محمد كريّم
كنت في حداثتي مولعا بشخصية عنترة بن شداد العبسي وبأخباره وسيرته وكان له في نفسي مكانة لا يضاهيه فيها احد اذ انه بإقدامه ومنازلاته وانتصاراته كان يمثل عندي القوة العربية التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تلين. وكان يملأني الزهو كلما سمعت قصيدة أو بيتاً من اشعاره التي يتباهى فيها بسيفه ورمحه وحصانه، كقوله يخاطب حبيبته عبلة، إثر صرعه المرزبان الخسرواني:
سلي يا ابنة العبسي رمحي وصارمي/ وما فعلا في يومِ حربِ الأعاجمِ
سقيتهم والخيلُ تنفرُ في الورى/ دماءَ العِدا ممزوجةً بالعلاقِمِ
تحمل الينا الاخبار ان هذا الفارس الجبار، من بني قومي، كان يكرّ على الأعداء فيبدد جمعهم ويرغمهم على الفرار، أو يهجم عليهم فيفنيهم عن بكرة أبيهم. ولا شك انه كان على دراية فطرية بعلم النفس القتالي، إذ كان من عادته في النزال أن يختار من القوم من هو أقواهم عوداً وأشدهم بأساً وأمهرهم فروسيةً فيطلبه للنزال، وبعد جولة أو جولتين يجندله بضربة من سيفه البتار، فيخاف الآخرون ويلوذون بالفرار.
لذا، كنت كلما اشتد البلاء على الأمة استحضر عنترة فيأتيني ممتطياً صهوة جواده الأبجر، شاهراً سيفه "الظامي" فأدلّه على الأعداء فيهجم عليهم، ويشتت دباباتهم، ويجندل قادتهم، ويرمي الذعر في قلوب عسكرهم. ولا يلبث أن يرجع منتصرا وراياته خفاقة، وقد استعاد ما اغتُصب من أوطان العرب، وحرر من أُسر من رجالهم، فأفخر بهذا البطل القومي أعظم الفخر.
تعرفت الى عنترة، في البداية، سمعيا، اي من خلال ما يتناقله الاهل والجيران في سهراتهم من اخبار عن معاركه وحبه الجارف لابنة عمه عبلة. ثم تعمقت هذه المعرفة وتطورت فأصبحت بصرية وذلك بفضل بلورة صندوق الفرجة السحري الذي كنا نسعى للتمتع به في طفولتنا. لكن ينبغي الاعتراف بأني صدمت للوهلة الأولى لأن الصورة التي رأيتها جاءت متناقضة في كثير من ملامحها مع الصورة التي رسمتها له في خيالي وكان فيها الكثير من ملامح قبضايات بيروت ممن كنت أعرف.
لم يكن عنترة في صندوق الفرجة يمت الى أحد من قبضاياتنا بصلة، اللهم الا بالشاربين المعقوفين. فقد بدا، في صورة صندوق الفرجة، كأنه آتٍ من عالم شرقي هجين، ليس هو بالفارسي ولا بالهندي ولا بالمغولي، إنما هو مزيج من هذه الأخلاط مجتمعة. لكني تغاضيت يومها، عن هذه النقيصة على مضض، نظراً الى المزايا العديدة التي أحببتها فيه ولأنه لم يكن عندي، على الصعيد القومي، بديلا منه أحمّله ثقل الأمانة فأُريح أولي الأمر منا، وقد ناؤوا بحملها، وأنا بدوري أستريح.
بيد أنه على الرغم من إعجابي ببطولات هذا الفارس الكرار، كان لي عليه، في ما بعد، عتب كبير بلغ حدّ اللوم. ذلك أنني باستغراقي في قراءة سيرته المشوقة، استنتجت أمرا لا يليق بفارس مثله. فهو، من باب الأنانية، كان وراء طمس شخصية أخيه شيبوب. دليلي على ذلك أن صندوق الفرجة لم يكن يعرض لنا صورة شيبوب مع أنه كان يعرض صوراً لعبلة وأبيها مالك واخوتها واترابها وغيرهم من افراد قبيلة بني عبس ممن هم دون شيبوب فروسية وحنكة وفضلا.
ولقد أحببت شخصية شيبوب لمزاياه العديدة، فقد كان نبّالاّ ماهراً ومقاتلاً جسوراً كما كان سنداً لأخيه عنترة وناصراً له في الملمات، يشاركه في الكرّ على الأعداء، ويتسقّط له الأخبار، ويستطلع له الطرق، فضلاً عن انه كان رسوله الى الملوك ورؤساء العشائر. اي انه كان، بحسب مفهومنا المعاصر، وزير حربية عنترة ووزير خارجيته ورئيس مخابراته في آن واحد.
وما لفتني فيه، تميزه عن سائر شخصيات السيرة بظرفه وخفة ظله، فقد كانوا في معظمهم قساة الوجوه والقلوب متجهمين على الدوام، بينما كان هو النسمة النديّة التي ترطب ليالي السمر في جوف الصحراء القاحلة، وكان مجلسه اشبه بواحة نخيل يتفيأ في ظلها المتحاربون من رمضاء النزال. اما المستمعون الى سيرة عنترة في المقاهي الشعبية فكانوا يستريحون في كنف شيبوب من صهيل الخيول وصليل السيوف ودفق الاشعار التي ما فتئ عنترة يرتجلها في كل حين وأوان.
وكان لشيبوب، غير الكرّ والفر والدعم والمساندة، مواقف مؤثرة في حياة أخيه ودور مهم في نصاعة صورته عند العرب والعجم. يكفي أن نشير الى موقفه الشجاع الذي وقفه مع أخيه في لحظة من لحظات ضعف الأخير العاطفي.
جاء في السيرة: أن ربيبات عبلة طلبن إليها في جلسة أنس أن ترسل في طلب عنترة لينشدهن شيئاً من شعره، وسألت إحداهن عبلة: أين الذي وعدتنا به من تذلل عنترة بين يديك؟ فقالت: سوف ترين ذلك بعينيك. وأرسلت عبلة في طلبه فحضر على عجل، فطلبت منه أن يمدح الفتيات وينشدهن بعضاً من أشعاره، فارتجل قصيدة غزلية خاطب فيها عبلة جاء فيها:
وانثري من ورد خدّيك على/ فائقات كالظباءِ السارحاتِ
واحفظي العهدَ كما أعهدُه/ واحذري أن تسمعي قولَ الوشاةِ
أنتِ في حُكْمِ الهوى مالِكتي/ فاحكُمي فيَّ إلى يومِ المماتِ
فلما أنتهى عنترة من إنشاد قصيدته قالت له عبلة: يا ابن زبيبة أنت تحبّني؟ قال: نعم. فقالت له إن كنت تزعم أنك تحبّني: قبّل قدمي. ثم مدّت رجلها إليه. فسكت عن الجواب. قالت عبلة: -ويلك يا ابن الانذال، لم لا تبادر إلى هذا الحال! وذمة العرب لاردّك إلى رعي الجمال.
فوجم عنترة ولم ينبس ببنت شفة. أما شيبوب فقد جن جنونه، فقد تمادت عبلة في إذلال أخيه واستهانت بمكانته ووضعته في موقف مخزٍ امام بنات العرب. وهذا موقف لا يليق بخليع فما بالك بفارس بني عبس!
قال الراوي:
"هذا كله، يا سادة يا كرام، وشيبوب يسمع ويرى، فمن شدة ما جرى عليه، صاح بأخيه: يا ابن الأمّ، أما تستحي على نفسك أن تُذل لذات قِناع وقد ذِلت لهيبتك السباع؟" ثم انه دفعه وأخرجه من السرادق وأركبه على الأبجر وأبعده عن المكان".
هكذا تغلبت حكمة شيبوب وبعد نظره على ضعف عنترة ومياعة موقفه امام عشقه لعبلة وانجراره وراء عواطفه حتى لو اساءت الى سمعته.
كنت في حداثتي مولعا بشخصية عنترة بن شداد العبسي وبأخباره وسيرته وكان له في نفسي مكانة لا يضاهيه فيها احد اذ انه بإقدامه ومنازلاته وانتصاراته كان يمثل عندي القوة العربية التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تلين. وكان يملأني الزهو كلما سمعت قصيدة أو بيتاً من اشعاره التي يتباهى فيها بسيفه ورمحه وحصانه، كقوله يخاطب حبيبته عبلة، إثر صرعه المرزبان الخسرواني:
سلي يا ابنة العبسي رمحي وصارمي/ وما فعلا في يومِ حربِ الأعاجمِ
سقيتهم والخيلُ تنفرُ في الورى/ دماءَ العِدا ممزوجةً بالعلاقِمِ
تحمل الينا الاخبار ان هذا الفارس الجبار، من بني قومي، كان يكرّ على الأعداء فيبدد جمعهم ويرغمهم على الفرار، أو يهجم عليهم فيفنيهم عن بكرة أبيهم. ولا شك انه كان على دراية فطرية بعلم النفس القتالي، إذ كان من عادته في النزال أن يختار من القوم من هو أقواهم عوداً وأشدهم بأساً وأمهرهم فروسيةً فيطلبه للنزال، وبعد جولة أو جولتين يجندله بضربة من سيفه البتار، فيخاف الآخرون ويلوذون بالفرار.
لذا، كنت كلما اشتد البلاء على الأمة استحضر عنترة فيأتيني ممتطياً صهوة جواده الأبجر، شاهراً سيفه "الظامي" فأدلّه على الأعداء فيهجم عليهم، ويشتت دباباتهم، ويجندل قادتهم، ويرمي الذعر في قلوب عسكرهم. ولا يلبث أن يرجع منتصرا وراياته خفاقة، وقد استعاد ما اغتُصب من أوطان العرب، وحرر من أُسر من رجالهم، فأفخر بهذا البطل القومي أعظم الفخر.
تعرفت الى عنترة، في البداية، سمعيا، اي من خلال ما يتناقله الاهل والجيران في سهراتهم من اخبار عن معاركه وحبه الجارف لابنة عمه عبلة. ثم تعمقت هذه المعرفة وتطورت فأصبحت بصرية وذلك بفضل بلورة صندوق الفرجة السحري الذي كنا نسعى للتمتع به في طفولتنا. لكن ينبغي الاعتراف بأني صدمت للوهلة الأولى لأن الصورة التي رأيتها جاءت متناقضة في كثير من ملامحها مع الصورة التي رسمتها له في خيالي وكان فيها الكثير من ملامح قبضايات بيروت ممن كنت أعرف.
لم يكن عنترة في صندوق الفرجة يمت الى أحد من قبضاياتنا بصلة، اللهم الا بالشاربين المعقوفين. فقد بدا، في صورة صندوق الفرجة، كأنه آتٍ من عالم شرقي هجين، ليس هو بالفارسي ولا بالهندي ولا بالمغولي، إنما هو مزيج من هذه الأخلاط مجتمعة. لكني تغاضيت يومها، عن هذه النقيصة على مضض، نظراً الى المزايا العديدة التي أحببتها فيه ولأنه لم يكن عندي، على الصعيد القومي، بديلا منه أحمّله ثقل الأمانة فأُريح أولي الأمر منا، وقد ناؤوا بحملها، وأنا بدوري أستريح.
بيد أنه على الرغم من إعجابي ببطولات هذا الفارس الكرار، كان لي عليه، في ما بعد، عتب كبير بلغ حدّ اللوم. ذلك أنني باستغراقي في قراءة سيرته المشوقة، استنتجت أمرا لا يليق بفارس مثله. فهو، من باب الأنانية، كان وراء طمس شخصية أخيه شيبوب. دليلي على ذلك أن صندوق الفرجة لم يكن يعرض لنا صورة شيبوب مع أنه كان يعرض صوراً لعبلة وأبيها مالك واخوتها واترابها وغيرهم من افراد قبيلة بني عبس ممن هم دون شيبوب فروسية وحنكة وفضلا.
ولقد أحببت شخصية شيبوب لمزاياه العديدة، فقد كان نبّالاّ ماهراً ومقاتلاً جسوراً كما كان سنداً لأخيه عنترة وناصراً له في الملمات، يشاركه في الكرّ على الأعداء، ويتسقّط له الأخبار، ويستطلع له الطرق، فضلاً عن انه كان رسوله الى الملوك ورؤساء العشائر. اي انه كان، بحسب مفهومنا المعاصر، وزير حربية عنترة ووزير خارجيته ورئيس مخابراته في آن واحد.
وما لفتني فيه، تميزه عن سائر شخصيات السيرة بظرفه وخفة ظله، فقد كانوا في معظمهم قساة الوجوه والقلوب متجهمين على الدوام، بينما كان هو النسمة النديّة التي ترطب ليالي السمر في جوف الصحراء القاحلة، وكان مجلسه اشبه بواحة نخيل يتفيأ في ظلها المتحاربون من رمضاء النزال. اما المستمعون الى سيرة عنترة في المقاهي الشعبية فكانوا يستريحون في كنف شيبوب من صهيل الخيول وصليل السيوف ودفق الاشعار التي ما فتئ عنترة يرتجلها في كل حين وأوان.
وكان لشيبوب، غير الكرّ والفر والدعم والمساندة، مواقف مؤثرة في حياة أخيه ودور مهم في نصاعة صورته عند العرب والعجم. يكفي أن نشير الى موقفه الشجاع الذي وقفه مع أخيه في لحظة من لحظات ضعف الأخير العاطفي.
جاء في السيرة: أن ربيبات عبلة طلبن إليها في جلسة أنس أن ترسل في طلب عنترة لينشدهن شيئاً من شعره، وسألت إحداهن عبلة: أين الذي وعدتنا به من تذلل عنترة بين يديك؟ فقالت: سوف ترين ذلك بعينيك. وأرسلت عبلة في طلبه فحضر على عجل، فطلبت منه أن يمدح الفتيات وينشدهن بعضاً من أشعاره، فارتجل قصيدة غزلية خاطب فيها عبلة جاء فيها:
وانثري من ورد خدّيك على/ فائقات كالظباءِ السارحاتِ
واحفظي العهدَ كما أعهدُه/ واحذري أن تسمعي قولَ الوشاةِ
أنتِ في حُكْمِ الهوى مالِكتي/ فاحكُمي فيَّ إلى يومِ المماتِ
فلما أنتهى عنترة من إنشاد قصيدته قالت له عبلة: يا ابن زبيبة أنت تحبّني؟ قال: نعم. فقالت له إن كنت تزعم أنك تحبّني: قبّل قدمي. ثم مدّت رجلها إليه. فسكت عن الجواب. قالت عبلة: -ويلك يا ابن الانذال، لم لا تبادر إلى هذا الحال! وذمة العرب لاردّك إلى رعي الجمال.
فوجم عنترة ولم ينبس ببنت شفة. أما شيبوب فقد جن جنونه، فقد تمادت عبلة في إذلال أخيه واستهانت بمكانته ووضعته في موقف مخزٍ امام بنات العرب. وهذا موقف لا يليق بخليع فما بالك بفارس بني عبس!
قال الراوي:
"هذا كله، يا سادة يا كرام، وشيبوب يسمع ويرى، فمن شدة ما جرى عليه، صاح بأخيه: يا ابن الأمّ، أما تستحي على نفسك أن تُذل لذات قِناع وقد ذِلت لهيبتك السباع؟" ثم انه دفعه وأخرجه من السرادق وأركبه على الأبجر وأبعده عن المكان".
هكذا تغلبت حكمة شيبوب وبعد نظره على ضعف عنترة ومياعة موقفه امام عشقه لعبلة وانجراره وراء عواطفه حتى لو اساءت الى سمعته.
•••
لقد شغل ظلم عنترة لأخيه شيبوب حيزاً من تفكيري الى أمد غير قصير. وكنت اتساءل في نفسي: كيف يمكن المظلوم أن يظلِم! كيف يمكن عنترة الذي ذاق جور عمه مالك من أجل حبه لعبلة، والذي عانى ظلم القبيلة كلها لأنه ابن جارية سوداء، كيف له أن يظلم أخاه لذنب لم يرتكبه فيمنعه من التقاط صورة له: الى جانبه، أو بمفرده مستلقياً تحت شجرة نخيل، أو ممسكاً بلجام فرسه، أو مسدِّداً سهمه الى غزال شارد؟!
ورحت أبحث عن اسباب هذا التعسف، نصرةً لشخصية شيبوب التي ظلمها الجميع: المؤرخون والكتاب والنقاد وحتى الرواة. وصرت أناقش واجادل في ذلك كل محب لعنترة وسيرته، مدافعا ومنافحا عن شيبوب، لكن احدا لم يوافقني الرأي، فقد سيطر عنترة وحده على مسرح السيرة، واستحوذ على عقولهم وافئدتهم وأغشى حبه عيونهم وطغى على خيالهم فأعمى بصيرتهم. لكنني لم استسلم وتابعت التحريض عليه.
الا انني وفي ليلة ليلاء فوجئت بعنترة وقد جاءني، على غير استحضار، زائغ النظرات هائجا كأسد هصور وسألني:
- قل لي يا أخا العرب.
- علامك يا فارس الفرسان؟
- هل تعرف فلانا ابن فلان؟
قلت وانا في منتهى السعادة، اذ خيّل لي ان عنترة جاء يسأل عني بهدف التعرف الى شخصي:
- أنا هو.
- انت؟
- أجل أنا. قلتها وقد طفح وجهي بالبشر.
فجحظت عينا عنترة على الفور وتطاير منهما الشرر وزعق فيّ غاضباً:
- ويحك يا عدو الله ، ما الذي بيني وبينك حتى لا تفتأ تسوّد صحيفتي بين أقرانك وأهل زمانك، فتتهمني بما لست انا فيه... ما الذي تبغيه مني؟
فوجدتها فرصة سانحة لمصارحته بمكنونات صدري، فاستجمعت قواي وقلت:
- اسمع يا فارس الفرسان، صديقك من صدَقك لا من صدّقك. انت فارس العرب وحامي حماهم ومستعيد حقوق عشائرهم من كل باغ وطامع، فهلا انصفت أخاك؟
- ممن؟
- منك انت.
ففغر فاه ونظر اليَّ نظرة ملؤها الدهشة والاستنكار، وقبل ان يفوه بكلمة، أردفت قائلا:
- لقد طمست شخصيته وحجبته عن الظهور، عكس ما يتطلبه منك النبل العربي وصلة الرحم. قال:
- وهل وقفت يوما في وجه تظهيره؟
- أجل فأنت لم تسمح له حتى بالتقاط صورة واحدة الى جانبك.
- أأنا من منعه أم هو الذي ارتضى لنفسه هذا المقام؟
- وما يدريني... أنت أخوه وأنت أعلم بطباعه مني.
فانتفض وقال بغضب شديد:
- أنت الذي قلتها. أنا أخوه حقاً وفعلاً، لكن أنت من أنت، لتحشر أنفك بين الأخ وأخيه؟!
وأُسقط في يدي، فسكتّ. أما هو فتابع:
- إسمع يا هذا... إني أحذرك: إياك إياك والتدخل في شؤون قبيلة بني عبس، وبخاصة شؤون أبناء شدّاد العبسي.
قلت متحدياً:
- بل ساستمر أناضل من أجل حقوق أخيك التي استلبتها. لقد ظلمته وينبغي أن ترد اليه الاعتبار.
هنا انتصب عنترة امامي كعمود من دخان وقد احمرت عيناه، وصار يتمتم، وهو يرغي ويزبد، بكلام لم أفهمه، قد تكون شتائم جاهلية أو ما أشبه ذلك. ولكزني برمحه في خاصرتي لكزة خلت معها أن روحي قد زُهقت، وصاح بي:
- صه يا وقح، وعن درب الفرسان أفسح، فليس هذا بميدانك يا لُكع، والا وذمة العرب جندلتك بطعنة من رمحي وتركتك طعاما لسباع البر لتكون عبرة لمن اعتبر من بدوٍ ومن حضر. وحدجني بنظرة ملؤها التهديد والوعيد، ثم قفز على ظهر جواده وانطلق كالسهم مخلّفا وراءه زوبعة من العجاج تغشي الأبصار وتحجب الأنوار.
•••
منذ تلك الليلة، قطعتُ علاقتي بعنترة وأخيه، وقلت في نفسي: مالي وللتدخل في شؤون عائلية، فإذا كان شيبوب ارتضى لنفسه هذا الموقع كما قال أخوه فلا داعي لأن أحرّض الأخ على أخيه، لا سمح الله، ولا أن أفسد ما بينهما من ودّ، وبخاصة أن لا رابط البتة بين عائلتنا وعائلة شداد العبسي لا من قريب أو بعيد.
بعد هذا اللقاء، غير المنتظر، بيني وبين عنترة، بدأت تتضح أمامي الأمور بعد إعمال الفكر وتقليب الرأي. وتبين لي ان الامر ليس كما تهيّأ لي من حيث تسلّط عنترة على أخيه، بل ذلك عائد، وفي الدرجة الأولى، الى طباع شيبوب وتكوينه النفسي، فهو من النوع الذي لا يحب الظهور والمفاخرة والمباهاة، بل يفضل العمل على نصرة أخيه بعيداً من الأضواء، أي بعيداً من أعين الشعراء، الذين كانوا، هم، وسائل الإعلام الوحيدة في تلك الأيام.
إذاً، فشيبوب هو المسؤول عما آلت إليه حاله من التهميش الاجتماعي حتى كادت شخصيته تركن في زاوية النسيان، فهو لو كان "طحّيشاً" لما وصل إلى ما وصل إليه من خمود الذكر، فلا لوم اذاً على الرسامين، في عصرنا الراهن، إن هم أهملوا رسمه، ولا على الأدباء إن هم تجاهلوا سيرته فلم يأتوا على ذكره الا كتابع، فالناس تحكم على ظواهر الأمور، فما لهم ولما يستبطنه شيبوب من قيم وشيم، إذا كان هو آثر القعود في الظل، وترك أخاه يسرح ويمرح تحت ضياء الشمس حتى تصدّر ألسنة الرواة في ليالي العرب في مضارب قبائلهم وعشائرهم.
•••
ومضت الأيام، وراح كل منا في طريق: عنترة ذهب الى بطون الكتب، وإلى رواد المقاهي الشعبية يطل عليهم في كل أمسية على لسان راوٍ يسمى الحكواتي، وأنا ذهبت إلى بطون الكتب لتلقي العلم. واستمر بيني وبين عنترة البعد، حتى لا أقول الجفاء، الى أن عاد وحضر في حياتي من جديد، إذ أطلّ عليَّ مع صَحْب له كرام، من أصحاب المعلقات، ضمن المقررات الدراسية، عرفنا منهم النابغة، وزهيراً، وطرفة، ولبيداً، وامرأ القيس صاحب "مِكَرٍّ مِفَرٍّ ".
مرة أخرى استفاق الحنين الى عنترة العبسي الذي ما فتئ يذكّرني بماضينا التليد وبضرورة دفاعنا عن الكرامة المهانة واسترجاع ارضنا المسلوبة، وأحسست أن الحاجة اليه والى امثاله من ابطال التاريخ قد ازدادت بعد تكاثر أعداء الأمة وازدياد مضطهديها وسط غطيطنا وتبلدنا وتخاذلنا.
ومما ساعد في استعادة الصداقة بيننا أن علاقتنا الحديثة اقتصرت على شعره دون سيرته، أي دون ذكر لأخيه شيبوب. لقد اقتصرت العلاقة الجديدة على شعره وفيه ما فيه من حلاوة السبك وجمال الصورة. واعتقد أن ما من أحد من أبناء جيلي ألا ويحفظ بيتَي عنترة في عبلة وهما من أرق ما ورد في شعر الغزل حيث يخاطب محبوبته بقوله:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ مني/ وبيضُ الهِندِ تقطُرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها/
لَمَعَتْ كبارقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسّمِ
ومما رسّخ صداقتي الجديدة بعنترة، هذه المرة، وجعلني أندم على مقاطعته كل هذه المدة، ما لمسته من حب الناس البسطاء الشعبيين لهذا الفارس المغوار، الذي ما برح يمثل البطولة والفروسية التي نفتقدها، فنلجأ إلى من يجسّدها لنا من أبطال السير والأساطير ورجالات التاريخ، وعنترة في طليعتهم.
هذا الحب الشعبي لمسته عن قرب حين اعتمد أستاذنا في مادة الأدب العربي، أسلوباً حديثاً في التعليم هو التعليم التطبيقي، اضافة الى النظري، توسيعا للآفاق وترسيخا للاستيعاب لما هو محصور بين دفتي الكتاب. ففاجأنا في أحد الأيام باتفاقه مع صاحب احد المقاهي الشعبية كي يحضر تلامذته جلسة من جلسات الحكواتي التي يروي فيها سيرة عنترة. ولمزيد من الواقعية، لم يشأ استاذنا أن يقتصر الحضور على التلامذة وحدهم بل طلب من صاحب المقهى أن تبقى السهرة مفتوحة للجميع. أي لرواد المقهى الأصليين ايضا. وخيراً فعل لأننا لم نستمع في تلك الجلسة الى سيرة عنترة فحسب بل تابعنا عن كثب ردود الفعل بين الراوي وجمهوره، ولمسنا التعاطف الحميم بين شعب مقهور وبطل من المؤمل ان يحقق له أمانيه القومية، حتى ولو بأحلام اليقظة ووسط دخان النراجيل.
في تلك العشية التي لا تنسى، اعتلى الراوي منصته وسط تأهيل الجمهور وترحيبه. وبعد تبادل عبارات المجاملة معهم، جلس على كرسيه وعدّل من وضعية طربوشه، وركّز نظارتيه على أرنبة أنفه، ومنح نفسه لحظة صمت للتركيز، معطيا بذلك جمهور الحضور فسحة الاستعداد للتلقي وشوق الترقب.
وعندما اطمأن الى ان الجو اصبح مهيأ للاستماع، بدأ بتلاوة السيرة، مستعينا بين الحين والحين بالنص المكتوب، واضعا على كرسي الى جانبه، خيزرانته التي سوف تنقلب سيفا، في بعض اللحظات، اثناء تشخيص معارك البطل الهمّام.
كان الحكواتي، عند احتدام الصراع، يهبّ واقفا ويشخّص للحضور حركات عنترة القتالية وجبروته في النزال، كما يصوّر الجزع الذي كان يصيب غريمه اذا كتبت له النجاة من شفار السيف البتار. جرى ذلك كله وسط تجاوب الرواد الذين تحلقوا حول الراوي يشيدون بشجاعة عنترة ويؤيدون، بحماسة، مواقفه، بتعليقات تنم عن الود والاعجاب والفخر، مأخوذين بما يروى على مسامعهم، متجاوبين مع الحوادث وكأنها واقع مشهود.
ثم جاء ذكر شيبوب، فوقف الحكواتي يقلده: "فتقصّع" وتخلّع في مشيته، وتمايل في وقفته ورفّع من صوته حتى صار أقرب الى صوت النساء، ليقلل بذلك من رجولية شيبوب وفروسيته وليثير الضحك في نفوس مستمعيه.
ساءني ما رأيت أشد السوء، وعاودتني فكرة الظلم الذي وقع على شيبوب نتيجة أنانية أخيه، الأمر الذي جعل مكانته تتراجع عما تستحق من ثناء ليصبح مادة لسخرية الآخرين بمن فيهم رواة سيرته. ولم أجد نفسي الا قد وقفت بين الجمع وصرخت في وجه الحكواتي:
- ويحك يا رجل، بأيّ حق تسخر من شيبوب وتقلل من قيمة هذا الفارس المغوار؟
وزيادةً في التحدي أضفت:
- الا فاعلم ان شيبوب بطل، وشهم، ووفي، وذو إيثار، وأكثر تعقلا من صاحبك عنترة المتهوّر الذي تتباهى بإبراز سيرته على حساب كرامة أخيه.
بهت الحكواتي وجمد الحاضرون وبدت على وجوههم علامات الاستياء الشديد، وصوّبوا اليَّ نظراتهم المحدجة، ثم ندّت عنهم همهمات استنكار ما لبثت ان تحولت الى صراخ، ووقفوا يدعونني الى الجلوس والصمت. وبلغ من حنق احدهم ان اخذ يطلق الشتائم ذات اليمين وذات الشمال.
وبينما نحن في هذا الجو المحموم، برقت الدنيا ورعدت، وسُمعت في أجواء القاعة اصوات صهيل خيل وصليل سيوف، وسط غبار كثيف عمّ المكان. فلما انجلى النقع، بدا عنترة وأخوه شيبوب ومعهما كوكبة من فرسان بني عبس، خرجوا جميعهم من بطن السيرة ووقفوا في مواجهة الرواد وقفة المتحدي. أخذ عنترة يتفرس في وجوه الحاضرين واحداً واحداً حتى اذا وقع نظره عليَّ صاح في وجهي:
- أهذا انت يا قليل الذمة، أإلى هنا أنت لاحق بي؟ لقد حذرتك ونبهتك في ما مضى فلم ترتدع ولم ترعو، وها انك قد جنيت على نفسك وسعيت الى حتفك بظلفك. ورفع فرسان القبيلة من المرافقين سيوفهم مهددين وصرخوا بصوت واحد كأنهم كورس في ملحمة اغريقية:
- ايه بالله... لقد سعيت الى حتفك بظلفك.
وتطلعت الى شيبوب استنجده عله يشفع لي أو يتدخل لفضّ النزاع الذي إنما نشب من أجله وكرمى لعينيه، فراعني منه أنه كان واقفاً الى جانب أخيه يهز رأسه بالموافقة على كل كلمة قالها، حتى انني لاحظت انه كان احد رافعي السيوف في وجهي، فحدجته بنظرة فيها كثير من العتب بل من الازدراء، ردّ عليها بتحدٍّ قائلا:
- لا عتب ولا لوم، فشرعة قبيلتنا تقول: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب. وانت غريب، وهذا أخي، وهؤلاء الفرسان أبناء عمي.
وعاد الكورس الإغريقي يردد:
- ايه بالله...
هذه الحكمة التي نطق بها المدعو شيبوب، لا فُضّ فوه، استقوى بها عنترة، وحرّكت فيه غريزة الأخذ بالثأر والانتقام، فتقدم نحوي مهرولا، ولما صار في محاذاتي استل سيفه من غمده ولوّح به في الهواء ثم أهوى به يريد رأسي وهو يقول:
- خذها من يد ابن شداد أيها المفتري.
لكن الله لطف، إذ جفلت الى الوراء فاتقيت ضربته، وانبطحت أرضاً، ودببت على أربع، ثم وقفت على اثنتين وأطلقت ساقيَّ للريح.
وصدف في تلك اللحظة مرور حافلة الترام من أمام المقهى فلم أجد نفسي الا وقد قفزت واصبحت في داخلها راجيا السائق ان ينطلق باقصى سرعة. وتلفتّ خلفي مستطلعاً مذعوراً، فاذا بعنترة على صهوة حصانه الأبجر يحاول اللحاق بالحافلة مطوّحاً بسيفه في الهواء، مهدداً ومتوعداً، والناس على جانبي الطريق يتطلعون بدهشة واستغراب.
الا ان عنترة لم يوفَّق، والحمد لله، في الامساك بي، إذ كان قد بيطر حافِرَيْ فرسه، حديثا، فأخذا ينزلقان على الطريق المعبدة بالاسفلت، بحيث صارت الفرس تعدو وتعدو من دون أن يتقدم.
•••
تلك الليلة، كانت آخر عهدي بعنترة وأخيه وكل قبيلة بني عبس، وانتقلت بولائي بعدها، وبدون تردد، الى بطل آخر من ابطال سيرنا الشعبية: الى الزير سالم، فقد وجدت ان ذلك اسلم للنفس وأنجع في متابعة النضال.
لقد شغل ظلم عنترة لأخيه شيبوب حيزاً من تفكيري الى أمد غير قصير. وكنت اتساءل في نفسي: كيف يمكن المظلوم أن يظلِم! كيف يمكن عنترة الذي ذاق جور عمه مالك من أجل حبه لعبلة، والذي عانى ظلم القبيلة كلها لأنه ابن جارية سوداء، كيف له أن يظلم أخاه لذنب لم يرتكبه فيمنعه من التقاط صورة له: الى جانبه، أو بمفرده مستلقياً تحت شجرة نخيل، أو ممسكاً بلجام فرسه، أو مسدِّداً سهمه الى غزال شارد؟!
ورحت أبحث عن اسباب هذا التعسف، نصرةً لشخصية شيبوب التي ظلمها الجميع: المؤرخون والكتاب والنقاد وحتى الرواة. وصرت أناقش واجادل في ذلك كل محب لعنترة وسيرته، مدافعا ومنافحا عن شيبوب، لكن احدا لم يوافقني الرأي، فقد سيطر عنترة وحده على مسرح السيرة، واستحوذ على عقولهم وافئدتهم وأغشى حبه عيونهم وطغى على خيالهم فأعمى بصيرتهم. لكنني لم استسلم وتابعت التحريض عليه.
الا انني وفي ليلة ليلاء فوجئت بعنترة وقد جاءني، على غير استحضار، زائغ النظرات هائجا كأسد هصور وسألني:
- قل لي يا أخا العرب.
- علامك يا فارس الفرسان؟
- هل تعرف فلانا ابن فلان؟
قلت وانا في منتهى السعادة، اذ خيّل لي ان عنترة جاء يسأل عني بهدف التعرف الى شخصي:
- أنا هو.
- انت؟
- أجل أنا. قلتها وقد طفح وجهي بالبشر.
فجحظت عينا عنترة على الفور وتطاير منهما الشرر وزعق فيّ غاضباً:
- ويحك يا عدو الله ، ما الذي بيني وبينك حتى لا تفتأ تسوّد صحيفتي بين أقرانك وأهل زمانك، فتتهمني بما لست انا فيه... ما الذي تبغيه مني؟
فوجدتها فرصة سانحة لمصارحته بمكنونات صدري، فاستجمعت قواي وقلت:
- اسمع يا فارس الفرسان، صديقك من صدَقك لا من صدّقك. انت فارس العرب وحامي حماهم ومستعيد حقوق عشائرهم من كل باغ وطامع، فهلا انصفت أخاك؟
- ممن؟
- منك انت.
ففغر فاه ونظر اليَّ نظرة ملؤها الدهشة والاستنكار، وقبل ان يفوه بكلمة، أردفت قائلا:
- لقد طمست شخصيته وحجبته عن الظهور، عكس ما يتطلبه منك النبل العربي وصلة الرحم. قال:
- وهل وقفت يوما في وجه تظهيره؟
- أجل فأنت لم تسمح له حتى بالتقاط صورة واحدة الى جانبك.
- أأنا من منعه أم هو الذي ارتضى لنفسه هذا المقام؟
- وما يدريني... أنت أخوه وأنت أعلم بطباعه مني.
فانتفض وقال بغضب شديد:
- أنت الذي قلتها. أنا أخوه حقاً وفعلاً، لكن أنت من أنت، لتحشر أنفك بين الأخ وأخيه؟!
وأُسقط في يدي، فسكتّ. أما هو فتابع:
- إسمع يا هذا... إني أحذرك: إياك إياك والتدخل في شؤون قبيلة بني عبس، وبخاصة شؤون أبناء شدّاد العبسي.
قلت متحدياً:
- بل ساستمر أناضل من أجل حقوق أخيك التي استلبتها. لقد ظلمته وينبغي أن ترد اليه الاعتبار.
هنا انتصب عنترة امامي كعمود من دخان وقد احمرت عيناه، وصار يتمتم، وهو يرغي ويزبد، بكلام لم أفهمه، قد تكون شتائم جاهلية أو ما أشبه ذلك. ولكزني برمحه في خاصرتي لكزة خلت معها أن روحي قد زُهقت، وصاح بي:
- صه يا وقح، وعن درب الفرسان أفسح، فليس هذا بميدانك يا لُكع، والا وذمة العرب جندلتك بطعنة من رمحي وتركتك طعاما لسباع البر لتكون عبرة لمن اعتبر من بدوٍ ومن حضر. وحدجني بنظرة ملؤها التهديد والوعيد، ثم قفز على ظهر جواده وانطلق كالسهم مخلّفا وراءه زوبعة من العجاج تغشي الأبصار وتحجب الأنوار.
•••
منذ تلك الليلة، قطعتُ علاقتي بعنترة وأخيه، وقلت في نفسي: مالي وللتدخل في شؤون عائلية، فإذا كان شيبوب ارتضى لنفسه هذا الموقع كما قال أخوه فلا داعي لأن أحرّض الأخ على أخيه، لا سمح الله، ولا أن أفسد ما بينهما من ودّ، وبخاصة أن لا رابط البتة بين عائلتنا وعائلة شداد العبسي لا من قريب أو بعيد.
بعد هذا اللقاء، غير المنتظر، بيني وبين عنترة، بدأت تتضح أمامي الأمور بعد إعمال الفكر وتقليب الرأي. وتبين لي ان الامر ليس كما تهيّأ لي من حيث تسلّط عنترة على أخيه، بل ذلك عائد، وفي الدرجة الأولى، الى طباع شيبوب وتكوينه النفسي، فهو من النوع الذي لا يحب الظهور والمفاخرة والمباهاة، بل يفضل العمل على نصرة أخيه بعيداً من الأضواء، أي بعيداً من أعين الشعراء، الذين كانوا، هم، وسائل الإعلام الوحيدة في تلك الأيام.
إذاً، فشيبوب هو المسؤول عما آلت إليه حاله من التهميش الاجتماعي حتى كادت شخصيته تركن في زاوية النسيان، فهو لو كان "طحّيشاً" لما وصل إلى ما وصل إليه من خمود الذكر، فلا لوم اذاً على الرسامين، في عصرنا الراهن، إن هم أهملوا رسمه، ولا على الأدباء إن هم تجاهلوا سيرته فلم يأتوا على ذكره الا كتابع، فالناس تحكم على ظواهر الأمور، فما لهم ولما يستبطنه شيبوب من قيم وشيم، إذا كان هو آثر القعود في الظل، وترك أخاه يسرح ويمرح تحت ضياء الشمس حتى تصدّر ألسنة الرواة في ليالي العرب في مضارب قبائلهم وعشائرهم.
•••
ومضت الأيام، وراح كل منا في طريق: عنترة ذهب الى بطون الكتب، وإلى رواد المقاهي الشعبية يطل عليهم في كل أمسية على لسان راوٍ يسمى الحكواتي، وأنا ذهبت إلى بطون الكتب لتلقي العلم. واستمر بيني وبين عنترة البعد، حتى لا أقول الجفاء، الى أن عاد وحضر في حياتي من جديد، إذ أطلّ عليَّ مع صَحْب له كرام، من أصحاب المعلقات، ضمن المقررات الدراسية، عرفنا منهم النابغة، وزهيراً، وطرفة، ولبيداً، وامرأ القيس صاحب "مِكَرٍّ مِفَرٍّ ".
مرة أخرى استفاق الحنين الى عنترة العبسي الذي ما فتئ يذكّرني بماضينا التليد وبضرورة دفاعنا عن الكرامة المهانة واسترجاع ارضنا المسلوبة، وأحسست أن الحاجة اليه والى امثاله من ابطال التاريخ قد ازدادت بعد تكاثر أعداء الأمة وازدياد مضطهديها وسط غطيطنا وتبلدنا وتخاذلنا.
ومما ساعد في استعادة الصداقة بيننا أن علاقتنا الحديثة اقتصرت على شعره دون سيرته، أي دون ذكر لأخيه شيبوب. لقد اقتصرت العلاقة الجديدة على شعره وفيه ما فيه من حلاوة السبك وجمال الصورة. واعتقد أن ما من أحد من أبناء جيلي ألا ويحفظ بيتَي عنترة في عبلة وهما من أرق ما ورد في شعر الغزل حيث يخاطب محبوبته بقوله:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ مني/ وبيضُ الهِندِ تقطُرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها/
لَمَعَتْ كبارقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسّمِ
ومما رسّخ صداقتي الجديدة بعنترة، هذه المرة، وجعلني أندم على مقاطعته كل هذه المدة، ما لمسته من حب الناس البسطاء الشعبيين لهذا الفارس المغوار، الذي ما برح يمثل البطولة والفروسية التي نفتقدها، فنلجأ إلى من يجسّدها لنا من أبطال السير والأساطير ورجالات التاريخ، وعنترة في طليعتهم.
هذا الحب الشعبي لمسته عن قرب حين اعتمد أستاذنا في مادة الأدب العربي، أسلوباً حديثاً في التعليم هو التعليم التطبيقي، اضافة الى النظري، توسيعا للآفاق وترسيخا للاستيعاب لما هو محصور بين دفتي الكتاب. ففاجأنا في أحد الأيام باتفاقه مع صاحب احد المقاهي الشعبية كي يحضر تلامذته جلسة من جلسات الحكواتي التي يروي فيها سيرة عنترة. ولمزيد من الواقعية، لم يشأ استاذنا أن يقتصر الحضور على التلامذة وحدهم بل طلب من صاحب المقهى أن تبقى السهرة مفتوحة للجميع. أي لرواد المقهى الأصليين ايضا. وخيراً فعل لأننا لم نستمع في تلك الجلسة الى سيرة عنترة فحسب بل تابعنا عن كثب ردود الفعل بين الراوي وجمهوره، ولمسنا التعاطف الحميم بين شعب مقهور وبطل من المؤمل ان يحقق له أمانيه القومية، حتى ولو بأحلام اليقظة ووسط دخان النراجيل.
في تلك العشية التي لا تنسى، اعتلى الراوي منصته وسط تأهيل الجمهور وترحيبه. وبعد تبادل عبارات المجاملة معهم، جلس على كرسيه وعدّل من وضعية طربوشه، وركّز نظارتيه على أرنبة أنفه، ومنح نفسه لحظة صمت للتركيز، معطيا بذلك جمهور الحضور فسحة الاستعداد للتلقي وشوق الترقب.
وعندما اطمأن الى ان الجو اصبح مهيأ للاستماع، بدأ بتلاوة السيرة، مستعينا بين الحين والحين بالنص المكتوب، واضعا على كرسي الى جانبه، خيزرانته التي سوف تنقلب سيفا، في بعض اللحظات، اثناء تشخيص معارك البطل الهمّام.
كان الحكواتي، عند احتدام الصراع، يهبّ واقفا ويشخّص للحضور حركات عنترة القتالية وجبروته في النزال، كما يصوّر الجزع الذي كان يصيب غريمه اذا كتبت له النجاة من شفار السيف البتار. جرى ذلك كله وسط تجاوب الرواد الذين تحلقوا حول الراوي يشيدون بشجاعة عنترة ويؤيدون، بحماسة، مواقفه، بتعليقات تنم عن الود والاعجاب والفخر، مأخوذين بما يروى على مسامعهم، متجاوبين مع الحوادث وكأنها واقع مشهود.
ثم جاء ذكر شيبوب، فوقف الحكواتي يقلده: "فتقصّع" وتخلّع في مشيته، وتمايل في وقفته ورفّع من صوته حتى صار أقرب الى صوت النساء، ليقلل بذلك من رجولية شيبوب وفروسيته وليثير الضحك في نفوس مستمعيه.
ساءني ما رأيت أشد السوء، وعاودتني فكرة الظلم الذي وقع على شيبوب نتيجة أنانية أخيه، الأمر الذي جعل مكانته تتراجع عما تستحق من ثناء ليصبح مادة لسخرية الآخرين بمن فيهم رواة سيرته. ولم أجد نفسي الا قد وقفت بين الجمع وصرخت في وجه الحكواتي:
- ويحك يا رجل، بأيّ حق تسخر من شيبوب وتقلل من قيمة هذا الفارس المغوار؟
وزيادةً في التحدي أضفت:
- الا فاعلم ان شيبوب بطل، وشهم، ووفي، وذو إيثار، وأكثر تعقلا من صاحبك عنترة المتهوّر الذي تتباهى بإبراز سيرته على حساب كرامة أخيه.
بهت الحكواتي وجمد الحاضرون وبدت على وجوههم علامات الاستياء الشديد، وصوّبوا اليَّ نظراتهم المحدجة، ثم ندّت عنهم همهمات استنكار ما لبثت ان تحولت الى صراخ، ووقفوا يدعونني الى الجلوس والصمت. وبلغ من حنق احدهم ان اخذ يطلق الشتائم ذات اليمين وذات الشمال.
وبينما نحن في هذا الجو المحموم، برقت الدنيا ورعدت، وسُمعت في أجواء القاعة اصوات صهيل خيل وصليل سيوف، وسط غبار كثيف عمّ المكان. فلما انجلى النقع، بدا عنترة وأخوه شيبوب ومعهما كوكبة من فرسان بني عبس، خرجوا جميعهم من بطن السيرة ووقفوا في مواجهة الرواد وقفة المتحدي. أخذ عنترة يتفرس في وجوه الحاضرين واحداً واحداً حتى اذا وقع نظره عليَّ صاح في وجهي:
- أهذا انت يا قليل الذمة، أإلى هنا أنت لاحق بي؟ لقد حذرتك ونبهتك في ما مضى فلم ترتدع ولم ترعو، وها انك قد جنيت على نفسك وسعيت الى حتفك بظلفك. ورفع فرسان القبيلة من المرافقين سيوفهم مهددين وصرخوا بصوت واحد كأنهم كورس في ملحمة اغريقية:
- ايه بالله... لقد سعيت الى حتفك بظلفك.
وتطلعت الى شيبوب استنجده عله يشفع لي أو يتدخل لفضّ النزاع الذي إنما نشب من أجله وكرمى لعينيه، فراعني منه أنه كان واقفاً الى جانب أخيه يهز رأسه بالموافقة على كل كلمة قالها، حتى انني لاحظت انه كان احد رافعي السيوف في وجهي، فحدجته بنظرة فيها كثير من العتب بل من الازدراء، ردّ عليها بتحدٍّ قائلا:
- لا عتب ولا لوم، فشرعة قبيلتنا تقول: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب. وانت غريب، وهذا أخي، وهؤلاء الفرسان أبناء عمي.
وعاد الكورس الإغريقي يردد:
- ايه بالله...
هذه الحكمة التي نطق بها المدعو شيبوب، لا فُضّ فوه، استقوى بها عنترة، وحرّكت فيه غريزة الأخذ بالثأر والانتقام، فتقدم نحوي مهرولا، ولما صار في محاذاتي استل سيفه من غمده ولوّح به في الهواء ثم أهوى به يريد رأسي وهو يقول:
- خذها من يد ابن شداد أيها المفتري.
لكن الله لطف، إذ جفلت الى الوراء فاتقيت ضربته، وانبطحت أرضاً، ودببت على أربع، ثم وقفت على اثنتين وأطلقت ساقيَّ للريح.
وصدف في تلك اللحظة مرور حافلة الترام من أمام المقهى فلم أجد نفسي الا وقد قفزت واصبحت في داخلها راجيا السائق ان ينطلق باقصى سرعة. وتلفتّ خلفي مستطلعاً مذعوراً، فاذا بعنترة على صهوة حصانه الأبجر يحاول اللحاق بالحافلة مطوّحاً بسيفه في الهواء، مهدداً ومتوعداً، والناس على جانبي الطريق يتطلعون بدهشة واستغراب.
الا ان عنترة لم يوفَّق، والحمد لله، في الامساك بي، إذ كان قد بيطر حافِرَيْ فرسه، حديثا، فأخذا ينزلقان على الطريق المعبدة بالاسفلت، بحيث صارت الفرس تعدو وتعدو من دون أن يتقدم.
•••
تلك الليلة، كانت آخر عهدي بعنترة وأخيه وكل قبيلة بني عبس، وانتقلت بولائي بعدها، وبدون تردد، الى بطل آخر من ابطال سيرنا الشعبية: الى الزير سالم، فقد وجدت ان ذلك اسلم للنفس وأنجع في متابعة النضال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق