د. عدنان الظاهر
خطرتْ في رأسي ـ وأنا بين الصاحي والنائم ـ فكرة ٌ غريبة لكنها ليست مستحيلة في عالمنا المعاصر . أنْ أجمعَ بين الشاعرين العراقيين المتنبي وأبي نؤاس . هل يا ترى يقبلان الإجتماع في بيتي ؟ لِمَ لا ، كل ما يرومان ويبتغيان متوفر لديَّ . لا من مشكلة إذا ً في مسألة المكان . وماذا عن الزمان ؟ أعرض ْ عليهما يوماً محدداً وإنتظرْ الجواب هل يناسبهما أم لا . عند ذاك دعهما يقترحان ما يرتأيان حول هذا الموضوع . كتبتُ للشاعرين رسائلَ بالبريد الألكتروني عرضت فيها فكرة اللقاء بينهما في بيتي وإقترحتُ يوما ً محدداً وساعة معينة لهذا اللقاء . جاءني الردُّ بعد ساعة ٍ تقريباً من كلا الرجلين . وافق كلاهما على فكرة اللقاء وزمنه لكنهما إختلفا حول المكان . فضّل َ أبو نؤاس أن يكونَ الملتقى في حان مكشوف من النوع الشائع في ألمانيا بإسم ( بيركاردن ) / حديقة بيرة
Biergarten
هرباً من حر الصيف والإسترخاء تحت ظلال الأشجار الباسقة ثم كؤوس البيرة المثلجة والدجاج المشوي وغير ذلك من المغريات . أما المتنبي فقد إقترحَ أنْ نلتقي على ساحل نهرٍ رملي ٍّ كساحل نهر الفرات المار بمدينة الكوفة . كيف سأوّفق بين رغبتي الشاعرين ؟ أحدهما مع الظلال والخمرة والآخر مع الطبيعة حيث النهرُ والساحلُ الرمليِّ . إستطلعتُ رأي الشاعرين حول هذا الموضوع العويص مقترحاً أنْ يحاولا التوفيق بين موقفيهما بحيث يكون اللقاء بينهما ممكناً . التوافق !! مودة العصر . أجاب أبو نؤاس أنْ لا مانعَ لديه من الأخذ بفكرة أبي الطيب المتنبي شرط أنْ يكون مكانه المفضل ( البير كاردن ) واقعاً على ساحل النهر الرملي فالرملُ والماءُ والساحلُ للمتنبي وما يتبقى له ، لأبي نؤاس . وجدتها فكرة جيدة ولكن ، أين نجد مثلَ هذا المكان ؟ بيرة مثلجة ودجاج مشوي على ساحلٍ رمليّ يتمدد عليه المتنبي متخذا ً ذراعه وسادة يُريحُ عليها رأسه وإذا سئمَ أو شعر بالتعب أغفى وتعالى شخيره . سألت بالتلفون من إستعلامات المدينة فهدتني إلى مكان يقع في أطراف المدينة ليس بعيداً عن حديقة الحيوان . تذكرتُ ... أعرف هذا المكان ، كنتُ أرتاده في سالف الزمان أيام العز والشباب . إنه بالفعل مكانٌ رائع مثالي ٌّ يستجيب لرغبتي ومتطلبات كلا الشاعرين . النهر المسمى ( إيزار ) والساحل وغاب الشجر الكثيف ورائحة الشواء والبيرة البافارية المعروفة . إجتمعنا هناك وما كان المتنبي مرتاحاً تماماً من المكان . السبب معروف . المتنبي لا يتناول الخمر حتى لو كان كأس بيرة خفيفة . لا يُطيق رائحة الكحول أصلاً فضلاً عمّا ترسّب في ذاكرته من آيات القرآن التي تحض ُّ المسلمين على تجنب تناول الخمرة [[ يسألونكَ عن الخمرِ والميسِر ِ قل ْ فيهما إثم ٌ كبير ٌ ومنافعُ للناس ِ وإثمُهما أكبرُ من نفعِهما ... / سورة البقرة / 219 ]]. أنا أعرف يقيناً أنَّ هذا الكلام َ لا يساوي فلساً واحداً بالنسبة للشاعر الآخر ، أبي نؤاس . طيب ، الرمل للمتنبي الكوفي والبيرة للحسن بن هانئ البصري . قسمة ٌ ليست ضيزى ، بكل تأكيد . طلب البصري ٌّ قدحاً كبيراً من البيرة بحجم لتر ٍ كامل يسمونه هنا ( ماس ) و طلب دجاجةً مشوية ً كاملة . لم يطلب المتنبي إلا قنينة َ ماء ٍ معدني . حين جاء ما طلبا لفَّ المتنبي نصف وجهه الأسفل بكوفيته بحيث غطت منخريه . لا يطيق ُ شم َّ رائحة الكحول . رفع أبو نؤاس كأسه عالياً وغمزني بعينه مشيراً برأسه صوب َ المتنبي ثم صاح : في صحتك يا أبا الطيب ! تبسّم الرجلُ على مضض ٍ ولم يعلّقْ . كان واضحاً لي أنْ لا مِن رغبة ٍ جدية ٍ لدى أبي نؤاس لخوض أي نقاش في ذلك المكان وتلكم الأجواء شبه الساحرة . شباب ٌمن حولنا يسكرون ويغنون ويرقصون ويسبحون في النهر أشباه عراة فأي ُّ مزاج ٍ جاد ٍ يأتي أبا نؤاس ؟ طلب كأساً ضخماً ثانياً حين تركنا المتنبي حافي القدمين فخاض في النهر حتى نصفه . تحلّقت الفتيات حوله والفتيانُ مندهشين لرؤيتهم رجلاً ( غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان ) مرتدياً جلابية ً بيضاءَ فضفاضة ً مما حمل معه من مصرَ ثم الكوفية التي غطت نصف وجهه . كلموه بلغتهم فلم يجبهم . أعادوا عليه الكلام فأهملهم . حسبوه مجنوناً فتضاحكوا بصخب ثم إنهالوا عليه برشقات سريعة من ماء النهر حتى إبتلت جلابيته وكوفيته فترك النهر عجلانَ نادماً على ما فعل . لذتُ بالصمت لكنَّ الخبيث َ السكير إنفجر ضاحكاً بشكل هستيري إستفز به المتنبي المسكين ولفت أنظار الحاضرين . فرجة للعالمين ... سينما سكوب بالألوان . ما كان المتنبي مرتاحاً مما فعل زميله الشاعر أبو نؤاس . كان فعلُ تشف ٍ غيرُ لائق ٍ ولا في مكانه . عصر المتنبي ماء جلابيته وكوفيته وكان الجو ُّ ما زال حاراً فنشفتا بعد فترة ٍ وجيزة . هل تشرب ُ شيئاً آخر َ يا أبا الطيب ؟ قال هل لديهم هنا شاي ٌ قوي ٌّ أو قهوة ٌعربية مرّة ؟ لا أظن يا متنبي . إنه بار مخصص أساسا ً لخدمة البيرة والدجاج المشوي ولحوم أخرى وليس مقهى . تمتم مع نفسه : لماذا قبلتُ هذه الورطة ؟ ما الذي يجمعني وهذا الشاعر الفاسق الخليع ؟ كيف السبيلُ للتخلص والهرب ؟ لا من مهرب ٍ يا أبا الطيب ، قلتُ له . إنما جمعتكما لتتناظرا في الشعر وفي أمور آخرى كثيرة ما زالت غامضة لم يمط ْ أحدٌ اللثامَ عنها بعدُ . ما زلنا في بداية الطريق وما زال لدينا الكثير من الوقت ثم إنك اليوم ضيفي فعلامَ العَجَلة يا أبا الطيب ؟ هذا الفاسق ُ أفسد عليَّ أمري كما ترى . سامحه فالمسامحُ كريم ٌ ولأنتَ الكريمُ . إنه مثلك شاعر والشعراءُ في كل واد ِ يهيمون سيما إذا شربوا القرقف َ الخندريس . طلب أبو نؤاس كأساً ثالثةً وحين جاءته الكاسُ ذهبية ً صفراءَ مشعشعة ً لا من فرق ٍ بين بهائها والفتاة الشقراء التي حملتها ... وجهها إلى المتنبي ثم صاح جَذِلا ً : في صحة أبي الطيب المتنبي ! أشاح هذا بوجهه عنه ممتعضاً لكنه لم ينبسْ ببنة شَفة ٍ . ما أن ْ أفرغ أبو نؤاس شرابه في جوفه حتى اقترحَ المتنبي أن نغادر َ المكان فقد شعر فجأة بصداع ٍ في رأسه . كان ذلك مجرد عذر ٍ منه إذْ كان واضحاً أنه فقد صبره ولا يطيق تحمّل المزيد من مداعبات أبي نؤاس الثقيلة ولا المزيد من كؤوس البيرة القوية التي شرعت بالفعل تلعب في رأسه [ يا مَن لعبتْ فيه الشَمولُ ...] رغم تظاهره بالسيطرة والتوازن . إلى أين نمضي يا أبا الطيب وما زال الوقت عصراً عالياً والشمسُ في كبد السماء ولم نبدأ المناظرات بعدُ ؟ لماذا نحنُ هنا إذا ً ؟ قال قد أبقى معكما إذا ما توقف هذا السكير العربيد عن تناول المزيد من الخمرة . كأسٌ رابع يكفي أنْ يُفقده عقله . أطلبْ منه أنْ يكف َّ عن دعاباته السمجة الثقيلة وإني لا أطيقها ولا أجيدُ ممارستها من قبيل الرد عليه إنما أجيدُ اللعبَ بالسيف والطعان بالرمح ! أهذا تحذير له يا متنبي ؟ تحذير شديد اللهجة وحاسم ، قالَ . هل سمعتَ يا ابنَ هاني تحذير زميلك الشاعر الكوفي الجاد دوماً والمتجهم أبداً ؟ قال قد سمعتُ ووعيتُ قصده فليعذرني وليتقبلْ مزاحي فالجو مؤاتٍ يشجعني على المزاح والبيرة تلهب النفوس وتشعل في رأسي حرائقَ وتقول الشعر نيابة ً عني . سرّني كلامه هذا أيما سرور . قلت هيا إذا ً يا شاعرَ الخمرة ِ والمجون ِ والغلمان ... أتحفنا بجديد شعرك . همس في أذني : هل من كأس رابعة ؟ أعوذ بالله ! الكأسُ الرابعةُ تفسدُ هذه الجلسة وتقوِّض شروط المتنبي التي وافقنا عليها للبقاء معنا حتى آخر السهرة .... لا تخترقْ مبدأ التوافق والتراضي ! قال سلّمتُ أمري لك ولهذه الساقية الشقراء وللكأس الفارغة التي أتمنى أنْ تمتلئ بقدرة قادر ٍ راحاً صفراءَ ذهبية كهذه الفتاة التي خدمتنا وسقتنا ولم نقبِّل يدها ... إننا قومٌ جاحدون وبدو متخلفون . بادرتُ ربعي بالقول ها نحنُ أولاءِ مستعدون للإنتقال من أجواء السكر والهزل والتنكيت الثقيل إلى أجواء الجد والمنازلة بين بطلي ميادين الشعر لا ميادين السيف والرمح والخيول. أعددتُ لكما خطة ً مفتوحة ً ومنهاجاً لإدارة مناظرة اليوم مستهدفين كشف المجاهيل في عالميكما والوقوف على سر التمايز بينكما في الشعر وغير الشعر . كانا صامتين يصغيان بترقب ٍ لما كنتُ أقولُ . السؤال الملحاح الذي لا ينفك ُّ يدور في رأسي هو ما سبب إنصراف أبي نؤاس بالدرجة الأولى لشعر الخمرة والغلمان وما سر براعته ونجاحه المتميّز في قول هذا النوع من الشعر. ثم ، ما سبب إنصراف أبي الطيّب المتنبي لشعر المديح ووصف الحروب علماً أنه دأبَّ على إفتتاح جُلّ قصائده بالغزل الأنثوي الراقي وهي ظاهرة لا وجودَ لها في قصائد أبي نؤاس . هذا يدخل في موضوعاته مباشرة ً بدون مقدمات بينما يمهد ُّ المتنبي لموضوعاته الرئيسة تمهيداً بطيئاً سلسلاً ملتزماً حرفياً ببيته الشعري الذي قال فيه [[ إذا كانَ مدح ٌ فالنسيبُ المقدّّمُ / أكلُ فصيح ٍ قال شعراً متيّمُ ؟ ]] . ضحك أبو نؤاس عالياً ساحباً ظهره إلى الخلف رويداً رويداً ، تلفتَ يمنة ً ويسرة ً لكأنه ينتظر شيئا ً ما ثم قال : أنتَ وضعتَ يدكَ على لب ِّ الفرق بين شعري وشعر صاحبي المتنبي . أعني الفرق في الأهداف والمقاصد وليس في أساليب وفنون نظم الشعر، فهذه مسألة أخرى قد لا نستطيع الإلمامَ بها في يوم أو شهر ولا في شهرين. كنا منصتين لما يقول . إنا مختلفان في أهدافنا ومقاصدنا الشعرية. المتنبي يمدح الأمراء وبعض الرجال المتميزين في شؤون الحرب أو الأدب أو الصيد أو من ذوي الفضل عليه . كان على رأس هؤلاء الرجال إثنان كما تعلمون هما سيفُ الدولة الحمداني ثم كافور مصرَ الإخشيدي . كان ذاك أمير حلب وبطل الحروب مع الروم وكان الآخرُ عزيزَ مصر ٍ [ نامت نواطيرُ مصر ٍ عن ثعالبها ] وإمام المسلمين فيها . فهو ، بإختصار ، إنْ مدح الرجال فإنهم رجال ٌ سواء زمنَ الحرب أو السلم . لذا فإنه يسعى للتمهيد لمديحه ولوصف تفصيلات الحرب التي غالباً ما كان يخوضها سوية ً مع سيف الدولة . مديح ُ الرجال كان كما إخالُ ثقيلا ً عليه لكنه لا بدَّ منه فإنه وسيلة عيشه وإنفاقه على خيله وسلاحه وعبيده وخدمه وحرسه وأهل بيته . أما الحرب فلا أثقل منها ومن ذا الذي يحب الحرب وويلاتها وما يسيل جرّاها من دماء ؟ لذا فإنه وهو الشاعر الفحل فناً ولغة ً ومنطقاً وثقافة ً يميل بالطبع السويِّ إلى تخفيف أجواء المديح ووصف الحروب بإتباع أسلوب النسيب والتشبيب وقد برع في هذا الفن أيما براعة . وطبيعي أنْ يتغزل بالفتيات والصبيات لأنه ما كان في طبعه منحرفا ً عن الطبيعة الجنسية السوية . لو كان مثلي لوطياً لقال مثلَ ما قلتُ في شعر الغلمان وتشبب بهم وربما كان سيتفوّق عليَّ في هذا الميدان . إننا مختلفان في طبيعتنا التي حملناها معنا منذ الولادة . الطبع والسليقة ! تمام أبا الطيب ؟ هز َّ المتنبي رأسه موافقاً ثم أضاف : كان التكسّبُ في زماننا بقول الشعر ظاهرة ً مألوفة ً وشائعة ومقبولة إذ ْ ما كان لدينا من وسائل العيش ما يغنينا عن المديح . أضفتُ أنَّ زمانك يا أبا نؤاس غير زمانه وبيئتك في بغداد والبصرة غير البيئات التي إحتضنت المتنبي سواء في حلب أو في فسطاط مصر . كانت بيئاتك َ وزمانك تتقبل شعر المجون والخمور والغلمان خاصة َ في بغداد وهذا أمر مخالفٌ لأوضاع حلب ومصر يومذاك . مع ذلك ، أضفتُ ، كان المتنبي قد قال شعراً فيه بعض الغزل ببعض ممدوحيه من حسني الوجوه وكان ذلك غزلا ً أفلاطونياً كما يُسمى . لو تصفحنا ديوانه لوجدنا شيئاً من ذلك في شعر مديحه لسيف الدولة وبدر بن عمار ثم إبن العميد . تمام أبا الطيب ؟ قال تمام . الآن ، مَن منكما يسأل والآخر يُجيب ؟ قال المتنبي بل أنا أول مَن يسأل . تفضلْ . ما سبب ُ تركيز أبي نؤاس في غلمانياته على فتيان وصبيان الأديان الأخرى وخاصة ً النصارى منهم ؟ مسّد ُ أبو نؤاس لحيته المخضبة بالحناء هازاً رأسه علامة َ قناعته بمعقولية السؤال ووجاهته . دس َّ في فمه مُضغة ترياك ٍ أخرى وسعلَ وتمخط َّ ومسح أنفه بكم قميصه ثم قال : سببان في الأقل لا سببٌ واحد . كانت النصارى فتيات ٍ وفتيانا ً هم من يُدير ويديم حانات الخمور وهم من يخدم الزبائن من أمثالي فيها . وهم لا غيرهم الخبراء في عصر الكروم وفن تعتيقها وتصفيتها ثم تعبئتها في الدنان والزِقاق وقوارير الزجاج . ديننا لا يسمح للمسلمين بإمتهان هذه المهنة وهي صنعة معقدة لا يتقنها كائنٌ مَن كان . السبب الثاني وهو مرتبطٌ بالأول ... كانت صباياهم وفتيانهم حَسِني الوجوه متميزين بما يرتدون من جميل الملابس ويتفننون في تصميمها وخياطتها وزركشتها فكأنهن َّ الدرُّ المكنون وكأنهم ولدان ُالجنة المخلدون ونحن بينهم السكارى المؤمنون يطيفون علينا بخمرة الجنة في كؤوس من ذهب وأطواق الذهب في أعناقهم وسوالفهم معقوفة كالعقارب . لكل هذا قلتُ فيهم في بعض ما قلتُ :
عَلِقتُ من شِقوتي ومن نَكَدي
مُزنَّرا ً ، والصليبُ في عُنقهْ
ثم قلتُ في مناسبة أخرى ما هو أشنع من هذا :
وغزالٍ عاطيتهُ الراحَ حتى
فترت ْ منهُ مُقلة ً ولسانا
قال : لا تسكرَني بحياتي
قلتُ : لا بدَّ أنْ تُرى سكراتا
إنَّ لي حاجة ً إليك إذا نم
تَ فإنْ شئتَ فاقضها يقظانا
فتلكا تلكيا ً في انخناث ٍ
ثم أصغى لِما أردتُ فكانا
سأله المتنبي : أكان هذا الغزال نصرانياً ؟ قال بل يهودياً . أردتُ أن أسأله وهل تغزلتَ بصبي مسلم لكني إنثنيتُ ولم أسال . حثه المتنبي على إنشاد المزيد من قصائد مجونه وتهتكه لكنه أعاد الكرة إلى ملعب المتنبي إذْ أصرَّ أن يقرأ لنا شيئا ً من غزلياته . أبعد أبو الطيّب لثامه عن وجهه وتأهب لينشدنا شيئاً من قصيده في التشبيب والنسيب . قام كعادته حين يقرأ اشعاره لكنَّ أبا نؤاس تشبّث بجلبابه وسحبه منه بقوة طالباً منه أنْ يجلس . إمتعض المتنبي فعاجله أبو نؤاس بقوله : لا تثريبَ عليك أبا الطيب ، إجلس وأقرأ إنما نحن في ألمانيا ولسنا في بلاط سيف الدولة الحمداني أو كافور الإخشيدي . إجلسْ يرحمك الله وهاتِ أسمعنا من نوادر غزلك الأنثوي. بقي المتنبي ممتعضاَ مما فعل أبو نؤاس معه لفترة ثم برد غيضه عليه وتأهب ليُلقي :
أمِنَ ازديارَكِ في الدجى الرُقباءُ
إذْ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ
قلقُ المليحةِ وهي مسكٌ هَتكها
ومسيرُها في الليلِ وهي ذُكاءُ
مثلتِ عينكِ في حشايَ جراحةً
فتشابها ... كلتاهما نجلاءُ
نفَذتْ عليَّ السابريَّ وربما
تندقُّ فيهِ الصَعدةُ السمراءُ
قام أبو نؤاس صارخاً : الله الله ... للهِ درُّك أبا الطيّب ... باللهِ عليكَ أعدْ قراءة ما قرأتَ ثانية ً . مسكه المتنبي بقوة من كمّه وأمره بالجلوس . جلس ونظر إليَّ نظرة توسل فهمتُ مغزاها . طلبتُ له كاساً آخرَ كبيراً من البيرة البافارية بعد أنْ إستأذنتُ المتنبي في ذلك فأذِنَ . ما أنْ شرع النؤاسي بعب ِّ ما في كأسه من تبر منصهر ٍ سائل ٍ حتى طلبتُ من أبي الطيب أنْ يقرأ علينا شيئاً من قصيدة ( ليس إلاكَ يا عليُّ ) فامتثلَ وأنشدَ :
ما لنا كلنا جوٍ يا رسولُ
أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ
كلما عادَ مَنْ بعثتُ إليها
غارَ مني وخانَ فيما يقولُ
زودينا من حسنِ وجهكِ ما دا
مَ فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصِلينا نصِلكِ في هذه الدن
يا فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ
أردتُ أنْ أقفَ إحتراماً لما قال المتنبي من غزل نادر المثال وإعجاباً بطريقته في الإلقاء لكني تذكّرت ما فعلَ قبل قليل بأبي نؤاس . طلبتُ ، وقد تأثرتُ كثيراً بأجواء هذه الأبيات ، كأسَ بيرة وقد سمح أبو الطيب لي بذلك ربما تحت تأثير إحساسه بعمق وصدق تاثير ما أنشد للتو من شعر . طربَ هو الآخر وذلك أمرٌ غريبٌ عليه إذْ قلما يطرب حين يُنشد من شعر التغزل والصبابة . نعم ، يطرب ويهتز لشعره في وصف الحروب وفي بعض شعر المديح . ما كان الرجلُ في حياته صاحب مغامرات ونزوات كأغلب حال الشعراء قديماً وحديثاً . إستشرتُ أبا نؤاس في هل أطلب من أبي الطيب قراءة قصيدة ( مَن الجآذرُ في زيِّ الأعاريب ) ؟ قال فوراً : أعوذُ باللهِ ! أبعدنا رجاءً عن البدو والفلوات والجمال والنوق . أبعدنا وأرحنا أللهُ يرحمك ويرحم والديك . قضيتُ عمري أتهرب من سماع قصيدة إمريء القيس ( قفا نبكِ ) ... لا أطيقها يا أخي ولا أطيق سماعها . أخذ من كأسه جرعة متواصلةً قوية ثم قال ساخراً : قلْ لهذا المعتوه ما ضرّه لو كان جلس ؟ لماذا يحب ُّ البكاءَ واقفاً ؟ ألا تهبط عبراته من محجريه إلا واقفاً ؟ ما بالُ عينيه ؟ خففتُ من غلواء أبي نؤاس وهوّنتُ عليه وطأة هذا الشعر قائلاً : كان الرجل بدوياً دائم التنقل على راحلة ويهوى الصيد راكباً حصانه فالوقوف بالنسبة له أمر طبيعي . أما أنتَ يا أبا نؤاس فرجلٌ حَضري ٌّ لا تركب ناقةً ولا فرساً ولا تعرف فنون الصيد والقنص قضيتَ عمرك تعاقر الخمرة في الخمارات وتغازل الصبيان والفتيان وتأتي المحرمات من شتى الألوان . الفرقُ بينكما كبير ، الوقوف لإمريء القيس أمرٌ طبيعي والجلوس لك هو الأمر الطبيعي . ثم ، حين قال ( قفا نبكِ ) ما قصد النهوض بعد الجلوس ، إنما التوقف عن الحركة ... حركة جمله أو فرسه والفرقُ كبيرٌ بين الحالتين . تجاهلني وما قلتُ منصرفاً لكأسه مترنماً بنغم فارسي لعله مقام ( عراق عجم ) أو ( نهاوند ). لو كان محمد القبانجي معنا لسألناه عن إسم ِ هذا المقام .
ماذا تودُ أنْ تشربَ يا أبا الطيب ؟ قال بالفعل ، في فمي ظمأ وجفاف . أريد زجاجةَ ماء معدني مع قليلٍ من الطعام . دجاجة مشوية ؟ قال كلا ، بل نصف دجاجة مع قليل من خبز الشعير الأسمر ولا بأس من رأس بصل حار . جاء ما طلب الشاعرُ الكوفي لكنَّ أبا نؤاس ألحَّ في طلب المزيد من كؤوس البيرة ، لا يشعرُ بالجوع . أية معدة في جوف هذا الرجل ! بعدَ أنْ فرغَ المتنبي من تناول طعامه سألتهما أتودان أنْ نعقدَ مقارنة ً نقدية بين ما قلتما من شعر الغزل والتشبيب ؟ رفضَ كلاهما الفكرة . قالاً ليس اليوم . إنما في لقاء آخر وفي مكانٍ آخر وفي زمانٍ آخر .
خطرتْ في رأسي ـ وأنا بين الصاحي والنائم ـ فكرة ٌ غريبة لكنها ليست مستحيلة في عالمنا المعاصر . أنْ أجمعَ بين الشاعرين العراقيين المتنبي وأبي نؤاس . هل يا ترى يقبلان الإجتماع في بيتي ؟ لِمَ لا ، كل ما يرومان ويبتغيان متوفر لديَّ . لا من مشكلة إذا ً في مسألة المكان . وماذا عن الزمان ؟ أعرض ْ عليهما يوماً محدداً وإنتظرْ الجواب هل يناسبهما أم لا . عند ذاك دعهما يقترحان ما يرتأيان حول هذا الموضوع . كتبتُ للشاعرين رسائلَ بالبريد الألكتروني عرضت فيها فكرة اللقاء بينهما في بيتي وإقترحتُ يوما ً محدداً وساعة معينة لهذا اللقاء . جاءني الردُّ بعد ساعة ٍ تقريباً من كلا الرجلين . وافق كلاهما على فكرة اللقاء وزمنه لكنهما إختلفا حول المكان . فضّل َ أبو نؤاس أن يكونَ الملتقى في حان مكشوف من النوع الشائع في ألمانيا بإسم ( بيركاردن ) / حديقة بيرة
Biergarten
هرباً من حر الصيف والإسترخاء تحت ظلال الأشجار الباسقة ثم كؤوس البيرة المثلجة والدجاج المشوي وغير ذلك من المغريات . أما المتنبي فقد إقترحَ أنْ نلتقي على ساحل نهرٍ رملي ٍّ كساحل نهر الفرات المار بمدينة الكوفة . كيف سأوّفق بين رغبتي الشاعرين ؟ أحدهما مع الظلال والخمرة والآخر مع الطبيعة حيث النهرُ والساحلُ الرمليِّ . إستطلعتُ رأي الشاعرين حول هذا الموضوع العويص مقترحاً أنْ يحاولا التوفيق بين موقفيهما بحيث يكون اللقاء بينهما ممكناً . التوافق !! مودة العصر . أجاب أبو نؤاس أنْ لا مانعَ لديه من الأخذ بفكرة أبي الطيب المتنبي شرط أنْ يكون مكانه المفضل ( البير كاردن ) واقعاً على ساحل النهر الرملي فالرملُ والماءُ والساحلُ للمتنبي وما يتبقى له ، لأبي نؤاس . وجدتها فكرة جيدة ولكن ، أين نجد مثلَ هذا المكان ؟ بيرة مثلجة ودجاج مشوي على ساحلٍ رمليّ يتمدد عليه المتنبي متخذا ً ذراعه وسادة يُريحُ عليها رأسه وإذا سئمَ أو شعر بالتعب أغفى وتعالى شخيره . سألت بالتلفون من إستعلامات المدينة فهدتني إلى مكان يقع في أطراف المدينة ليس بعيداً عن حديقة الحيوان . تذكرتُ ... أعرف هذا المكان ، كنتُ أرتاده في سالف الزمان أيام العز والشباب . إنه بالفعل مكانٌ رائع مثالي ٌّ يستجيب لرغبتي ومتطلبات كلا الشاعرين . النهر المسمى ( إيزار ) والساحل وغاب الشجر الكثيف ورائحة الشواء والبيرة البافارية المعروفة . إجتمعنا هناك وما كان المتنبي مرتاحاً تماماً من المكان . السبب معروف . المتنبي لا يتناول الخمر حتى لو كان كأس بيرة خفيفة . لا يُطيق رائحة الكحول أصلاً فضلاً عمّا ترسّب في ذاكرته من آيات القرآن التي تحض ُّ المسلمين على تجنب تناول الخمرة [[ يسألونكَ عن الخمرِ والميسِر ِ قل ْ فيهما إثم ٌ كبير ٌ ومنافعُ للناس ِ وإثمُهما أكبرُ من نفعِهما ... / سورة البقرة / 219 ]]. أنا أعرف يقيناً أنَّ هذا الكلام َ لا يساوي فلساً واحداً بالنسبة للشاعر الآخر ، أبي نؤاس . طيب ، الرمل للمتنبي الكوفي والبيرة للحسن بن هانئ البصري . قسمة ٌ ليست ضيزى ، بكل تأكيد . طلب البصري ٌّ قدحاً كبيراً من البيرة بحجم لتر ٍ كامل يسمونه هنا ( ماس ) و طلب دجاجةً مشوية ً كاملة . لم يطلب المتنبي إلا قنينة َ ماء ٍ معدني . حين جاء ما طلبا لفَّ المتنبي نصف وجهه الأسفل بكوفيته بحيث غطت منخريه . لا يطيق ُ شم َّ رائحة الكحول . رفع أبو نؤاس كأسه عالياً وغمزني بعينه مشيراً برأسه صوب َ المتنبي ثم صاح : في صحتك يا أبا الطيب ! تبسّم الرجلُ على مضض ٍ ولم يعلّقْ . كان واضحاً لي أنْ لا مِن رغبة ٍ جدية ٍ لدى أبي نؤاس لخوض أي نقاش في ذلك المكان وتلكم الأجواء شبه الساحرة . شباب ٌمن حولنا يسكرون ويغنون ويرقصون ويسبحون في النهر أشباه عراة فأي ُّ مزاج ٍ جاد ٍ يأتي أبا نؤاس ؟ طلب كأساً ضخماً ثانياً حين تركنا المتنبي حافي القدمين فخاض في النهر حتى نصفه . تحلّقت الفتيات حوله والفتيانُ مندهشين لرؤيتهم رجلاً ( غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان ) مرتدياً جلابية ً بيضاءَ فضفاضة ً مما حمل معه من مصرَ ثم الكوفية التي غطت نصف وجهه . كلموه بلغتهم فلم يجبهم . أعادوا عليه الكلام فأهملهم . حسبوه مجنوناً فتضاحكوا بصخب ثم إنهالوا عليه برشقات سريعة من ماء النهر حتى إبتلت جلابيته وكوفيته فترك النهر عجلانَ نادماً على ما فعل . لذتُ بالصمت لكنَّ الخبيث َ السكير إنفجر ضاحكاً بشكل هستيري إستفز به المتنبي المسكين ولفت أنظار الحاضرين . فرجة للعالمين ... سينما سكوب بالألوان . ما كان المتنبي مرتاحاً مما فعل زميله الشاعر أبو نؤاس . كان فعلُ تشف ٍ غيرُ لائق ٍ ولا في مكانه . عصر المتنبي ماء جلابيته وكوفيته وكان الجو ُّ ما زال حاراً فنشفتا بعد فترة ٍ وجيزة . هل تشرب ُ شيئاً آخر َ يا أبا الطيب ؟ قال هل لديهم هنا شاي ٌ قوي ٌّ أو قهوة ٌعربية مرّة ؟ لا أظن يا متنبي . إنه بار مخصص أساسا ً لخدمة البيرة والدجاج المشوي ولحوم أخرى وليس مقهى . تمتم مع نفسه : لماذا قبلتُ هذه الورطة ؟ ما الذي يجمعني وهذا الشاعر الفاسق الخليع ؟ كيف السبيلُ للتخلص والهرب ؟ لا من مهرب ٍ يا أبا الطيب ، قلتُ له . إنما جمعتكما لتتناظرا في الشعر وفي أمور آخرى كثيرة ما زالت غامضة لم يمط ْ أحدٌ اللثامَ عنها بعدُ . ما زلنا في بداية الطريق وما زال لدينا الكثير من الوقت ثم إنك اليوم ضيفي فعلامَ العَجَلة يا أبا الطيب ؟ هذا الفاسق ُ أفسد عليَّ أمري كما ترى . سامحه فالمسامحُ كريم ٌ ولأنتَ الكريمُ . إنه مثلك شاعر والشعراءُ في كل واد ِ يهيمون سيما إذا شربوا القرقف َ الخندريس . طلب أبو نؤاس كأساً ثالثةً وحين جاءته الكاسُ ذهبية ً صفراءَ مشعشعة ً لا من فرق ٍ بين بهائها والفتاة الشقراء التي حملتها ... وجهها إلى المتنبي ثم صاح جَذِلا ً : في صحة أبي الطيب المتنبي ! أشاح هذا بوجهه عنه ممتعضاً لكنه لم ينبسْ ببنة شَفة ٍ . ما أن ْ أفرغ أبو نؤاس شرابه في جوفه حتى اقترحَ المتنبي أن نغادر َ المكان فقد شعر فجأة بصداع ٍ في رأسه . كان ذلك مجرد عذر ٍ منه إذْ كان واضحاً أنه فقد صبره ولا يطيق تحمّل المزيد من مداعبات أبي نؤاس الثقيلة ولا المزيد من كؤوس البيرة القوية التي شرعت بالفعل تلعب في رأسه [ يا مَن لعبتْ فيه الشَمولُ ...] رغم تظاهره بالسيطرة والتوازن . إلى أين نمضي يا أبا الطيب وما زال الوقت عصراً عالياً والشمسُ في كبد السماء ولم نبدأ المناظرات بعدُ ؟ لماذا نحنُ هنا إذا ً ؟ قال قد أبقى معكما إذا ما توقف هذا السكير العربيد عن تناول المزيد من الخمرة . كأسٌ رابع يكفي أنْ يُفقده عقله . أطلبْ منه أنْ يكف َّ عن دعاباته السمجة الثقيلة وإني لا أطيقها ولا أجيدُ ممارستها من قبيل الرد عليه إنما أجيدُ اللعبَ بالسيف والطعان بالرمح ! أهذا تحذير له يا متنبي ؟ تحذير شديد اللهجة وحاسم ، قالَ . هل سمعتَ يا ابنَ هاني تحذير زميلك الشاعر الكوفي الجاد دوماً والمتجهم أبداً ؟ قال قد سمعتُ ووعيتُ قصده فليعذرني وليتقبلْ مزاحي فالجو مؤاتٍ يشجعني على المزاح والبيرة تلهب النفوس وتشعل في رأسي حرائقَ وتقول الشعر نيابة ً عني . سرّني كلامه هذا أيما سرور . قلت هيا إذا ً يا شاعرَ الخمرة ِ والمجون ِ والغلمان ... أتحفنا بجديد شعرك . همس في أذني : هل من كأس رابعة ؟ أعوذ بالله ! الكأسُ الرابعةُ تفسدُ هذه الجلسة وتقوِّض شروط المتنبي التي وافقنا عليها للبقاء معنا حتى آخر السهرة .... لا تخترقْ مبدأ التوافق والتراضي ! قال سلّمتُ أمري لك ولهذه الساقية الشقراء وللكأس الفارغة التي أتمنى أنْ تمتلئ بقدرة قادر ٍ راحاً صفراءَ ذهبية كهذه الفتاة التي خدمتنا وسقتنا ولم نقبِّل يدها ... إننا قومٌ جاحدون وبدو متخلفون . بادرتُ ربعي بالقول ها نحنُ أولاءِ مستعدون للإنتقال من أجواء السكر والهزل والتنكيت الثقيل إلى أجواء الجد والمنازلة بين بطلي ميادين الشعر لا ميادين السيف والرمح والخيول. أعددتُ لكما خطة ً مفتوحة ً ومنهاجاً لإدارة مناظرة اليوم مستهدفين كشف المجاهيل في عالميكما والوقوف على سر التمايز بينكما في الشعر وغير الشعر . كانا صامتين يصغيان بترقب ٍ لما كنتُ أقولُ . السؤال الملحاح الذي لا ينفك ُّ يدور في رأسي هو ما سبب إنصراف أبي نؤاس بالدرجة الأولى لشعر الخمرة والغلمان وما سر براعته ونجاحه المتميّز في قول هذا النوع من الشعر. ثم ، ما سبب إنصراف أبي الطيّب المتنبي لشعر المديح ووصف الحروب علماً أنه دأبَّ على إفتتاح جُلّ قصائده بالغزل الأنثوي الراقي وهي ظاهرة لا وجودَ لها في قصائد أبي نؤاس . هذا يدخل في موضوعاته مباشرة ً بدون مقدمات بينما يمهد ُّ المتنبي لموضوعاته الرئيسة تمهيداً بطيئاً سلسلاً ملتزماً حرفياً ببيته الشعري الذي قال فيه [[ إذا كانَ مدح ٌ فالنسيبُ المقدّّمُ / أكلُ فصيح ٍ قال شعراً متيّمُ ؟ ]] . ضحك أبو نؤاس عالياً ساحباً ظهره إلى الخلف رويداً رويداً ، تلفتَ يمنة ً ويسرة ً لكأنه ينتظر شيئا ً ما ثم قال : أنتَ وضعتَ يدكَ على لب ِّ الفرق بين شعري وشعر صاحبي المتنبي . أعني الفرق في الأهداف والمقاصد وليس في أساليب وفنون نظم الشعر، فهذه مسألة أخرى قد لا نستطيع الإلمامَ بها في يوم أو شهر ولا في شهرين. كنا منصتين لما يقول . إنا مختلفان في أهدافنا ومقاصدنا الشعرية. المتنبي يمدح الأمراء وبعض الرجال المتميزين في شؤون الحرب أو الأدب أو الصيد أو من ذوي الفضل عليه . كان على رأس هؤلاء الرجال إثنان كما تعلمون هما سيفُ الدولة الحمداني ثم كافور مصرَ الإخشيدي . كان ذاك أمير حلب وبطل الحروب مع الروم وكان الآخرُ عزيزَ مصر ٍ [ نامت نواطيرُ مصر ٍ عن ثعالبها ] وإمام المسلمين فيها . فهو ، بإختصار ، إنْ مدح الرجال فإنهم رجال ٌ سواء زمنَ الحرب أو السلم . لذا فإنه يسعى للتمهيد لمديحه ولوصف تفصيلات الحرب التي غالباً ما كان يخوضها سوية ً مع سيف الدولة . مديح ُ الرجال كان كما إخالُ ثقيلا ً عليه لكنه لا بدَّ منه فإنه وسيلة عيشه وإنفاقه على خيله وسلاحه وعبيده وخدمه وحرسه وأهل بيته . أما الحرب فلا أثقل منها ومن ذا الذي يحب الحرب وويلاتها وما يسيل جرّاها من دماء ؟ لذا فإنه وهو الشاعر الفحل فناً ولغة ً ومنطقاً وثقافة ً يميل بالطبع السويِّ إلى تخفيف أجواء المديح ووصف الحروب بإتباع أسلوب النسيب والتشبيب وقد برع في هذا الفن أيما براعة . وطبيعي أنْ يتغزل بالفتيات والصبيات لأنه ما كان في طبعه منحرفا ً عن الطبيعة الجنسية السوية . لو كان مثلي لوطياً لقال مثلَ ما قلتُ في شعر الغلمان وتشبب بهم وربما كان سيتفوّق عليَّ في هذا الميدان . إننا مختلفان في طبيعتنا التي حملناها معنا منذ الولادة . الطبع والسليقة ! تمام أبا الطيب ؟ هز َّ المتنبي رأسه موافقاً ثم أضاف : كان التكسّبُ في زماننا بقول الشعر ظاهرة ً مألوفة ً وشائعة ومقبولة إذ ْ ما كان لدينا من وسائل العيش ما يغنينا عن المديح . أضفتُ أنَّ زمانك يا أبا نؤاس غير زمانه وبيئتك في بغداد والبصرة غير البيئات التي إحتضنت المتنبي سواء في حلب أو في فسطاط مصر . كانت بيئاتك َ وزمانك تتقبل شعر المجون والخمور والغلمان خاصة َ في بغداد وهذا أمر مخالفٌ لأوضاع حلب ومصر يومذاك . مع ذلك ، أضفتُ ، كان المتنبي قد قال شعراً فيه بعض الغزل ببعض ممدوحيه من حسني الوجوه وكان ذلك غزلا ً أفلاطونياً كما يُسمى . لو تصفحنا ديوانه لوجدنا شيئاً من ذلك في شعر مديحه لسيف الدولة وبدر بن عمار ثم إبن العميد . تمام أبا الطيب ؟ قال تمام . الآن ، مَن منكما يسأل والآخر يُجيب ؟ قال المتنبي بل أنا أول مَن يسأل . تفضلْ . ما سبب ُ تركيز أبي نؤاس في غلمانياته على فتيان وصبيان الأديان الأخرى وخاصة ً النصارى منهم ؟ مسّد ُ أبو نؤاس لحيته المخضبة بالحناء هازاً رأسه علامة َ قناعته بمعقولية السؤال ووجاهته . دس َّ في فمه مُضغة ترياك ٍ أخرى وسعلَ وتمخط َّ ومسح أنفه بكم قميصه ثم قال : سببان في الأقل لا سببٌ واحد . كانت النصارى فتيات ٍ وفتيانا ً هم من يُدير ويديم حانات الخمور وهم من يخدم الزبائن من أمثالي فيها . وهم لا غيرهم الخبراء في عصر الكروم وفن تعتيقها وتصفيتها ثم تعبئتها في الدنان والزِقاق وقوارير الزجاج . ديننا لا يسمح للمسلمين بإمتهان هذه المهنة وهي صنعة معقدة لا يتقنها كائنٌ مَن كان . السبب الثاني وهو مرتبطٌ بالأول ... كانت صباياهم وفتيانهم حَسِني الوجوه متميزين بما يرتدون من جميل الملابس ويتفننون في تصميمها وخياطتها وزركشتها فكأنهن َّ الدرُّ المكنون وكأنهم ولدان ُالجنة المخلدون ونحن بينهم السكارى المؤمنون يطيفون علينا بخمرة الجنة في كؤوس من ذهب وأطواق الذهب في أعناقهم وسوالفهم معقوفة كالعقارب . لكل هذا قلتُ فيهم في بعض ما قلتُ :
عَلِقتُ من شِقوتي ومن نَكَدي
مُزنَّرا ً ، والصليبُ في عُنقهْ
ثم قلتُ في مناسبة أخرى ما هو أشنع من هذا :
وغزالٍ عاطيتهُ الراحَ حتى
فترت ْ منهُ مُقلة ً ولسانا
قال : لا تسكرَني بحياتي
قلتُ : لا بدَّ أنْ تُرى سكراتا
إنَّ لي حاجة ً إليك إذا نم
تَ فإنْ شئتَ فاقضها يقظانا
فتلكا تلكيا ً في انخناث ٍ
ثم أصغى لِما أردتُ فكانا
سأله المتنبي : أكان هذا الغزال نصرانياً ؟ قال بل يهودياً . أردتُ أن أسأله وهل تغزلتَ بصبي مسلم لكني إنثنيتُ ولم أسال . حثه المتنبي على إنشاد المزيد من قصائد مجونه وتهتكه لكنه أعاد الكرة إلى ملعب المتنبي إذْ أصرَّ أن يقرأ لنا شيئا ً من غزلياته . أبعد أبو الطيّب لثامه عن وجهه وتأهب لينشدنا شيئاً من قصيده في التشبيب والنسيب . قام كعادته حين يقرأ اشعاره لكنَّ أبا نؤاس تشبّث بجلبابه وسحبه منه بقوة طالباً منه أنْ يجلس . إمتعض المتنبي فعاجله أبو نؤاس بقوله : لا تثريبَ عليك أبا الطيب ، إجلس وأقرأ إنما نحن في ألمانيا ولسنا في بلاط سيف الدولة الحمداني أو كافور الإخشيدي . إجلسْ يرحمك الله وهاتِ أسمعنا من نوادر غزلك الأنثوي. بقي المتنبي ممتعضاَ مما فعل أبو نؤاس معه لفترة ثم برد غيضه عليه وتأهب ليُلقي :
أمِنَ ازديارَكِ في الدجى الرُقباءُ
إذْ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ
قلقُ المليحةِ وهي مسكٌ هَتكها
ومسيرُها في الليلِ وهي ذُكاءُ
مثلتِ عينكِ في حشايَ جراحةً
فتشابها ... كلتاهما نجلاءُ
نفَذتْ عليَّ السابريَّ وربما
تندقُّ فيهِ الصَعدةُ السمراءُ
قام أبو نؤاس صارخاً : الله الله ... للهِ درُّك أبا الطيّب ... باللهِ عليكَ أعدْ قراءة ما قرأتَ ثانية ً . مسكه المتنبي بقوة من كمّه وأمره بالجلوس . جلس ونظر إليَّ نظرة توسل فهمتُ مغزاها . طلبتُ له كاساً آخرَ كبيراً من البيرة البافارية بعد أنْ إستأذنتُ المتنبي في ذلك فأذِنَ . ما أنْ شرع النؤاسي بعب ِّ ما في كأسه من تبر منصهر ٍ سائل ٍ حتى طلبتُ من أبي الطيب أنْ يقرأ علينا شيئاً من قصيدة ( ليس إلاكَ يا عليُّ ) فامتثلَ وأنشدَ :
ما لنا كلنا جوٍ يا رسولُ
أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ
كلما عادَ مَنْ بعثتُ إليها
غارَ مني وخانَ فيما يقولُ
زودينا من حسنِ وجهكِ ما دا
مَ فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصِلينا نصِلكِ في هذه الدن
يا فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ
أردتُ أنْ أقفَ إحتراماً لما قال المتنبي من غزل نادر المثال وإعجاباً بطريقته في الإلقاء لكني تذكّرت ما فعلَ قبل قليل بأبي نؤاس . طلبتُ ، وقد تأثرتُ كثيراً بأجواء هذه الأبيات ، كأسَ بيرة وقد سمح أبو الطيب لي بذلك ربما تحت تأثير إحساسه بعمق وصدق تاثير ما أنشد للتو من شعر . طربَ هو الآخر وذلك أمرٌ غريبٌ عليه إذْ قلما يطرب حين يُنشد من شعر التغزل والصبابة . نعم ، يطرب ويهتز لشعره في وصف الحروب وفي بعض شعر المديح . ما كان الرجلُ في حياته صاحب مغامرات ونزوات كأغلب حال الشعراء قديماً وحديثاً . إستشرتُ أبا نؤاس في هل أطلب من أبي الطيب قراءة قصيدة ( مَن الجآذرُ في زيِّ الأعاريب ) ؟ قال فوراً : أعوذُ باللهِ ! أبعدنا رجاءً عن البدو والفلوات والجمال والنوق . أبعدنا وأرحنا أللهُ يرحمك ويرحم والديك . قضيتُ عمري أتهرب من سماع قصيدة إمريء القيس ( قفا نبكِ ) ... لا أطيقها يا أخي ولا أطيق سماعها . أخذ من كأسه جرعة متواصلةً قوية ثم قال ساخراً : قلْ لهذا المعتوه ما ضرّه لو كان جلس ؟ لماذا يحب ُّ البكاءَ واقفاً ؟ ألا تهبط عبراته من محجريه إلا واقفاً ؟ ما بالُ عينيه ؟ خففتُ من غلواء أبي نؤاس وهوّنتُ عليه وطأة هذا الشعر قائلاً : كان الرجل بدوياً دائم التنقل على راحلة ويهوى الصيد راكباً حصانه فالوقوف بالنسبة له أمر طبيعي . أما أنتَ يا أبا نؤاس فرجلٌ حَضري ٌّ لا تركب ناقةً ولا فرساً ولا تعرف فنون الصيد والقنص قضيتَ عمرك تعاقر الخمرة في الخمارات وتغازل الصبيان والفتيان وتأتي المحرمات من شتى الألوان . الفرقُ بينكما كبير ، الوقوف لإمريء القيس أمرٌ طبيعي والجلوس لك هو الأمر الطبيعي . ثم ، حين قال ( قفا نبكِ ) ما قصد النهوض بعد الجلوس ، إنما التوقف عن الحركة ... حركة جمله أو فرسه والفرقُ كبيرٌ بين الحالتين . تجاهلني وما قلتُ منصرفاً لكأسه مترنماً بنغم فارسي لعله مقام ( عراق عجم ) أو ( نهاوند ). لو كان محمد القبانجي معنا لسألناه عن إسم ِ هذا المقام .
ماذا تودُ أنْ تشربَ يا أبا الطيب ؟ قال بالفعل ، في فمي ظمأ وجفاف . أريد زجاجةَ ماء معدني مع قليلٍ من الطعام . دجاجة مشوية ؟ قال كلا ، بل نصف دجاجة مع قليل من خبز الشعير الأسمر ولا بأس من رأس بصل حار . جاء ما طلب الشاعرُ الكوفي لكنَّ أبا نؤاس ألحَّ في طلب المزيد من كؤوس البيرة ، لا يشعرُ بالجوع . أية معدة في جوف هذا الرجل ! بعدَ أنْ فرغَ المتنبي من تناول طعامه سألتهما أتودان أنْ نعقدَ مقارنة ً نقدية بين ما قلتما من شعر الغزل والتشبيب ؟ رفضَ كلاهما الفكرة . قالاً ليس اليوم . إنما في لقاء آخر وفي مكانٍ آخر وفي زمانٍ آخر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق