د. صلاح عودة الله
"اصعد فموطنك السماء"..! ناجي العلي لقد نجوت بقدرة / مـــن عـارنـا، وعـلـوت لـلعـلياء/ إصـعد؛ فــمـوطنـك السماء؛ وخلنا/ فــي الأرض إن الأرض لـلــجـبناء"!" الشاعر أحمد مطر". انه أحد أيام الأسبوع ..انه يوم مشؤوم .. انه يوم الأربعاء الواقع في 22 تموزعام 1987 وأمام منزله في أحد أحياء لندن قامت يد الغدر الجبانة باطلاق النار على ناجي العلي فأصابته إصابة مباشرة في وجهه، نقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية يوم 29 آب من نفس العام. تمر الأيام والسنين كأنها دقائق معدودات، حافلة بأحداث كثيرة، تمر علينا كنسيم البحر هادئا لا نشعر أحيانا بمروره، وتحمل في طياتها الحزن إلى قلوبنا..تعج بأحداث كثيرة أثرت وما زالت تؤثر في نفوسنا..نقف لحظة لنسترجع ونستعرض شريط أحداثنا..أحداث الماضي..نلف هذا الشريط الطويل، ونعود بعجلة الزمن حتى نصل إلى عام 1987 وفي التحديد إلى 22 تموز عام 1987..انه التاريخ الذي طبع في قلب كل إنسان عربي، وأصبح ذكرى سنوية لفنان فلسطيني عربي يدعى: ناجي العلي..الفنان الذي تمسك بإبداعاته وإنجازاته..وأصبح علماً يرفرف في السماء من وراء هذه الإنجازات التي أكسبته شهرةً وصيتاً لامعاًُ..الشخص الذي تحدث وما يزال يتحدث عنه الصغير قبل الكبير..كيف لا وذكراه ما زالت عالقة في القلوب والعقول..! ولد الشهيد عام 1937 في قرية الشجرة الفلسطينية قرب طبريا التي احتلت بعد معارك عنيفة ودامية سقط فيها اكثر من ألف شهيد معظمهم من جيش الإنقاذ وكان معهم أيضا الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود صاحب الأبيات الشهيرة: سأحمل روحي على راحتي **وألقي بها في مهاوي الردى..فإما حياة تسر الصديق**واما ممات يغيظ العدى..! على نهج هذه الأبيات ووهجها الحار والمضيء عاش ناجي حياته واختار رسالته وعنوانها الواضح، بعدما نزح مع عائلته إلى لبنان حيث عاش طفولته في مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا الساحلية في جنوب لبنان، وعمل في مهن عدة قبل ان يصبح بعد فترة وجيزة أحد أهم الأعمدة الأساسية للصحافة الحرة والمستقلة في الوطن العربي الكبير. انني أرى نفسي عاجزا عن الكتابة عن هذا الانسان, بل الأسطورة, فليس من السهل اتخاذ قرار الكتابة عن شخصية كشخصية ناجى العلى, الفنان الذى حول فرشاة رسمه إلى مدفع رشاش، وقطرات الوانه الذي كان يستعملها إلى رصاصات لم تعرفها الحضارة من قبل..لم يكن من السهل الكتابة عن الفنان الذى رسم انكساراتنا وإن كثرت وانتصاراتنا وإن قلت. كغيره من أبناء فلسطين نشأ ناجى العلى فى الشتات بعيداً عن الأرض التى شهدت أولى لمساته والسماء التى زفر فيها أول أنفاسه..كانت آلام الغربة رفيقه الأول لكنها لم تتمكن من محو أحلامه التى لم تكتمل، ولا رؤيته التى تكونت تحت شمس مخيم اللاجئين، فخرج من بين هذه الحطام عملاقاً لم يعهده هذا العصر الذى ظن أن القوة فى السلاح وحده؛ عملاقاً قام بارباك أعتى الرجال والمؤسسات بسلاح واحد فقط فى يده فتاك يصيب أهدافه بدقة وسهولة وقوة وهو قلم وريشة ناجى العلى. لقد وصف "شارلي شابلن" كيف ظل لفترة طويلة يتخير ملابس شخصية المواطن الصغير ، وكيف بحث طويلا ليجد تلك الجاكيتة الفضفاضة ، والسروال الضيق ، والحذاء بمقدمته العريضة..ناجي العلي استطاع أن يجد لحنظلة ما يميزه كشخصية فنية لكي تتجاوز تلك الشخصية حدود الطفل الفلسطيني وحده وتصبح رمزا عالميا للطفولة التي تتشرد في الدنيا..خلق ناجي العلي شخصية حنظلة دون وجه ، ظهره للعالم.. نحن لا نرى وجهه ، ولا دموعه ، ولا غضبه ، لكننا نحبه ونشفق عليه إلي درجة قد تفوق محبتنا لأطفالنا وإشفاقنا عليهم..ويذكرني ذلك بما قام به المخرج فيكتور فلمنج في فيلم " ذهب مع الريح " عن رواية مارجريت ميتشيل..في هذا الفيلم الذي ظهر عام 1939 تحل على البطل"رد باتلور" كارثة وفاة طفلته الوحيدة.. والمألوف في هذه الحالات أن يرينا المخرج دموع الأب وعلامات الحزن القاتل على ملامحه..لكن المخرج على العكس من ذلك اعتبر أن أفضل وسيلة لنقل الأحزان لن تكون بإظهار وجه الوالد ، بل بإخفاء ذلك الوجه تماما..هكذا ما أن تموت الطفلة في الفيلم حتى يندفع الأب إلي غرفة منعزلة فلا نراه ولا نشاهد وجهه..نحن لا نرى وجهه، ولهذا تحديدا ينطلق خيالنا دون قيد لتصور مدى معاناة الوالد..إنه تخيل مفتوح بلا نهاية..! ووجه لا تشاهده- وتعلم أن صاحبه معذب- أقوى تأثيرا من أية دموع حقيقية تراها أمامك..هكذا أيضا خلق ناجي العلي شخصية حنظلة الصغير: متبرما، لا يثق في أحد ، ويعلم أن الدنيا كلها ظلمته ، ولا يحول قلبه عن فلسطين..خلق ناجي العلي حنظلة بلا وجه لكي يتخيل كل منا عذابه إلي المدى الذي يسمح به خياله, والخيال هنا لاحدود له وهذا ماراده فناننا الراحل.
وعن حنظلة يقول ناجي العلي: قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية.. قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه اصبح له أفق قومي ثم أفق كونيّ وإنساني..أما عن سبب إدارة ظهره للقراء، فتلك قصة تروي في المراحل الأولى رسمته ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس وكان يحمل الكلاشينكوف وكان أيضا دائم الحركة وفاعلا وله دور حقيقي..يناقش باللغة العربية والإنكليزية بل أكثر من ذلك ، فقد كان يلعب الكاراتيه..يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة..لم أسع من خلاله للتميز..فهو في العاشرة وسيظل في العاشرة حتى يعود الوطن ، عندها فقط يكبر حنظلة و يبدأ في النمو وكان يقول عنه أيضاً " هذا المخلوق الصغير الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد و ربما لا أبالغ إن قلت أنني سأستمر به بعد موتي". كان "حنظلة" طفل ناجى العلى الذى اختصر فيه طفولة فلسطين المشردة بين المخيمات؛ شاهداً على كل ما رسم وكل ما نشر يشارك مرة بإلقاء الحجارة ومرة يكتفى أن يكون متفرجاً وحسب، ظل "حنظلة" الرمز الذى تركه ناجى العلى ورائه لا يموت أبداً شاهداً على ما يجرى حتى الآن.
ولكن ما هي اسباب وأسرار نجاح ناجي العلي: لأنه كان مواكباً للمتغيرات المحيطة به كافة السياسية والاجتماعية وكان يتأثربها ويؤثر فيها، والفنان العلي ليس الاكثر شهرة وهذا انتقاص له لأنه ما زال حياً من خلال رسومه على الرغم من مضي هذه السنوات كلها فما زال حنظلة الى اليوم يسير في الشارع وهو يحدث الناس..كثير من المشاهير ساهمت وسائل الاعلام فيها وغذوها، أما ناجي العلي فرسومه هي التي غذّته لذلك ما زال يتربع على عرش الشهرة الى اليوم، والمقصود بالشهرة ليست الشهرة الاستعراضية بل هي الحاجة الى الناس ولأن اعماله حاضرة بيننا وتمس الناس، ما رسمه ناجي العلي منذ عشرين سنة ما زال صالحاً للنشر في هذه الأيام، وكأنه كان يستشف للمستقبل لأنه كان يرسم للأدب وليس رسماً آنياً. لا يتأتى نجاح أي انسان من فراغ وليس هو من قبيل المصادفة أو ضربة الحظ، وانما أسباب النجاح كامنة في شخصية الفرد وتربيته وقدرته على المثابرة والجلد، فضلاً عن المعرفة والموهبة والايمان بما يقوم به, وناجي العلي واحد من هؤلاء الناجحين ولا شك في ان الموضوعات التي تناولها في رسوماته الكاريكاتيرية قد لفتت اليها الانظار فهو رسام فلسطيني ومن الطبيعي ان يلتفت الى معاناة شعبه في الداخل والخارج. ان السؤال هو ليس سر نجاح ناجي العلي الى اليوم، بل بقاء سر نجاح العلي الى اليوم، هذا البقاء يعود الى جذور ناجي الضاربة في الأرض والانتماء.. قطف ناجي العلي غيلة لم يقض على جذوره..وكل يوم تخلف الجذور فروعاً جديدة..إن اعتماد ناجي العلي على الرسم الذي يبقى..هو سر بقاء ذلك العمل..العمل الذي رسمه ليس لحدث آني يسقط بمروره، ناجي نجح حيث غيره لم ينجح باقترابه الأكثر من انتمائه ومن جذوره..في وقت معظم ما يرسم فيه هو لارضاء الآخرين..! قليلة هي المرات التي تمّ فيها اعدام فنان حتى في اعتى الديكتاتوريات•..اعدمت لوحات واعدمت كتب وأعدمت بطبيعة الحال مسرحيات لكن الفنانين والكتاب والمسرحيين غالباً ما عزلوا وكفّت ايديهم وصودرت أعمالهم او حجزت في جواريرهم.. اما القتل فلا، اذ ان قتل فنان اشبه بقتل عصفور..انه قتل للموسيقى الضعيفة التي لا تهدد احداً..!
هناك دائماً طريقة لتجنب قتل فنان..وهناك دائماً وسيلة لإسكات فنان من دون قتله..لم يسأل الطاغية الذي ارسل قاتل ناجي عما اذا كان ناجي رساماً كبيراً فالعلي ليس مغموراً ولا نكرة.. انه اشهر فنان فلسطيني وهو من كبار رسامي الكاريكاتور ثم انه من الفنانين النادرين الذين يتاح لهم ان يغروا ضمير شعب وان تتكلم اعمالهم بلسان شعب..فلأمرٍ ما كانت كاريكاتورات ناجي العلي مطابقة لوجدان عام ولأمر ما بدت هذه الكاريكاتورات اكثر من رسوم وافكار.انه لا شك ان من ارسل قاتل ناجي العلي كان على درجة من الغلظة والجهل وفساد الذوق بحيث اجاز لنفسه ان يعدم فناناً في وزن العلي واسمه..لا شك انه على درجة من قلة التدبر بحيث رضي لنفسه ان يقتل ريشة.. ولم يعلم ان دمغة كهذه لن تزول وقد ينسى له الناس اخطاء كثيرة لكن ذبح ريشة امر لا يغتفر..! ناجي العلي..حالة جسدت وجمعت مآسي المواطن العربي كلها..القهر، الذل، الهزيمة، التحدي، الانتصار، والاستمرار، الحزن، الفرح...ناجي العلي..حمل هموم المواطن العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، وكان صدق الانتماء هويته..والإيمان بقضيته جواز مرور الى دول العالم، هو معركة بحد ذاتها خاضها وحنظلة في وجه كل مستبد وهي المعركة التي استشهد وضحى بروحه فيها..ناجي العلي..يبقى المعجزة التي حركت الشعور والذات العربي حيث لا يجد مفراً من الانتفاض ورفض الظلم والقهر..هو الصامت الذي بلغ صمته من خلال رسوماته بلاغة زلزلت الكيان الصهيوني وهز المجتمع العربي والفلسطيني, لذلك كانت ريشته المتحدثة دوماً مستهدفة كما استهدف هو، لهذا لا يوجد فنان يستطيع ان يحل محله..أو يأخذ مكانه ومقعده لأنه هو من فصّل هذا المقعد وأخذه معه..لأنه من خلال رسوماته وأفكاره وصل الى بقاع العالم وبقي حياًً الى يومنا هذا. كان اغتيال ناجى العلى عصرصفعة قوية على وجه الحضارة التى لم تستطع حماية أحد أبنائها، حين تم التعامل مع الفنان المناضل بأسلوب القتلة؛ كما أثبت حادث اغتياله أنه أحياناً للكلمة وللخط المرسوم وقع أقوى من طلقات الرصاص الذى أزهق روح فنانا. رثى الكثير من الشعراء ناجى العلى ونددوا بجريمة قتله الغادرة ومن أقوى المقاطع التى قيلت فى هذا وأشدها تأثيراً قصيدة شاعر العامية المصرى عبد الرحمن الأبنودى التى رثى بها العلى فى ديوانه"الموت على الأسفلت":أمايه..وانت بترحى بالرحا..على مفارق ضحا..وحدك وبتعددى..على كل حاجه حلوه مفقوده..ما تنسينيش يا أما فى عدودة..عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن..لا تولولى فيها ولا تهلهلى..وحطى فيها اسم واحد مات..كان صاحبى يا أما..واسمه, ناجى العلي..! "احذروا ناجي، فإن الكرة الأرضية عنده صليب دائري الشكل، والكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم، إنه لا يأخذ المخيم إلى العالم، ولكنه يأسر العالم في مخيم فلسطيني ليضيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره؟ ناجي لا يقول ذلك. ناجي يقطر، يدمر، ويفجر، لا ينتقم بقدر ما يشك، ودائما يتصبب أعداء"..الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.
"انه الظاهرة الأكثر سخونة وإرباكا في فن الكاريكاتير العربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وانه خرج من دائرة الانتماء الوطني إلى دائرة الانتماء القومي، فالإنساني الكوني"..الشاعر الفلسطيني البارز سميح القاسم. غاب عنا ناجي العلي، لكن ريشته لم تسقط وبقي حنظلة المقهور يصرخ ويصرخ واقفاً عاقداً يديه خلف ظهره شاهداً منتظراً، مواجهاً الهزيمة..لن نبكي موت ناجي لأن الرصاص لن يكسر القلم النقي الطاهر..وكالعادة وكما قال الراحل نزار قباني:"يا وطني,كل العصافير لها منازل, الا العصافير التي تحترف الحرية,فانها تموت خارج اوطانها"..وصدقت يا شهيدنا ناجي بقولك: "اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي"..! وأخيراً, يبقى ناجي العلي الفنان الاسطورة والعبقري لأن رسومه كانت بسيطة غير معقدة ومفهومة من قبل الجميع، لأنه رسم للناس البسطاء والفقراء لذلك استطاع أن يصل الى قلوب الناس وكثير من الفنانين اعجبوا بأعماله وتأثروا بها، وفي كل يوم يكتشفون في رسومه شيئاً جديداً..ناجي العلي كالشمس التي تشرق كل يوم..شمس الابداع ..شمس الحقيقة..شمس الفن المتألق..!
-القدس المحتلة
الجمعة، أغسطس 29، 2008
في ذكرى استشهاد ناجي العلي.. وصمود حنظلة
الأحد، أغسطس 10، 2008
وترجل شاعر المقاومة الفلسطينية
د. صلاح عودة الله
يا وطنى : كل العصافير لها منازل,الا العصافير التى تحترف الحريه..فهى تموت خارج الأوطان..!الشاعر الراحل نزار قبانى.
رحل عنا يوم أمس السبت التاسع من اب 2008 الشاعرالفلسطيني العظيم محمود درويش وكان قد خضع صباح الأربعاء 6 آب الجاري، لعملية قلب مفتوح، تضمنت إصلاح ما يقارب 26 سنتمتراً من الشريان الأبهر"الأورطي"، الذي كان قد تعرّض لتوسّع شــــديد"انيفريزما بالمصطلح الطبي" تــــجاوز درجة الأمان الطبيــــعية المقبــــولة طبياً. وقام بها الجرّاح العراقي الأصل حازم صافي، الذي يعتبر اليوم أحد أمهر الجرّاحين في هذا المضمار.
وجدير بالذكر أنّ الشاعر سبق له أن أجرى عمليتين في القلب، سنة 1984 و1998، وكانت العملية الأخيرة وراء ولادة قصيدته المطوّلة "جدارية"، وفيها يقول: هزمتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين. مسلّة المصريّ، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد. هزمتك وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك الخلودُ فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسك ما تريدُ..!
لقد بكاه الشعب الفلسطيني وبكافة اطيافه بل كل الشعوب العربية من المحيط الى الخليج, كيف لا فهو ابن فلسطين الغالي..فلسطين الذي أحبها ودافع عنها وهو شاعر مقاومتها الأول..! ومن اخر قصائده "سيناريو جاهز":
لنفترضِ الآن أَنَّا سقطنا..أَنا والعَدُوُّ ،سقطنا من الجوِّ..في حُفْرة فماذا سيحدثُ ؟سيناريو جاهزٌ:في البداية ننتظرُ الحظَّ..قد يعثُرُ المنقذونَ علينا هنا..ويمدّونَ حَبْلَ النجاة لنا..فيقول : أَنا أَوَّلاً,وأَقول : أَنا أَوَّلاً..وَيشتُمني ثم أَشتمُهُ,دون جدوى ،فلم يصل الحَبْلُ بعد, يقول السيناريو:سأهمس في السرّ..تلك تُسَمَّي أَنانيَّةَ المتفائل..دون التساؤل عمَّا يقول عَدُوِّي,أَنا وَهُوَ ،شريكان في شَرَك ٍ واحد وشريكان في لعبة الاحتمالات..ننتظر الحبلَ ... حَبْلَ النجاة..لنمضي على حِدَة وعلى حافة الحفرة ِ - الهاوية, إلى ما تبقَّى لنا من حياة وحرب, إذا ما استطعنا النجاة..
ثم يختتمها قائلا:
ومع الوقت ِ ، والوقتُ رَمْلٌ ورغوة ُ صابونة..كسر الصمتَ ما بيننا والمللْ..قال لي : ما العملْ؟قلت : لا شيء ... نستنزف الاحتمالات..قال : من أَين يأتي الأملْ ؟قلت : يأتي من الجوّ..قال : أَلم تَنْسَ أَني دَفَنْتكَ في حفرة مثل هذي ؟فقلت له : كِدْتُ أَنسى لأنَّ غداً خُـلَّبـاً..شدَّني من يدي ... ومضى متعباً..قال لي : هل تُفَاوضني الآن ؟قلت : على أَيّ شيء تفاوضني الآن في هذه الحفرةِ القبر ِ ؟
قال : على حصَّتي وعلى حصّتك.. من سُدَانا ومن قبرنا المشتركْ..قلت : ما الفائدة ْ ؟هرب الوقتُ منّا..وشذَّ المصيرُ عن القاعدة..ههنا قاتلٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة..وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو..إلى آخره..! كان محمود درويش وسيبقى الناطق الرسمي وبلا منازع باسم الشعب الفلسطيني... ناطق رسمي عبر عن صوت الشعب من خلال آلة الشعر التي عز نظيرها ، فحمل على أجنحة كلماته أعظم المعاني والعواطف حتى جاءت قصائده انعكاسا لسيرته الشخصية المعذبة على مرآة مجمل القضية الفلسطينية ، فأصبحت الوقود المحرك لمقاومة الشعب ضد من اغتصب الأرض وشرد الأهل واعتدى على الهوية
لقد كان حلمه الذي أرقه في الفترة الأخيرة من حياته تجاوز الأزمة الحالية في فلسطين، وإعادة اللحمة إلى صفوفه... لكنه مضى إلى الله قبل أن يتحقق أمله... إلا أن أملنا كبير في أن يصون شعب المقاومة موروث محمود درويش، حتى تتحقق الآمال في الحرية والاستقلال والعودة. لقد كان الشاعر محمود درويش أفضل من رسم صورة فلسطين الجميلة عن طريق الكلمات الشعرية , العالم العربي يقف صامت أمام هذا المصاب الاليم , هذا الشاعر الكبير عشق قضيته وعشقه الناس , شاعر أبى قلمة مفارقة أوراقه حتى اللحظة الأخيرة لعشقه للكلمات النادرة لشاعر نادر الوجود.
شاعر لم ولن يمت ما دامت أشعاره يرددها كل عربي كبير كان أم صغير, أشعاره أصبحت وستبقى تراث ثقافي وطني باق الى الابد. وهذا مقطع من نثرية محمود درويش في يوم رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد أوائل تموزعام 1994 "آخر أصوات العاصفة":
في انطفاء توفيق زياد المفاجئ ينطفئ آخر أصوات العاصفة..الغبار يعانق الغبار والشيء يشبه الشيء ولا مطر على المشهد..بيد أن هذا المسافر، أمس، كانت طلائع عالمه القديم قد سافرت من قبل، وبقي هو حيث شاءت لغته... قابضا على شبكة الأعصاب التي تربط الفكرة بحاملها..كم كان يتمزق أكثر، كلما رأيته أكثر..!
ثم ينهيها قائلا:هو العلامة الشاهقة على شمولية الواجب، وعلى وحدة المستويات المنسجمة في ذات الفرد..وهو أحد أسماء الجليل العالي، العالي إلى ما لا نهاية..وفيه، أكثر مما في سواه، التموج الهادئ والعاصف بين صلابة الفرفحينة وبين سيولة الرخام..فإلى من أشير بعد الآن؟ومع من أضحك حتى آخر الشارع؟
مع من أكسر نظام الزجاج؟مع من أستعيد الحكاية؟ولمن أتهيأ للزيارة هنا، أو هناك؟آن لي ان أعرف، وأن لي أن أعترف بأن أشياء كثيرة تموت فيّ، تموت فيّ على مهل على مهل، في أوج هذا الفراغ..ولم يعد للعاصفة صوت..!
إن الكنز الأدبي والثوري الذي تركه درويش، سيبقى منارة لكل الثائرين من أجل الحرية، في حركة التحرر الفلسطينية وحركات التحرر العالمية، وستظل شاهدا ماسيا، على إنسان، ما وطأ أرضا قفراء إلا وأخصبها بأدبه الإنساني. كتب شاعرنا عن المطر والشجر، وكتب عن الحب والغضب والصبر، كما كتب وغنى لمن أعطاه عمره ونبض قلبه الذي استكان أخيراً ليقدم ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة التي نشرها شعراً ونثراً في ربوع وطنه وفي شغاف القلوب التي تبكيه الآن وتشتاق لتعويذاته، وعلى هضاب فلسطين وبين سهولها ووديانها تجيبك أصداء نغم حزين يردد تلك القصائد والأشعار التي غناها راحلنا الحبيب. لم تكن أعوامه السبعة والستين كافية لتعطينا كل ما يملكه الرجل ولا كان لمثلها تضاف إليه قادرة على استبطان ذلك العمق في المعنى وربما في المبنى لعطاء مدهش ومثير للقلق كما الثورة والغضب والحب وكل ما يمكن أن تصدره النفس البشرية.
غادرنا درويش وهو ما يزال متشبثا بحق العودة, فنقرأ له من قصيدته"لماذا تركت الحصان وحيدا"..؟: إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي..وهما يخرجان من السهل ، حيث أقام جنود بونابرت تلاً لرصد الظلال على سور عكا القديم ـيقول أبٌ لابنه: لا تخف.. لا تخفْ من أزيز الرصاص..! التصقْ بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على جبل في الشمال,ونرجع حينَ يعود الجنود إلى أهلهم في البعيدِ.. ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي ؟ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي..!
تحسس مفتاحه مثلما يتحسس..أعضاءه ، واطمئن. وقال لهُ وهما يعبران سياجاً من الشوك: يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ أباك على شوك صبارة ليلتين،ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم..سيرة الدم فوق الحديدِ..! لماذا تركت الحصان وحيداً؟ لكي يؤنس البيت ، يا ولدي ،فالبيوت تموت إذا غاب سكانها..! جاء رحيل محمود درويش في مرحلة تاريخية هي بمثابة المنعطف المصيري والخطير في تاريخ القضية الفلسطينية، مرحلة انتقال من (وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر) إلى مرحلة أصبح فيها الوطن حقيبة والمواطنون مسافرين، كان رفضه بأن يكون الوطن حقيبة هو رفض للغربة والشتات، رفض واحتجاج على ما يلاقيه الفلسطينيون من معاناة وإذلال على الحدود والمطارات العربية، وتوق للعودة للوطن ووضع حد لحالة السفر من المنفى إلى المنفى.
يقول درويش: "عن إنسان..وضعوا على فمه السلاسل..ربطوا يديه بصخرة الموتى، وقالوا: أنت قاتل..أخذوا طعامه، والملابس، والبيارق..ورموه في زنزانة الموتى، وقالوا : أنت سارق..طردوه من كل المرافئ..أخذوا حبيبته الصغيرة،ثم قالوا: أنت لاجئ..يا دامي العينين، والكفين إن الليل زائل..لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل..! نيرون مات، ولم تمت روما بعينيها تقاتل..وحبوب سنبلةٍ تموت..ستملأ الوادي سنابل"..! محمود درويش في سطور: ولد عام 1941 في قرية البروة في الجليل، ونزح مع عائلته إلى لبنان في نكبة 1948. وعاد إلى فلسطين متخفيا ليجد قريته قد دمرت، فاستقر في قرية الجديدة شمالي غربي قريته البروة. وأتم تعليمه الابتدائي في قرية دير الأسد بالجليل، وتلقى تعليمه الثانوي في قرية كفر ياسيف.
انضم درويش إلى "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" في فلسطين الداخل، وعمل محررا ومترجما في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد التابعتين للحزب، وأصبح فيما بعد مشرفا على تحرير المجلة كما اشترك في تحرير جريدة الفجر. اعتقل أكثر من مرة من قبل السلطات الإسرائيلية منذ عام 1961 بسبب نشاطاته وأقواله السياسية، وفي عام 1972 توجه إلى موسكو ومنها إلى القاهرة وانتقل بعدها إلى لبنان حيث ترأس مركز الأبحاث الفلسطينية وشغل منصب رئيس تحرير مجلة شؤون فلسطينية، ورئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأسس مجلة الكرمل الثقافية في بيروت عام 1981 ومازال رئيسا لتحريرها حتى الآن. انتخب درويش كعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، ثم مستشارا للرئيس الراحل ياسر عرفات، وفي عام 1993 استقال من اللجنة التنفيذية احتجاجا على توقيع اتفاق أوسلو.عاد عام 1994 إلى فلسطين ليقيم في رام الله، بعد أن تنقل في عدة أماكن كبيروت والقاهرة وتونس وباريس. بدأ كتابة الشعر في المرحلة الابتدائية وعرف كأحد أدباء المقاومة، ولدرويش ما يزيد على ثلاثين ديوانا من الشعر والنثر بالإضافة إلى ثمانية كتب. وترجم شعره إلى عدة لغات، وقد أثارت قصيدته"عابرون في كلام عابر" جدلا داخل" الكنيست الاسرائيلي".
نشر درويش آخر قصائده بعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يوم 17 حزيران 2007، وقد انتقد فيها التقاتل الفلسطيني. ومن دواوينه عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون، أصدقائي لا تموتوا، عاشق من فلسطين، العصافير تموت في الجليل، مديح الظل العالي، حالة حصار، وغيرها. كما حصل على عدة جوائز منها جائزة لوتس عام 1969، جائزة البحر المتوسط عام 1980، دروع الثورة الفلسطينية عام 1981، لوحة أوروبا للشعر عام 1981، جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفياتي عام 1982، جائزة لينين في الاتحاد السوفياتي عام 1983، جائزة الأمير كلاوس (هولندا) عام 2004، جائزة العويس الثقافية مناصفة مع الشاعر السوري أدونيس عام 2004وقد أصدرت السلطة الفلسطينية في الفترة الأخيرة طابعا يحمل صورته. افتقدناك أيها المحمود درويش ... افتقدناك ونحن ننبش في قصائدك عن وطن كبير يتسع للوجودية التي بحثت عنها دوماً ولا زلت تبحث حتى توقف قلبك دون عناء في هيوستن ، وأنت تسجل لنا ثورة ووطن وقضية..افتقدناك, وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..!
-القدس المحتلة
الأحد، يوليو 06، 2008
في ذكرى رحيل الشاعر والمناضل توفيق زياد
"كفر قاسم"..الا هل اتاكم حديث الملاحم ..وذبح الاناسي ذبح البهائم..وقصة شعب تسمى..حصاد الجماجم..ومسرحها قرية اسمها..كفر قاسم"..! "واعطي نصف عمري للذي يجعل طفلا باكيا يضحك..واعطي نصفه الثاني لاحمي زهرة خضراء ان تهلك"..! الشاعر والمناضل الراحل توفيق زياد"أبو الأمين".
في اواخر سبعينيات القرن الماضي واثناء دراستي للطب العام في جامعات رومانيا, تعرفت على بعض الاخوة والأصدقاء من فلسطينيي 48(فلسطينيي الاحتلال الأول)..وقد طرح علي احدهم والذي كان من مؤيدي "الحزب الشيوعي الاسرائيلي" ان اشترك بمخيم العمل التطوعي في مدينة الناصرة وذلك اثناء العطلة الصيفية ولم اتردد وكان جوابي ايجابيا.
وفي تلك الفترة كنت اعرف المناضل الراحل توفيق زياد من خلال اشعاره ونضالاته كعضو في "الكنيست الاسرائيلي".وفي اول مخيم اشتركت فيه كان لي الشرف العظيم ان اتعرف عليه شخصيا واناقشه في كثير من القضايا السياسية.وفي اول امسية وبعد يوم شاق من الأعمال واثناء القاء كلمته الترحيبية بالمشاركين في المخيم قام بعض المشاركين من الضفة الغربية المحتلة برفع العلم الفلسطيني وقد حاولت قوات حرس الحدود الاسرائيلية اقتحام الموقع الا ان الراحل زياد تصدى لها ومنعها من ذلك وبذلك منع حدوث كارثة..وبعدها اتم كلمته قائلا:قبل ان ترفعوا العلم الفلسطيني- الذي هو ايضا علمنا- في الناصرة والجليل وحيفا وعكا عليكم ان تقوموا بانزال العلم الاسرائيلي المرفوع في الخليل ورام الله ونابلس وبعدها نحن معكم وسنقوم بما قمتم به الان...وفي اليوم التالي طالب بعض اعضاء الكنيست الاسرائيلي برفع الحصانة البرلمانية عن زياد لتقديمه للمحاكمة بنهمة خيانة الدولة والتحريض على المقاومة, الا ان الراحل لم يأبه لذلك واسقط هذه المطالبة..لقد كان ندا وخصما عنيدا لمن اغتصبوا ارضه وارض اباءه واجداده متمشيا مع مقولة الشهيد البطل غسان كنفاني:"لا تمت قبل ان تكون ندا"..!
المناضل الراحل في سطور: - ولد توفيق أمين زيَّاد في مدينة الناصرة في السابع من أيار عام 1929 م. - تعلم في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة ، وهناك بدأت تتبلور شخصيته السياسية وبرزت لديه موهبة الشعر ، ثم ذهب إلى موسكو ليدرس الأدب السوفييتي. - شارك طيلة السنوات التي عاشها في حياة الفلسطينيين السياسية في إسرائيل، وناضل من أجل حقوق شعبه. - شغل منصب رئيس بلدية الناصرة ثلاث فترات انتخابية (1975 - 1994)، وكان عضو كنيست في ست دورات عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومن ثم عن القائمة الجديدة للحزب الشيوعي وفيما بعد عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. - رحل توفيق زياد نتيجة حادث طرق مروع وقع في الخامس من تموز من عام 1994 وهو في طريقه لاستقبال الراحل ياسر عرفات عائداً إلى أريحا بعد اتفاقيات اوسلو.
كان الراحل شاعر الناصرة وكل فلسطين.. فلسطيني الهوية وصاحب فكر أممي لا يهادن، قاد مع رفاقه من اليساريين الفلسطينيين واليهود الحزب الشيوعي الاسرائيلي " راكاح"، وعمل في سبيل الحقوق المدنية والقومية للأقلية الفلسطينية التي شاءت الأقدار أن تتحول من أكثرية صاحبة ومالكة للأرض والوطن الى أقلية تتحكم بها قوانين عسكرية وعنصرية، صهيونية- هرتزلية. انه لمن الصدف العجاب ان تتصادف ذكرى رحيل توفيق زياد في الخامس من هذا الشهر مع ذكرى رحيل ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الإجرامية في الثاني من نفس الشهر الجاري. و مع أن الفرق كبير بين المناضل الوطني والأممي توفيق زياد وبين العراب الصهيوني ثيدور هرتزل....إلا أن الأخير نال الكثير من التكريم ليس من اليهود فقط بل أيضا من بعض الدول الأوروبية وبخاصة بعض البلديات في المدن الكبيرة والعواصم مثل باريس وفيينا وغيرهم. فبلدية فيينا كان من المفترض ان تطلق اسم هرتزل على ميدان في المدينة تكريما له في ذكرى موته وبمناسبة الأيام الثقافية للعاصمة النمساوية.... أما بلدية باريس فقد قررت إطلاق اسمه على شارع في المدينة. في الخامس من تموز 1994 وبينما كان الشاعر توفيق زياد عائدا من استقبال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لأول مرة في أريحا وعلى أرض فلسطين، حصل معه حادث طرق مميت أدى إلى وفاته على الفور. فكان ذاك اللقاء آخر حدث سياسي تركه خلفه قبل الرحيل عميقا في تربة فلسطين أرض آباءه وأجداده الأقدمين.
يُعرف توفيق زياد شاعرا وسياسيا ومهتما بالأدب الشعبي، فقد أصدر العديد من المجموعات الشعرية، وكان رئيسا لبلدية الناصرة حتى تاريخ وفاته ,وأصدر كتابا عنوانه "صور من الأدب الشعبي الفلسطيني" ومجموعة قصص فولكلورية تحت عنوان "حال الدنيا" .
وقد التفت الى شعره التفاتا ملحوظا، كما التفت الى أدبه الشعبي أيضا، وما من دراسة أدبية تناولت حركة الشعر الفلسطيني المقاوم الا وأتت على ذكره، فقد كان علما بارزا من أعلام الشعر الفلسطيني يذكر اسمه الى جانب محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين. وما من دارس للأدب الشعبي الفلسطيني الا وأتى على كتابه المذكور يسترشد به ويعتمد عليه.
بصمت مثلما تأت في كل عام، ومثلما تمر في كل صيف شديد الحرّ ومملوء بالأحزان الفلسطينية المتجددة، تأتي هذا العام ذكرى غياب الشاعر والقائد السياسي الفلسطيني توفيق زياد، الرئيس السابق لبلدية الناصرة ، وأحد أهم القادة الفلسطينيين الكبار في فلسطين الاحتلال الأول. هل هي مساوئ القدر أو مساوئ البشر ،لم نعد ندري لماذا تتمادى العواصم الأوروبية على جراح الفلسطيني ولا تحترم مأساته بل تجعل منها ملهاة للآخرين. إن تسمية الميادين والشوارع باسم هرتزل ليس سوى نسخة عن تسميتها باسم هتلر. فتكريمه يعني تكريم أمثال هتلر، ويعني تكريم الحركة الصهيونية وأفكارها العنصرية الإرهابية التي لا تختلف كثيرا عن أفكار النازية والابرتهايد سابقا. فهل نسيت الدول التي تكرم هرتزل نص القرار الدولي الذي قال حرفيا :" الصهيونية شكل من أشكال العنصرية"..؟؟ :"محرمات"
أرضي ..! أترابي..كنزي المنهوب ..! تاريخي..عظام أبي و جدي..حرمت عليَّ ، فكيف أغفر ؟؟لو أقاموا لي المشانق..لست غافر..هذي قرانا الخضر..ضحت كلها دمنا..وآثاراً عواثر..آحادها بقيت،ومازالت,تحارب بالأظافر..شدّت على أعناقها أنيابهم..تمتص من دمها كواثر..لا تحك لي .. لا تحك لي...حتى المقابر بعثرت..حتى المقابر..! توفيق زياد الذي يجب ان يكرم يبقى بلا تكريم ، فأوروبا تكرم عراب الصهيونية بينما تترك شاعرا مغنيا وعذبا مثل توفيق زياد بلا ذكرى وبلا تكريم، ولم يقتصر الأمر على أوروبا، فالدول العربية نفسها لم تكرم توفيق زياد ولم تعطه حقه. والسلطة الفلسطينية مقصرة أيضا في ذلك.لا تسامحهم يا ابا الأمين ولا تقبل أعذارهم. فأنت اكبر من كل تلك الأشياء وأنقى وأصفى من مكارم الغرباء والأقرباء، أنت شاعر الأرض و قصائدها المدوية، قصائدك التي لا تحرم أرض فلسطين مطر الثورة المستمرة ، مطر الأغاني للشاعر المرهف ، قوي النبرة والكلمة واللفظة، الذي أتحف الشعر الثوري العربي والفدائي الفلسطيني برائعة أناديكم، قصيدة الثورة والغضب والعنفوان التي قام بتلحينها وغنائها الفنان اللبناني احمد كعبور بصوته الجهوري المهيب. يا ابا الأمين: لقد تربت أجيال عربية عديدة على قصيدة أناديكم وها هي تشد على أيادي شعبك وتبوس الأرض من تحت نعال أطفال الحجارة وفتيات وشبان الأجساد المقنبلة، التي تدافع عن الأجساد العارية وبيوت الزينكو والطين أمام شراسة العسكرتاريا الصهيونية المزودة بأفضل وأحدث ما أنجبته التكنولوجيا الأمريكية المميتة. الفرق كبير بين توفيق زياد شاعر الحرية الحمراء وبين الأب الروحي للإرهاب الصهيوني وعراب التهويد والتصهين هرتزل، صاحب النظريات السوداء. فهل ترى من سيكرم شاعرنا الكبير وأحد الفلسطينيين الذين نستهم سنوات الشروخ والشموخ ؟؟، ترى من سيعيد البهاء لذكرى توفيق زياد أحد أبرز الشهداء ؟
قصيدة "أُنَادِيكُمْ"..!اناديكم..أَشدُّ عَلَى أَيَادِيكُم..أَبُوسُ الأَرْضَ تَحْتَ نِعَالِكُم..وَأَقُولُ: أَفْدِيكُم..وَأُهْدِيكُم ضِيَا عَيْنِي..وَدِفْءَ القَلْبِ أُعْطِيكُم..فَمَأْسَاتِي التي أَحْيَا..نَصِيبِي مِنْ مَآسِيكُم..أُنَادِيكُمْ..أَشدُّ عَلَى أَيَادِيكُم..أَنَا مَا هُنْتُ في وَطَنِي وَلا صَغَّرْتُ أَكْتَافِي..وَقَفْتُ بِوَجْهِ ظُلاَّمِي..يَتِيمَاً ، عَارِيَاً ، حَافِي..حَمَلْتُ دَمِي عَلَى كَفِّي..وَمَا نَكَّسْتُ أَعْلامِي..وَصُنْتُ العُشْبَ فَوْقَ قُبُورِ أَسْلاَفِي..أُنَادِيكُمْ ... أَشدُّ عَلَى أَيَادِيكُم..!
لقد كان الراحل مناضلا وطنيا مدافعا عن قضيته وارضه دفاعا لا حدود له وفي قصيدته "هنا باقون" يقول:
كأنّنا عشرون مستحيل..في اللّد، والرملة، والجليل..هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار..وفي حلوقكم،كقطعة الزجاج، كالصَبّار,وفي عيونكم،زوبعةً من نار..هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار..ننظّف الصحون في الحانات..ونملأ الكؤوس للسادات..ونمسحُ البلاط في المطابخ الس وداء..حتى نسلّ لقمة الصغار..من بين أنيابكم الزرقاء..هنا على صدوركم باقون، كالجدار..نجوعُ.. نعرى.. نتحدّى..نُنشدُ الأشعار..ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات..ونملأ السجون كبرياء..ونصنع الأطفال .. جيلاً ثائراً ..وراء جيل..كأنّنا عشرون مستحيل..في اللّد، والرملة، والجليل..إنّا هنا باقون..فلتشربوا البحرا..نحرسُ ظلّ التين والزيتون..ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين..برودةُ الجليد في أعصابنا..وفي قلوبهم جهنّم حمرا..إذا عطشنا نعصر الصخرا..ونأكل التراب إن جعنا.. ولا نرحل..وبالدم الزكيّ لا نبخلُ..لا نبخلُ.. لا نبخلْ..هنا .. لنا ماضٍ .. وحاضرٌ.. ومستقبلْ..كأنّنا عشرون مستحيل..في اللّد، والرملة، والجليل..يا جذرنا الحيّ تشبّث..واضربي في القاع يا اصول.. أفضلُ أن يراجع المضطهد الحساب..من قبل أن ينفتل الدولاب..لكل فعل.. اقرأوا..ما جاء في هذا الكتاب..!
توفيق زيّاد.. قائد جماهيري وسياسي خرج من بين الكادحين وقادهم باقتدار: من حق الذين عرفوا الراحل توفيق زياد ان يقولوا لولا ان الموت نهاية حتمية لكل الاحياء لكان موت ابي الامين حراما. ومن يستذكر ابا الامين فانه يتوه في بحر عميق، فلا يدري عن اي جانب من حياة هذا الرجل المناضل يستطيع التركيز، واذا ما اراد الكتابة عنه فانه ايضا يخاف الا يعطي الرجل حقه، فهل سيكتب عن توفيق زياد المناضل الذي قاد التظاهرات الصاخبة منذ نعومة اظفاره دفاعا عن شعبه وقضايا وطنية ام يكتب عن توفيق زياد الشاعر المبدع ام الباحث في التراث ام المناضل البرلماني الذي مثل شعبه في الكنيست الاسرائيلي ووقف كصخرة صلبة امام عتاة الصهاينة ام القائد الجماهيري الفذ الذي شارك ابناء شعبه افراحهم واتراحهم؟؟ ام ذلك الانسان الذي اجتمعت فيه كل تلك الخصال وغيرها؟ لكن الخوف او التهيب من طرق هذه الابواب والذي يصل الى حد الخطيئة هو عدم الكتابة مطلقا، لان رجلا بمواصفات الراحل توفيق زياد لا يمكن ان يدخل عالم النسيان، صحيح ان اعمال الرجل وضعته في سجل الخالدين، لكن سيرته تبقى مدرسة يستطيع الاخرون ان يغرفوا من بحرها، ومن هنا فان من عرفوا الرجل عن قرب ووعي مطالبون بالكتابة عن سيرته واعماله، وحتى من لم يعرفوه لهم دور في هذا المجال ولهم نصيب سيستطيعون الافادة والاستفادة منه، فدارسو شعر المقاومة الفلسطيني يجدون مادة خصبة في شعر توفيق زياد، ومنظرو الاحزاب لهم في تجربته التنظيمية مثال يحتذى، والبرلمانيون سيستفيدون كثيرا من تجربته البرلمانية، والنقابيون والقادة العماليون سيجدون انفسهم امام معلم قدوة، والقادة الجماهيريون والزعماء الشعبيون سيكونون امام مدرسة في القيادة والزعامة..فما بالكم اذا اجتمعت كل هذه الصفات في رجل واحد، اختطفه الموت مبكرا في ساعة غفلة ودون انذار مسبق، فكانت الصدمة كبيرة كبر الخسارة الفادحة بفقدانه، وكبر الحزن الذي صاحب ذلك. وهذه الصفات مجتمعة التي بنتها شخصية توفيق زياد الانسان هي التي جعلته يحب شعبه ووطنه ويتفانى في خدمتها، لمبادلة شعبه حبا بحب وانتزعه من بين احضان اسرة كادحة مناضلة الى قيادتها، فكان الرئىس المنتخب لبلدية الناصرة كبرى المدن الفلسطينية التي بقيت عامرة بأهلها بعد النكبة الاولى عام 1948، وكان ممثلها المنتخب في الكنيست "البرلمان الاسرائبلي" وكان قائدها الحزبي الذي لا تلين له قناة. كان المرحوم توفيق زياد قريبا من الجماهير صدق معهم فصادقوه، فاعتبره الكثيرون منهم صديقا شخصيا لهم: بِأَسْنَانِي:
سَأَحْمِي كُلَّ شِبْرٍ مِنْ ثَرَى وَطَنِي..بِأَسْنَانِي..وَلَنْ أَرْضَى بَدِيلاً عَنْهُ..لَوْ عُلِّقْتُ..مِنْ شِرْيَانِ شِرْيَانِي..أَنَا بَاقٍ..أَسِيرَ مَحَبَّتِي .. لِسِياجِ دَارِي ،لِلنَّدَى .. لِلزَنْبَقِ الحَانِي..أَنَا بَاقٍ..وَلَنْ تَقْوَى عَلَيَّ جَمِيعُ صُلْبَانِي..أَنَا بَاقٍ..لآخُذُكُم .. وآخُذُكُمْ .. وَآخُذُكُمْ
بِأَحْضَانِي..بِأَسْنَانِي ،سَأَحْمِي كُلَّ شِبْرٍ مِنْ ثَرَى وَطَنِي..بِأَسْنَانِي..!! وداعا ايها القائد الكبير وتحية لروح النضال التي زرعتها في جماهيرنا وجعلتها نورا شرف عروبتنا وينورها. ما زلت القائد الذي عرفناه محبوبا بين الناس كما كنت، ما زلت شعارا لكل مناضل ولكل شيوعي .ها نحن نتعهد بان نمشي على دربك وعلى طريقك ، طريق ربما شائك ، ولكن كما قلت:"يا واهن القدمين دربك هين..اما دربي اشق واعسر..شتان بينهما فدرب عامر..ترنو له الدنيا ودرب مقفر..افديه من درب يقصر طوله..بالبذل والعزم الذي يستعر..تمشي وامشي والليالي بيننا..ستريك من يهوي ومن يظفر"..! هذا هو توفيق زياد,الشاعر الإنسان, الذي غمس ريشته في محبرة القضية ليسطِّر هموم شعبه, ليوقظ الوعي الجماعي, ليحثهم على دفن أوجاعهم والنهوض بهمم منتصبة.
من قلب الشعب نبت شاعر المقاومة , المناضل الملتزم توفيق زياد , يحمل أحمالهم ويحلم أحلامهم:
أحبّ لو استطعتُ بلحظة..أن أقلبَ الدنيا لكم : رأسا على عقبِ..وأجعل أفقر الفقراء يأكل في صحون الماس والذهبِ..ويمشي في سراويل الحرير الحرّ والقصبِ, وأهدم كوخه ...أبني له قصرا على السُحُبِ..! يغتالنا موتك يا أبا الأمين فتنادينا يداك... يغتالنا صمتنا .... فتكسر صمتنا ذكراك..في الذكرى الرابعة عشرلرحيل القائد أبو الأمين لن ننثني يا سنوات الجمر... وإننا حتماً لمنتصرون..!
- القدس المحتلة
الخميس، مايو 01، 2008
رِيحُ الأَرْبَعِين
قَاسَتْ مِنَ الأَهْوَالِ مَا لاَ يُحْصَرُ
رَبَّـاهُ فَلْتَمْضِ المَنِيَّـةُ بِالأَسَـى
وَيَكُونُ غَبْنِـي مُبْعَـداً لاَ يُذْكَرُ
فَاللَيْـلُ وَيْحَ اللَيْـلِ كَمْ نَادَمْتُـهُ
وَامْتَاحَ دَمْعِي جَـاحِداً لاَ يَشْكُرُ
لأَفِـيقَ مَذْعُوراً يُنَاوِشُنِي الرَّدَى
بِرِمَاحِهِ وَالبَغْيُ نَحْـوِي يَخْطُرُ
ظَنَّ الأُلَى سَـاءُوا بِأَنِّي مِنْهُـمُ
مَا أَخْطَأَتْ أَلْحَاظُهُمْ إِذْ أَبْصَرُوا
وَجْهـاً تُؤَرِّقُهُ المَآسِي شَاحِبـاً
وَيَكَـادُ مِمَّا سِيمَ خَسْفـاً يُشْطَرُ
أَنْصَافَ أَنْصَافٍ وَلاَ يَرْجُو سِوَى
يَـوْمٍ يَمُـرُّ بِدُونِ غِـلٍّ يُدْبِـرُ
غَابَ الرِّفَاقُ المُخْلِصُونَ فَلَمْ يَعُدْ
فِي الحَـيِّ إِلاَّ ذُو لِقَـاءٍ يُضْجِرُ
إِنْ غُصْتَ فِي أَعْمَاقِهِمْ مُتَـأَمِّلاً
سَتَرَى قُلُوبـاً أُقْفِرَتْ لاَ تُبْصِرُ
وَالسُّوءُ قَدْ مَلأَ الدُّرُوبَ فَمُرِّغَتْ
آنَافُنَــا وَتَلَقَّفَتْنَـا الأَعْصُـرُ
يَا أَيُّهَا الحُـزْنُ اعْتَزِلْنِي جَانِبـاً
وَكَفَـاكَ مَـا أَبْدَيْتَ مِمَّا تُضْمِرُ
أَشْتَـمُّ رِيحَ الأَرْبَعِـينَ وَلَمْ أَجِدْ
فِي العُمْرِ يَوْمـاً مُفْرِحاً يُسْتَذْكَرُ
رَبَّاهُ أَنْتَ العَـدْلُ فَامْنَحْ رَحْمَـةً
وَدَعِ السَّمَاءَ عَلَى قِفَارِي تُمْطِرُ
أُنْهِكْتُ مِنْ قِبَلِ الزَّمَـانِ كَأَنَّمَـا
هَوَسَ الضَّغِينَةِ فِي دُجَاهُ يُذْخِرُ
يَتَسَابَقُ الصَّحْبُ الكِـرَامُ لِمَقْتَلِي
وَسِيُوفُهُـمْ بِدَمِي المُفَرَّقِ تَقْطُرُ
لَكِنَّنِـي بِالرَّغْـمِ مِمَّـا نَابَنِـي
سَيَظَلُّ أَنْفِـي شَامِخـاً لاَ يُدْحَرُ
وَإِذَا اللَيَالِـي أَفْزَعَـتْ أَلْبَابَنَـا
وَاسْتَاءَ مِنْ غَدْرِ الرِّفَاقِ الخِنْجَرُ
لاَ بُدَّ لِلشَّمْسِ الَّتِي حَجَبَ الدُّجَى
مِنْ نَزْعِ هَاتِيكَ السُّدُولِ وَتَظْهَرُ
السبت، أبريل 19، 2008
في الذكرى العاشرة لرحيل فارس الشعراء..نزار قباني....!
ولد نزار قباني في 21 اذار 1923 م في أحد بيوت دمشق القديمة. يقول نزار"يوم ولدت كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة،وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.. هل كانت يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها،وترمي فيه الأشجار كل أوراقها القديمة؟أم كان مكتوبا علي أن أكون كشهر اذار...شهر التغيير والتحولات"؟.
**تم الرجوع لبعض المصادر
-القدس المحتلة
الاثنين، يناير 07، 2008
قراءة في شعر"ابو سلمى"...!
"أبو سلمى".. هو عبد الكريم سعيد علي المنصور الكرمي. وإذا كانت كنية "الكرمي" تنسبه إلى بلدته الفلسطينية طولكرم التي أنجبته ذات يوم صيفي من عام 1909، فإن مدينة حيفا كانت حبه الأثير. فهو محاميها الشهير، وشاعرها الوفي.
قد يسأل متسائل.. لماذا أبو سلمى الآن؟.. يَرِدُ هذا السؤال، حسب وضع السائل، إما بحثاً عن مدخل للكلام، وإما جهلاً بطبيعة الشعر. لأن أبا سلمى حاضر فينا، أو لأنه الوفاء، أو لأن الانتفاضة تعيد إنتاج أيام أبي سلمى في النضال.. وتأتي هذه الأجوبة، حسب وضع المجيب، إما لأنه لابد من جواب، وإما تماهياً للمغني مع الأغنية، وإما جهلاً بطبيعة الشعر. فالشعر، في جوهره، لا يتوسل مناسبة للحضور، حتى لو نجمت بعض القصائد عن بعض المناسبات. ولا يقبل الشعر وساطة بين مبدعه وقرائه بدعوى أهمية المبدع في الذاكرة التاريخية. فتلك الأهمية من شؤون التاريخ أو الأخلاق.
**
القدس المحتلة