شوقي مسلماني
الحوار هو مع رئيس تحرير جريدة الأنوار الأستاذ رفيق خوري. والمحاوِرة وجهها مألوف وصوتها مألوف. لم أعرف إلاّ في آخر الحلقة التلفزيونيّة أنّها الإعلاميّة المخضرمة سعاد قاروط العشّي. وأنا بدوري تركتُ لبنان منذ ثلاثة عقود. ومياه كثيرة عبرت تحت الجسر، حتى قيل أنّي إذا رجعتُ إلى لبنان لن أعرف محلّة فيه، هذا في العمران، أمّا في الإنسان فحدّث ولا حرج.
الصديق والخصم معاً يستمعان وبالإستعداد ذاته لأي حوار سياسي يكون مع رفيق خوري، وليس هنا مجال الشرح، ولكنّي سمعتُ السيّدة سعاد تقول أنّنا سنقضي تسعين دقيقة مع رفيق خوري، وليس مع رفيق خوري الصحافي والسياسي، بل مع رفيق خوري الشاعر. و"نزْلة البرد" متمكّنة منّي. وأتنفّس من فمي. وعندي "كتابة" مستعجلة يجب أن أنجزها، ومحتار: هل أُنجِز عملي الكتابي أم أنام وأرتاح؟. والسيّدة سعاد منعتْ عنّي حيرتي. وصرّحتْ بما صرّحتْ. وقلتُ لذاتي: "نحن مدعوّان يا ذاتي إلى حلقة سيكون لها نكهة، المعلومة هي أنّ رفيق خوري شاعر وله باع في الشعر وسبق وغنّت له السيّدة فيروز".
وأنا عموماً مثلما أجد طرافة في أن يتحدّث الشاعر بالسياسة أجد طرافة في أن يتحدّث السياسي بالشعر. وقلتُ لذاتي: "لقد قرّرت ألاّ أكتب وألاّ أنام وأن أحتمل "نزلة البرد" وأن ألبّي الدعوة". وتململتْ ذاتي وقالت: "قرارك يعني أنّك ستحتاج إلى التركيز". وعاجلتُها بالمقاطعة وقلتُ لها: "شأني! وأنتِ ارتاحي".
ورجع التاريخ إلى الخمسينات والستينات من القرن الفائت أكثر ما رجع وحضر الأخوَان رحباني عاصي ومنصور وهذا يبدع في نغمة وذاك يُبدع في كلمة، والعكس صحيح. ويشهد رفيق خوري الذي كان صديقاً لهما أنّ حركيّة عاصي كبيرة، مع التأكيد في آن أنّه يرفض إجراء تفاضل بين الأخوين، فهما كلاهما ذروة. وتسطع أضواء في مسرح التاريخ على سعيد فريحة ومجالسه الليليّة التي لا شأن لها بالنهارات ومتاعبها وهمومها ومشاقّها وعنتها، ويحضر هذه المجالس كلّ من محمّد عبد الوهاب وفريد الأطرش الذي يُبدي الأستاذ خوري عاطفةً خاصّةً نحوه ووديع الصافي وأمّ كلثوم. وأعرف ولأوّل مرّة أيضاً أنّ سعيد فريحة الكاتب لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة، وأنّه تعلّمهما بعد شقاء. وتحضر جريدة النهار ومعها الأستاذ غسّان تويني. وتحضر نزاعات مجلّة شعر، التي كانت منفتحة، وخلافاتها مع مجلّة الآداب التي كانت ملتزمة. ويحضر أدونيس وسهيل إدريس وخليل حاوي.
وتسأل السيّدة سعاد عن حقيقة سبب إنتحار الشاعر خليل حاوي؟. وأصختُ. فالصديق الشاعر شفيق عطايا، وهو إبن عمّة الشاعر حاوي، سبق وحدّثني في لقاء عن الساعات الأخيرة في حياة حاوي، فهل سيتطابق جواب رفيق خوري في رحيل خليل حاوي الشاعر المثقّف كاتب دراسة قيّمة عن جبران خليل جبران وخرّيج جامعة كامبريدج مع ما سمعته من شفيق عطايا الذي قال أنّ سقوط بيروت في اجتياح 82 في قبضة الإسرائيلي لم يقبله عقل خليل حاوي؟. ورفيق خوري أضاف بالتساؤل: هل الأزمة العاطفيّة التي كان يمرّ بها خليل حاوي لها حصّة في انتحاره؟ وهل شعور حاوي، الذي كان يدعو الله أن يلهمه الصمت في الوقت المناسب بأنّه أعطى وليس عنده بعدُ له حصّة في انتحاره؟. ويعود خوري إلى الحديث عن اجتياح 1982 بإشارة ذات دلالة على رجحان في كفّة الإنتحار.
وتقول السيّدة سعاد أنّ رفيق خوري الشاعر الذي كتب عنه مرّتين الشاعر سعيد عقل وأصدر ثلاث مجموعات شعريّة منها "الزنبق والدم" و"غابة الحجارة" لم يستمرّ في رحلته الشعريّة الواعدة، وبالتالي فإنّه قصّر دون أمل سعيد عقل به. ويعترف خوري بشفافيّةٍ لوّنتْ كلَّ حلقة "من تاريخهم" ويسرد الأقدار التي شكّلت حياته ورمته إلى السياسة من طريق عالم الصحافة. ويذكر كيف كان يعمل سبعة أيّام في الأسبوع، ويوميّاً إلى الخامسة فجراً، وكم كان حجم المسؤوليّة، مثالاً لا حصراً، في نهار غسّان تويني. ويروي كيف في البدء كان يُطعّم مقالته السياسيّة بروحه الأدبيّة، مع تأكيد وبعد سؤال أنّ الصحافي عندما يكتب مقالة لا بدّ أن ينحاز، وهو يفعل ذلك ولكن بعلميّة لا بعصبيّة. ويرجع خوري ليقول أنّه نادم لجعلِ السياسي فيه ينفي الشاعر فيه، لذلك فإنّ آخر إصدار شعري له كان في أوائل الستينات من القرن الفائت، وينصح الآن الشعراء الشباب بألاّ يكرّروا خطأه. ولم تسأله السيّدة سعاد تفسيراً، وهو بدوره لم يتوسّع، ولم نسمع ماذا يعني السياسي وماذا يعني الشاعر؟ ولماذا بين السياسي والشاعر يقع إختيار خوري على الشاعر؟. وطبعاً ليس كلّ شيء يكون في حوار واحد. وتسأله السيّدة سعاد إذا كان الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل إليه في أحايين؟. ويبتسم رفيق خوري ويقرّر أنّ الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل مرّات وهو سجّلَ تلك المرّات على مدى العقود الأربعة الفائتة وسيصدرها في كتاب قريباً.
وتحضر الثقافة من خلال الإقرار أن الآخر موجود والتفاعل هو في الأقداس. وتحضر المدينة في الدول النامية أو دول العالم الثالث وكيف أنّها ليست مدينة بل هي ريف، وكيف أنّ المدينةَ الإنسانُ فيها هو ذاته، وبالتالي هو مواطن تربطه بالآخر رابطة المواطنة، فيما الريف الرابط فيه الدينُ أو المذهب أو العائلة، والمختلف هو في الطرف الآخر، مع كلّ ما يعنيه أن يكون المرء في الطرف الآخر. ويجزم رفيق خوري أن المدينة العربيّة فاقدة للجوهر. وبالتفاتة فيها نظر ومؤثّرة في آن يقول رفيق خوري بعد أن يستعرض أسماء في الخلق الإبداعي لها مكانتها أنّ لبنان منظور إليه من الأحداث الجسام التي تلاطمت فيه منذ القرن التاسع عشر هو بلد مؤسف (لم يلفظ خوري كلمة مؤسف إنّما وحْياً بحركة من يده وهزّة من رأسه) أمّا لبنان منظوراً إليه من الفن والمسرح والشعر والمجالات الإبداعيّة الأخرى من دون نسيان الإعلام والصحافة فيستحق الإنتماء إليه بالإختيار، وبالمعنى العميق للكلمة. والأملُ هو قوس قزح الحياة.
Shawki1@optusnet.com.au
الحوار هو مع رئيس تحرير جريدة الأنوار الأستاذ رفيق خوري. والمحاوِرة وجهها مألوف وصوتها مألوف. لم أعرف إلاّ في آخر الحلقة التلفزيونيّة أنّها الإعلاميّة المخضرمة سعاد قاروط العشّي. وأنا بدوري تركتُ لبنان منذ ثلاثة عقود. ومياه كثيرة عبرت تحت الجسر، حتى قيل أنّي إذا رجعتُ إلى لبنان لن أعرف محلّة فيه، هذا في العمران، أمّا في الإنسان فحدّث ولا حرج.
الصديق والخصم معاً يستمعان وبالإستعداد ذاته لأي حوار سياسي يكون مع رفيق خوري، وليس هنا مجال الشرح، ولكنّي سمعتُ السيّدة سعاد تقول أنّنا سنقضي تسعين دقيقة مع رفيق خوري، وليس مع رفيق خوري الصحافي والسياسي، بل مع رفيق خوري الشاعر. و"نزْلة البرد" متمكّنة منّي. وأتنفّس من فمي. وعندي "كتابة" مستعجلة يجب أن أنجزها، ومحتار: هل أُنجِز عملي الكتابي أم أنام وأرتاح؟. والسيّدة سعاد منعتْ عنّي حيرتي. وصرّحتْ بما صرّحتْ. وقلتُ لذاتي: "نحن مدعوّان يا ذاتي إلى حلقة سيكون لها نكهة، المعلومة هي أنّ رفيق خوري شاعر وله باع في الشعر وسبق وغنّت له السيّدة فيروز".
وأنا عموماً مثلما أجد طرافة في أن يتحدّث الشاعر بالسياسة أجد طرافة في أن يتحدّث السياسي بالشعر. وقلتُ لذاتي: "لقد قرّرت ألاّ أكتب وألاّ أنام وأن أحتمل "نزلة البرد" وأن ألبّي الدعوة". وتململتْ ذاتي وقالت: "قرارك يعني أنّك ستحتاج إلى التركيز". وعاجلتُها بالمقاطعة وقلتُ لها: "شأني! وأنتِ ارتاحي".
ورجع التاريخ إلى الخمسينات والستينات من القرن الفائت أكثر ما رجع وحضر الأخوَان رحباني عاصي ومنصور وهذا يبدع في نغمة وذاك يُبدع في كلمة، والعكس صحيح. ويشهد رفيق خوري الذي كان صديقاً لهما أنّ حركيّة عاصي كبيرة، مع التأكيد في آن أنّه يرفض إجراء تفاضل بين الأخوين، فهما كلاهما ذروة. وتسطع أضواء في مسرح التاريخ على سعيد فريحة ومجالسه الليليّة التي لا شأن لها بالنهارات ومتاعبها وهمومها ومشاقّها وعنتها، ويحضر هذه المجالس كلّ من محمّد عبد الوهاب وفريد الأطرش الذي يُبدي الأستاذ خوري عاطفةً خاصّةً نحوه ووديع الصافي وأمّ كلثوم. وأعرف ولأوّل مرّة أيضاً أنّ سعيد فريحة الكاتب لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة، وأنّه تعلّمهما بعد شقاء. وتحضر جريدة النهار ومعها الأستاذ غسّان تويني. وتحضر نزاعات مجلّة شعر، التي كانت منفتحة، وخلافاتها مع مجلّة الآداب التي كانت ملتزمة. ويحضر أدونيس وسهيل إدريس وخليل حاوي.
وتسأل السيّدة سعاد عن حقيقة سبب إنتحار الشاعر خليل حاوي؟. وأصختُ. فالصديق الشاعر شفيق عطايا، وهو إبن عمّة الشاعر حاوي، سبق وحدّثني في لقاء عن الساعات الأخيرة في حياة حاوي، فهل سيتطابق جواب رفيق خوري في رحيل خليل حاوي الشاعر المثقّف كاتب دراسة قيّمة عن جبران خليل جبران وخرّيج جامعة كامبريدج مع ما سمعته من شفيق عطايا الذي قال أنّ سقوط بيروت في اجتياح 82 في قبضة الإسرائيلي لم يقبله عقل خليل حاوي؟. ورفيق خوري أضاف بالتساؤل: هل الأزمة العاطفيّة التي كان يمرّ بها خليل حاوي لها حصّة في انتحاره؟ وهل شعور حاوي، الذي كان يدعو الله أن يلهمه الصمت في الوقت المناسب بأنّه أعطى وليس عنده بعدُ له حصّة في انتحاره؟. ويعود خوري إلى الحديث عن اجتياح 1982 بإشارة ذات دلالة على رجحان في كفّة الإنتحار.
وتقول السيّدة سعاد أنّ رفيق خوري الشاعر الذي كتب عنه مرّتين الشاعر سعيد عقل وأصدر ثلاث مجموعات شعريّة منها "الزنبق والدم" و"غابة الحجارة" لم يستمرّ في رحلته الشعريّة الواعدة، وبالتالي فإنّه قصّر دون أمل سعيد عقل به. ويعترف خوري بشفافيّةٍ لوّنتْ كلَّ حلقة "من تاريخهم" ويسرد الأقدار التي شكّلت حياته ورمته إلى السياسة من طريق عالم الصحافة. ويذكر كيف كان يعمل سبعة أيّام في الأسبوع، ويوميّاً إلى الخامسة فجراً، وكم كان حجم المسؤوليّة، مثالاً لا حصراً، في نهار غسّان تويني. ويروي كيف في البدء كان يُطعّم مقالته السياسيّة بروحه الأدبيّة، مع تأكيد وبعد سؤال أنّ الصحافي عندما يكتب مقالة لا بدّ أن ينحاز، وهو يفعل ذلك ولكن بعلميّة لا بعصبيّة. ويرجع خوري ليقول أنّه نادم لجعلِ السياسي فيه ينفي الشاعر فيه، لذلك فإنّ آخر إصدار شعري له كان في أوائل الستينات من القرن الفائت، وينصح الآن الشعراء الشباب بألاّ يكرّروا خطأه. ولم تسأله السيّدة سعاد تفسيراً، وهو بدوره لم يتوسّع، ولم نسمع ماذا يعني السياسي وماذا يعني الشاعر؟ ولماذا بين السياسي والشاعر يقع إختيار خوري على الشاعر؟. وطبعاً ليس كلّ شيء يكون في حوار واحد. وتسأله السيّدة سعاد إذا كان الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل إليه في أحايين؟. ويبتسم رفيق خوري ويقرّر أنّ الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل مرّات وهو سجّلَ تلك المرّات على مدى العقود الأربعة الفائتة وسيصدرها في كتاب قريباً.
وتحضر الثقافة من خلال الإقرار أن الآخر موجود والتفاعل هو في الأقداس. وتحضر المدينة في الدول النامية أو دول العالم الثالث وكيف أنّها ليست مدينة بل هي ريف، وكيف أنّ المدينةَ الإنسانُ فيها هو ذاته، وبالتالي هو مواطن تربطه بالآخر رابطة المواطنة، فيما الريف الرابط فيه الدينُ أو المذهب أو العائلة، والمختلف هو في الطرف الآخر، مع كلّ ما يعنيه أن يكون المرء في الطرف الآخر. ويجزم رفيق خوري أن المدينة العربيّة فاقدة للجوهر. وبالتفاتة فيها نظر ومؤثّرة في آن يقول رفيق خوري بعد أن يستعرض أسماء في الخلق الإبداعي لها مكانتها أنّ لبنان منظور إليه من الأحداث الجسام التي تلاطمت فيه منذ القرن التاسع عشر هو بلد مؤسف (لم يلفظ خوري كلمة مؤسف إنّما وحْياً بحركة من يده وهزّة من رأسه) أمّا لبنان منظوراً إليه من الفن والمسرح والشعر والمجالات الإبداعيّة الأخرى من دون نسيان الإعلام والصحافة فيستحق الإنتماء إليه بالإختيار، وبالمعنى العميق للكلمة. والأملُ هو قوس قزح الحياة.
Shawki1@optusnet.com.au
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق