د. صلاح عودة الله
"اصعد فموطنك السماء"..! ناجي العلي لقد نجوت بقدرة / مـــن عـارنـا، وعـلـوت لـلعـلياء/ إصـعد؛ فــمـوطنـك السماء؛ وخلنا/ فــي الأرض إن الأرض لـلــجـبناء"!" الشاعر أحمد مطر". انه أحد أيام الأسبوع ..انه يوم مشؤوم .. انه يوم الأربعاء الواقع في 22 تموزعام 1987 وأمام منزله في أحد أحياء لندن قامت يد الغدر الجبانة باطلاق النار على ناجي العلي فأصابته إصابة مباشرة في وجهه، نقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية يوم 29 آب من نفس العام. تمر الأيام والسنين كأنها دقائق معدودات، حافلة بأحداث كثيرة، تمر علينا كنسيم البحر هادئا لا نشعر أحيانا بمروره، وتحمل في طياتها الحزن إلى قلوبنا..تعج بأحداث كثيرة أثرت وما زالت تؤثر في نفوسنا..نقف لحظة لنسترجع ونستعرض شريط أحداثنا..أحداث الماضي..نلف هذا الشريط الطويل، ونعود بعجلة الزمن حتى نصل إلى عام 1987 وفي التحديد إلى 22 تموز عام 1987..انه التاريخ الذي طبع في قلب كل إنسان عربي، وأصبح ذكرى سنوية لفنان فلسطيني عربي يدعى: ناجي العلي..الفنان الذي تمسك بإبداعاته وإنجازاته..وأصبح علماً يرفرف في السماء من وراء هذه الإنجازات التي أكسبته شهرةً وصيتاً لامعاًُ..الشخص الذي تحدث وما يزال يتحدث عنه الصغير قبل الكبير..كيف لا وذكراه ما زالت عالقة في القلوب والعقول..! ولد الشهيد عام 1937 في قرية الشجرة الفلسطينية قرب طبريا التي احتلت بعد معارك عنيفة ودامية سقط فيها اكثر من ألف شهيد معظمهم من جيش الإنقاذ وكان معهم أيضا الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود صاحب الأبيات الشهيرة: سأحمل روحي على راحتي **وألقي بها في مهاوي الردى..فإما حياة تسر الصديق**واما ممات يغيظ العدى..! على نهج هذه الأبيات ووهجها الحار والمضيء عاش ناجي حياته واختار رسالته وعنوانها الواضح، بعدما نزح مع عائلته إلى لبنان حيث عاش طفولته في مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا الساحلية في جنوب لبنان، وعمل في مهن عدة قبل ان يصبح بعد فترة وجيزة أحد أهم الأعمدة الأساسية للصحافة الحرة والمستقلة في الوطن العربي الكبير. انني أرى نفسي عاجزا عن الكتابة عن هذا الانسان, بل الأسطورة, فليس من السهل اتخاذ قرار الكتابة عن شخصية كشخصية ناجى العلى, الفنان الذى حول فرشاة رسمه إلى مدفع رشاش، وقطرات الوانه الذي كان يستعملها إلى رصاصات لم تعرفها الحضارة من قبل..لم يكن من السهل الكتابة عن الفنان الذى رسم انكساراتنا وإن كثرت وانتصاراتنا وإن قلت. كغيره من أبناء فلسطين نشأ ناجى العلى فى الشتات بعيداً عن الأرض التى شهدت أولى لمساته والسماء التى زفر فيها أول أنفاسه..كانت آلام الغربة رفيقه الأول لكنها لم تتمكن من محو أحلامه التى لم تكتمل، ولا رؤيته التى تكونت تحت شمس مخيم اللاجئين، فخرج من بين هذه الحطام عملاقاً لم يعهده هذا العصر الذى ظن أن القوة فى السلاح وحده؛ عملاقاً قام بارباك أعتى الرجال والمؤسسات بسلاح واحد فقط فى يده فتاك يصيب أهدافه بدقة وسهولة وقوة وهو قلم وريشة ناجى العلى. لقد وصف "شارلي شابلن" كيف ظل لفترة طويلة يتخير ملابس شخصية المواطن الصغير ، وكيف بحث طويلا ليجد تلك الجاكيتة الفضفاضة ، والسروال الضيق ، والحذاء بمقدمته العريضة..ناجي العلي استطاع أن يجد لحنظلة ما يميزه كشخصية فنية لكي تتجاوز تلك الشخصية حدود الطفل الفلسطيني وحده وتصبح رمزا عالميا للطفولة التي تتشرد في الدنيا..خلق ناجي العلي شخصية حنظلة دون وجه ، ظهره للعالم.. نحن لا نرى وجهه ، ولا دموعه ، ولا غضبه ، لكننا نحبه ونشفق عليه إلي درجة قد تفوق محبتنا لأطفالنا وإشفاقنا عليهم..ويذكرني ذلك بما قام به المخرج فيكتور فلمنج في فيلم " ذهب مع الريح " عن رواية مارجريت ميتشيل..في هذا الفيلم الذي ظهر عام 1939 تحل على البطل"رد باتلور" كارثة وفاة طفلته الوحيدة.. والمألوف في هذه الحالات أن يرينا المخرج دموع الأب وعلامات الحزن القاتل على ملامحه..لكن المخرج على العكس من ذلك اعتبر أن أفضل وسيلة لنقل الأحزان لن تكون بإظهار وجه الوالد ، بل بإخفاء ذلك الوجه تماما..هكذا ما أن تموت الطفلة في الفيلم حتى يندفع الأب إلي غرفة منعزلة فلا نراه ولا نشاهد وجهه..نحن لا نرى وجهه، ولهذا تحديدا ينطلق خيالنا دون قيد لتصور مدى معاناة الوالد..إنه تخيل مفتوح بلا نهاية..! ووجه لا تشاهده- وتعلم أن صاحبه معذب- أقوى تأثيرا من أية دموع حقيقية تراها أمامك..هكذا أيضا خلق ناجي العلي شخصية حنظلة الصغير: متبرما، لا يثق في أحد ، ويعلم أن الدنيا كلها ظلمته ، ولا يحول قلبه عن فلسطين..خلق ناجي العلي حنظلة بلا وجه لكي يتخيل كل منا عذابه إلي المدى الذي يسمح به خياله, والخيال هنا لاحدود له وهذا ماراده فناننا الراحل.
وعن حنظلة يقول ناجي العلي: قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية.. قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه اصبح له أفق قومي ثم أفق كونيّ وإنساني..أما عن سبب إدارة ظهره للقراء، فتلك قصة تروي في المراحل الأولى رسمته ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس وكان يحمل الكلاشينكوف وكان أيضا دائم الحركة وفاعلا وله دور حقيقي..يناقش باللغة العربية والإنكليزية بل أكثر من ذلك ، فقد كان يلعب الكاراتيه..يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة..لم أسع من خلاله للتميز..فهو في العاشرة وسيظل في العاشرة حتى يعود الوطن ، عندها فقط يكبر حنظلة و يبدأ في النمو وكان يقول عنه أيضاً " هذا المخلوق الصغير الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد و ربما لا أبالغ إن قلت أنني سأستمر به بعد موتي". كان "حنظلة" طفل ناجى العلى الذى اختصر فيه طفولة فلسطين المشردة بين المخيمات؛ شاهداً على كل ما رسم وكل ما نشر يشارك مرة بإلقاء الحجارة ومرة يكتفى أن يكون متفرجاً وحسب، ظل "حنظلة" الرمز الذى تركه ناجى العلى ورائه لا يموت أبداً شاهداً على ما يجرى حتى الآن.
ولكن ما هي اسباب وأسرار نجاح ناجي العلي: لأنه كان مواكباً للمتغيرات المحيطة به كافة السياسية والاجتماعية وكان يتأثربها ويؤثر فيها، والفنان العلي ليس الاكثر شهرة وهذا انتقاص له لأنه ما زال حياً من خلال رسومه على الرغم من مضي هذه السنوات كلها فما زال حنظلة الى اليوم يسير في الشارع وهو يحدث الناس..كثير من المشاهير ساهمت وسائل الاعلام فيها وغذوها، أما ناجي العلي فرسومه هي التي غذّته لذلك ما زال يتربع على عرش الشهرة الى اليوم، والمقصود بالشهرة ليست الشهرة الاستعراضية بل هي الحاجة الى الناس ولأن اعماله حاضرة بيننا وتمس الناس، ما رسمه ناجي العلي منذ عشرين سنة ما زال صالحاً للنشر في هذه الأيام، وكأنه كان يستشف للمستقبل لأنه كان يرسم للأدب وليس رسماً آنياً. لا يتأتى نجاح أي انسان من فراغ وليس هو من قبيل المصادفة أو ضربة الحظ، وانما أسباب النجاح كامنة في شخصية الفرد وتربيته وقدرته على المثابرة والجلد، فضلاً عن المعرفة والموهبة والايمان بما يقوم به, وناجي العلي واحد من هؤلاء الناجحين ولا شك في ان الموضوعات التي تناولها في رسوماته الكاريكاتيرية قد لفتت اليها الانظار فهو رسام فلسطيني ومن الطبيعي ان يلتفت الى معاناة شعبه في الداخل والخارج. ان السؤال هو ليس سر نجاح ناجي العلي الى اليوم، بل بقاء سر نجاح العلي الى اليوم، هذا البقاء يعود الى جذور ناجي الضاربة في الأرض والانتماء.. قطف ناجي العلي غيلة لم يقض على جذوره..وكل يوم تخلف الجذور فروعاً جديدة..إن اعتماد ناجي العلي على الرسم الذي يبقى..هو سر بقاء ذلك العمل..العمل الذي رسمه ليس لحدث آني يسقط بمروره، ناجي نجح حيث غيره لم ينجح باقترابه الأكثر من انتمائه ومن جذوره..في وقت معظم ما يرسم فيه هو لارضاء الآخرين..! قليلة هي المرات التي تمّ فيها اعدام فنان حتى في اعتى الديكتاتوريات•..اعدمت لوحات واعدمت كتب وأعدمت بطبيعة الحال مسرحيات لكن الفنانين والكتاب والمسرحيين غالباً ما عزلوا وكفّت ايديهم وصودرت أعمالهم او حجزت في جواريرهم.. اما القتل فلا، اذ ان قتل فنان اشبه بقتل عصفور..انه قتل للموسيقى الضعيفة التي لا تهدد احداً..!
هناك دائماً طريقة لتجنب قتل فنان..وهناك دائماً وسيلة لإسكات فنان من دون قتله..لم يسأل الطاغية الذي ارسل قاتل ناجي عما اذا كان ناجي رساماً كبيراً فالعلي ليس مغموراً ولا نكرة.. انه اشهر فنان فلسطيني وهو من كبار رسامي الكاريكاتور ثم انه من الفنانين النادرين الذين يتاح لهم ان يغروا ضمير شعب وان تتكلم اعمالهم بلسان شعب..فلأمرٍ ما كانت كاريكاتورات ناجي العلي مطابقة لوجدان عام ولأمر ما بدت هذه الكاريكاتورات اكثر من رسوم وافكار.انه لا شك ان من ارسل قاتل ناجي العلي كان على درجة من الغلظة والجهل وفساد الذوق بحيث اجاز لنفسه ان يعدم فناناً في وزن العلي واسمه..لا شك انه على درجة من قلة التدبر بحيث رضي لنفسه ان يقتل ريشة.. ولم يعلم ان دمغة كهذه لن تزول وقد ينسى له الناس اخطاء كثيرة لكن ذبح ريشة امر لا يغتفر..! ناجي العلي..حالة جسدت وجمعت مآسي المواطن العربي كلها..القهر، الذل، الهزيمة، التحدي، الانتصار، والاستمرار، الحزن، الفرح...ناجي العلي..حمل هموم المواطن العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، وكان صدق الانتماء هويته..والإيمان بقضيته جواز مرور الى دول العالم، هو معركة بحد ذاتها خاضها وحنظلة في وجه كل مستبد وهي المعركة التي استشهد وضحى بروحه فيها..ناجي العلي..يبقى المعجزة التي حركت الشعور والذات العربي حيث لا يجد مفراً من الانتفاض ورفض الظلم والقهر..هو الصامت الذي بلغ صمته من خلال رسوماته بلاغة زلزلت الكيان الصهيوني وهز المجتمع العربي والفلسطيني, لذلك كانت ريشته المتحدثة دوماً مستهدفة كما استهدف هو، لهذا لا يوجد فنان يستطيع ان يحل محله..أو يأخذ مكانه ومقعده لأنه هو من فصّل هذا المقعد وأخذه معه..لأنه من خلال رسوماته وأفكاره وصل الى بقاع العالم وبقي حياًً الى يومنا هذا. كان اغتيال ناجى العلى عصرصفعة قوية على وجه الحضارة التى لم تستطع حماية أحد أبنائها، حين تم التعامل مع الفنان المناضل بأسلوب القتلة؛ كما أثبت حادث اغتياله أنه أحياناً للكلمة وللخط المرسوم وقع أقوى من طلقات الرصاص الذى أزهق روح فنانا. رثى الكثير من الشعراء ناجى العلى ونددوا بجريمة قتله الغادرة ومن أقوى المقاطع التى قيلت فى هذا وأشدها تأثيراً قصيدة شاعر العامية المصرى عبد الرحمن الأبنودى التى رثى بها العلى فى ديوانه"الموت على الأسفلت":أمايه..وانت بترحى بالرحا..على مفارق ضحا..وحدك وبتعددى..على كل حاجه حلوه مفقوده..ما تنسينيش يا أما فى عدودة..عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن..لا تولولى فيها ولا تهلهلى..وحطى فيها اسم واحد مات..كان صاحبى يا أما..واسمه, ناجى العلي..! "احذروا ناجي، فإن الكرة الأرضية عنده صليب دائري الشكل، والكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم، إنه لا يأخذ المخيم إلى العالم، ولكنه يأسر العالم في مخيم فلسطيني ليضيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره؟ ناجي لا يقول ذلك. ناجي يقطر، يدمر، ويفجر، لا ينتقم بقدر ما يشك، ودائما يتصبب أعداء"..الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.
"انه الظاهرة الأكثر سخونة وإرباكا في فن الكاريكاتير العربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وانه خرج من دائرة الانتماء الوطني إلى دائرة الانتماء القومي، فالإنساني الكوني"..الشاعر الفلسطيني البارز سميح القاسم. غاب عنا ناجي العلي، لكن ريشته لم تسقط وبقي حنظلة المقهور يصرخ ويصرخ واقفاً عاقداً يديه خلف ظهره شاهداً منتظراً، مواجهاً الهزيمة..لن نبكي موت ناجي لأن الرصاص لن يكسر القلم النقي الطاهر..وكالعادة وكما قال الراحل نزار قباني:"يا وطني,كل العصافير لها منازل, الا العصافير التي تحترف الحرية,فانها تموت خارج اوطانها"..وصدقت يا شهيدنا ناجي بقولك: "اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي"..! وأخيراً, يبقى ناجي العلي الفنان الاسطورة والعبقري لأن رسومه كانت بسيطة غير معقدة ومفهومة من قبل الجميع، لأنه رسم للناس البسطاء والفقراء لذلك استطاع أن يصل الى قلوب الناس وكثير من الفنانين اعجبوا بأعماله وتأثروا بها، وفي كل يوم يكتشفون في رسومه شيئاً جديداً..ناجي العلي كالشمس التي تشرق كل يوم..شمس الابداع ..شمس الحقيقة..شمس الفن المتألق..!
-القدس المحتلة
الجمعة، أغسطس 29، 2008
في ذكرى استشهاد ناجي العلي.. وصمود حنظلة
Labels:
صلاح عودة الله
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق