الأربعاء، سبتمبر 30، 2009

موتٌ من تحاليل


نعمان إسماعيل عبد القادر

قصة قصيرة:
على الرغمِ من حياتهِ المنوطةِ بواقعٍ، فيهِ كُتب عليهِ أن يظلَّ على حالٍ غير مستقرةٍ وليسَ عنها هو راضٍ.. وعلى الرغمِ من كراهيتهِ للبساطةِ والوسطيةِ وحبهِ الشديد للارتقاء.. وعلى الرغم من الثوابت التي وضعها وزوجته في بداية ارتباطهما.. وعلى الرغم من مواقفه المناهضة للرجعية، حين رأى أن كثرة الإنجاب مظهر من مظاهر الرجعية..
أربعةُ أطفالٍ جاءوه وأعباءَ الحياةِ.. أفواهٌ ثلاثة وشظفَ العيش.. قسوةُ الحياة وظروف تواكب العولمة، والخامسُ يصرخ في غرفة الولادة في ساعة متأخرة من الليل. أتى إلى دنياه التي سئمها دون أي تخطيط ومن غير سابق إصرار. وازدادت الأسرة نفرًا جديداً يحتاج إلى نفقاتٍ من تحتها نفقاتٌ. تردَّدَ حينَها وتغشّاهُ الارتباكُ طويلاً حتى جاءتْهُ الفتوى المؤلمةُ من شيخ الشيوخِ تحرّمُ الإجهاضَ بشتى الحالاتِ مهما كان الحال. أَيجعلُ صرختَهُ المدوِّيةَ الآن في وجه ذلك الشيخ المتشدِّد فيجعل منه أضحوكة على مرأى ومسمع من الناس أمْ في وجه هذا المولود الذي مضى على خلقه نصفُ ساعةٍ ويحاسبُه على القدوم إلى الدنيا في وقت لا يناسبه؟ ماذا الذي ينتظرُه؟ الغلاءُ؟ التمييزُ العنصري؟ والضرائب والعمل الشاق؟ شيءٌ في داخله يصرخ: لا! الطفل لا ذنب له. والواقع لا بد من قبوله!
حمل الطفل الملفوف بقطعة قماشٍ بيضاء فأذَّنَ في أذنهِ اليُمنى وأقامَ الصلاةَ في اليُسرى وخرجَ ليبشرَ المنتظرينَ في غرفةِ الانتظارِ. هتفتْ حماتُهُ الْمُبَجَّلَةُ مبتهجةً:
- صبيّ! ألف مبروك. ليعمَّ الخيرُ وتأتي البركة وينمو في كنفِ والديه وليكن ذرية صالحة.
وَهَتَفَتْ أُمُّهُ أَيْضًا:
- ألف مبروك يا ابني. ألف مبروك. أمد الله في عمرك حتى تأتينا بالصبيان والذكور.
هه! ما شاء الله عليهنَّ! الحالُ يرثى لها ويفرحن على شقائي وكدّي. ما أغبى هؤلاء النسوة! ألا يعلمن أنني الآن محتاج للبحث عن عمل آخر لسد حاجات الأسرة والبيت؟ يعزينني على سوء حالي! عجبًا! وما العيب لو كان المولود بنتًا؟ ألا يحق للبنت العيش بكرامة مثل أخيها؟
سؤالُ حماتِهِ المتربعةِ على المقعد الخلفيِّ في سيارتهِِ، أيقظه من سهوٍ كاد ينسيه الالتفافَ يمينًا نحو الطريقِ المظلمِ المؤدّي إلى بلدتِهِ:
- ماذا ستسمّي المولودَ الجديدَ يا "جوادُ"؟
- سأسمّيهِ "صلاح". ما رأيك يا حماتي؟
- اسمٌ قديمٌ وغير مريح وغير شائع في بلدتنا، ولكن الأمر يعود لك.
- أنسيتِ صلاح الدين القائد العربيِّ الشهير. وعسى أن يكونَ صالحًا في الدنيا والآخرة.
في مستشفى الولادة هذا، محددة لسويعات، هي الزيارة، منها ما بعد الظهر ومنها ما بعد السابعة مساء، وفي غير هذه الأوقات، لا تُسمح. والتقيد بالمواعيد هو جزءٌ من ثقافةٍ اكتسبها في طفولةٍ كانتْ أشبهَ بالبائسةِ. والصيامُ عن الخبزِ واجبٌ دينيٌّ يُطبَّقُ في جميعِ المستشفياتِ؛ ولهذا لا يُؤْذَنُ لأحدٍ بإِدخالِ الخبزِ ومُشتقّاتِهِ إلى المستشفى طوال أيام عيد الفصح مهما كانت عقيدتُهُ. لم يحدثْ أنْ كسَرَ الأنظمةَ وخالفَ المواعيدَ وتنكَّر لِما تعارفَ عليه الناسُ. ولم يحدثْ أنْ أنكرَ خِلاً أو معروفًا لأنَّ الأنفةَ والكبرياءَ والتّعالي كلّها ليس لها وُجودٌ في قاموسِهِ. وكانتْ نسوةٌ منَ الحارةِ قد عملنَ على الوصولِ إلى المستشفى منذ سماعهن الخبرَ؛ للزيارة والاطمئنان وتقديم التهاني بالمولود الجديد. وكان إذا التقى بهنَّ، شكر لهن سعيهن وحُسن صنيعهنَّ.
يومان، لا الطّعامَ في المستشفياتِ ولا جوَّها، لم تطقْ أمُّ أحمد.. رغم كامل العناية. وأية عناية أفضل من رعاية المواليد وأمهاتهم.. والمعاملة هنا من شأنها أن تجعل الناس يحيّون أصحابها ومن يشرف عليهم، عدا عن عجزهم على إنكارها. هنا لا يُسألُ الإنسانُ عن قوميتِهِ ولا لأي دين يُدين. وزميلتها في الغرفة "شاني" لا دينٌ ولا ديّان لكنها تقول إنها تقبله على مضض. تصريحها هذا لا يعكس جرأتها على التحامل على دينها بقدر ما يعكسه نفاقها لامرأة عربية تجاورت معها في السرير وراحت زيارات القريبات والصديقات التي لا تنقطع تزعجها. لم يكن ليل الممرضات سهلاً حين أطلقت "شاني" صرختها حين أُحضر لها رضيعُها لترضعه.. هُرعتِ الطواقمُ وشرعتْ تتقصّى سبب انفعالها بهذه الشدة.. الطفل ليس طفلها! لقد تم استبدال طفلها بطفل عربيٍّ. وطفلها تستطيع أن تميّزه من بين آلاف الأطفال لو أُحضروا للتمييز. أصواتٌ أخذت تتعالى.. إذا كانت الفاعلة قد دبّرت الأمر عن قصدٍ أو عن غير قصد فلا بد من أن تحاكم وأن تطرد على الفور..
تحقيق واستنتاجات في الحال. إحدى ممرضات النوبة الثانية وتدعى "حدفا"، قامت بتغسيل آخر هذين طفلين وهي آخر من حملهما ودبّر شؤونهما ولكنها معروفة دائمًا بشدة حرصها على وضع كل طفلٍ في مهده، والعجلة من الشيطان لا يمكن اتهامها في شيء. ولا بد من إجراءات أخرى حتى لا يخرج الخبر من الباب أو النافذة فيُعمم على ألسنة الناس أو يصل إلى مسامع الصحافة ومن يعمل فيها. لا مفر من إجراء اختبار مستعجل لتحليل البصمة الوراثية- دي إن إيه .. عيناتٌ من الدم، من الواجب أخذها من الطفلين ووالديهما حالاً.. هذا أمرٌ من مدير المستشفى ومُحالٌ أن لا يتحقق.
نتائج الاختبار ترقبّها الناس بفارغ الصبر. وعلى الرغم من اطمئنان "شاني" وتيقُّنِها الآن أن طفلها ما زال هو هو، وعلى الرغم من زوال وسوسات الشيطان عنها، فقد تفتَّحتْ أبوابٌ أخرى لم تخطر على بالِ أحدٍ من المترقِّبين.. الطفلُ "صلاحٌ" عربيٌّ، ولكنَّ والده مجهول الهوية وغائبٌ. من يكون أبوه يا ترى؟ أُصيبَ الرجل بما يُصابُ الناسُ به في مثل هذه المواقف. صدمة وانهيار فإغماء. وأُعلن بعد ساعةٍ عن وفاته إثر نوبة قلبية حادة....

أبحثُ عنـي



نورة عزت

بملامح كفيفـه !
وفي لحظة خارجة عن مـدار الأرض والحيـاة
بين أشباح تلك الأفكار المتراكبة التي تسكن ليلـي
وقفت على أعتاب ذاتـي
أدق بابـي
أنصت إلى وقع أقدامـي الآتي من بعيد
فـهل أنا من سيأتـِـي !!
إني في أمّس احتياجـي لأن أنصت إلى صوتـي !!!
تمنيت أن أتوغلنـي لأرانـي
أن أعثر على بعض نقوش تدلنـي إلى مايجعلنـي أحيا
بين جـدران صمت داكن الملامح .. صلب الصخور
فكم اشتقت إلى صدق ملامحـي التي توارت خلف قناع الحياة
فقط .. لأحيـا
لعلني أبقى ولو زائـرة بين خبايا نفسـي
فوحدي أكفينـي ..
لبيتُ ندائـي
أيقنت تماماً أنهـا أنا
لكنـي هناك ..!!!
يفصلنـي عنـي أعمارٌ تحياها أخـرى تسكن ملامحـي
تتقمصنـي كخيال واضح همـّش حقيقتـي
أدركتُ أني سطورٌ مبحـرةُ بين ضفتـي غلاف يحمل اسمـي
لكنه يبحث عن معانـي تحمل مضمونـي
أبجـديات لا تدركها حـدود خارطتـي
نبض أدركـه الإعياء بحـثاً عن مجـرى دمائـي
لعله يدرك سبيلاً للحيـاة
لامستُ أخاديـد يدي
أقرأ من أين بدأت رحلتـي وإلى أين ستنتهـي عتمة دروبـي
لعلني أشعـر ومضاً يدلنـي إلى بارقة من أمل
يحملني إلى لقاء يعيـد إلى قلبـي دقـاته المفقوده
ومضاً يضـيء ليلـي الذي هاجـره نور الصباح
ممزقة أنا ...
يحيا كيانـي بنور الشمس
وتحيا ذاتـي ليلاً متعطشـاً إلى قطـرة من نهـار
أتوق لأن ترتسم ملامح قمـري بخيـوط أشعتـي
أن أحـرر وطنـي من ذاتِ غربتـي
كم اشتقتُ لأن أكون معـي ......
فقط ( أنا ) من تـُشعرنـي بـآدميتـي و وجودي
دفء عينيها من يصالحنـي على دنيا أدمنت دموعـي
وقفت في مواجهة رياح تحمل أمـلاً
لتعود وتقتلعه من جذوره في طقوس شتويه تحياها طوال الأيام
تتلاطم أمواج الساعات بين أعمارها
دقائق تحمل لها الفرح لتغوص في الأعماق تواريها ساعات من أحزان
فقط ( أنا )
من تهدينـي إلى عمـري .. الباحثِ عن عنـوان
فمن يلومنـي ؟؟؟
لو استعدت أحلى ملامحـي لحظـة
من بين كيانـي الراحل إلى كل الدنيا ... سـواي
لو حاربت عقارب الساعات لأُدركنـي
حين تغيب الشمس مودعـة هذا النهـار
وتذوب غـارقة في ثوب يطـويه السـواد
لعلنـي أذوب معـي في احتراقها فنتبخـر إلى السماء
أو نبكي علينا فنعود إلى الأمواج قطـرة من مـاء
نُسـارع إلى الغـرق
لعلنا نلتـقي
و ..... أحيانـي

يا قدس


ميمي أحمد قدري

لك الله يا قدس يا مهد الأديان

يا مهد المسيح و لأبراهيم بر الأمان

يا مأوى مريم أطهر النساء

على أرضك تكلم المسيح في المهد وحمى أمة العذراء

وخانه تلميذه يهوذا وسلمة بيده للأعداء

فرفعه الله حباً له الى عنان السماء

واليك أسرى بحبيب الله خاتم الأنبياء

فخراً لك فلسطين أن جبالك زيتون وأرضك خضراء

وأولى القبلتين بين أحضانك تنشر المحبة والعطاء

هاهم أبناء يهوذا يدنسون أرضك ويقتلون أبناءك

حرقوا الزرع ونهبوا الأرض وذبحوا رهبانك

منعوا أجراس كنائسك

منعوا ذكر الله في مساجدك

إصرخي فلسطين ونادي على فرسانك

هبوا ياعرب ونحوا الهوان إلى جانب

هبوا وافيقوا فدموع أقصاكم ملأت الزوايا والجوانب

عد يا صلاح الدين فبسيفك تعود فلسطين

ليعود بقلوب العرب الشوق لأقصانا والحنين

أقسم أبناؤك بالتوراة والقرأن والأنجيل أنهم لأبناء يهوذا لقاتلين

أقسموا لينصروا الأسلام على باب القدس وينتظروا نزول المسيح وظهور المهد بالورود والرياحين

ونصلي بالمسجد الأقصى وندعوا الله ساجدين

ونطهرك يا فلسطين من أبناء الشياطين

وتعود أجراس الكنائس ويترنم القساوسة والرهبان فرحين مهللين

نذكر الله قياما" وقعودا" و نملأ جوانبك بالأذان ونداء المصلين

الله أكبر الله أكبر أشهد ان لا اله الا الله

وأشهد أن محمداً رسول الله

حي على الجهاد ........حي على الجهاد

ليل القرامطة : ديوان مسكون بالتاريخ ... فاتن باللغة


حسين الجفال

ديوان ( ليل القرامطة ) الذي صدر حديثا للشاعر السعودي محمد الفوز وأثار ضجة كبيرة ومنع من قبل الهيئة لوقت ما ثم فسح أثناء معرض الكتاب الماضي بالرياض ، أكد الشاعر الفوز أن الملاحم الشعرية لازالت تحمل ألقها وأن الشعر قادر أن يحاكي ألم الإنسان وأن يكون بوصلة للحب والدهشة وطرح السؤال، وأن الملحمة التي تخرج من رحم الوجع قادرة أن تشي بعبارة نافذة ودون لبس لكل القضايا المفصلية التي نعيشها.

نعم نجح الفوز في أن يحيل مسقط رأسه إلى عنوان كبير يصرخ بأن "ليل القرامطة" لم يكتب بمعطيات تاريخية أو بفكرة راسخة جذورها "إنما استفحلت شتى الأخيلة في اللاوعي حتى تقمصت حالة – لا أدرك تأويلها – وتشي بعمق معرفي" هكذا يقول الفوز في وشايته بديوان ليل القرامطة الذين جاءوا بالكثير في حركتهم.

ومع هذا نراه في اللوح الثامن يقول:

أَنَا القُرْمُطِيُّ بِلا رَحْمَةٍ

تَتَخَلَّلُ أَكْبَادَ فَجْرٍ/مَعِيْ ... قَدْ سَرَى !

أَنَا القُرْمُطُيُّ المُكَابِرُ فِي البُؤسِ مَا كَانَتْ اللَّثَغَاتُ بِصَمْتِي تُرَى

أَنَا اللَّيْلُ ضَيَّعْتُ لَونَ الممَرِّ الذَي خَافَ مِنْ ظِلِّهِ فِي الثَّرَى

أَنَا القُرْمُطِيُّ

وَ لا شَيْء يَبْلُغُ عَيْنَ المَدِيْنَةِ

فِيْ رِيْفِنَا الهَجَرِيِّ الَّذِي عَادَ تَارِيْخُهُ القَهْقَرَى

أَنَا القُرْمُطِيُّ

الفوز هنا يستصرخ ماضي مدينته وقريته المسكونة بالجمال، من عيون ونخيل ويشتكي حال القُرْمُطِي الذي قد يكون الشاعر مجازا أو أي رجل من قريته !!!

اليوم ونحن نمر بأطلال تلك الديار، أو لنقل ما تبقى منها، يلجمك الصمت لتذهب في خشوع وكأن أصواتهم المكلومة تخترق سمعك . الفوز الذي يستصرخ الإنسان والجسد والتاريخ ترى ما الذي يسعفه في وقت كهذا غير الشاعر فيه ؟!!!

في هذا الديوان نجد الفوز يدق على وتر التأريخ، ويثبت كشاعر أن الموروث التاريخي ملازم للحداثة كوعي محدث، هو وعي منقسم على نفسه دائما، لذلك نجده متشظياً بنعومة يراقب نفسه ويراقب أدوات إدراكه للعالم في وقت واحد. ومن جهة متوازية تحتمي قصيدة الفوز خلف هذا الوعي ليسلط مراياه على العالم التاريخي ويقتنص دلالاته، ثم يبثه بسلاسة ليهدىء به روع ذاته شخصياً ويلتمس من خلاله حيرة الذوات الأخرى. هو -الفوز- بذلك يخلق خيوطاً أشبه بتساؤلات ويقذفها في عقل متلقيه، يراوغ وعيه ويوقعه في حباله، ليبدو بذلك خطابه خطاباً (شيزوفرينيا) ينطوي على غواية مفرطة الحساسية، طرفاها الإحباط والمتعة، اللذة والموت،كما لو كان فعل من أفعال الإبداع، ظاهره الري وباطنة الظمأ.

وبالرغم من تعب الفوز من حال الأمة وما آلت إليه من انتكاسات وهزائم، نرى ذلك جليا في اللوح الثاني عشر، نراه يرسل رسالة غفران وتسامح لكل من تسبب بخيباتنا ويدعوهم للتجاوز ويشد على أيدي المناضلين ويدعوهم للمضي قدما من أجل رفع هامة الأمة إذ يقول:

سنغفر للطيبين الخطايا

لن ...

نستكين لمكر اليهود / ومهما استكانت حدوداً, ومهما استقر الشغب,

ستكبر أحقادنا للعدو .... وفي آخر الحزن نكتب أعمارنا بالدماء السجينة روح المذلة,

ننقش في صفحة الذكريات استلاب الشعوب الكبيرة من أمة لا ترى خلفها, من (يهودٍ) أتوا خلسة واستباحوا العرب !!

كتاب قديم بأرواحكم ؛ فاقرؤوه !

وحيّوا الشهامة في من يقاتل رغم السجون

ورغم المنون/ ورغم الجنون ... ألا تقرؤون ؟!!!

الفوز، الذي هاجر عن الأحساء إلا أنه يعود إليها في حنين ومصافحات متعددة وذات أوجه، فمرة يصافح وجه أمه ومرة وجه حبيبة التي يخلط إكسير الحياة من أجل أن يفوز بأنثى مهذبة الشهد سرعان ما تمضي ليرزح هو في خيبة لا تكف !

اشتغل الفوز في ديوانه على البحر المتقارب مبتعدا كثيرا عن الجمل الإنشائية ونجح في دعم الرهان على أن الملاحم الشعرية لها بريقها وألقها الذي لا ينتهي، بلغته الفذة الأنيقة والصور الشعرية المدهشة، ووفق كثيرا في قراءته للاسقاطات التاريخية المريرة التي ربما خبأها الوقت لكنها لم تمت.

همسات مع تشوّقات

زياد جيّوسي

حين أتيح لي أن أجول في ديوان شِعرٍ يحمل اسم (تشوّقات) للدّكتور حسن محمّد ربابعة، لفت نظري ومنذ البدء الصّفحة الأولى. فقد حملت ثلاث صور ذات مغزى؛ صورة السيّف ذي الفقار على اليمنى، الكرة الأرضيّة ويظهر فيها العالم العربيّ وأجزاء من العالم الإسلاميّ في الوسطى، وصورة القرآن الكريم على اليسرى- وتحت الصّورة حديث للرّسول عليه الصّلاة والسّلام. في هذه الصّور الثّلاث- وترتيبها من اليمين إلى اليسار- رمز يحمل معنى لا يخفى على المتأمّل ومن يتناول الدّيوان بين يديه.

وحين انتقلت إلى الإهداء الّذي أتفحّصه دومًا، لأنّني أجد فيه انعكاسًا ما من شخصيّة الكاتب وما يجول بداخله ويسكبه من خلال نزف روحه، وجدت الإهداء قصيدة قائمة على شعر التّفعيلة تحمل عنوان: إلى أرواح أربعة، فكان الإهداء لأرواح أربعة من الضّبّاط الّذين خدموا في الجيش العربيّ في أجنحة مختلفة من جيش الأردن، ويذكر من خلال الشّعر مناقبهم وصفاتهم، يترحّم عليهم ويتحدّث بروح شفّافة وحسّاسة عنهم. وواضح من خلال مقدّمة الإهداء أنّ المرحومين هم من أبناء العشيرة الّتي ينتسب لها الشّاعر. فتدلّ المقدّمة على روح وفاء لأبناء العشيرة والوطن، وفي الوقت نفسه ومن خلال الإهداء يظهر بوضوح أنّ الشّاعر حدّد من هم أعداء الوطن، فأشار من خلال المصطلح إلى كلمتين (أحاديث الخواجات، وأنباء الـ "شلومات")، وفي مقطع آخر يقول: (يدبّرها "شلومهم" ليأخذ بعض ثارات).

حين التّجوال في (تشوّقات) نجد أنّ هناك نسبة من القصائد تمازج ما بين المناسبة والمكان. ففي قصيدة "عجلون" والّتي قدّمها بمناسبة احتفالات الأردن باستقلاله، سبقها تقديم محاضرة عن مدينة عجلون وتاريخها وتأثيرها، ثمّ انتقل للشّعر العاموديّ ليقدّم القصيدة كإهداء، فكانت مزيجًا بين شعر المناسبة وشعر المكان. فوصف القلعة وتاريخها والمدينة، لكنّني أعتقد بأنّ المحاضرة الّتي كانت عن تاريخ عجلون المدينة وأهمّيّها ودورها، رغم قيمتها العلميّة كبحث في تاريخ المكان، إلاّ أنّ وجودها في بداية ديوان شِعر وعلى مساحة ممتدّة على عدة صفحات كانت مسألة غير متناسبة مع سياق الدّيوان. وكان يمكن أن يتمّ الاكتفاء بالإشارة لمناسبة القصيدة، وأن تكون هذه المحاضرة جزءًا من كتاب آخر متخصّص يتحدّث عن تاريخ المكان وأهمّيّته.

بينما نجد في قصيدة طويلة قائمة على التّفعيلة مهداة إلى مدن السّلط وإربد والكرك، بمناسبة اختيار كلّ واحدة منها عاصمة للثّقافة الأردنيّة، تناولت القصيدة المكان ووصفته جغرافيًّا وتاريخيًّا وحاضرًا وأملاً مستقبلاً، فيكون الانشداد للشِّعر وهو يجول في ثرى هذه المدن الجميلة، بدون أن يتشتّت الذّهن في محاضرة طويلة رغم قيمتها العلميّة وأهمّيّتها. ويلاحظ في قصيدته هذه بشكل خاصٍّ كيف تمّ استحضار التّاريخ ومزجه بالمكان، فالمكان كان ولم يزل مسرح الجغرافيا الّذي يلعب عليه الإنسان أحداثه التّاريخيّة. وهنا تمّ استحضار التّاريخ الإسلاميّ والدّينيّ، فتمّ ذكر أسماء الأنبياء عليهم السّلام، والصّحابة والشّهداء في بداية الفتوحات الإسلاميةّ. فكانت القصيدة تأخذ المنحى الصّوفيّ والعقائديّ، مستلهمًا المكان وتاريخه، مقارنًا أمجاد الماضي على واقع الحاضر، متأمّلاً بمستقبل يعيد الأمجاد الّتي مضت ومرّت على هذه الدّيار.

يرتبط المكان بقوّة في وجدان الشّاعر، فهو لا يكتفي بشعره للمدائن الّتي مرّت بمناسبات دفعته لقرض الشّعر، بل يجول في أنحاء الأردن- فيمرّ على ذكر البتراء ويحلّق في أفق الشّوبك والكرك والحِصن وإربد، ومدن وبلدات عديدة على مساحة الأردن بشماله وجنوبه، وفي كلّ ذكر للمدن والبلدات لا يتوقّف عن ربط المكان بأمجاد التّاريخ ووصف الواقع، فنجد في شعره وصف المكان والحديث عن التاريخ ، ذِكر الأشخاص الّذين ارتبط اسمهم بالحدث والمكان.

لا يغفل الشّاعر في قصائده عن ذكر الأشخاص، وخاصّة الّذين تميّزوا بمواقف لهم- وقفوا في وجه الصّهيونيّة وأعداء العرب. ففي قصيدة متميّزة، نجد مديحًا للسّيّد رجب أردوغان رئيس الوزارء التّركيّ، يمدح فيها وقفته الشّجاعة في مواجهة العنجهيّة الصّهيونيّة. وفي قصيدة أخرى يمدح الصّحفيّ منتظري الزّيدي على موقفه المعروف بقذف الحذاء في وجه بوش ويصفه بالمجاهد الكبير، كما يمرّ في قصائد مدحه عبر التّاريخ- فيمدح القعقاع بن عمرو التّميمي ويتحدّث عن جهاده في الفتوحات الإسلاميّة، ليقفز من التّاريخ القديم إلى التّاريخ المجيد، فيكتب شعرًا في ملحمة تموّز وصمود المقاومة اللبنانيّة في وجه الهجمة الصّهيونيّة وهزيمتها، مخاطبًا الصّهاينة ومستهزءًا بهم.

والخلاصة.. أنّ الشّاعر يتمكّن من شدّ القارئ لشِعره بأسلوبه في التّنقل بين الشّعر العاموديّ وشعر التّفعيلة، وقد لجأ في بعض القصائد إلى محاكاة الرّجز في الشّعر، وهو أسلوب يجذب الرّوح كونه ملامسًا للحِسّ الشّعبيّ، يهتمّ بالمكان والزّمان بشكل واضح، ينتمي للأردن بشكل كبير ويظهر ذلك جليًّا من خلال الحديث عن المدن والبلدات، لكنّه واضح في القصائد والحديث أنّه انتماء غير إقليميّ، بل انتماء مرتبط بالعروبة والإسلام وتاريخ الأردن كموقع كان له أثره في التّاريخ القديم منذ عهد النّبط وما قبله، مرورًا بمرحلة الفتوحات الإسلاميّة. وفي ثنايا شِعره لا يخجل من وضوح موقفه ولا يواريه خلف أبيات شِعر تحتمل التّأويل، فهو يقف موقفًا واضحًا من الصّهيونيّة وأمريكا وعداوة اليهود ضدّ كلّ عربيّ ومسلم.

ما أكتبه ليس أكثر من همسات في أرجاء (تشوّقات) الّتي شدّتني بقوّة وجمال، فتنسّمت عبق التّاريخ وجلال مجده، نظرت للأفق البعيد أحلم بالغد، جلت في مدائن الأردن الّذي أكنّ له حبًّا لا يوصف، ولكنّني وفي هذه الجولة الّتي أشكر الشّاعر عليها، كنت أضطرّ إلى وقفات تخرجني قليلاً من التّحليق من خلال استخدام الشّاعر المصطلحات الأجنبية وبعض العبارات المكتوبة بالإنجليزيّة، وإن اعتبر الشّاعر فيها استكمالاً للشِّعر والقصيد، إلاّ أنّني رأيت فيها ما يخرجني عن مسار رحلة تميّزت بجمال اللغة العربيّة ومجد التّاريخ.

وقوف الشعراء ووقوف النفّري الصوفي

د. عدنان الظاهر

( إلى الدكتور ميثم الجنابي / مُنظِّر فلسفة الوقوف والتوقف للنفّري )
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... لإمرئ القيس
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهمْ ... لشاعر جاهلي لعله إمرئ القيس أو طَرَفة إبن العبد
وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ ... للمتنبي
قفْ بالمِعرةِ وامسحْ خدّها التَرِبا ... للجواهري يخاطب نفسه كأنه زار بلاد الشام أو حلبا فقرر العروج على بلدة أبي العلاء المعري " معرة النعمان " .
قفي قدمي ... لشاعر سوري لعله عمر أبو ريشة يخاطبُ قدمه ويطلب منها أنْ تقف خشوعاً أمام هيبة وعظمة بعض الآثار القديمة ولا تطأها . الشاعر هنا يخاطب بعض أعضاء جسده المسؤولة عن الحركة ولا يخاطب نفسه كما فعل سواه ممن ذكرتُ للتو . قرأت أيام زمان شعراً مماثلاً للشاعر الإنكليزي لورد بَيْرِنْ يأمر فيه قدمه أن تتهيب الوطء على آثار إغريقية أو رومانية قديمة لأنها مقدّسة أو كالمقدسة .
هل من صوفية أو تصوّف في هذه الوقفات الخمس ؟ الوقفة الأولى لإثنين والوقفة الثانية للجمع أما الوقفات الثلاث الباقية فإنها موجّهةٌ لشخص مفرد . هل من فرق بين هذه الوقفات؟ الوقوف الأول لغرض البكاء على ذكرى حبيب ومنزل هذا الحبيب . في الوقوف الثاني يطلب الشاعر أنْ يتوقف الركبُ والمطيُّ عن السير لإمضاء بعض الوقت مع بقايا آثار الحبيب الدارسة . أما الوقوف الثالث فإنه وقوف لا من أثرٍ للصوفية في صدر البيت الشعري وليس لها شئٌ من أثرٍ في عجزه ... ومع ذلك فهناك كثرةٌ من النقّاد ومن المعجبين بشعر المتنبي تمجّدُ هذا البيت وتعتبره من النوادر بل ومن عجائب فنون المتنبي . عجز هذا البيت هو : [[ كأنكَّ في جفن الردى وهو نائمُ ]] . إنها وقفة الثبات في المعركة مع الأعداء الروم فالشاعر إنما كان يخاطب سيف الدولة الحمداني مادحاً ومشجّعاً . أما الوقوفان الرابع والخامس فأمرهما مختلف ، ذاك أنَّ الشاعرَ هنا يأمر نفسه أو يأمر قدمه بالتوقف عن الحركة ، والتوقف عن الحركة هو توقف أو تجميد الزمن فيمن قد وقف ، أي الموت . فتوقف النبض في قلب الأحياء لا يعني إلا موت هذه الأحياء . لكنّ للنفّري رأياً آخرَ بهذا الصدد إذ قال ـ كما سنرى لاحقاً ـ في جملة ما قال عن الوقوف والتوقف [[ لا ديمومة إلا لواقف . ولا وقفة إلا لدائم ]]. ما معنى أنْ يدومَ الواقفُ عن الحركة ؟ هل يعني أنَّ الواقفَ ميّتٌ وموته موتٌ دائم ؟ قد نفهم الجزء الثاني على وجهه الواضح الشديد التبسيط [[ ولا وقفة إلا لدائم ]] على أنَّ الحيَّ هو القادر على الوقوف أو التوقف وهذا يتطابق مع كل ما ذكرتُ سلفاً من أنواع الوقوف الشعري . فكلُّ الذين وقفوا أو طالبوا بالوقوف من الشعراء إنما كانوا أحياءً قادرين على التحكّم بأجسادهم وعقولهم وإصدار الأوامر لأقدامهم بالتوقف لإنجاز غرضٍ ما . ولكن ، من قال إنَّ حياة الإنسان شاعراً وغيرَ شاعرٍ هي حياة دائمة ، حياة أبدية خالدة ، مَنْ قال ومن يجرؤ على قول ذلك ؟
ذكرتُ نماذجَ من الشعر العربي يفتتح فيها الشعراء قصائدهم بالفعل وقفَ يقفُ أو بفعل الأمر قف ْ ، فماذا قال الرجل الصوفي المعروف " النُفّري " في باب أو أبواب الوقوف حيثُ له فلسفة خاصة بالوقوف وموقف شديد الخصوصية بذل الأخ الأستاذ ميثم الجنابي وقتاً وجهداً كبيرين لتوضيح هذه الفلسفة فغاص وتعمّق فيها أكثر مما فعل النفّري نفسه . لا أحسبُ أنَّ أحداً من فلاسفة المتصوفة الإسلاميين المعروفين كرّس من مجمل جهده ووجهات نظره ما فعل النُفّري بخصوص موضوعة الوقوف والتوقف ... بل لعله الوحيد بينهم جميعاً . فماذا قال هذا الفيلسوف المتصوف في التوقف والوقوف ؟ سأقدِّمُ نماذجَ مما قال أخذتها من بحث الدكتور البروفسور ميثم الجنابي المنشور في موقع الهدف الثقافي بتأريخ الجمعة / شهر آب 2009 والرابط هو :
http://www.tahayati.com/Research/371.htm
1ـ (( إذا قلتُ لكَ قفْ فقفْ لي لا لكَ ))
مَن هو قائلُ هذا القول ؟ اللهُ قاله للفيلسوف أم أنَّ الفيلسوف يتكلم مع نفسه ؟ لا إشكالية في الشق الأول لكنَّ الإشكالية تكمنُ في الشق الثاني ، الجزء الذي خاطب فيه الفيلسوفُ نفسه
( قفْ لي لا لكَ ) لماذا ؟ لأنه هنا إنما يشقُّ نفسه إلى نصفين يعبر عنهما مرّةً بضميرالمخاطب " لكَ " ومرةً أخرى بضمير المتلكم " لي " المتصلين بحرف الجر
" اللّام " . مهما كان أمر هذا القول فإني أراه ، كالمثال السابق ، قولاً مسطّحاً بسيطاً لا يرقى إلى عالم التصوّف المعروف ولا إلى عوالم الفلسفة عامةً . [[ قفْ لي لا لكَ ]] . أليس هذا أمراً يصدره ضابط عسكري لأحد جنده سواء في ساحة حرب او ساحة عَرَضات ؟ أين الفلسفة فيه ؟
2ـ (( لا ديمومة إلا لواقف ! ولا وقفة إلا لدائم ))
لقد تعرّضتُ لهذا القول قبل قليل وليس لديَّ ما أضيفه لما سبقَ وأنْ قلتُ إلا أني أجدُه عبارة عن واحدة من فذلكات التلاعب بالألفاظ وتغيير مواقع الكلمات كما كنا نفعل زمان الطفولة إذْ كنا نزاولُ بعض العاب الحروف المتقاطعة وما إلى ذلك من لهو لإزجاء الوقت . لقد قلب النفّري المصدر " ديمومة " في القسم الأول من قوله إلى إسم فاعل في القسم الثاني [[ دائم ] . وقلب إسم الفاعل " واقف " في القسم الأول إلى مصدر في القسم الثاني [[ وقفة ]] لتتم لعبة تقاطع الكلمات لكنْ لتنتهي لا إلى نتيجة فلسفية يتوقعها القارئ . تماماً كما قال أحد الشعراء [[ كأننا والماءُ من حولنا // قومٌ جلوسٌ حولهمْ ماءُ ]] .
3ـ (( يا عبدُ قفْ في موقف الوقوف ))
وأي جديد في هذا القول وأية متعة أو غرابة ؟ يبدو ـ من لفظة العبد ـ أنَّ ربَّ النفّري هو صاحب هذا الأمر ... وقد يكون النفّري نفسه يخاطب فيه نفسه أو إنساناً غيره . المهم ، هناك جهة تأمر وهناك جهة مطلوبٌ منها أنْ تنفّذَ هذا الأمر . [[ قفْ في موقف الوقوف ]]... أين موقف الوقوف هذا ؟ هل هو يوم المحشر وساعة الحساب ؟ وهل يحتاج الوقوف أمام الرب يوم القيامة إلى أمرٍ يتلقّاه المُرَشّحُ للإفادة بشهادته ؟ الجميع يوم الحشر وقوف خاشعون يحمل كل إنسان كتابه في يمينه . هنا نرى كذلك كوميديا اللعب بالألفاظ . ففضلاً عن توظيف الإشتقاقات اللغوية المعروفة لكي تخدمَ أفكار النفّري وما يروم له ولها من معانٍ ... لم أجدْ فيها عمقاً فلسفياً ولا رأياً مُبتَكَراً يغريني بمواصلة قراءة تراث هذا الرجل .
4ـ (( معرفةٌ لا وقفة فيها مرجوعها إلى جهل . الوقفةُ تعيينٌ سرمديٌّ لا ظن فيه . ليس في الوقفة واقفٌ ، وإلاّ فلا وقفة . الوقفة صمودٌ والصمودُ ديمومةٌ ))
أرى في أحد أجزاء هذه المقولة تناقضاً صارخاً مع ما سبق وأنْ قال في مقولته الثانية [[ لا ديمومة إلا لواقف ! ولا وقفة إلا لدائم ]] إذ قال هنا في مقولته الرابعة [[ ليس في الوقفة واقف ]] ، أليس كذلك ؟ ثُمَّ ، إذا كانت الوقفة تعييناً سرمدياً لا ظنَّ فيه فكيف لا يكون فيها واقفٌ ؟ من الذي يقف أو عليه أنْ يقفَ إذاً ؟ ما سرُّ وتفسير فك الإرتباط بين الوقفة والواقف ؟ وهل من وقفة بدون واقف أو الذي يتعين عليه أنْ يقف ؟ ما قيمتها وما جدواها إذا خلت هذه الوقفة ممن يقف ؟ قد يقول قائلٌ إنَّ كلام النفرّي كلامُ صوفيٍّ متفلسفٍ ولكن للفلسفة ولكلام المتصوفة تفسيراتٍ متعددةِ الوجوه ومعانيَ يمكن الوقوف على أسرارها وتفكيك رموزها وإنْ إختلفت الإجتهادات فيها . لا أرى في مقولات النفرّي هذه إلا ضرباً من اللهو الساذج ـ وربما إستغفالاً لقارئه ـ فهي عاجزة عن أنْ تقدحَ شرارةَ نورٍ في العقل أو أنْ تفجّرَ ينبوع معرفة مبتكرة مُبتدعة أو أنْ تثيرَ فكراً أو فضولاً لدى القارئ أو نزعة صوفيةً ـ سورياليةً للتسامي والإستعلاء على عالم الماديات والتماهي في ملكوت الميتافيزيك . أجد هذا أو بعض هذا فيما قرأتُ لباقي علماء التصوّف خاصةً وأغلب فلاسفة العالم . يحضرني في هذا المقام بشكل خاص بعض ما قال المتصوف المعروف الحُسين بن منصور الحلاّج من أقوال أو أشعار يقرأها المرءُ فيجد نفسه هائماً ضائعاً مشتتاً في عالم لا يعرف ماهيته ولا يدرك أبعاده خليطاً من نوع خاص من الدهشة والإنفعال والتوق لمعرفة أسرار أقوال هذا الرجل وما يبتغي من وراء قولها . أضرب لذلك مثلين للمقارنة السريعة لا أكثر . قال الحلاج [[ ركعتان في العشق لا يصحُّ وضؤوهما إلا بالدم ]] . ثم بيته الشعري [[ بدا لكَ سِرٌّ طالَ عنكَ اكتتامُهُ // ولاحَ صباحٌ كنتَ أنتَ ظلامُهُ ]] . هنا المتعة والتحدي والخيال والهيام في عوالم مجهولة من الغبطة والتفكير . وهنا منطق فلسفي ولغوي ومنطق آخر خاص في معاني الكلمات . أين أقوال الحلاج هذه من قول النفّري التالي :
5ـ (( فالوقفةُ تُعتقُ من رقِّ الدنيا والآخرة . وفيها يسقطُ قَدْرُ كلِّ شئٍ . فما هو منها ولا هي منه )) .
ماذا نفهم من هذا القول وما أراد صاحبه أنْ يقولَ ؟ . الوقفةُ تُعتقُ من رقِّ الدنيا والآخرة ! فأين تُرى مكان هذه الوقفة وأين مكان ممارسها الواقف ؟ في الدنيا أم في الآخرة ؟ وما الفرق بين الدنيا والآخرة في مفهوم النفّري وأين مكان الآخرة ؟ نفهم أنَّ في الدنيا رقّاً تأريخياً معروفاً ومدوَّناً ولكن هل في الآخرة من رق ومَن الذي يوقع هذا الرق على الآخر ، البشر ، ولأية أغراض يستخدمه : أفي حرث أرض السماء وزرعها وشق القنوات والترع وتعبيد الطرق ومد الجسور وبناء أهرامات تضاهي أهرامات فراعنة مصر القديمة ... ثم تجنيده قسراً مُرتَزَقاً ليحارب أعداءَ مَنْ إسترقّهُ ؟ أي رق في العالم الآخر ، الدنيا الأخرى أو الآخرة ؟ العالم الآخر مقسوم إلى نصفين متناقضين ، جنة للمتقين ونار للكفرة والملحدين والمشركين ليس فيها إلا العذاب المهين وإلا الكوي بالنار وبالأقماع وشرب الهيم وطعام الزقّوم فأين مكان الرق والإسترقاق وما هي واجبات ومسؤوليات الناس الأرقّاء ؟ لم يستطعْ النفّري من إستيعاب فكرته عن الوقوف والتوقف الفلسفيين ولم ينجح في إقناع قارئه بما أراد قوله وأحسبُ أنه غير مستطيع .
الإستنتاج الأخير : وقوف الشعراء في أشعارهم أكثر بلاغةً من وقفات المتصوف النفّري وإنْ تفاوتت في قوة توظيفها ومتانة موضعها من الجملة أو البيت الشعري ونجاح معناها بحسب قوة شاعرية وثقافة الشعراء وتمكنهم من الفن الشعري ومتطلباته . نجح الشعراء الذين ذكرتهم في مطلع بحثي هذا في تشخيص وقفاتهم ونجحوا أكثر في توقيت زمن هذه الوقفات وربط هذا الزمن بمكان محدد مجسد يكاد القارئ أنْ يراه وأن يتحسسَ أبعاده فيقف حين يقف الشاعر ويجلس إذا جلس ويسيرُ إذا ما سار . لم يحتاجوا إلى فلسفة وتفلسف بل كلّ ما احتاجوا إليه هو ضبط التوازن الحرج بين الزمان والمكان وقد فعلوا وقد نجحوا في حين كبا المتصوف وأخفقَ . مقولات النفّري عائمة لا زمن لها ووقفاته ليست زمانية ولا مكانية فأين يقف الواقف إذا تعيّنَ عليه الوقوف ؟ أساله من باب المناكدة والمشاكسة : سيّدَنا النفّري ، ماذا بين وقوف ووقوف ، أية حالة وما تسميها وإلامَ تدومُ أو كم هو زمانها ؟ الوقوفُ سكونٌ لكنَّ نصفَ السكون هو في اللحظة الراهنة ونصفُهُ الآخر مُعدٌّ للحركة نحو زمن جديد هو المستقبل . أما وقوفك سيدي المتصوف فهو موتٌ أزليٌّ مجرّدٌ من عنصر الزمان ، أي لا وجودَ حقيقياً له لا في الدنيا ولا في الآخرة .

الثلاثاء، سبتمبر 29، 2009

حوار مع الكاتب و الشاعر عبدالله علي الاقزم


لا تُوجدُ طريقة مثلى لوهج الشاعريَّة أفضل من التجديد .؟!

حسين أحمد
عبدالله علي الاقزم - من مواليد (1970 "( القطيف " درس اللغة العربية ,كاتب وشاعر، يكتب لأجل الإنسانية ، يؤمن بالتفاعل مع الأخر ثقافيا وفكرياً برؤية شاعرية، وترتكز أدواته الكتابية على ما هو جديد وحداثوي،يقدم قصائده إلى المشهدية الثقافية بفرادة وتميز مدهشين، وتتميز كتاباته بنكهة " كيميائية " وهي خصوصية عبدالله الاقزم ،لان القصيدة لديه حالة إنسانية روحية يعيشها ما بين عشق وتصوف فيشرعها خلال فضاءات غير مؤطرة . من هنا كان لنا هذا الحوار مع الكاتب والشاعر عبدالله الاقزم .

يقول الشاعر عبدالله الاقزم :

- أنا لم أذهب إلى الشعربل هومن جاءني
- الشعر بحرٌ كبير يغسلُ الشاعرُ فيه قلبه
- لا تُوجدُ طريقة مثلى لوهج الشاعريَّة أفضل من التجديد
- أمَّا التفرُّد فلا أسعى إليه من خلال الأنا بل من خلال نحن
- أفضل الكتابة وأنا في حالة استرخاء تام ما بين النوم واليقظة
- الكون كلُّه قائم على لغة التجديد فإذا حاربنا هذه اللغة قتلنا الحياة
- أسلوبي يختلف عن نزار قبَّاني وهذا الكلام ليس من بنات أفكاري

نص الحوار
س1- من هو عبدالله علي الاقزم الإنسان أولا ,ومن ثم كيف كانت بداياته الأدبية , وكيف جاء إلى عالم الشعر والشعرية..؟
ج- عبدالله الأقزم الإنسان همُّهُ أن يتواصل مع الإنسان الآخر وأن يُدخل السعادة بقدر ما يستطيع إلى الناس والإنسانيَّة و الحياة .بدايتي الأدبيَّة بدأت شرارتها الأولى من جسد القصائد الحسينيِّة والمنابر التي تصدح بعشق محمَّدٍ و عترته الطاهرة في الأفراح و الأحزان. أنا لم أذهب إلى الشعر بل هو من جاءني و ظلَّ يُدمن في قرع ِ بابي باستمرار. كلَّما ابتعدتُ عنه عاد إليَّ ملتصقاً بظلِّي أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. إنَّه قدري أن أصبح شاعراً و أنا سعيدٌ بهذا القدر فالشعر بحرٌ كبير يغسلُ الشاعرُ فيه قلبه والشعرُ الأفق الرَّحبُ للطيران و الذوبان على فم الورد الأحمر و مضاجعة رمال الشاطئ والارتقاء نحو معنى أجمل .

س 2 – لماذا على الشاعر أن يحدث أدواته الشعرية وطاقاته الفكرية ..؟!
ج- حتى يواكب نفسه ومحيطه وعالمه وزمانه وإلا فمصير شاعريَّته إلى التآكل و التلف و الضَّياع . لا تُوجدُ طريقة مثلى لوهج الشاعريَّة أفضل من التجديد و السعي إلى التجديد أو المحاولة إلى التجديد فالتجديد عنوان المبدعين الكبار والوقوف عند بيت العنكبوت من دون فكر خلاق سبيل الفاشلين المخضرمين . الكون كلُّه قائم على لغة التجديد فإذا حاربنا هذه اللغة قتلنا الحياة سواء عن قصدٍ أو من دون قصد .في محراب التجديد تستحقُّ الشمسُ أن تشرق من جديد .

س3- كيف كانت لحظة اكتمال القصيدة في داخل عبدالله الاقزم وهل فعلا حصلت ..؟؟!
ج- القصيدة في داخلي ليس لها لحظة للاكتمال و لم أشعر يوماً بهذه اللحظة و لا أريدُ أن َ أشعرَ بهذه اللحظة و الذي أشعرُهُ فقط هو أنَّ قصيدتي تتكامل مع قصائدي الأخرى و مع قصائد الشعراء . أنا و الشعراء جزيئات تتكامل فيما بينها أنا أؤمن بنظريَّة التكامُل مع الآخر فإذا أبدعتُ و تألَّقتُ فبفضل أقراني من الشعراء أبدعتُ و تألَّقتُ و بفضل وهجهم الشعري ارتقيتُ. أمَّا التفرُّد فلا أسعى إليه من خلال الأنا بل من خلال نحن من خلال الجمع إن أبدعَ أحدُنا فكلُّنا مبدعون و كلُّنا مَنْ فاز بهذا اللقب . فالأنانيَّة الإبداعيَّة في أغلب الأحيان مرضٌ خبيث يجبُ أن تُبتر جذوره من أعماق المحيط.

س 4 - ما تأثير " القطيف " في بلورة تجربة الشاعر عبدالله الاقزم ...؟ وما دور المكان في باطن الشاعر ..؟
ج- " القطيف " مدينتي مدينة العلماء و الأدباء و الفقهاء من ألقابها النجف الصغرى و هي كانت في يوم ٍ من الأيَّام تـُشبه مدينة النجف الكبرى مدينة أمير المؤمنين علي عليها السلام. القطيف هي أمِّي و مرضعتي الحنون . تحت نخيلها السَّمراء تفيَّأتُ و من عيونها شربتُ و في حدائقها لعبتُ و في حاراتها نظرتُ إلى السَّماء نظرة العاشق الولهان و في يديَّ كتاب الله و نهجُ البلاغة وإلى أرضها سجدتُ سجود العبد الشاكر لله تعالى. القطيف قلادة ذهبيَّة في جيد الخليج . جمالها الساحر أثرى تجربتي الشعريَّة.أمَّا المكان فهو عندي الإنسان و القيم و الفضائل. بحضور الجمال الإنساني و القيم الراقية يحضرُ المكان و باختفاء ذلك الجمال المقدَّس يختفي المكان أمامي.

س5- من قصائدك العامودية " المتناثرون ... المدارات " بدت لي إنهما تحملان نمطا خاصاً عن كل القصائد التي كتبها " عبدالله الاقزم " لذلك أقول هل هو انكسار روحي , أم هو تأسيس لمذهب المتناجي في كتابة القصيدة..؟
ج- قصيدة " المتناثرون " قصيدة خرجتْ من أعماق قلبي كتبتُها و الجراحاتُ ترسمُ صورها كتبتها والأحزان تنهض مع كلِّ حرفٍ من حروفها و روحي كانت تطيرُ بين نثارها و طوفان أوجاعها هي انكسارٌ كبيرٌ لروحي و شرخٌ دام ٍ لا يُريد أن يلتئم و هي مناجاة في تأسيس مذهب المتناجي. أمَّا قصيدة " مدارات " فهي تختلف عن قصيدتي المتناثرون في لغتها و في انسيابها و صورها الشعريَّة كانَ همِّي الأكبر في هذه القصيدة هو ابتكار صور فريدة من نوعها و قد وفقني الله كثيراً في هذا السعي بشهادة كثير من القراء والنقاد فهاتان القصيدتان منعطفان مهمَّان في حياتي الشعريَّة.و هناك قصائد أخرى شكَّلتْ محطَّات في الرسم البياني لهذا المشوار الطويل .

س6 ) - دعني هنا وستبقى حبي الأول ( هما قصيدتان اعتقد إنهما من نمط التفعيلة تعبران عن حالة بوح وهذيان طافح لدى الشاعر عبدالله الاقزم فماذا تقول ..؟
ج- ربَّما هذيان في" دعني هنا " و لكن لا ينطبق هذا مع القصيدة ستبقى حبِّيَ الأوَّل فهذه القصيدة جاءت عن وعي تام لماذا أكتب؟ و عمَّ أكتب؟ و فيمَ أكتب؟ عشتُ تجربة سمعتُها من ها هنا أو هناك فاختمرتْ الفكرة في عقلي و قلبي و روحي فأثمرت " ستبقى حبِّيَ الأوَّل " و كلُّ قصيدة حبٍّ جديدة أو في رحم الغيب هي حبِّي الأوَّل .

س7- نحس من خلال قراءة قصائدك انك تحت سطوة قصائد الشاعر نزار القباني هل هي صدفة أم هو تأثير غير مباشر أم هي خصوصية الشاعر عبدالله الاقزم , حبذا لو تعطينا فكرة عن هذه .. ؟
ج- لستُ تحتَ سطوة الشاعر الكبير نزار قبَّاني و الدليل أنني أمتلك بصمتي الخاصَّة بي فأسلوبي يختلف عن نزار قبَّاني و هذا الكلام ليس من بنات أفكاري بل من خلال شهادات أدباء و شعراء كبار و نقاد متمرِّسين. نعم هناك قصائد فيها صدى للشاعر الكبير نزار قباني فالصَّدى شيء و الوقوع تحت السَّطوة شيء آخر و هذه الجملة الأخيرة فيها الكثير من المبالغة. فلديَّ مئات القصائد التي لا تشبه نزار في شيء . سأعطيك أمثلة على ذلك قصيدتي " المتناثرون " و قصيدتي " الفولاذيَّة "و قصيدتي " قم يا عراق "و قصيدتي " بسملات على لسان أسئلة عاشقة "و قصيدتي "في محراب الجراح " .....إلخ كلُّها تشهدُ أنني أختلف عن شاعرنا الكبير نزار قبَّاني و أنني لا أقعُ تحت سطوته. متى ما شعرتُ يوماً ما أنني أقعُ تحت سطوة هذا النجم الكبير سأعتزل الشعر فوراً و أقدِّم استقالتي لجماهير الفنِّ الجميل .

س 8- هل الشاعر عبد الله الاقزم أسير طقوس محددة في الكتابة الشعرية أم يأتي إلى محراب القصيدة في غفوة من القدر ...؟
ج- ليس لي طقوسٌ وليس لي وقت محدَّدة للكتابة فأنا أكتبُ و لو كانت الظروف لا تسمحُ بالكتابة .أحياناً تنزلُ عليَّ الكتابة كالغيث المنهمر و أحياناً تتحوَّلُ إلى صحراء قاحلة. أكتب في لحظات الهدوء كما إنني أكتب في وسط الصخب والإزعاج ولكنني أفضل الكتابة وأنا في حالة استرخاء ٍ تام ما بين النوم واليقظة .

س 9 - تنفرد قصائدك بالعمق والإيحاء والجمال ،من جانب والوضوح والشفافية من جانب آخر, فما هي مصادر استلهامك الشعري ...؟
ج- المصدر الأوَّل هو الحياة و تجاربُ الناس والملهم الأكبر هو الأنثى و تاء التأنيث والعاطفة التي تسطع في عيون المحبِّين و العشاق.

س10- لقد أصدرت ديوانين هما( من أمطار العشق و خذني إلى معنى الهوى ) كيف كانت الرؤية النقدية لهما..؟
ج- الأوَّل بشكل ٍعام ٍ جيِّد ... أمَّا الثاني فقد حقق قفزة في المستوى واستشفيتُ الأمر من خلال أقراني الشعراء والأدباء الكبار .

س11- من مجاميعك التي لم ترى النور حتى الآن مثل: إلى أين يتجه النيزك ,الطريق إلى الجنة ,ستبقى حبي الأول ملتهبة , وللحب رياح شمالية ,خمس دقائق قبل وصول العاصفة ) هل لنا أن نعرف ما هي الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء عدم ظهورها إلى النور..؟؟
ج- السبب الأكبر هو أنني لم أجد المنتج والموزع فأنا المؤلف و أنا المنتج و أنا الموزع هذه الأدوار أتعبتني كثيراً في تجربتي مع ديواني من أمطار العشق والثاني خذني إلى معنى الهوى. المؤسسات الموجودة التي تتكفل بالإنتاج والتوزيع شروطها لا تعجبني.

س12- لقد اختيرت قصيدتك ( شقَّ السَّماءَ بنوره ) من أفضل القصائد التي قيلت في النبيِّ (ص) ووضعت بين كبار الشعراء العرب الذين قالوا في النبيِّ( ص) على مرِّ العصور ككعب بن زهير وأحمد شوقي والبوصيري, والسيد مصطفى جمال الدين و الدكتور الشيخ أحمد الوائلي... إلخ ما وقع هذا التصنيف على ذات عبد الله الاقزم ..
ج- لقد أبكاني كثيراً من أنا حتى أكون بين هؤلاء العمالقة. هذا التصنيف دفعني نحوَ الوهج الإبداعي أكثر وأكثر من ذي قبل و حمَّلني مسؤولية كبرى .

س13- بماذا تعلق على ما كتب عنك من هذه العبارات في وسائل الإعلام : ( إنه من أساطير الشعر العربي )- (شاعر الأنبياء) ..؟
ج- هي أوسمة لا أستحقها و لكن تضعني أمام أعباء كبيرة للتحدَّي و مواجهة الجبال مهما كانت في قساوتها وجبروتها والسعي الحثيث نحو القمَّة.و هي أجوبة مُزلزلة لكلِّ من حارب شعري بحسده الكبير

س 14- قيل في الشاعرعبدالله الاقزم كلام مفاداه : انه يذكِّرُنا بروائع الأولين وكأنَّ عنترة بن شدَّاد خرج لنا من غياهب التأريخ و من عبق الزمان الأوَّل لينشد لنا هذه الرائعة ..؟ ألا تعتقد بان قائل هذه العبارة وفي ظل الحداثة الشعرية يريد الإياب بعبدالله الاقزم إلى زمن الجاهلية .
ج- الرجوع إلى التراث ليس ضد الحداثة كم من نصٍّ قديم أكثر حداثة من أيِّ نصٍّ يكتبه الحداثيُّون. الحداثة مواصلة الماضي بالحاضر في لغة مبدعة مبتكرة متجدِّدة في كلِّ عصر,و هذه المقولة التي أوردتَها أنتَ هنا تفنِّدُ المزاعم التي تقول إنني تحت سطوة الشاعر الكبير نزار قبَّاني و تضربُ بهذه المزاعم عرض الحائط هذا إن بقي هناك حائط .

س15 – أفردت لك الكثير من المنابر ومن المواقع الأدبيِّة والثقافيِّة الالكترونية والورقية صفحاتها للكتابة فيها من الناحية الأخرى إلا ترى معي بان هذا النشر يستهلك طاقة الشاعر الروحية والفكرية إلى أن يصنف بشاعر المستهلك ,ماذا يقول عبدالله الاقزم في هذا الموضوع ..؟
ج- في العادة لا أكتب في الشهر إلا نصَّاً واحداً و أشترط على نفسي أن يكون النصُّ أهلاً للنشر و إلا حكمتُ عليه أن لا يُنشر و يظلَّ في الظلِّ أو أرميه إلى سلَّة المهملات.أو أنسفه في اليمِّ نسفاً أو أتركهُ قاعاً صفصفاً . هكذا أتعامل مع شعري. لا مجاملة و لا مُهادنة. يكونُ أولا يكون . فّإذا برز نصٌّ بين أصابعي و لمع و سطع فمكانه أن ُ يُنشرَ في المواقع الأدبيَّة و الثقافيَّة الإلكترونيَّة و الورقيَّة. بهذه الطريقة لا أستهلك نفسي و من يشترط عليَّ بنصٍّ غير منشور مِن قبل سأقول له مع السلامة, في أمان الله فقصائدي هي ملك لجميع القراء و من دون استثناء من أقصى الأرض إلى أقصاها .

س 16- إلى أي مدى استفاد الشاعر عبدالله الاقزم من الحركة النقدية في العالم العربي , وخاصة في تطوير أدواته الشعرية ولكن هل تقبل النقد أصلا ..؟!
ج- أقبل النقد إذا كان هادفاً بناءً و وجودي بين عمالقة الشعر أفادني كثيراً و أثراني و ساهم في تطوُّر شعري و ازدهاره .أمَّا الحركة النقديَّة في العالم العربي فهي في حالة جزر ٍ في الوقت الراهن . آملُ أن تنهضَ من سباتها العميق و تترك الجلوس بين المقابر لأنني أخشى عليها من موتٍ قادم ٍ قاتم .

س 17 - في نهاية هذا الحوار أرجو منك سيدي الكريم أن تحدثنا قليلا عن مشاريعك الأدبية الحالية منها والقادمة ..
ج- إن شاء الله ديواني الثالث " إلى أين يتجهُ النيزك" ؟؟؟ سيرى النور عن قريب.و هناك من الدواوين من ينتظرُ دوره في النشر. مشاريعي الأدبيَّة كثيرة و الأيَّام القادمة ستتكفل في إظهارها للناس لكلِّ الناس. في ختام المقابلة لا يسعني إلا أن أشكرك على هذا الحوار الجميل و أشكر القراء الكرام. لك و لهم أحلى الحبِّ و أحلاه. أخوكم المحب عبدالله علي الأقزم..
وفي الختام السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

Hisen65@gmail.com

الاثنين، سبتمبر 28، 2009

من سن القلم: بحبك موت

عـادل عطيـة


قالتها أمنا الأولى حواء ، عندما تناولت من ثمار الشجرة المحرمة !

وقالها السيد المسيح على الصليب ، معلناً فداء البشرية !

يقولها الشهيد ، المسفوك دمه على شرف تمسكه بإيمانه القويم !

ويقولها الجندى ، وهو يضحى بذاته فى سبيل وطنه !

يقولها المحب ، عندما يذوب فى الآخر ، وعندما ينتحر !

كما يقولها قائد السيارة محترف السرعة !

قصيده حدوته

ايمن يحيي‏

الدنيا حدوته وجواها كتير حكايات
فيها اللي حب
واللي حبه جوه منه مات
فيها المهاجر والمسافر
واللي خد مركب وغادر
ساب لاهله دمعه وياها اهات
فيها اللي متغرب في بلده
جوه ارضه
كلمته ماتت في حلقه
صوته عاجز
زي السكات
فيها اللي من قلبه بيشقي
لاجل يلقي
لقمه لولاده
يسد الاحتياج
فيها اللي بيقابلك بوش
بس شايل جوه منه الف وش
زي حيه يبخ سمه من سكات
فيها العصامي
والحرامي
والجريئ والانهزامي
واللي عاش في الحلم تاه فالامنيات
الدنيا حدوته وجواها كتير حكايات

كل إس أم إس وأنتم بخير

نادر أبو تامر

كيف تعطلت لغة الكلام؟ نادر أبو تامر يتساءل لماذا صمت هاتفه في العيد الأخير. لماذا لم تصله مكالمات معايدة، وبدلا منها انهالت عليه سيول من رسائل الـ "اس أم اس"

دهشت من هاتفي في العيد. لم يرن. هاتفي يرن عادة مرارًا في اليوم العادي. في العيد، توقعت أن لا يتوقف عن الرنين. وضعت البطارية في الشاحن خوفًا من أن تنفد. لكنها بقيت كاملة مكملة. هاتفي لم يرن. استغربت حين صرنا في ساعات بعد ظهر اليوم الأول من العيد. لم يرن هاتفي!! هل تعطلت لغة الكلام؟؟!!..

صحيح أنه لم يرن لكنني لم أتركه. لم يتوقف عن تلقي رسائل الـ "اس أم اس". معايدات بالجملة. أكثر من 140 رسالة ليلة العيد وفي اليوم الأول. من أشخاص ربما التقيتهم مرة في حياتي، فما ألطفهم. والغريب أنني أحيانًا أتلقى من نفس الشخص أكثر من معايدة. (ربما معه أكثر من هاتف، أو له أكثر من رقم... أو أنه مثلي مصاب بالنسيان، ونسي أنه سَبَقَ وعايد عليّ).

والتهاني جميلة. كلام شاعري يردّ الروح. المشكلة أن عشرة يبعثون نفس الرسالة الجميلة. موضة!! والمعايدون من كل الفئات والأجيال. لم تعد تقتصر على الشباب الصغار. (لكن لا أحد يباريهم ويجاريهم في سرعة الطباعة، كأن والدتهم علمتهم كتابة رسائل الـ "اس أم اس" وهم في بطنها).

في حديث لي مؤخرًا مع النائب طلب الصانع قال لي: "صدق يا نادر، حتى في جلسات الكنيست ولا حدا هون... كل يغني على اس أم اسه... لا أحد ينتبه للنقاش في الجلسات".

لا شك أن رسائل الـ "اس أم اس" غيرت الحياة الاجتماعية وعجّلتها واختصرتها... وقتلتها..

أحد اصدقائي يكتب رسائل الـ "اس أم اس" بدون أن ينظر إلى الهاتف..

لكن حتى ورغم كثرة رسائل الـ "اس أم اس" فهناك توقيع خاص فيها. رسالة وصلتني من ابن اخي أمير ختمها بعبارة "يا عمي". عرفت أنه بعثها لي وحدي ففرحت. وربما أيضًا إلى عمه ماهر. ابن خالي زياد بعث الي تهنئة أنهاها بنداء .. يا ابن عمتي. فعرفت أنني أنا المقصود دون غيري.

بعض الرسائل الموحدة وصلتنا أنا وزوجتي في نفس الوقت. من نفس المهنئ. يعرف كلينا، كما يبدو.

لكن..

اصارحكم انني لم أقرأ كل رسائل الـ "اس أم اس". فتكاد تكون قالبًا واحدًا. تفتقد نكهة الصوت. لكن، ذوقًا، حتى لو لم أقرأ، بعثت شكري لصاحب التهنئة.

في العيد. نظرت إلى هاتفي نظرة شكر ممزوجة بالازدراء. فتحت دفتر الهواتف. اخترت عدة ارقام عزيزة علي. واتصلت بأصحابها. تفاجأوا. وكأنهم يريدون ان يقولوا لي، مش عيب بتتصل. ما في رسائل الـ "اس أم اس"... ليش مغلب حالك... وكأن المعايدة الصوتية صارت دقة قديمة.

لكنهم لا يعلمون أنني أحب هذه الدقة القديمة.

أجمل التهاني التي وصلتني كانت من ميلاد وعطالله. من أصدقاء الطفولة. نكاد لا نلتقي. لكنهما يصران على أن يعادياني صوتيا. الصوت له نكهة أخرى.

حتى صديقي الذي التقي به عدة مرات في الأسبوع. سمير، عايدني برسالة "اس أم اس"...فقلت معزيًا نفسي: "على الأقل هو الذي بادر. فلا بأس".

صديقي طارق كنت أجلس معه فراح "يبحبش" عن رسائل الـ "اس أم اس" التي وصلته وبعثها. أعطى هاتفي اشارة. فتحت رسائل الـ "اس أم اس". وإذا هي رسالة من طارق. لم ينتبه أنه أرسل إليّ معايدة حتى وأنا جالس معه.

استنتجت أن الذي يبعث فإنه يقوم بإرسال رسالة واحدة موحدة إلى جميع الأسماء الواردة في هاتفه. وليس دائمًا يقصد أن يهنئني أنا شخصيا.

عندها أحسست بقيمة مكالمة صديقيّ ميلاد وعطالله. الصوت يخرج من القلب. رسائل الـ "اس أم اس" تخرج من ذاكرة الهاتف الجافة والناشفة والجامدة.

لا تتخلوا عن رسائل الـ "اس أم اس". لكن لا تعطلوا لغة الكلام. كل عام وهواتفنا بخير.

بعدما كتبت المقال:

أرسلته إلى أحد أصدقائي ليطالعه قبل أن أنشره. كيف أعلمته بأنني أرسلت إليه المقال... بعثت إليه وطلبت أن يتكرم ويلقي نظرة من خلال رسالة اس أم اس!!!

للمراسلة naderabutamer@gmail.com

الأحد، سبتمبر 27، 2009

زهدي ومادلين

د. عدنان الظاهر

جلستُ ذاتَ ساعة بطرٍ وخلوِّ بال أفلسف مسألة شغف الصديق الروائي والكاتب الدكتور زهدي الداوودي بالإسم [ مادلين ] ؟ لم أجدْ سبباً مُقنعاً يُشفي غليلي فبقيتُ حائراً لا أعرفُ كيف أُمضّي بقية ساعات ليلي الثقيل الوطأة عليَّ خاصةً حين تتعقد الأمور أمامي وتلتبس.
لا أستطيعُ النومَ مُبكّراً ولا مواصلة التحديق في شاشة التلفزيون لأنها تؤذي العيون الضعيفة أصلاً. إذاً ... وقد تُجدي هذه ال (إذاً ) ! فلأستدعيه عاجلاً بالتنويم أو التعويم المغناطيسي أو عن طريق مكالمة تلفونية قد تكون طويلة ولأضعه أمام إستجواب عويص . أعرفُ الصديق زهدي رجلاً صريحاً ومقاتلاً شجاعاً خبرته منطقة جبل ( كفران ) الحصين والوديان العميقة في محافظة كركوك نصيراً شيوعياً { بيش مه ركه } إثرَ إنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 وفصله من وظيفته معلِّماً في قرية ( مامةْ ) ثم صدور حكمين عليه بالسجن في قضية واحدة . إذاً زهدي رجلٌ لا يخشى الكلام عن خصوصياته الدقيقة فلأفتح معه موضوع مادلين وأرى ما سيقولُ . أضحكني زهدي طويلاً إذْ فاجأني بالسؤال : أيةَ مادلين تقصدُ ؟ إنتبهتُ ... تعلّق زهدي بفتاتين تحملان ذات الإسم : مادلين . تظاهرتُ أني لا أعرف التفاصيل فقلتُ له قصَّ عليَّ قصة الأولى ثم الثانية . فكّرَ قليلاً ثم طلبَ كأس نبيذٍ أحمرَ قانٍ فجاءه الكأسُ كما أراد مشعشعاً كالعقيق المنصهر بنار الثلج . قال وقد إرتشفَ من كأسه قليلاً لترطيب لسانه : أحببتُ مادلين الأولى حين كنتُ في ظرف عصيب . كانت ممرضة تعمل في مستشفى المجيدية في كركوك وكنت مع أبي المريض وهو يصارع الموتَ على سرير مرضه . كنتُ لم أزل دونَ الخامسة عشرة من عمري طالباً في السنة الثانية من الدراسة المتوسطة . كنت يومها في عنفوان مراهقتي وكانت مادلين في أوج فتنتها وتفتّح كنوز جسدها فكيف لا يقع مثلي في غرام فتاة مثلها ؟ أخذ زهدي رشفةً طويلةً مما في كأسه من عقيق سائلٍ أحمرَ قانٍ . بقي الكاسُ في كفه لا يريدُ أنْ يفارقهُ أو كأنه لا يريدُ . أطرقَ زهدي إطراقة غيرَ قصيرة . رفع رأسه نحوي كأنه تذكّرَ شيئاً فاته ذكْرُهُ . هل تعلم ؟ سألني . أحببت مادلين تلك من كل قلبي وقد شغفني إسمها غير المعروف في مدينتي ومدينة أهلي ( طوز ) ، فضلاً عن إختلافنا في الدين فهي مسيحية وأنا لستُ كذلك . تمتم مع نفسه : تجاذبُ الضدين لا صراعُ الأضداد ! وكيف إنتهت قصتك مع مادلين الأولى يا زهدي ؟ إنتهت نهاية مأساوية مزدوجة ، أجاب . توفي والدي وغادرتُ كركوك عائداً لمدينة طوز لأباشرَ الدوام في مدرستي وفي الصف الجديد ، الثاني المتوسط . وهل نسيتها يا زهدي وقد أصبحتَ مع باقي أهلك وأخوتك في مدينة طوز؟ قال أجلْ ، نسيتها ، لكنَّ الفضلَ في نسيانها للسياسة . كيف يا زهدي ؟ قال لعلك لا تصدق أني ـ وقد تعرفتُ على نخبة من الطلبة اليساريين الثوريين في مدرستي ـ كنتُ أعرف جناحي الحزب الشيوعي
" القاعدة " و " راية الشغيلة " . ومن سلوك ومناقشات أصحاب هذين الجناحين تعرّفتُ على الكثير من الأفكار ونقاط الإختلاف بين هذين الخطين. كنا نجتمع في البيوت وفي البساتين نقرأ ونتناقش ونختلف ونتفق ومضت الأيام حتى جاء شهر شباط من عام 1955 فقدتُ إضراباً ضد دخول العراق في حلف بغداد الأمر الذي أدى إلى فصلي من مدرستي وتلك قصة طويلة وراءَها غصصٌ وغصصٌ . أحببتَ يا زهدي وأنت في الرابعة عشرة من عمرك وفُصِلتَ من مدرستك وأنت لم تزل في الخامسة عشرة فعلام العَجَلة وما أسبابُ نضوجك المبكّر في عالمي الرومانس والسياسة ؟ خوضي عالم السياسة أنساني رومانسي الأول العنيف ، أجاب زهدي . أما شأنُ الثورة فقد دخلته من باب الفقر . رحل والدي ولم يترك لنا غيرَ راتبٍ تقاعديٍّ ضئيلٍ وبيوتٍ ثلاثة باع أو رهن أحدها قبل وفاته دون علم والدتي . ثم لا تنسَ حقدنا على شركات النفط الجاثمة في كركوك وشعلة غازات نفط حقول باباكركر الدائمة الإتقاد لا تدعُ لنا مجالاً لنسيان محنتنا وفقر شعبنا وإستغلال خيراتنا ونهب ثرواتنا من قبل شركات أجنبية فرضها الإستعمار البريطاني على العراق وشعب العراق . الأجانب يتنعمون ونحن نشقى فكيف لا نثور وكيف يسكتُ فقيرٌ مظلومٌ ظالمهُ غيرَ بعيدٍ عنه؟ سألته وكيف صارت أمورك بعد فصلك من مدرستك ؟ قال تلك قصة طويلة معقدة تجد تفاصيلها في روايتي {{ تحوّلات }}* . كدتُ ـ واصل زهدي كلامه ـ أنْ أكونَ بسبب ذلك الفصل مجرماً قاتلاً . لم أعلّقْ ، كنتُ شبهَ واثق أنه سيواصل الكلام ، وبالفعل . قال : حين أصرَّ مدير المدرسة على قرار فصلي رغم الضغوط والوساطات قررت بمساعدة أحد أقاربي إغتياله ليلاً ولكني تريثتُ ولم أنفّذْ قراري . نجحت الضغوط أخيراً فوافق المدير على عودتي لمدرستي بقرار من مجلس مدرسيّ المدرسة . ثمَّ ؟ حثثتُ زهدي على مواصلة حديثه الشيّق الباعث للحزن فقال : أكملت الدراسة المتوسطة ودخلت دار المعلمين الإبتدائية في كركوك لأتخرج فيها بعد ثلاثة أعوام وصدر أمرُ تعييني معلماً ومديراً في قرية مامةْ ، كان ذلك عام 1960 الصاخب الشديد الإضطراب زمان عبد الكريم قاسم ! .
صببتُ لزهدي كأسَ نبيذٍ آخرَ لإستدراجه [ أو لإغرائه ] لقصِّ المزيد من أحاديثه الساخرة والساحرة معاً وإنه لهوَ الساحر الساخر . نهض لقضاء حاجةٍ وما أنْ قضاها وعادَ حتى بادرني بالسؤال هل لديك المزيد من الأسئلة ؟ لديَّ منها الكثير يا زُهدي الزاهد . قال هات ... اليومَ خمرٌ وغداً أمرُ . إذاً ... قلتُ له ، تحسّنتْ أموركم المالية وقد غدوتَ معلماً ومديراً لمدرسة في الريف بعيداً عمّا كان يجري من مضايقات وإعتداءات وإعتقالات وسجون وإغتيالات طالت الكثير من العناصر الدمقراطية والشيوعية عهدذاك . قال تحسّنت أحوالنا المعاشية نعم ، لكنَّ أوضاع العراق السياسية كانت تنزلق أكثر فأكثر ويوماً إثرَ يومٍ نحو منزلقات ومنعرجات خطيرة أدّت أخيراً إلى نجاح إنقلاب الثامن من شهر شباط 1963 الفاشي الدموي الذي أغرق العراق بالدم والسواد . قلت له دعْ عنك أحداث هذا الإنقلاب المعروفة وحدثني عن سنوات نعيمك قبل وقوع هذا الإنقلاب . قال كنتُ بالفعل سعيداً في مدرستي القروية ومحيطي الفلاحي الذي أحببتُ من كل قلبي خاصةً وأجدادي من الفلاحين البسطاء . ثم ... حدث ما لم يكن في الحسبان وهذه هي الحياة ومفاجآتها . نورٌ كالشهاب الثاقب الساقط من عالي السماوات يخترقُ فجأةً سُجُف وغياهب الظلمات . ماذا تقصدُ يا زهدي ؟ سألته مُتلهِّفاً . وسط المحنة التي كان العراق يمرُّ بها ـ قال ـ شاءت الصدف أنْ أتعرفَ على معلمة مصلاوية جاءت تزورُ والدتي ذاتَ يومٍ فذهِلتُ وطارَ صوابي . كان إسمها هي الأخرى مادلين وإنها كمادلين الأولى مسيحية ! كانت الأولى ممرضةً أما الثانية فمعلّمة . ماذا جرى ساعتها لي ؟ لا أدري . إلتبستْ عليَّ أموري فتخيلتُ زائرتنا هي الممرضة مادلين حتى شُبّهَ لي أنَّها ترتدي بدلة الممرضات البيضاء خلال ساعات دوامهنَّ في المستشفيات . كيف إنتقلت عدوى الحب من فتاة إلى أخرى لا يجمعهما إلا الإسم والدين الذي لا يلعب أيَّ دورٍ في حياتي ؟ كيف وجدتُ تلك في هذه ؟ كيف تضاعف تضامني معها بسبب محنة العراق وما كانت مدينة الموصل تتعرض له من حوادث القتل والإعتداءات والتهجير مارستها بحق الدمقراطيين والعوائل المسيحية عناصر أقل ما يُقالُ عنها أنها كانت حاقدة على ثورة تموز 1958 وناصبتها العداء بكافة الوسائل والطرق والأساليب حتى أفلحت أخيراً في إسقاطها . كانت أسعد أوقاتي تلك التي كانت مادلين تزور بيتنا وتقضّي معنا أوقاتاً طويلة إذْ وجدتْ في بيتنا عائلةً تسليّها عن وحدتها وغربتها ووجدت في والدتي والدةً لها واتخذت مني صديقاً وأخاً مُحبّاً . المِحنُ تجمع الناسَ المُمتَحنين بها وتوحدّهم . مرَّ الزمنُ وبمروره ومع مروره وجدتُ في نفسي قدراً كافياً من الشجاعة لأصارحها بحبي العميق ووجدتها ، يا للغرابة ، تبادلني مشاعري الجيّاشة تلك . صرت أثناء دوامي في مدرستي أكتب لها رسائل غرامية لاهبة فتجيبني عليها رسالةً برسالة . لا يدومُ سرورُ البشر طويلاً [[ لا يَنقُصُ البدرُ إلاّ حينَ يكتملُ ]]. عرضتُ عليها ذاتَ يومٍ الزواجَ فصدمتني بقولها إنها تتشرف بالزواج مني لولا ... لولا أنها مخطوبة لإبن عمتها ! إنهار حينها كل شيء في حياتي . تساوى أمام ناطريَّ النور والظلام . الثورة وضدها الإنقلاب عليها والمُرشّحُ البديل والقريب منها. الوظيفةُ في الريف والسجن . الحريةُ والتشرد والمطاردات البوليسية . وقع إنقلاب الثامن من شباط فالتحقتُ بحركة الأنصار في الجبل ليصدر الإنقلابيون قرارا بفصلي من وظيفتي والحكم عليَّ بالسجن غيابياً . كان هذان الأمران متوقعين لكنَّ الأمر غير المتوقع هو أنْ يصدُرَ أمرٌ من قبل بعض مسؤولي الحزب البارتي [ حزب مصطفى برزاني وقتذاك ] باعتقالي وتجريدي من سلاحي ! طيّبْ يا زهدي ، قلتُ له ، وماذا عن حبيبتك المصلاوية ؟ قال إنقطعتْ أخبارُها عني ولم أعدْ أعرف شيئاً عنها . ربما قتلها أو سجنها الإنقلابيون في مدينة الموصل سويةً مع باقي أفراد أسرتها هناك. شرع زهدي ، لفرط ما ألمَّ به من حزن وأسى ، شرع يغني بصوتٍ خفيضٍ مُطأطئ الرأس مرةً باللغة الألمانية ومرات بالتركمانية أو الكوردية . تناول كأسَ النبيذ وقال بعد أنَّ أفرغه مرةً واحدةً في جوفه : مع مادلين الأولى فارق والدي الحياة ، ومع الثانية فقدتُ وظيفتي وحريتي وفقدنا العراق فهل هذه هي قسمتي ونصيبي من حبي الأول والثاني ؟ ألا بئسَما القسمة والنصيب .
نهض الصديقُ زهدي ليودعني شاكراً دعوتي وحديثي معه عارضاً عليَّ أنْ أزورَه والصديق الحلاّوي دكتور ممتاز كامل كريدي في مدينة لايبزك الألمانية فمتى أحقق هذه الزيارة التي طالما وعدتهما بها وأخلفتُ مِراراً وعدي ؟ وأنت يا ممتاز العزيز ، عزيز حلة بابل ولايبزك جرمانيا ، متى تكتب لي خلاصات ذكرياتك لأنشرها على الملأ ؟

· * تحوّلات / رواية للدكتور زهدي خورشيد الداوودي . الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت . الطبعة الأولى 2007 .

السبت، سبتمبر 26، 2009

لعنة الله على العجلة


صباح الشرقي

– المغرب -

بعد خصام تبعه فراق ، أهداها وردة فحسبت أنها سوف تنعم بفضائل
الحدث العظيم، فلم تبطئ بالتجاوب معه من جديد ... لكن ما إن دخل
واستقر بالمقام حتى غسل وجهه وهرش رأسه ففهمت قصده، إذ على
الفور اتجهت صوبه ووضعت الوردة بين كفه...، فنفث دخان سيجارته،
وسرت الدماء في عروقه واعتلت معالم سعادة عارمة على محياه ...
ترجل ثم ألقى عليها نظرة تافهة وقال لها شكرا... شكرا جزيلا، ثم غادر
المكان مسرع الخطوات.

الجمعة، سبتمبر 25، 2009

هوه معني الحب ايه

أيمن يحي

هوه معني الحب ايه؟؟؟
غير حبيب لما يغيب تشتاق اليه
وان عيونه خاصمتك
تجري وتصالح عنيه
واما تضحكلك شفايفه
تبقي في الدنيا دي شايفه
الملاك اللي انتا ياما حلمت بيه
هوه معني الحب ايه؟؟؟
حب يعني قلوب ودابت
من حلاوه الحب داقت
اهتدت بعد اما تاهت
نسيت الاه والانين
حب يعني قلوب مسامحه
والعيون مليانه فرحه
والنفوس بالحب طارحه
ماليانين حب وحنين
هو معني الحب ايه؟؟؟

الخميس، سبتمبر 24، 2009

الفنانة -6

أنطوني ولسن
استراليا


وصلنا في الجزء السابق الى تلميحات سامية لوالدتها لزيارة الدكتور عزت ووالدته ربما تكون لطلب يد سلوى.

لم تصدق سلوى ما سمعت من اختها.. ولكنها اخذت تدير الأمر في رأسها واعترفت بينها وبين نفسها بان خبرتها في الحياة قليلة. واخذها تفكيرها الى عادل لو فكر بالفعل بالزواج منها. فهذا أمر طبيعي لمعرفة كل منهما للآخر. على الرغم ان الحب غير موجود بينهما أو على الأقل من ناحيتها لانها مقتنعة انه قد يولد الحب وينمو مع المعرفة، والوقت والرؤية المستمرة، يجعلان امكانية الحب والزواج موجودة.أما ان يأتي الانسان من آخر بلاد الله، يراها لأول مرة، ثم يسافر الى اسرته في اسيوط، وبعد ذلك يتصل في نفس الاسبوع ويقول انه سيأتي والست والدته لزيارتنا، وتفسر ماما وسامية هذا على انه قادم لخطبتي؟ فهذا غير معقول بالمرة، ولا اظن انه سيحدث. لقد مضى عهد الخاطبة، أو الام التي تخطب لابنها وايضا عهد ارغام البنت على قبول من يتقدم اليها بهذه الطريقة وموافقة اهلها عليه. لقد حضر هذا الخاطر فعلا في تفكيرها بعد ان اتصل بها، ولكنها لم تقطع هذا الطريق الطويل من العلم والثقافة ليكون مصيرها مثل مصير اي فتاة لم تنل حظاً وافياً من العلم، وظلت في المنزل في انتظار «عريس الغفلة» كما يقولون.. لا.. هذا لن يحدث لي.. قد يكون هذا هو الطريق السليم في عرف الناس، ولكنه أكيد في عرف قلّة من الناس ولا اظن أن ابي، وكيل الوزارة وعميد كلية الطب سابقاً، يوافق على مثل هذه الطريقة في الزواج والحياة. الاسرة يجب ان تبنى على اساس متين قوامه معرفة كل من الرجل والمرأة للآخر معرفة وطيدة وقوية قبل الزواج.

وعندما وصلت الى هذه النقطة، سألت نفسها.. ما هذا يا سلوى.. ماذا تعنين بالمعرفة الوطيدة قبل الزواج..؟ حار عقلها في الاجابة، ان هذه الحرية محاطة بسياج متين من الحماية الاخلاقية والسلوك القويم اللذين احاط بهما الاب والأم، بل الاسرة كلها، تلك الحرية البناءة، وليست الحرية التي تهدم وتدمر صاحبها والمحيطين به.

اذاً ما هي فلسفة معرفة الرجل للمرأة ومعرفة المرأة للرجل قبل الزواج؟ كيف يتم هذا؟ ماتقرأ وتعرف عن العالم الآخر، العالم الغربي، فان هذه الفرصة تهيئها الاسرة والمجتمع، ليعرف كل من الفتى والفتاة بعضهما البعض خير المعرفة دون قيود او حدود. وان تمادى كل منهما في علاقته بالآخر ووصل الامر الى مشكلة قد يتم الزوج. وكم رأت من افلام فيها العروس حامل ليلة زفافها. قد يترك كل منهما الآخر ولا عيب ولا حرج، لا للفتاة ولا للفتى.. ولا للطفل الذي ينشأ مع الأم.. وقد تتركه لمؤسسات خاصة لتربية مثل هؤلاء الاطفال، يحترم المجتمع هذه العلاقة وما قد ينجم منها.

وما رأيك انت يا سلوى في هذا؟ أيهما أفضل الزواج الذي يتم عن طريق موافقة الاسرتين.. اسرة العريس وأسرة العروس.. أم الزواج الذي يتم عن طريق معرفة كل من الفتى والفتاة للآخر معرفة تامة حتى اذا تزوجا بنيا حياتهما الزوجية على صخرة متينة قوامها حب كل منهما للآخر كما هو؟

أخذ فكرها يتأرجح بين هذا وذاك.. الحرية الفردية شيء مقدس دون شك.. واخذ الرأي المخلص، لا شك انه من أفضل الأمور البناءة في الحياة.. أسرتها واسرته وان كانا صادقين، لا أهداف بينهما. في المقام الأول، قبول كل من الفتى والفتاة للآخر ليكون شريكا له في الحياة.. والحب ما هو الحب؟ أهو هذا الذي يجعلكل فتاة لا تنام الليل اذا اختلفت مع حبيبها.. يجعل الحبيب يُقدم على الانتحار لان من احب غدرت به وتزوجت غيره؟ ام؟.. ام؟.. الحب يا سلوى، هو بداية الارتياح لانسان ما، وبخاصة الانسان الذي سيكون زوجا وابا لاولادي؟ هذا ما اؤمن به ايمانا مطلقا. حب المراهقة لا يمكن من بناء اسرة قوية عليه.. اما الحب الذي يبدأ ويتدرج الى التفاهم ومعرفة كل من الطرفين لآراء الآخر، ووجود هذا الخيط الرفيع الذي يصل كل زوجين بعضهما البعض، الا وهو الاحترام المتبادل، فكثير ممن كان لهم قصص حب تحدث عنهاالناس، انتهت بالفشل والطلاق.. اين اذا هذاالحب الذي جمعهما؟ انا لا انكر وجود الحب ولكنه حب الرجل للمرأة والمرأة للرجل المبني على التفاهم وبناء اسرة سعيدة يفرح بها المجتمع وتسعد بها الحياة.

ومضت في تفكيرها في الحب والزواج.. الدكتور عزت واستراليا.. فرض هذا الفكر نفسه فرضا وطرد أي فكر آخر بعيدا.. اذا فعلاً تقدّم الدكتور عزت للزواج منها، لا شك ستسافر معه الى استراليا.. وهنا شعرت بغصة في حلقها وشيئاً يعصر قلبها ووجدانها.. انها لا تعرف شيئا عن تلك البلاد.. او القارة. لقد سافرت الى اوروبا كثيراً. حضرت عرس اخيها حسام في لندن، انها على الأقل تعرف شيئاً عن المجتمع الغربي.

فهل المجتمع الاسترالي شبيه بالمجتمع الأوروبي؟ وما مدى اندماج المجتمعات الاخرى غير العربية في هذا المجتمع؟ لا بدّ أن هناك شيئا ما، يجمع كل هذه المجتمعات في هذا البلد استراليا.

الجالية المصرية والعربية..أتقرب الغربة بينهما؟ أم تزيد من الهوة التي صنعها الحكام لمجد شخصي، وفرضوها على الشعب العربي بأكمله؟

لم تسترسل في تفكيرها كثيرا.. لان سامية دخلت حجرتها وقطعت حبل تفكيرها مما جعلها تهبط من عالم الخيال الى عالم الواقع وتنظر الى شقيقتها الكبرى وهي تلهث لتقول لها:

- سلوى.. سلوى حبيبتي.. الدكتور عزت ومامته بره.

* طيب وفيها ايه يعني..

- ابدا.. بس.. بس انا شفته وشكله يجنن.. آه لوماكنتش اتجوزت.

* حيلك.. حيلك.. انت ناسيه انك زوجة ومعاكي ولدين زي القمر وراجل ملو هدومه..

- خديه ياختي وخدي ولادو الي زي القمر بس سبيلي عزت..

* لا.. دا انت اتجننتي خلاص.

- اتجننت ايه يا هبله.. انا بس عايزه اعرف حقيقة شعورك..

*يا سلام.. بالطريقة دي..

- طبعا.. انت نسيتي اني مُدرسة وانك لغاية الاسبوع اللي فات طالبة.. حتى ولو في الجامعة.

* سيبك من التهريج ده..

اقتربت سامية ناحية سلوى وأمسكت بها وضمتها الى صدرها ومسحت يدها فوق شعرها فى حنان أخوي وقالت لها:

- تعرفي يا سلوى.. انا دايما باعتبرك بنتي اكتر من اختي.. دايما بحس بالفخر لما اجيب سيرتك.. وأشعر وكأني باتكلم عن واحدة مش من العالم ده.. بحب ارائك.. بموت في تصرفاتك على الرغم من اني الاكبر.. الا اني دايما اناقش معاكي اي مشكلة في حياتي.. واللا انت نسيتي.

* مش بالشكل ده.. احنا اتعودنا دايما نصارح بعض ونناقش اي مشكلة تعترضنا مع بعض.

- طيب ودلوقتي فيه مشكلة.. واللا ما فيش!..

* في الحقيقة يا سامية يا اختي .. الدكتور عزت مجرد شخص عادي قريب بابا.. جه من استراليا على عندنا.. سافر أسيوط بلده.. ولما اتصل وقال انه جاي، كان برضه هو.. هو نفس الشخص العادي.. لغاية ما جيتي انت وولعتي النار.

- نار..نار ايه كفى الله الشر..

* نار افكارك واراءك.. قال ايه جاي والست والدته علشان يخطبني.

- فهمت.. علشان كده حبستي نفسك وقعدتي وحدك..

* يمكن يكون كلامك صح.. فليه اسيب نفسي للمفاجئة. لازم افكر وادرس واستعد للمواجهة علشان اذا اخذت قرار اكون مسؤولة عنه.

- طبعا بتاعة حقوق.. طيب وايه اللي وصلتي له بعد الفحص والبحث والتمحيص والذي منه..

* المفروض يكون كلامنا مع بعض يكون كلام صدق. لا فيه لف ولا دوران.. كلام دوغري..

- ايوه من عيلة الدوغري.. كملي .. كملي..

* انا شعرت بارتياح من ناحية الدكتور عزت.. شعرت انه راجل مخلص.. راجل غير متكلف.. راجل بسيط على الرغم من تعليمه وسفره الى انجلترا.. واقامته في استراليا.. اللي عطاني الفكرة دي شيء واحد.

- ايه هو.. قوليلي يا خبيرة.. يا استاذة.

* جرى ايه.. احنا حنتريق..

- لا صدقيني.. انا مش بقولك بحب اراءك وافكارك.. ايه هو بقى الشيء الواحد ده.

* طريقته وهو بيسلم.. مسكة ايده لايدي انت عارفه نظريتي في العيون..

- عارفه العيون اصبحت عيون ممثلة.. لا صدق فيها.. الكل يحاول وضع الصورة اللي عايز يظهر بيها في عينه ويخدع الناس.

* برافو سامية.. برافو حافظة..

- امال مش مدّرسه.. لازم اكون تلميذة شاطرة.

* لأ.. بجديا سامية انا مش بهزر.. لغة العيون اصبحت غير مشجعة وغير مطمئنة. اما لغة الايدي.. فهي بدون شك اصدق لغة لمعرفة الناس.. والحكم عليهم بسرعة وخاصة في اول لقاء.. لان الشخص يكون غير مستعد للقيام باي دور تمثيلي.

- نفترض ان الدكتور عزت جاي فعلاً علشان يخطبك.. ايه اللي وصلتي له من آراء..

*حاجة واحدة بس واقفة بيني وبينه..

- ايه هي يا سلوى؟

* استراليا.

- ايه.. استراليا..

*ايوه.. استراليا.

- وتطلع مين استراليا دي..

* «تضحك سلوى» ها.. ها..

- يا بت وطي حسك.. بلاش فضايح..

* يا حضرة المدّرسة.. يا استاذة الكيمياء، والطبيعة والاحياء.. اللا تعرفين استراليا..

- آه منك.. بلاش تريقة..

* استراليا.. قارة استراليا.

- الله يسامحك يا سلوى.. اصلك لما قلتي استراليا هي الحاجة اللي واقفة بينك وبينه، ما خطرش على بالي ابدا قارة استراليا.. افتكرتها واحدة ست له علاقة بيها وعرفتي عنها.. علشان كده مضيقاكي..

* لا.. استراليا البلد.. مش استراليا المحطة.

- حلوه دي.. بتعرفي تنكتي كمان..

* هو فيه مصري ما يعرفش ينكت..

- ينكت.. ولا ينكد..

ضحكنا طويلا.. ثم سمعتا صوت والدتهما خارج الباب..

- سامية انت وسلوى..

«تفتح سامية الباب»

مش تيجو تسلمو على الدكتور عزت والست والدته.

ما ان رأت والدة الدكتور عزت سلوى.. حتى انفتح قلبها. ضمّتها الى صدرها في حنان وربّتت على ظهرها واجلستها الى جوارها.

أخذ الحديث يتفرع دون ما هدف معين. بل كان المقصود، قضاء الوقت وترك المجال لكل الجالسين للتحدث في اي شيء، الى ان جاء عماد وامسك بدفّة الحديث، مُوجهاً اسئلته الى الدكتور عزت عن استراليا.

اصغى الجميع الى اسئلة عماد واجابات عزت. كُلما همَّ احدهم أو فكر في سؤال يطرحه عن استراليا، وجد ان عماد وكأنما قرأ فكره وسأل الدكتور عزت هذا السؤال.

الغريب في هذه الجلسة، وجود رأفت، لم يذهب الى الاتيليه، بل ظلَّ بالمنزل لمقابلة الدكتور عزت ووالدته. لم يتدخل في المناقشة لكنه أُعجب كثيرا بطريقة الدكتور عزت في الاجابة على عماد بالاقناع والمنطق.. كذلك اقتنع هو نفسه بان استراليا، هي البلد الذي يمكن ان يكون بديلا عن مصر في المعيشة وفي التخفيف عن مصر في ما تواجه من مشاكل اقتصادية وكثافة سكانية.

لم يحاول عزت ان يُقلل من شأن مصر، بل كان دائما مدافعا عنها. لقد فسرَّ أسباب هجرته تفسيرا مقنعا، يرى مشكلة مصر في تعداد سكانها، لا في السياسيين ولا في الانتهازيين، ولا ايضا في اصحاب الافكار الرجعية الهدَّامة التي تحاول تفرقة الامة، بل في الضغط على كلمة الاعداد الهائلة والافواه الجائعة التي تولد كل دقيقة. لو استطاع اي انسان قادر على الهجرة او العمل في الخارج، لأسدى جميلاً عظيماً لمصر، لأن العمل في الخارج، او الهجرة ليس مسألة ركوب طائرة او مركب والسفر الى بلد غريب عنه، ولكن الهجرة تتطلب اشخاصا معينين لديهم الاستعداد للمواجهة والصبر والتحمّل والعمل الشاق المضني، والعزم والاصرار على النجاح، هذا النجاح، هو شرف يضفيه كل مصري خارج مصر على مصر. اذا نجح مصري، ففخر لمصر ولكل مصري،واذا فشل، لا نقول، عار.. بل دمعة حزينة على خد مصر.

وعن سؤال وجهه عماد عن وضع الجالية المصرية في استراليا، كان رد الدكتورعزت، أنها جالية والحمدلله حسنة السمعة، ومقبولة من الجاليات الاخرى. البعض في السلك الوظيفي الحكومي. والبعض قد اختار المجال التجاري. اماالمجال العلمي، فقد نالوا فيه قسطاً لا بأس به.

لم يذكر الدكتور عزت شيئا عن الفن، عن الرسم او النحت أو التمثيل اوحتى التأليف الادبي، مما جعل رأفت يخرج عن صمته ويُوجه له سؤالا في هذا الشأن. وقد أجاب الدكتورعزت على رأفت موضحاً بان المصري في استراليا او في مجا ل الهجرة عامة حديث عهد، لم يستقر بعد. وهذه الفنون، تظهر مع الاستقرار والاطمئنان على لقمة العيش والتي تأتي في المقام الاول.. لهذا، قبل المصري العمل في المصانع اولا كعامل، ثم دخل المجال الوظيفي الحكومي ثانيا. لانه مازال يؤمن بان هذا المجال، هو الامان والاستقرار كما يقول المثل.. ان فاتك الميري، اتمرغ في ترابه.

كل هذا يدور، والأب يراقب والأم صامتة وسامية قلقة تريد ان تطمئن انه جاء ليخطب اختها حتى يصدق تخمينها. ولا تظهر امام سلوى بمظهر من لا يعرف شيئا. اما والدته، اقصد والدة الدكتور عزت، فكانت معجبة جدا وفخورة بابنها الذي يجيب على الاسئلة بمهارة ولباقة ومعرفة. لاشىء ينقص هذا الحديث، سوى كاميرات التلفزيون لتسجيل الأحاديث التي تدور في هذه الجلسة حتى يستفيد منها كل من يفكر في الهجرة.. الى جانب انها رأت في ابنها، احد ابطال الروايات، اذي جاء ليقص على الناس كفاحه ونجاحه ومثاليته التي يجب ان يحتزى بها كل انسان يريد الهجرة.

بعد ان تناول الجميع طعام الغداء، خرجوا الى الفرندة لتناول الشاي. نادت والدة عزت على رأفت وعماد وطلبت منهما ان يأخذا عزت للفسحة في القاهرة، وسألت ان كانت سلوى ترغب في الذهاب معهم. ثم مالت على اذن الدكتور رفعت وقالت له:

- انا نفسي الاولاد يروحوا يفسحوا عزت علشان انا عايزة اتكلم معاك انت والست ام حسام في موضوع مهم.

لم يرد الدكتور رفعت، بل اكتفى بهز رأسه موافقا على خروجهم بما فيهم سلوى، اما سامية فقالت انها منتظرة زوجها لأنهم بعد ذلك سوف يذهبون الى زيارة عائلة زوجها.

خرج الاولاد، وظلت سامية معهم، وبدأت مع أول رشفة شاي تتحدث السيدة والدة الدكتور عزت عن مدى احتياج ابنها لمن يؤنس وحدته ويقف الى جواره في بلاد الغربة، وكيف انه مرتبط بمصر، والدليل على ذلك هو تكبده من مشاق مجيئه الى مصر للبحث عن ابنة الحلال المصرية التي تشرفه في استراليا، وأنه عندما رأى سلوى وتحدث معها، أعجب بها وبشجاعتها وطلب منها «اي امه» ان تطلبها من الاسرة.

(يتبع)

إبليس في الأمثال العربية والشعبية

إبراهيم كامل
إبليس في اللغة العامية والمثل الشعبي

تواجد إبليس في تعابير اللغة العامية، ولم يغب عن هذا الميدان . وينطق اسمه في اللغة العامية بفتح أوله " أبليس " . وقد اشتقوا فعلاً من اسمه هو "أبلس", فقالوا " أبلس له " أى حرضه علي فعل الشر وأغواه بالأذى. كما اشتقوا أيضاً " الأبلسة " وهي التفنن في الشر والتمتع بفعله والتحريض عليه . ومن التعابير العامية " ابن إبليس " ، و" ابن أبالسة " ويصفون به الشخص الشرير المؤذى الذى ينتمي إلي شياطين الإنس .

ولم يتخلف إبليس عن الظهور في المثل الشعبي . وقد استخدم المثل لفظي " أبليس" و" الشيطان " . ومن خلال الأمثال الشعبية يمكن التعرف علي صورة إبليس في الخيال الشعبي ، وفهم الإعتقاد الذى أستقر في الوجدان الشعبي عن إبليس أو الشيطان . ولجأت إلي كتب الأمثال العامية أو الشعبية لاستخراج الأمثال المرتبطة بإبليس ( الشيطان) ، وهي " مجمع الأمثال للميداني" ، و" الأمثال العامية لأحمد تيمور " ، و" العادات والتقاليد المصرية من الأمثال الشعبية لجون لويس بوركهارت " ، و" الأمثال الإجتماعية والفكاهية لشفيقة شبير" ،"و " عقود الأمثال للبغدادى " ، و" وحدة الأمثال العامية في البلاد العربية للبقلي " ، و" قاموس المصطلحات والتعابير الشعبية لاحمد أبوسعد " ، و " قاموس الأمثال العامية لعادل غريب "، و " أمثال الشرق والغرب ليوسف البستاني " ، و " كتاب الأمثال لابن سلام ". وهناك أمثال تكررت في هذه الكتب ، وأخرى انفردت بها بعض الكتب ودونتها . ومن الغريب أن الأبشيهي صاحب كتاب المستطرف ورغم إيراده للعديد من الأمثال العامية لم يذكر مثلاً يرتبط بإبليس . وسأذكر الأمثال مبتدئاً بالصيغة التي وردت في كتاب أحمد تيمور مع ذكر الصيغ الأخرى .

1-أبليس ما يخربش بيته
ذكره الميدان في مجمع الأمثال من أمثال المولدين بصيغة أخرى " الشيطان لا يخرب كرمه " . وقد علق البقلي علي المثل بأنه يذكر بلفظه في الشام والسودان ، وفي الجزائر والمغرب " إبليس ما يخرب بيته " ،وأما في الموصل " أبليس يا يخرب عشو", وقد ذكر بوركهارت نفس صيغة الجزائر والمغرب .أما شفيقة شبير فقد انفردت بذكر " عزرائيل لا يخرب عشه " . ولا أدرى هل هو خطأ طباعي أم المثل يقال هكذا في سوريا. وتبدد هذه الصيغة أيضاً فعزرائيل هو قابض الأرواح ،ويلا يفوتنا أيضاً أن إبليس ورد في الخبر أن اسمه عزرائيل حيث كان مع الملائكة كما قال ابن عباس.
2ـ طمع أبليس في الجنة . ذكره البقلي وعادل غريب .
3ـ عشم أبليس في الجنة ذكرته شفيقة شبير وعادل غريب, ذكرت شفيقة شبير " عشم إبليس بالجنة " ، أما أحمد أبو سعد فذكره بصيغة " أمل إبليس بالجنة "
4ـ فضي أبليس لقلع الديس . الديس نوع من النبات،ولم يرد هذا المثل إلا في كتاب تيمور وبوركهارت .
5ـ راس الكسلان بيت الشيطان . ذكرته شفيقة شبير وكذلك عادل غريب .
6ـ العجلة من الشطيان . ذكره عادل غريب فقط .

وقد انفردت شفيقة شبير بذكر عدد من الأمثال لم ترد في الكتب الأخرى القديمة والمحدثة وهي :
1ـ " مال الخسيس لإبليس " ، 2ـ " لا يشكر نفسه إلا إبليس " ، 3ـ " البنت الصغيرة لما تموت تروح حرة وتوفر سرة (صرة) وتبعد العدو لبره, قال له أقلع عين إبليس " يعبر هذا المثل عن كراهية البعض أن يرزقوا بالبنات وتفصيلهم لموتهن صغاراً ، ويرد علي أصحاب هذا الرأى بأنهم يرون الأمر بعين إبليس 4ـ" البخيل يقول الحرص من بارينا والصرف من إبليس ، حمداً لربي جينا ولم نفك الكيس " ، 5ـ " خلق قبل الشيطان بيوم "، 6ـ " صوته بيقرع زى مقرعة الشيطان " ،7ـ " الشيطان ما مات " ،8ـ " البطالة من الشيطان " ، 9ـ " الشيطان الحامي ولا القديس البارد " ، 10ـ " القسيس وهو يقرأ التوراة قال للشماس : قرب الشمعة لنشوف الشيطان من ولده " .وعلي الرغم من صغر حجم كتاب شفيقة شبير إلا أنها تفوقت علي الجميع في عدد الأمثال المرتبطة بإبليس " (الشيطان) ، إلي جانب ذكرها للأمثال السايرة بالقطرين المصرى والسورى .

وقد أمدنا كتاب " الأمثال العربية أو العادات والتقاليد عند المصريين المحدثين مسجلة من أمثالهم السائرة في القاهرة " لجون لويس بوركهارت بعدد من الأمثال وهي :: " إبليس ما يخرب بيته " ، والثاني لم يرد إلا في كتاب " عقود الأمثال للبغدادى " وهو" في كفه من رقي إبليس مفتاح " وهو يضرب للساحر الخبيث والمضلل والمشعوذ والدجال . وانفرد بذكر مثلين هما : " إبليس يعرف ربه لكن يتخابث " و " ينصح نصح الشيطان للإنسان " , وينبغي أن نذكر أن بوركهارت لم يجمع هذه الأمثال إنما نقلها عن مخطوطة لشرف الدين بن أسد المصرى ( ولد ح. 670هـ ) ، وعاصر ابن دانيال صاحب " طيف الخيال " ومؤلف بايات خيال الظل وبالتالي فهذه الأمثال كانت تدور علي ألسنة الناس في العصر المملوكي .

وقد أنفرد أحمد أبوسعد في " قاموس المصطلحات والتعابير الشعبية " بمثل هو " وعد بليس بالجنة " ويضرب للوعد غير القابل للتنفيذ . كذلك أتي عادل غريب في " قاموس الأمثال العامية " بمثل لم يرد إلا في كتابه وهو" كل ما أقول يا رب توبة يقول الشيطان بس النوبة " وهو يعبر عن الإنسان الذى يلقي دائماً بتبعة ذنبه علي الشيطان . ومن الطريف أن الكاتب أبو السعود الإبيارى كتب " منولوج " غناه اسماعيل ياسين مطلعه " إبليس إيه ذنبه يا عالم " رد به علي هذا المثل . كما انفرد ابن سلام (ت224هـ) في كتابه " الأمثال " بمثل هو " النساء حبائل الشيطان " ، وقد ظهر هذا الإتجاه المعادى للمرأة ، والذى يربطها بالشيطان في الحكايات والنوادر الشعبية . وقد ذكر يوسف البستاني في كتابه " أمثال الشرق والغرب " مثلين عن إبليس ، نسب الأول إلي الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو " لا تسبن إبليس في العلانية ، وأنت صديقه في السر " ، والثاني هو " من يقع في الخطيئة فهو إنسان ، ومن يحزن عليها فهو قديس ، ومن يفتخر بها فهو إبليس ".

الثلاثاء، سبتمبر 22، 2009

تــنـويـعات عــلى تــقــاسـيــم الـــســيَــر الـــشعـــبـــيــة دفـاعــاً عـــــن شــيـبــوب


محمد كريّم
كنت في حداثتي مولعا بشخصية عنترة بن شداد العبسي وبأخباره وسيرته وكان له في نفسي مكانة لا يضاهيه فيها احد اذ انه بإقدامه ومنازلاته وانتصاراته كان يمثل عندي القوة العربية التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تلين. وكان يملأني الزهو كلما سمعت قصيدة أو بيتاً من اشعاره التي يتباهى فيها بسيفه ورمحه وحصانه، كقوله يخاطب حبيبته عبلة، إثر صرعه المرزبان الخسرواني:
سلي يا ابنة العبسي رمحي وصارمي/ وما فعلا في يومِ حربِ الأعاجمِ
سقيتهم والخيلُ تنفرُ في الورى/ دماءَ العِدا ممزوجةً بالعلاقِمِ
تحمل الينا الاخبار ان هذا الفارس الجبار، من بني قومي، كان يكرّ على الأعداء فيبدد جمعهم ويرغمهم على الفرار، أو يهجم عليهم فيفنيهم عن بكرة أبيهم. ولا شك انه كان على دراية فطرية بعلم النفس القتالي، إذ كان من عادته في النزال أن يختار من القوم من هو أقواهم عوداً وأشدهم بأساً وأمهرهم فروسيةً فيطلبه للنزال، وبعد جولة أو جولتين يجندله بضربة من سيفه البتار، فيخاف الآخرون ويلوذون بالفرار.
لذا، كنت كلما اشتد البلاء على الأمة استحضر عنترة فيأتيني ممتطياً صهوة جواده الأبجر، شاهراً سيفه "الظامي" فأدلّه على الأعداء فيهجم عليهم، ويشتت دباباتهم، ويجندل قادتهم، ويرمي الذعر في قلوب عسكرهم. ولا يلبث أن يرجع منتصرا وراياته خفاقة، وقد استعاد ما اغتُصب من أوطان العرب، وحرر من أُسر من رجالهم، فأفخر بهذا البطل القومي أعظم الفخر.
تعرفت الى عنترة، في البداية، سمعيا، اي من خلال ما يتناقله الاهل والجيران في سهراتهم من اخبار عن معاركه وحبه الجارف لابنة عمه عبلة. ثم تعمقت هذه المعرفة وتطورت فأصبحت بصرية وذلك بفضل بلورة صندوق الفرجة السحري الذي كنا نسعى للتمتع به في طفولتنا. لكن ينبغي الاعتراف بأني صدمت للوهلة الأولى لأن الصورة التي رأيتها جاءت متناقضة في كثير من ملامحها مع الصورة التي رسمتها له في خيالي وكان فيها الكثير من ملامح قبضايات بيروت ممن كنت أعرف.
لم يكن عنترة في صندوق الفرجة يمت الى أحد من قبضاياتنا بصلة، اللهم الا بالشاربين المعقوفين. فقد بدا، في صورة صندوق الفرجة، كأنه آتٍ من عالم شرقي هجين، ليس هو بالفارسي ولا بالهندي ولا بالمغولي، إنما هو مزيج من هذه الأخلاط مجتمعة. لكني تغاضيت يومها، عن هذه النقيصة على مضض، نظراً الى المزايا العديدة التي أحببتها فيه ولأنه لم يكن عندي، على الصعيد القومي، بديلا منه أحمّله ثقل الأمانة فأُريح أولي الأمر منا، وقد ناؤوا بحملها، وأنا بدوري أستريح.
بيد أنه على الرغم من إعجابي ببطولات هذا الفارس الكرار، كان لي عليه، في ما بعد، عتب كبير بلغ حدّ اللوم. ذلك أنني باستغراقي في قراءة سيرته المشوقة، استنتجت أمرا لا يليق بفارس مثله. فهو، من باب الأنانية، كان وراء طمس شخصية أخيه شيبوب. دليلي على ذلك أن صندوق الفرجة لم يكن يعرض لنا صورة شيبوب مع أنه كان يعرض صوراً لعبلة وأبيها مالك واخوتها واترابها وغيرهم من افراد قبيلة بني عبس ممن هم دون شيبوب فروسية وحنكة وفضلا.
ولقد أحببت شخصية شيبوب لمزاياه العديدة، فقد كان نبّالاّ ماهراً ومقاتلاً جسوراً كما كان سنداً لأخيه عنترة وناصراً له في الملمات، يشاركه في الكرّ على الأعداء، ويتسقّط له الأخبار، ويستطلع له الطرق، فضلاً عن انه كان رسوله الى الملوك ورؤساء العشائر. اي انه كان، بحسب مفهومنا المعاصر، وزير حربية عنترة ووزير خارجيته ورئيس مخابراته في آن واحد.
وما لفتني فيه، تميزه عن سائر شخصيات السيرة بظرفه وخفة ظله، فقد كانوا في معظمهم قساة الوجوه والقلوب متجهمين على الدوام، بينما كان هو النسمة النديّة التي ترطب ليالي السمر في جوف الصحراء القاحلة، وكان مجلسه اشبه بواحة نخيل يتفيأ في ظلها المتحاربون من رمضاء النزال. اما المستمعون الى سيرة عنترة في المقاهي الشعبية فكانوا يستريحون في كنف شيبوب من صهيل الخيول وصليل السيوف ودفق الاشعار التي ما فتئ عنترة يرتجلها في كل حين وأوان.
وكان لشيبوب، غير الكرّ والفر والدعم والمساندة، مواقف مؤثرة في حياة أخيه ودور مهم في نصاعة صورته عند العرب والعجم. يكفي أن نشير الى موقفه الشجاع الذي وقفه مع أخيه في لحظة من لحظات ضعف الأخير العاطفي.
جاء في السيرة: أن ربيبات عبلة طلبن إليها في جلسة أنس أن ترسل في طلب عنترة لينشدهن شيئاً من شعره، وسألت إحداهن عبلة: أين الذي وعدتنا به من تذلل عنترة بين يديك؟ فقالت: سوف ترين ذلك بعينيك. وأرسلت عبلة في طلبه فحضر على عجل، فطلبت منه أن يمدح الفتيات وينشدهن بعضاً من أشعاره، فارتجل قصيدة غزلية خاطب فيها عبلة جاء فيها:
وانثري من ورد خدّيك على/ فائقات كالظباءِ السارحاتِ
واحفظي العهدَ كما أعهدُه/ واحذري أن تسمعي قولَ الوشاةِ
أنتِ في حُكْمِ الهوى مالِكتي/ فاحكُمي فيَّ إلى يومِ المماتِ
فلما أنتهى عنترة من إنشاد قصيدته قالت له عبلة: يا ابن زبيبة أنت تحبّني؟ قال: نعم. فقالت له إن كنت تزعم أنك تحبّني: قبّل قدمي. ثم مدّت رجلها إليه. فسكت عن الجواب. قالت عبلة: -ويلك يا ابن الانذال، لم لا تبادر إلى هذا الحال! وذمة العرب لاردّك إلى رعي الجمال.
فوجم عنترة ولم ينبس ببنت شفة. أما شيبوب فقد جن جنونه، فقد تمادت عبلة في إذلال أخيه واستهانت بمكانته ووضعته في موقف مخزٍ امام بنات العرب. وهذا موقف لا يليق بخليع فما بالك بفارس بني عبس!
قال الراوي:
"هذا كله، يا سادة يا كرام، وشيبوب يسمع ويرى، فمن شدة ما جرى عليه، صاح بأخيه: يا ابن الأمّ، أما تستحي على نفسك أن تُذل لذات قِناع وقد ذِلت لهيبتك السباع؟" ثم انه دفعه وأخرجه من السرادق وأركبه على الأبجر وأبعده عن المكان".
هكذا تغلبت حكمة شيبوب وبعد نظره على ضعف عنترة ومياعة موقفه امام عشقه لعبلة وانجراره وراء عواطفه حتى لو اساءت الى سمعته.

•••

لقد شغل ظلم عنترة لأخيه شيبوب حيزاً من تفكيري الى أمد غير قصير. وكنت اتساءل في نفسي: كيف يمكن المظلوم أن يظلِم! كيف يمكن عنترة الذي ذاق جور عمه مالك من أجل حبه لعبلة، والذي عانى ظلم القبيلة كلها لأنه ابن جارية سوداء، كيف له أن يظلم أخاه لذنب لم يرتكبه فيمنعه من التقاط صورة له: الى جانبه، أو بمفرده مستلقياً تحت شجرة نخيل، أو ممسكاً بلجام فرسه، أو مسدِّداً سهمه الى غزال شارد؟!
ورحت أبحث عن اسباب هذا التعسف، نصرةً لشخصية شيبوب التي ظلمها الجميع: المؤرخون والكتاب والنقاد وحتى الرواة. وصرت أناقش واجادل في ذلك كل محب لعنترة وسيرته، مدافعا ومنافحا عن شيبوب، لكن احدا لم يوافقني الرأي، فقد سيطر عنترة وحده على مسرح السيرة، واستحوذ على عقولهم وافئدتهم وأغشى حبه عيونهم وطغى على خيالهم فأعمى بصيرتهم. لكنني لم استسلم وتابعت التحريض عليه.
الا انني وفي ليلة ليلاء فوجئت بعنترة وقد جاءني، على غير استحضار، زائغ النظرات هائجا كأسد هصور وسألني:
- قل لي يا أخا العرب.
- علامك يا فارس الفرسان؟
- هل تعرف فلانا ابن فلان؟
قلت وانا في منتهى السعادة، اذ خيّل لي ان عنترة جاء يسأل عني بهدف التعرف الى شخصي:
- أنا هو.
- انت؟
- أجل أنا. قلتها وقد طفح وجهي بالبشر.
فجحظت عينا عنترة على الفور وتطاير منهما الشرر وزعق فيّ غاضباً:
- ويحك يا عدو الله ، ما الذي بيني وبينك حتى لا تفتأ تسوّد صحيفتي بين أقرانك وأهل زمانك، فتتهمني بما لست انا فيه... ما الذي تبغيه مني؟
فوجدتها فرصة سانحة لمصارحته بمكنونات صدري، فاستجمعت قواي وقلت:
- اسمع يا فارس الفرسان، صديقك من صدَقك لا من صدّقك. انت فارس العرب وحامي حماهم ومستعيد حقوق عشائرهم من كل باغ وطامع، فهلا انصفت أخاك؟
- ممن؟
- منك انت.
ففغر فاه ونظر اليَّ نظرة ملؤها الدهشة والاستنكار، وقبل ان يفوه بكلمة، أردفت قائلا:
- لقد طمست شخصيته وحجبته عن الظهور، عكس ما يتطلبه منك النبل العربي وصلة الرحم. قال:
- وهل وقفت يوما في وجه تظهيره؟
- أجل فأنت لم تسمح له حتى بالتقاط صورة واحدة الى جانبك.
- أأنا من منعه أم هو الذي ارتضى لنفسه هذا المقام؟
- وما يدريني... أنت أخوه وأنت أعلم بطباعه مني.
فانتفض وقال بغضب شديد:
- أنت الذي قلتها. أنا أخوه حقاً وفعلاً، لكن أنت من أنت، لتحشر أنفك بين الأخ وأخيه؟!
وأُسقط في يدي، فسكتّ. أما هو فتابع:
- إسمع يا هذا... إني أحذرك: إياك إياك والتدخل في شؤون قبيلة بني عبس، وبخاصة شؤون أبناء شدّاد العبسي.
قلت متحدياً:
- بل ساستمر أناضل من أجل حقوق أخيك التي استلبتها. لقد ظلمته وينبغي أن ترد اليه الاعتبار.
هنا انتصب عنترة امامي كعمود من دخان وقد احمرت عيناه، وصار يتمتم، وهو يرغي ويزبد، بكلام لم أفهمه، قد تكون شتائم جاهلية أو ما أشبه ذلك. ولكزني برمحه في خاصرتي لكزة خلت معها أن روحي قد زُهقت، وصاح بي:
- صه يا وقح، وعن درب الفرسان أفسح، فليس هذا بميدانك يا لُكع، والا وذمة العرب جندلتك بطعنة من رمحي وتركتك طعاما لسباع البر لتكون عبرة لمن اعتبر من بدوٍ ومن حضر. وحدجني بنظرة ملؤها التهديد والوعيد، ثم قفز على ظهر جواده وانطلق كالسهم مخلّفا وراءه زوبعة من العجاج تغشي الأبصار وتحجب الأنوار.

•••

منذ تلك الليلة، قطعتُ علاقتي بعنترة وأخيه، وقلت في نفسي: مالي وللتدخل في شؤون عائلية، فإذا كان شيبوب ارتضى لنفسه هذا الموقع كما قال أخوه فلا داعي لأن أحرّض الأخ على أخيه، لا سمح الله، ولا أن أفسد ما بينهما من ودّ، وبخاصة أن لا رابط البتة بين عائلتنا وعائلة شداد العبسي لا من قريب أو بعيد.
بعد هذا اللقاء، غير المنتظر، بيني وبين عنترة، بدأت تتضح أمامي الأمور بعد إعمال الفكر وتقليب الرأي. وتبين لي ان الامر ليس كما تهيّأ لي من حيث تسلّط عنترة على أخيه، بل ذلك عائد، وفي الدرجة الأولى، الى طباع شيبوب وتكوينه النفسي، فهو من النوع الذي لا يحب الظهور والمفاخرة والمباهاة، بل يفضل العمل على نصرة أخيه بعيداً من الأضواء، أي بعيداً من أعين الشعراء، الذين كانوا، هم، وسائل الإعلام الوحيدة في تلك الأيام.
إذاً، فشيبوب هو المسؤول عما آلت إليه حاله من التهميش الاجتماعي حتى كادت شخصيته تركن في زاوية النسيان، فهو لو كان "طحّيشاً" لما وصل إلى ما وصل إليه من خمود الذكر، فلا لوم اذاً على الرسامين، في عصرنا الراهن، إن هم أهملوا رسمه، ولا على الأدباء إن هم تجاهلوا سيرته فلم يأتوا على ذكره الا كتابع، فالناس تحكم على ظواهر الأمور، فما لهم ولما يستبطنه شيبوب من قيم وشيم، إذا كان هو آثر القعود في الظل، وترك أخاه يسرح ويمرح تحت ضياء الشمس حتى تصدّر ألسنة الرواة في ليالي العرب في مضارب قبائلهم وعشائرهم.
•••
ومضت الأيام، وراح كل منا في طريق: عنترة ذهب الى بطون الكتب، وإلى رواد المقاهي الشعبية يطل عليهم في كل أمسية على لسان راوٍ يسمى الحكواتي، وأنا ذهبت إلى بطون الكتب لتلقي العلم. واستمر بيني وبين عنترة البعد، حتى لا أقول الجفاء، الى أن عاد وحضر في حياتي من جديد، إذ أطلّ عليَّ مع صَحْب له كرام، من أصحاب المعلقات، ضمن المقررات الدراسية، عرفنا منهم النابغة، وزهيراً، وطرفة، ولبيداً، وامرأ القيس صاحب "مِكَرٍّ مِفَرٍّ ".
مرة أخرى استفاق الحنين الى عنترة العبسي الذي ما فتئ يذكّرني بماضينا التليد وبضرورة دفاعنا عن الكرامة المهانة واسترجاع ارضنا المسلوبة، وأحسست أن الحاجة اليه والى امثاله من ابطال التاريخ قد ازدادت بعد تكاثر أعداء الأمة وازدياد مضطهديها وسط غطيطنا وتبلدنا وتخاذلنا.
ومما ساعد في استعادة الصداقة بيننا أن علاقتنا الحديثة اقتصرت على شعره دون سيرته، أي دون ذكر لأخيه شيبوب. لقد اقتصرت العلاقة الجديدة على شعره وفيه ما فيه من حلاوة السبك وجمال الصورة. واعتقد أن ما من أحد من أبناء جيلي ألا ويحفظ بيتَي عنترة في عبلة وهما من أرق ما ورد في شعر الغزل حيث يخاطب محبوبته بقوله:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ مني/ وبيضُ الهِندِ تقطُرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها/
لَمَعَتْ كبارقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسّمِ

ومما رسّخ صداقتي الجديدة بعنترة، هذه المرة، وجعلني أندم على مقاطعته كل هذه المدة، ما لمسته من حب الناس البسطاء الشعبيين لهذا الفارس المغوار، الذي ما برح يمثل البطولة والفروسية التي نفتقدها، فنلجأ إلى من يجسّدها لنا من أبطال السير والأساطير ورجالات التاريخ، وعنترة في طليعتهم.
هذا الحب الشعبي لمسته عن قرب حين اعتمد أستاذنا في مادة الأدب العربي، أسلوباً حديثاً في التعليم هو التعليم التطبيقي، اضافة الى النظري، توسيعا للآفاق وترسيخا للاستيعاب لما هو محصور بين دفتي الكتاب. ففاجأنا في أحد الأيام باتفاقه مع صاحب احد المقاهي الشعبية كي يحضر تلامذته جلسة من جلسات الحكواتي التي يروي فيها سيرة عنترة. ولمزيد من الواقعية، لم يشأ استاذنا أن يقتصر الحضور على التلامذة وحدهم بل طلب من صاحب المقهى أن تبقى السهرة مفتوحة للجميع. أي لرواد المقهى الأصليين ايضا. وخيراً فعل لأننا لم نستمع في تلك الجلسة الى سيرة عنترة فحسب بل تابعنا عن كثب ردود الفعل بين الراوي وجمهوره، ولمسنا التعاطف الحميم بين شعب مقهور وبطل من المؤمل ان يحقق له أمانيه القومية، حتى ولو بأحلام اليقظة ووسط دخان النراجيل.
في تلك العشية التي لا تنسى، اعتلى الراوي منصته وسط تأهيل الجمهور وترحيبه. وبعد تبادل عبارات المجاملة معهم، جلس على كرسيه وعدّل من وضعية طربوشه، وركّز نظارتيه على أرنبة أنفه، ومنح نفسه لحظة صمت للتركيز، معطيا بذلك جمهور الحضور فسحة الاستعداد للتلقي وشوق الترقب.
وعندما اطمأن الى ان الجو اصبح مهيأ للاستماع، بدأ بتلاوة السيرة، مستعينا بين الحين والحين بالنص المكتوب، واضعا على كرسي الى جانبه، خيزرانته التي سوف تنقلب سيفا، في بعض اللحظات، اثناء تشخيص معارك البطل الهمّام.
كان الحكواتي، عند احتدام الصراع، يهبّ واقفا ويشخّص للحضور حركات عنترة القتالية وجبروته في النزال، كما يصوّر الجزع الذي كان يصيب غريمه اذا كتبت له النجاة من شفار السيف البتار. جرى ذلك كله وسط تجاوب الرواد الذين تحلقوا حول الراوي يشيدون بشجاعة عنترة ويؤيدون، بحماسة، مواقفه، بتعليقات تنم عن الود والاعجاب والفخر، مأخوذين بما يروى على مسامعهم، متجاوبين مع الحوادث وكأنها واقع مشهود.
ثم جاء ذكر شيبوب، فوقف الحكواتي يقلده: "فتقصّع" وتخلّع في مشيته، وتمايل في وقفته ورفّع من صوته حتى صار أقرب الى صوت النساء، ليقلل بذلك من رجولية شيبوب وفروسيته وليثير الضحك في نفوس مستمعيه.
ساءني ما رأيت أشد السوء، وعاودتني فكرة الظلم الذي وقع على شيبوب نتيجة أنانية أخيه، الأمر الذي جعل مكانته تتراجع عما تستحق من ثناء ليصبح مادة لسخرية الآخرين بمن فيهم رواة سيرته. ولم أجد نفسي الا قد وقفت بين الجمع وصرخت في وجه الحكواتي:
- ويحك يا رجل، بأيّ حق تسخر من شيبوب وتقلل من قيمة هذا الفارس المغوار؟
وزيادةً في التحدي أضفت:
- الا فاعلم ان شيبوب بطل، وشهم، ووفي، وذو إيثار، وأكثر تعقلا من صاحبك عنترة المتهوّر الذي تتباهى بإبراز سيرته على حساب كرامة أخيه.
بهت الحكواتي وجمد الحاضرون وبدت على وجوههم علامات الاستياء الشديد، وصوّبوا اليَّ نظراتهم المحدجة، ثم ندّت عنهم همهمات استنكار ما لبثت ان تحولت الى صراخ، ووقفوا يدعونني الى الجلوس والصمت. وبلغ من حنق احدهم ان اخذ يطلق الشتائم ذات اليمين وذات الشمال.
وبينما نحن في هذا الجو المحموم، برقت الدنيا ورعدت، وسُمعت في أجواء القاعة اصوات صهيل خيل وصليل سيوف، وسط غبار كثيف عمّ المكان. فلما انجلى النقع، بدا عنترة وأخوه شيبوب ومعهما كوكبة من فرسان بني عبس، خرجوا جميعهم من بطن السيرة ووقفوا في مواجهة الرواد وقفة المتحدي. أخذ عنترة يتفرس في وجوه الحاضرين واحداً واحداً حتى اذا وقع نظره عليَّ صاح في وجهي:
- أهذا انت يا قليل الذمة، أإلى هنا أنت لاحق بي؟ لقد حذرتك ونبهتك في ما مضى فلم ترتدع ولم ترعو، وها انك قد جنيت على نفسك وسعيت الى حتفك بظلفك. ورفع فرسان القبيلة من المرافقين سيوفهم مهددين وصرخوا بصوت واحد كأنهم كورس في ملحمة اغريقية:
- ايه بالله... لقد سعيت الى حتفك بظلفك.
وتطلعت الى شيبوب استنجده عله يشفع لي أو يتدخل لفضّ النزاع الذي إنما نشب من أجله وكرمى لعينيه، فراعني منه أنه كان واقفاً الى جانب أخيه يهز رأسه بالموافقة على كل كلمة قالها، حتى انني لاحظت انه كان احد رافعي السيوف في وجهي، فحدجته بنظرة فيها كثير من العتب بل من الازدراء، ردّ عليها بتحدٍّ قائلا:
- لا عتب ولا لوم، فشرعة قبيلتنا تقول: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب. وانت غريب، وهذا أخي، وهؤلاء الفرسان أبناء عمي.
وعاد الكورس الإغريقي يردد:
- ايه بالله...
هذه الحكمة التي نطق بها المدعو شيبوب، لا فُضّ فوه، استقوى بها عنترة، وحرّكت فيه غريزة الأخذ بالثأر والانتقام، فتقدم نحوي مهرولا، ولما صار في محاذاتي استل سيفه من غمده ولوّح به في الهواء ثم أهوى به يريد رأسي وهو يقول:
- خذها من يد ابن شداد أيها المفتري.
لكن الله لطف، إذ جفلت الى الوراء فاتقيت ضربته، وانبطحت أرضاً، ودببت على أربع، ثم وقفت على اثنتين وأطلقت ساقيَّ للريح.
وصدف في تلك اللحظة مرور حافلة الترام من أمام المقهى فلم أجد نفسي الا وقد قفزت واصبحت في داخلها راجيا السائق ان ينطلق باقصى سرعة. وتلفتّ خلفي مستطلعاً مذعوراً، فاذا بعنترة على صهوة حصانه الأبجر يحاول اللحاق بالحافلة مطوّحاً بسيفه في الهواء، مهدداً ومتوعداً، والناس على جانبي الطريق يتطلعون بدهشة واستغراب.
الا ان عنترة لم يوفَّق، والحمد لله، في الامساك بي، إذ كان قد بيطر حافِرَيْ فرسه، حديثا، فأخذا ينزلقان على الطريق المعبدة بالاسفلت، بحيث صارت الفرس تعدو وتعدو من دون أن يتقدم.
•••
تلك الليلة، كانت آخر عهدي بعنترة وأخيه وكل قبيلة بني عبس، وانتقلت بولائي بعدها، وبدون تردد، الى بطل آخر من ابطال سيرنا الشعبية: الى الزير سالم، فقد وجدت ان ذلك اسلم للنفس وأنجع في متابعة النضال.

تعرية العري

عـادل عطيـة

adelattiaeg@yahoo.com

دُعيت لحضور صلاة إكليل . وهناك أعرب الكاهن عن امتنانه وتقديره للعروس ؛ التي ارتدت فستاناً منسوجاً بالاناقة والحشمة ، متمنياً لو أن كل عروس ، وكل وصيفة ، وكل فتاة ، حذون حذوها ، وتمثلن بها ؛ احتراماً لسر الزيجة المقدس !

وعندما انتقلت إلى قاعة الافراح ، التي لا تبعد كثيراً عن الكنيسة ، فوجئت بالعروس ، وقد خلعت عنها قطعة علوية من فستانها !

وقد اندهشت ؛ لأن العروس ، لم تستفد من تقدير الكاهن لها ، وانها انتهزت أول فرصة خارج الكنيسة ؛ لتكمّل سهرتها بعري تلمسه العيون !

انه مشهد من بعض المشاهد ، التي يتمنى المرء عند الارتطام بها لو أنـه لم يكن مبصراً أصلاً ؛ لكي لا يعاني وطأة التعرض لكل هذا الشعور بالتقزز والغثيان الذي يصيبه عند الابتلاء بتجربة التعايش مع فكرة أن هناك من يحافظ على امتعته ، وعلى اشيائه الثمينة أكثر من محافظته على جسده ، الذي هو هيكل الله !

وتساءلت : لماذا العري على هذا النحو ؟!..

هل هو الرد الردئ على الحجاب ؟ ..

أم تريد العروس أن تكون نجمة الاغراء ؛ فتغالي في تزكية جسدها ؛ ليكون هو الجسد المؤمثل لجذب عيون الآخرين ؟..

لقد نجح الشيطان في تطبيق خطة التعرية على المرأة القبطية ، التي ثمنها يفوق اللآلئ ، فعرّى وجهها الجميل ، بأن مدد عليه المكياج الصارخ في برية الرجال ، ونزع عنها ثيابها ، وعرض جسمها العاري في كل مكان حتى في محضر الله ؛ لتصبح شراكاً لعيون الناظرين ، وعثرة مميتة لهم !

فيا كل عروس ، وكل وصيفة ، وكل فتاة ، اعرضن عن تماثيل الأزياء الفاضحة والمثيرة ، ولا تتجشمن العناء بارتداء ملابس تجعلكن منظراً يتفرّس فيه الجميع ، فاذا وجدتن انفسكن متخلفات عن الموضة ، فلا يجب أن تغيّرن ملابسكن لتتشبهن بالعالم ، وانما اظهرن استقلالاً شريفاً وشجاعة أدبية بالاصرار على الصواب ، حتى وان اختلف عنكن العالم أجمع ، فأرتداء ملابس مماثلة لأهل العالم لن تضيف قيمة لتأثيركن !

ان خضعتن لمتطلبات الانجيل من حيث مظهركن المتسم بالاناقة والحشمة والنقاوة من كل وجه ، فالاهتداء القلبي الحقيقي يجري تغيرات عجيبة في المظهر الخارجي ، ففي كل شئ ينبغي أن تكونن ممثلات للمسيح !

هو عيدٌ بهِ استعدتُ شعوري

حسين إبراهيم الشافعي
هو عيدٌ لأنّكِ الزهرُ فيهِ
رام سحرُ الجمال أنْ يشتريهِ
هو عيدٌ بهِ استعدتُ شعوري
بعدما غاب في ضياعٍ وتيهِ
عاودَ الحُبُّ يستثيرُ جنوني
بعدما أنشرَ الحبيبُ يديهِ
قائلاً إنّني إليك ملاكاً
فابتدأ قبلة الحياةِ عليهِ
وارتشف ما استطعتَ من ثغر شهدٍ
وابقِ لكنْ مسرّةَ الحبّ فيهِ
ما هو السرُّ قي تقاذفِ قلبي
حينما يشتكي الحبيبُ إليهِ
حينما نظرةُ الوصال بدمعٍ
سال منها فليتني أفتديهِ
فيُلبّي النداء ثورةَ عشقٍ
ذلك العاشق المهامُ بفيهِ
ما أفاقَ الفؤادُ من بعد ريٍّ
قد رأى السرَّ واكتسى بحِليهِ
قد تمنّى وهاهو اليوم يفنى
في عُذيبٍ من المنى لا يعيهِ
يا ملاكاَ إذا أردتُ ارتحالاً
فامنعي مركبي وفيكِ اقذفيهِ
وأريني العيون والسحر فيها
كيف لا يلقفُ المحبُّ عصيهِ
لقف السحرَ من عيونكِ قلبي
فأريهِ من الجمال أريهِ
السعوديه سيهات
بين نفحات العيد السعيد

الحرف الذى يرقص دائما

عيسى القنصل

على شفتى ...

ينام الحرف مرتجفا ..

من الاشواق والوجـــــــــــــــــــــــد ِ

كطفل ٍ دون اغطية ٍ


بليل الصمت والبــــــــــــــــــــــرد ِ

فابقى دائما ابدا ..

انادى قلب ذاكرتى ..

لتحملنى ..الى بلــــــــــــــــــــــدى

الى ارض ٍ بها الانسان اعرفه ُ

غنى القلب بالاخلاق والايفاء بالعهد

وفاتنة ٍ

قضيت العمر اعشقها ..

واذكرها .. مدى الايام فى وجـــدى

وطاهرة ٍ قضت عمرا بتربتـــــــــى

مصارعة ً

وحوش الفقر ووالامراض والنكـــــد ِ


لتجعلنا ..

رجالا نصنع التاريخ فى اليـــــــــــــــد



وفى التقوى وحب الخير والجهـــــــــد

مضت فينا مجاهدة ً



لاعوام ٍ واعوام ِ بلا شكوى الى احـــد ِ

فقد كانت لنا امــــا

كباب الخير مفتوحا ً بوجة الجمع والفــرد

انادى دائما امسى

ليا تينى ويطعمنى ..طعام الحب والـــود

ويرجعنى الى اهلى

ولو يوما ..فاقضى حاجة ً عنـــــــــــــدى

اصافكم واحضنكم ..

واسالكم عن الاخبار فى البلـــــــــــــــد

فان الشوق مقصلة ُ لاعصابى

ومحكمة ُ تقاضينى بعنف المقت والحقــــد ِ

كرهت الغربة العمياء تقتلنى

وترمينى بسجن الصمت والبــــــــرد

انا يا مادبا طفل ُ

ردائي لم يعد يكفى

ليحمينى .. من الامطار والبــــــــــرَد

فليل البعد ِ مرعبة ُ ثوانيه

وخالية ُ ..

من الاحلام ِ والوعـــــــــــــــــــــــــد

انا يا مادبا رجل ُ

غريب الوجه والعينين والقــــــــــــــد

فلا بيت ُ ليحمينى مدى عمرى

ولا خل ُ ليعضدنى ويرجعنى الى رشـدى

فهل ابقى طوال العمر مرتحلا ..

فمن لحد ٍ الى لحـــــــــــــــــــــــــــــــــدِ

ومن جرح ٍ اضمده ُ

الى حزن ٍ يرافقنى الى الابــــــــــــــــــد ِ

><><><>

ايا وطنى ..

ايا لحم ُ على جســـــــــــــــــــــــــــــدى

وشريان ُ يغذينى

بحب طاهر ابــــــــــــــــــــــــــــــــــدى

قريبا ً سوف نجتمع ُ

ايا لهفى لرؤيتكم ..فانت قبلة الدنيا

وطهر ُ العطر فى الـــــــــــــــــــــــورد ِ

الاثنين، سبتمبر 21، 2009

إحتضار الظل

أفين أبراهيم

بكل الضعف الذي يعتريني

والوجع الذي ُيقًطرني

أُعلنُ جبروتي ...على عشقك الأستثنائي

ألقاكَ بحيرتي العمياء

تقتربُ كالوجع العذب...

لتستحضرَ أنوثتي حد الأشباع

عارياً تأتي كنيساني...

تتنفس بي أجزاء الزمن...

تخطُ برد الأستفهام



تلملمني كحفنةِ حنانٍ...

توقد بها وجودكَ الإضراري

في حنجرتك ...

تستوطن الأحلام

مازلتُ أتوسل جبروتي...

أرتبُ هروبي ...في شرخ الصوت

أختصٌر لهفتي ...في عبث اللقاء

أتراشقُ الحب

بين أناملي المختبئة

في أزراركَ الفقيرة

تقتربُ كالوجع العذب...

منقوعٌ بثمار الشوق المنكسر

كل الآنَات ... من مسامك تنهمر

واضحٌ كقطرة ماء...

تتكىءُ على نجومٍ تعثرت ...

بثنايا جروحيَ المهترأة

ترسمُ مضجع الحلم فوق الماء...

تجففه ببقاياك الكئيبة

تحمله كطفلٍ... في ذاكرتك

تعجنه...

برائحة طعام أمك

لهاث الضبابِ ينتظر...

هامشي المتعطش ...لأيام الياسمين

أتمسكُ بجبروتي...

أسكبكَ في مساحة الحضن

لتنتهي معجزةً ضئيلةً

أخوض بها حربي مع الظل

أقطع أوردة الحقيقة...

وأجتث قلبي النابض بك

أُحِيك همسات الرحيل...

لأصعد سلم موتيَ المؤجل

تضيق بي كل الزوايا

تغرقُ أسطورتي...

في صمت المرايا

فيُلوَثُ الألمُ وجهي المتباسم

عندما يتناثر ظلك الأخير

أتشربُ دموعي

أتمنى ...

أن لا ألقاك ثانيةً


الولايات المتحدة الأمريكية
evinabbas@hotmail.com

عَلَى ضَىِّ القَمَرْ

محمد محمد على جنيدي
علــى ضــــىِّ الـقَمـــر كــنَّــا زمــان بــنحــب
زمان كان للهَوَى مَعْنَى وإحســاس قلب
وعـشْـنــا أد ماعـشنـا ودُوبْنا أد مادُبْنا
وكان يرضينا نتقابل بشوق وحنـين
وكنَّا كتير بنتواعد بنظرة عين
كدا من غير خصام بنَّـا ولا كـلمة وداع وسلام
كدا حُكم القدر فينا يكون اقوى من الأيَّام
جَرَى لنا إ يه بِعِدْنَا ليه
على ضـىِّ القمــر كنَّا
زمان بنحب

بفَـكَّـــر فــى لـيالـيـنـــا لـيالــى الـحـبِّ والأحـــــلام
واقــــول ياربّ كــان لـينا هِـنَا بِنَّــا لُقَـا وكــــلام
ودى النِّسمه اللـى ويَّـاها سَوَى ضَـمِّينا فرحتنا
ودا النَّبــع اللى هنَّـانا معـاه كانت بدايـتـنــا
ودا ضىِّ القمر لِسه بيسأل فين حبايبى فين!؟
بَعَتْ نوره مع النِّسمه تونِّسْنا بَقاله سنين
كدا من غير خصام بنَّـا ولا كلـمــة وداع وسـلام
كدا حُكم القدر فينا يكون اقوى من الأيَّام
جَرَى لنا إ يه بِعِدْنَا ليه
على ضـىِّ القمــر كنَّا
زمان بنحب

علـى ضــىِّ الـقمـــر هَبْقَـــى على ذِكْــرَى أعيـش فـيهــــا
ومهمـا تـمـرِّ ف. بعادنـا سنـيـن هَـفْـضَـل أراعـيهــا
دا باقـى ع. الغصـــون كلمـــــــة بحبَّك، يامـا قولناهــــا
ورسـمـة قلـب عـاش بِنَّـا ليالـى كـتــير سِِـهـرناهــا
أنا مانْـسِتـْش أيَّـامَـك حـبـيـبـى ازاى تِتُــوه عنِّــى
ولا انت ف. يوم شَكِيت حالك وعشت سنين تِطَمِّنِّى
كدا من غير خصام بنَّـا ولا كلـمـة وداع وسـلام
كدا حُكم القدر فينا يكون اقوى من الأيَّام
جَرَى لنا إ يه بِعِدْنَا ليه
على ضـىِّ القمــر كنَّا
زمان بنحب

من إم غزاوية الى النبيِّ موسىَ عليه السلام

مجيــــد القيسي

(بمناسبة نشر تقرير لجنة الأمم المتحدة بإدانة اسرائيل لعدوانها الدموي على غزة)


إنطلقتُ مذعورة نحو الزُّقاق
أحملُ مصارينيَ بكفٍ
وبكفٍ أحملُ ولــــدي
وعينييَ على غيمــةِ
الفـُسـفورِ ألأبيض (1)
وسيـــاطِ إسرافيل
وعزائيــــل
لعل عَرَبـة إسعافٍ بابليــــة
تحملني
الى جَبل سَيناء
لأناجيَ النبيَّ موسىَ:
أنْ كلــمِ الرَّبَّ
من أجـــــــلِ:
أطفالِ غــــزة
وشيوخ غــزة
ونسـاء غــــزة
وزيتون غــزة
ومن اجل مصاريني
المـــــــُدَلاّة
مثلَ قنـــاديلِ الشَّبـــــات (2)
وفاكِهةِ عيــدِ العــرازيل (3)
عند يهــــــود

***
ولكنْ ........لا أحدَ هنـاك
عند جبـل سَيناءَ
وفوقَ رمـــالِ التيـــــه
سوى عِجْــل من ذهب
انه ألإلَــَــــه الجديـــــد
***
فسرتُ صـوبَ الشـــمال
أحملٌ مصاريــنيَ بكفييّ
فولدي مات
ودمي النــــازفُ
يرسِمُ دربَ آلآمٍ جديــــــــد
الى بيتِ المقــــــدس
***
ولكني ...رأيت البيتَ مهجوراً
فعُمـَرُ قد مات
طُعـِـنَ بخِنجَرٍ مرصَّـعٍ باللؤلؤ
لتظلَّ النيـــــرانُ أزليـَّـــــــــة
فوق قمـــمِ الجبــــال
وقبلة ً للدين المُتَجددِ
أبــــــــــــــداً
***
ثم نظرتُ حولي ...........
فلم أرَ من يرفـــعُ ألأذان
او من يضربُ بالناقوس
اويحمــلُ الصليــبَ
عن السيـدِ المســيح
وعني مصاريني
المُـــــدَلاّة
سوى اللـــــــــــه
ســـوى الــ...الــ…الــ
ســــ سوى أ...أ…أ...
أشْه ــــ دُ.......أن لـ.......

(1) استعملت القوات الصهيونية قنابل الفسفور الأبيض القاتل فوق مدينة غزة.
(2) الشبات : هو يوم السبت الذي يخلد فيه اليهود الى الراحة والعبادة.
(3) العرازيل: من اعيادهم المقدسة. ويسمى ايضا بعيد السكوت ، حيث يجلس اليهود تحت عريشة تتدلى منها فاكهة الموسم. وكان البغادة حريصين على توفير اجواء الأمن والسلام والدعة لليهود ليحتفلوا بتلك الأيام المقدسة لديهم.

الأحد، سبتمبر 20، 2009

تسعون دقيقة مع الشاعر رفيق خوري

شوقي مسلماني

الحوار هو مع رئيس تحرير جريدة الأنوار الأستاذ رفيق خوري. والمحاوِرة وجهها مألوف وصوتها مألوف. لم أعرف إلاّ في آخر الحلقة التلفزيونيّة أنّها الإعلاميّة المخضرمة سعاد قاروط العشّي. وأنا بدوري تركتُ لبنان منذ ثلاثة عقود. ومياه كثيرة عبرت تحت الجسر، حتى قيل أنّي إذا رجعتُ إلى لبنان لن أعرف محلّة فيه، هذا في العمران، أمّا في الإنسان فحدّث ولا حرج.

الصديق والخصم معاً يستمعان وبالإستعداد ذاته لأي حوار سياسي يكون مع رفيق خوري، وليس هنا مجال الشرح، ولكنّي سمعتُ السيّدة سعاد تقول أنّنا سنقضي تسعين دقيقة مع رفيق خوري، وليس مع رفيق خوري الصحافي والسياسي، بل مع رفيق خوري الشاعر. و"نزْلة البرد" متمكّنة منّي. وأتنفّس من فمي. وعندي "كتابة" مستعجلة يجب أن أنجزها، ومحتار: هل أُنجِز عملي الكتابي أم أنام وأرتاح؟. والسيّدة سعاد منعتْ عنّي حيرتي. وصرّحتْ بما صرّحتْ. وقلتُ لذاتي: "نحن مدعوّان يا ذاتي إلى حلقة سيكون لها نكهة، المعلومة هي أنّ رفيق خوري شاعر وله باع في الشعر وسبق وغنّت له السيّدة فيروز".

وأنا عموماً مثلما أجد طرافة في أن يتحدّث الشاعر بالسياسة أجد طرافة في أن يتحدّث السياسي بالشعر. وقلتُ لذاتي: "لقد قرّرت ألاّ أكتب وألاّ أنام وأن أحتمل "نزلة البرد" وأن ألبّي الدعوة". وتململتْ ذاتي وقالت: "قرارك يعني أنّك ستحتاج إلى التركيز". وعاجلتُها بالمقاطعة وقلتُ لها: "شأني! وأنتِ ارتاحي".

ورجع التاريخ إلى الخمسينات والستينات من القرن الفائت أكثر ما رجع وحضر الأخوَان رحباني عاصي ومنصور وهذا يبدع في نغمة وذاك يُبدع في كلمة، والعكس صحيح. ويشهد رفيق خوري الذي كان صديقاً لهما أنّ حركيّة عاصي كبيرة، مع التأكيد في آن أنّه يرفض إجراء تفاضل بين الأخوين، فهما كلاهما ذروة. وتسطع أضواء في مسرح التاريخ على سعيد فريحة ومجالسه الليليّة التي لا شأن لها بالنهارات ومتاعبها وهمومها ومشاقّها وعنتها، ويحضر هذه المجالس كلّ من محمّد عبد الوهاب وفريد الأطرش الذي يُبدي الأستاذ خوري عاطفةً خاصّةً نحوه ووديع الصافي وأمّ كلثوم. وأعرف ولأوّل مرّة أيضاً أنّ سعيد فريحة الكاتب لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة، وأنّه تعلّمهما بعد شقاء. وتحضر جريدة النهار ومعها الأستاذ غسّان تويني. وتحضر نزاعات مجلّة شعر، التي كانت منفتحة، وخلافاتها مع مجلّة الآداب التي كانت ملتزمة. ويحضر أدونيس وسهيل إدريس وخليل حاوي.

وتسأل السيّدة سعاد عن حقيقة سبب إنتحار الشاعر خليل حاوي؟. وأصختُ. فالصديق الشاعر شفيق عطايا، وهو إبن عمّة الشاعر حاوي، سبق وحدّثني في لقاء عن الساعات الأخيرة في حياة حاوي، فهل سيتطابق جواب رفيق خوري في رحيل خليل حاوي الشاعر المثقّف كاتب دراسة قيّمة عن جبران خليل جبران وخرّيج جامعة كامبريدج مع ما سمعته من شفيق عطايا الذي قال أنّ سقوط بيروت في اجتياح 82 في قبضة الإسرائيلي لم يقبله عقل خليل حاوي؟. ورفيق خوري أضاف بالتساؤل: هل الأزمة العاطفيّة التي كان يمرّ بها خليل حاوي لها حصّة في انتحاره؟ وهل شعور حاوي، الذي كان يدعو الله أن يلهمه الصمت في الوقت المناسب بأنّه أعطى وليس عنده بعدُ له حصّة في انتحاره؟. ويعود خوري إلى الحديث عن اجتياح 1982 بإشارة ذات دلالة على رجحان في كفّة الإنتحار.

وتقول السيّدة سعاد أنّ رفيق خوري الشاعر الذي كتب عنه مرّتين الشاعر سعيد عقل وأصدر ثلاث مجموعات شعريّة منها "الزنبق والدم" و"غابة الحجارة" لم يستمرّ في رحلته الشعريّة الواعدة، وبالتالي فإنّه قصّر دون أمل سعيد عقل به. ويعترف خوري بشفافيّةٍ لوّنتْ كلَّ حلقة "من تاريخهم" ويسرد الأقدار التي شكّلت حياته ورمته إلى السياسة من طريق عالم الصحافة. ويذكر كيف كان يعمل سبعة أيّام في الأسبوع، ويوميّاً إلى الخامسة فجراً، وكم كان حجم المسؤوليّة، مثالاً لا حصراً، في نهار غسّان تويني. ويروي كيف في البدء كان يُطعّم مقالته السياسيّة بروحه الأدبيّة، مع تأكيد وبعد سؤال أنّ الصحافي عندما يكتب مقالة لا بدّ أن ينحاز، وهو يفعل ذلك ولكن بعلميّة لا بعصبيّة. ويرجع خوري ليقول أنّه نادم لجعلِ السياسي فيه ينفي الشاعر فيه، لذلك فإنّ آخر إصدار شعري له كان في أوائل الستينات من القرن الفائت، وينصح الآن الشعراء الشباب بألاّ يكرّروا خطأه. ولم تسأله السيّدة سعاد تفسيراً، وهو بدوره لم يتوسّع، ولم نسمع ماذا يعني السياسي وماذا يعني الشاعر؟ ولماذا بين السياسي والشاعر يقع إختيار خوري على الشاعر؟. وطبعاً ليس كلّ شيء يكون في حوار واحد. وتسأله السيّدة سعاد إذا كان الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل إليه في أحايين؟. ويبتسم رفيق خوري ويقرّر أنّ الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل مرّات وهو سجّلَ تلك المرّات على مدى العقود الأربعة الفائتة وسيصدرها في كتاب قريباً.

وتحضر الثقافة من خلال الإقرار أن الآخر موجود والتفاعل هو في الأقداس. وتحضر المدينة في الدول النامية أو دول العالم الثالث وكيف أنّها ليست مدينة بل هي ريف، وكيف أنّ المدينةَ الإنسانُ فيها هو ذاته، وبالتالي هو مواطن تربطه بالآخر رابطة المواطنة، فيما الريف الرابط فيه الدينُ أو المذهب أو العائلة، والمختلف هو في الطرف الآخر، مع كلّ ما يعنيه أن يكون المرء في الطرف الآخر. ويجزم رفيق خوري أن المدينة العربيّة فاقدة للجوهر. وبالتفاتة فيها نظر ومؤثّرة في آن يقول رفيق خوري بعد أن يستعرض أسماء في الخلق الإبداعي لها مكانتها أنّ لبنان منظور إليه من الأحداث الجسام التي تلاطمت فيه منذ القرن التاسع عشر هو بلد مؤسف (لم يلفظ خوري كلمة مؤسف إنّما وحْياً بحركة من يده وهزّة من رأسه) أمّا لبنان منظوراً إليه من الفن والمسرح والشعر والمجالات الإبداعيّة الأخرى من دون نسيان الإعلام والصحافة فيستحق الإنتماء إليه بالإختيار، وبالمعنى العميق للكلمة. والأملُ هو قوس قزح الحياة.
Shawki1@optusnet.com.au