضاعيفها مسألة أو مشكلة التمرد على الثبات والثوابت . فيما وراء الصورة يأتينا مما هو أمامها فماذا نرى في المرآة ؟ صورتنا أم صورة ما وراءها ؟ يتطابقُ في المرآة الإثنان : الظاهر والمخفي وتلك من المعجزات التي لم يولها البشرُ ما تستحق من دراسة وإهتمام . المرايا تجمع الشبح وصورته لكنه جمع تفريق لا جمعُ صهر وضم ودمج وحلول صوفي . الظاهر ـ خلاف المخفي ـ سريع التحول كثير التبدل فكيف إذا ما إجتمعا في جسم ثالث هو المرأة ؟ المرآة من الزجاج أصلاً ، وفي قديم الزمان كانت المرايا تُصنعُ من الفضة الصقيلة أي الممرّدة أو حتى من الذهب الخالص ، حسب مرتبة ودرجة ثراء أصحابها وكلهم من عليّة أقوامهم كالملوك ومن هم في مستوى الملوك وإلا ، ففقراء الناس ليسوا مهتمين برؤية وجوههم البتّة . لذا فإنهم لا يعرفون ما في هذه الوجوه ولا كيف هي إلا من خلال وصف الآخرين لها . هل كان في بيت زليخا ، قرينة عزيز مصر ، مرآة يرى فيها يوسف { الذي أكله الذئبُ البريءُ وما أكله أبداً } صورته ويدرك أنَّ وجهه جميلٌ يستهوي نساء عصره وزمانه ؟ أم أنه كان جميلاً في عيني هذه المرأة لا أكثر ؟
كان جميلاً في عيون العديد من النساء بدليل أنهنَّ قطّعنَ أيديهنَّ لما أخرجته زليخا ، التي راودته عن نفسه ، من سجنه عليهنَّ (( فلما رأينه أكبرنه وقطّعنَ أيديهنَّ وقُلنَ حاشَ للهِ ما هذا بشراً إنْ هذا إلا مَلَكٌ كريمٌ / سورة يوسف ، الآية 31 )) . على أية حال ، إنْ لم يرَ هذا الفتى صورته في مرآة زليخا فقد رآها في عينيها وتصورها في وصفها لمعالم وجهه وقوة جاذبية شخصيته إذْ يكفي أنْ تقول إمرأةٌ لرجل [ إنك جميلٌ أو أراك جميلاً ] فكيف إذا راودته عن نفسه وأغرته أنْ يمارسَ الجنس معها ؟ لقد أقسم الشاعر المصري أحمد شوقي في يعض شعره بجمال يوسفَ إذْ قال :
الحسنُ حلفتُ بيوسفهِ
والصورةِ ، أنك مُفرَدهُ
... من قصيدة " مضناكَ جفاهُ مرقده " التي جارى فيها قصيدة الحصري القيرواني :
يا ليلُ الصبُّ متى غدهُ
أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
أو :
يا ليلَ الصبِّ متى غدُهُ
أقيامُ الساعةِ موعدهُ
وفي هذا الشكل ضعف لغوي بيّن ، فالصياغة الأولى أفضل وأكثر دقةً وأقومُ لغةً. هل رآى شوقي أو سواه صورة يوسفَ ؟ الجواب معروف . إذاً كيف جوّز لنفسه شوقي أنَّ يتخذَ من وجه أو شئ لم يره قطُّ مثالاً للحسن ؟ الخيال ؟ خيال الشعراء ؟ نعم ، إنهم يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون على وجوههم . وفي كل عزاءٍ تراهم لاطمين ، وفي كل عُرسٍ راقصين وفي كل حفلٍ ومحفلٍ تجدهم ثملين . إنهم الشعراء وكفى ! قسمُ أحمد شوقي هذا لا قيمة فنية له سوى الإشارة إلى جمال وجه لا أحد يدري بالضبط هل كان صاحب هذا الحسن موجوداً فعلاً أم أنه محض أساطير وخرافات موضوعة ؟ أقول هذا الكلام إذْ أقارنه بما قال المتنبي قبل شوقي بقرون وقرون عن حسن الوجوه وكان يخاطب إمرأةً لا رجلاً ! قال أبو الطيّب :
ما لنا كلُنا جوٍ يا رسولُ
أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ
كلّما عادَ مَنْ بعثتُ إليها
غارَ منّي وخانَ فيما يقولُ
...
زوّدينا من حُسنِ وجهكِ ما دا
مَ ، فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصِلينا نصلْكِ في هذه الدن
يا ، فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ
فما أروع هذا الكلام وما أشد وقعه في أذن ونفس قارئه . فيه حرارة وفيه صدق معاناة وفيه تحرّك وتحرّق ولوعة وخوف من المجهول ومما قد يأتينا مع مرِّ الزمان [[ فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ ]] فالتحول طبع وقانون الحياة . [[ وصلينا نصلكِ في هذه الدن / يا فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ ]] ... أعمارنا قصيرة وأجلنا محتوم . المتنبي في سباق محموم وصراع مُرٍّ مع الزمن لكأنه يتنبأ بقرب أجله ومفارقته الحياة . وبالفعل ، أغتيلَ الشاعر بعد عامين من كتابته لهذه القصيدة التي إختصَّ بها صديقه السابق سيف الدولة الحمداني . لم يتكلم أبو الطيّب عن حسن يوسف لأنه ـ ربما ـ كان يتغزل بفتاة يحبها وليس بفتى . لا أتذكر جيداً هل ذكر أبو نؤاس يوسفَ في غزله بالفتيان والغلمان أم لا ؟ عليَّ الرجوع إلى ديوانه لأقطع في هذا الأمر . كان أغلبُ غزله الغلماني بالنصارى أتباع المسيح ، ربما لكثرتهم في بغدادَ عهدذاك مقارنةً باليهود .
الصورة وما وراءها
أين يقبعُ هذا [[ الوراء ]] ؟ أيّةُ مسافةٍ تفصلُ الحقيقةَ الظاهرة عن الشبح الغائب عن العيان ؟ مقدارُ وسعة وطبيعة هذه المسافة تختلفُ بإختلاف البشر وطبائعهم وتراكيبهم العصبية والعقلية والجسدية وحسب جبلّتهم التي وُلدوا فيها ، بل وحتى ثقافتهم وأوضاعهم في السلّم الطبقي الإجتماعي . يكادُ التطابق بين الحقيقة الظاهرة وشبحها الغائب يكونُ تاماً لدى بسطاء الناس . ليس لديهم أو فيهم ما يخفونه أو يخافون عليه . إنهم شفّافون تقريباً . جلودهم لباسهم الذي يقيهم من حر الصيف وقرّ الشتاء . فالباحث عن الحقيقة لا يجدها إلاّ هنا ، في عالم البساطة والبسطاء . الحقيقة بسيطة رغم عِظمِ شأنها وجلال قدرها .
الآن ، الفيزيك والميتا فيزيك ! هل صورة المرء الظاهرة فيزيك وشبحها المخفي ميتافيزيك ؟ الطبيعة وما وراء الطبيعة ؟ لا أحسبُ الأمرَ كذلك . ليس الأمرُ كذلك . كلاهما فيزيك ، لكنَّ أحدهما ظاهرٌ بيّنٌ يتحدى المجهول ويرفض الغياب . أما الآخر الغائب أو المختفي أو المُغيّب فإنه غائبٌ لأنه أُريد منه أنْ يغيبَ . فعلُ الأول فعلٌ حرٌّ واضحٌ سافرٌ يتحدى حتى الظلام . أما الآخر فإنه تحت ضغط ، لذا فإنه فاقدٌ للحرية . غُيّبَ قهراً وقسراً . وعليه فإنه في طبيعته يختلف جذرياً وكليّاً عن المياه الجوفية المخفية تحت الأرض ولو أنها واقعة تحت ثقل أو ضغط طبقات الأرض فوقها . لكنها من حيث المنشأ سقطت مطراً ثم سالت حرّةً فاخترقت طبقات الأرض عنوةً لتجدَ نفسها في نهاية المطاف حبيسة هناك في جوف الأرض . شبح الصورة ليس كذلك .
هل يتغيرُ ما وراءَ الصورة إذا تغيّرتْ هذه ؟ أتبقى كما هي إذا ما بقيت الصورةُ الأصل كما هي في أول عهدها ؟ الجواب : إذا كانت الصورة وما وراءها { شبحها } خاضعتين للزمن الواحد الأزلي الطبيعة والحركة فلا من سبيل للتغيّر أمامهما أو فيهما . الزمن سيد وخالق وقاتل الجميع دون إستثناء . إذاً ، يبقى شبح الصورة الخافي ما بقيت الصورة الأصلُ نسخةً طبق الأصل منه . الصورة وشبحها في المرآة . الزمن لا يميّزُ بين الصورة وشبحها سواءً أكان مخفيّاً أو ملاصقاً لأصله . لا يخفى شيء على الزمن . الزمنُ ثاقبُ وقاهرُ وسيدُ المكان رغم أنهما معاً لم يفترقا يوماً أو لحظةً وسوف لن يفترقا .هل المكانُ صورةٌ والزمن إطارها ؟ سؤال ساذج . لأنَّ من شأنِ هذا السؤال أنْ يفصل الإثنين عن بعضهما وذاك أمرٌ محالٌ . بل إنهما معاً معاً معاً وأبداً ، الصورة والإطار . الصورة في إطارها والإطارُ في صورته . لكأنما يتبادلان الأدوار ثانيةً فثانية حتى لو فنيَّ هذا الكون غير المتناهي . لا من نهايةٍ للزمن ولا من نهاية للمكان فالمكانُ هو مادة هذا الكون .
تعقيبٌ لاحق / صورتها معي لكنها هناك . فمن الفيزيك ومَن الميتافيزيك ؟ صورتها معي هنا أم هي نفسها جَسَداً وروحاً هناك ؟ ماذا لو كانت هي هنا وصورتها هناك ؟ ما الذي سيتبدّلُ في أطراف هذه المعادلة المعقّدة من الدرجة العاشرة بعد المائة ؟ أحسبُ أنني أنا مَن يتبدّلُ وتلك هي المصيبة . أنا الذي يتبدّلُ فيا ويلي من صورتها ظالمةً ويا ويلها مني مظلوماً ! هل أريدُ المزيد من الصور ثم المزيد ؟ نعمْ ، ظمأي لماءِ فراتِ بابلَ لشديدٌ . ظمأي قاسٍ صامتٌ قسوةَ صمتِ دبّها الأزرق الذي يقاسمها حجرة نومها ولا يُجيدُ تقبيلَ أناملها .
بابلُ يا بابلُ يا بابلُ ... ردّي بناتكِ المغتربات لجنّاتك المُعلّقة فالفراتُ يبكي وينتحبُ وقواعد وعُمُد الجنّات تهتزُّ وتختضُّ إذْ لا مِن جنّةٍ دون بناتِ بابلَ من حورِ العِين . قال دبّها همساً كأنه يكلّمُ نفسه : وهل سيهون عليك فراقها ؟ لا واللهِ ... لا واللهِ يا دبُّ ... لا يهونُ عليَّ فراقها وسوف لن يهون . أما سمعتَ ما قال الشاعر العراقي معروف عبد الغني الرُصافي :
وإني جبانٌ في فراقِ أحبّتي
وإنْ كنتُ في غير الفراقِ شجاعا
هل كان هذا حُلُماً أم رؤيا خيال ؟ فيزيك أم ميتافيزيك ؟ حقيقة أم لوحة بالألوان إفتراضية مُعلّقة على شاشة الكومبيوتر ؟ نهض حمورابي من قدّام مسلّته الشهيرة ليقولَ مؤشّراً نحوي بعصاه : أوهام ... أوهام ... قضيّتَ عمرك يا رجل وأنت تحلم وتتمنى وتتوهم . أفقتُ من نومي مرتعباً وَجِلاً أردّدُ شعر الأخطل الصغير :
كفانيَ يا قلبُ ما أحملُ
أفي كلِّ يومٍ هوىً أوّلُ ؟
تلفّتُ هنا وهناك فلم أجدْ معي في بيتي إلا الدب الصغير الأزرق !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق