الاثنين، أغسطس 11، 2008

أبو نؤاس والأمين

د. عدنان الظاهر

(( تلابيبي ))

ما هي التلابيب ؟ تلا + بيب
تلا يتلو ولكن ْ ، ما معنى بيب ؟ بيب ؟ تُقرأ من يمينها إلى يسارها كما تُقرأ من اليسار إلى اليمين ويبقى البيبُ هو البيبُ ! ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هي الخمرُ ... أين أنتَ اليوم وفي هذه الساعة يا أبا نؤاس أيها الشاعر الحَلقي الفاسق ؟ كيف تسخر من خليفة المسلمين أمير المؤمنين محمد ٍ الأمين بقولك له شعراً [[ لا أرى خِلافهُ مستقيما ]] ؟ ألا تدري ما هو المستقيم بالنسبة لجهاز الإنسان الهظمي يا خبيث ؟ إلى هنا قادك شذوذك الجنسي ، إلى حدِّ السخرية بالأمين وأمير المؤمنين وكان ، بالمناسبة ، مثلك لوطياً فشلت جهود أمه زبيدة في تحويل طبيعته الجنسية المنحرفة
( شذوذه ) بإغرائه وإغراقه بعشرات الفتيات الغلاميات إذ تغلب طبعه عليه فعاد إلى إنحرافه الأصل حيث باشر غلامياته مباشرة الغلمان وكان وأمه في غاية السرور من ذلك . تنفست أمه الصُعداءَ إذ أنقذته من ورطة إتيان الأولاد والصبيان فصار يأتي النسوان الصبايا ولكن ... من خلاف ٍٍ ... لعنك الله يا أبا نؤاس ... يقال إنك أنت من درّبه وعلمه هذا الدرب المنحرف . ألستَ القائل [[ وداوني بالتي كانت هي الداء ُ ]] ؟ تنحنح أبو نؤاس ، بلع ريقه ثم قال : أجل ْ ، واللهِ قد قلتُ ولكن ْ ، كنتُ أقصد الخمرة لكنَّ مولانا وخليفة المسلمين قلب الموضوع وفسره التفسير الذي يُرضي إنحرافه الجنسي . ماذا تقصد يا شاعر الخلفاء ؟ أقصد أنَّ خليفتنا أساء فهم وتطبيق كلامي فصار بالنسبة له [[ وداوني بالذي كانَ دوائي ]] يقصد نهاية المستقيم . عاد أبو نؤاس فذكر المستقيم الذي إستقر لفظا ً وصورة ً في رأسه منذ ما قبل أن يقولَ قصيدته الفضيحة تلك ... قصيدة المستقيم . لا أرى خلافه ( أي من خلفه ... في ظهره أو مؤخرته ) مستقيما . تلابيبُ تلابيبُ تلابيب ... يا لعين ، هل رأيتَ في حياتك الفانية بشراُ سويا ً لا مستقيمَ له ؟ كيف يتخلص من فضلات جهازه الهظمي إذاً ؟ يا خبيث !! ثكلتك أمّك حمّالةُ الحطبِ قلادتها في جيدها حبلٌ من مَسَد . تبسّم الحسن بن هانئ مستسلماً للهزيمة بعد أن تمَّ إلقاء القبض عليه متلبساً بالجرم المشهود. وضع في فمه مُضغة ترياك قوية فسرح عني لا أعرف أين . غامت عيناه وأوشك أن يغفو . هززته من كتفه هزات ٍ عنيفةً فوجدتُ في أعماق عينيه عَتمة ً غريبة ً حتى خُيل لي أني أرى عيني رجل ٍ ميّت ٍ نهض لتوَه من كهفه . أما زلتَ على قيد الحياة يا رجل ؟ صرخت في وجهه . هزَّ رأسه ببطء شديد . تركته لعله ينام تحت تأثير ما تناول من مخدر قوي . إستسلم بالفعل لسلطان الكرى . مال رأسه على عظم ترقوته وما أنْ إنفرجت شفتاه عن أسنانه الصًفر المتآكلة حتى بدأت موجاتُ الشخير تتصاعد بوتائرَ مخيفة . يتوقف تنفسه بين حين وحين ثم تنفجر موجات الشخير أعلى فأعلى . كنت مرتاحاً لهذه الشغلة بل وأشعر بنوع من السرور . حين صحا قال : يا خبيث ! مضى على بيتي الشعري هذا قرابة ثلاثة عشر قرناً من الزمان لم يستطعْ أحد ٌ غيرُك من البشر من فك طلاسمه وتفسيره حسبما أردتُ من معنى . [[ لا أرى خِلافه مستقيما ]] ... كنت أعني حرفيا ً ما إكتشفتَ أنت اليوم أيها اللعين . كان خليفتنا شاذ الميول الجنسية وكان يُسر ُّ كثيراً لسماع كلمة مستقيم ومرادفاتها وما يتعلق بها . هكذا خلق الله خليفتنا وأمير مؤمنينا فما ذنبه ؟
تلابيبٌ تلابيبٌ تلابيب ... بيييييب ... بييييب ... بيبيمتّو ... ببغاء ... بغاء بحذف حرف الباء الأول أو الثاني ... لا من فرق . آه باه باه آه ! أمسكتُ بقوة بتلابيب أبي نؤاس فبانت أضلاع صدره مقوَّسة ً عجفاء فرقَّ قلبي له ... يا لك من رجل بائس قضيتَ عمرك بين الغلمان والخمّارات وندامى الكؤوس وأفعال السوء . قال محاولاً التملص من قبضتي : كما خلق ربنا خليفتنا منحرف الطبع الجنسي هكذا أنا وما أنا إلا مخلوق ظرفي وناسي ومجتمعي . أنا إفرازُ ونتاج وخلاصة بيئة كانت هي السيدة السائدة في زمني . واتت الفُرصة الذهبية لأسأله بمن تأثر في خُلقه وشعره فقال تأثرت ُ من حيثُ أدري ولا أدري بكل من والبة إبن الحُباب ثم خلف الأحمر . وكان كلا الرجلين لوطياً وعلماً في الأدب واللغة العربية . هل عرفتَ أو درست عمر الخيام ؟ قال وَمن مِن شعراء وأدباء زماننا مَن لم يقرأ هذا الرجل ؟ كان يحب النساء والخمرة والفلسفة ثم الرياضيات . لذا كنا نعتبره شاذاً عن سياق زمرتنا العام ، ما كان لوطياً مع شديد الأسف . يا لعين ... وتتأسف على ذلك ؟ قال أجل أتأسف أشد الأسف . لو كان الرجلُ لوطياً لقال في الصبيان أجمل الأشعار فهو العالم الفيلسوف الواسع الثقافة والمعرفة . هل كنتَ يا أبا نؤاس ، لو عاصرته وصادقته ، قادراً على تزيين الإنحراف له كما نجحتَ مع خليفتك أمين الله ؟ قال كنتُ بكل تأكيد سأحاول ذلك ولكن النجاح كما تعلم والتوفيق بيد الله لا بيدي . وماذا عن الشاعر مثلك بشار بن بُرد ؟ قال كالممتعض قد حان وقتُ صلاة المغرب فدعني أتوضأ . فهمت على الفور أنه ما كان يرتاح لهذا الشاعر . سأسأله لاحقاً عنه شاعراً ورجلاً جسوراً ما هاب أمراً أو أحداً في زمانه وهو من كان قد قال زمانَ الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور :

إذا الملكُ الجبارُ صعّرَ خدّهُ
مشينا إليهِ بالسيوفِ نعاتبه ْ

لا غرابةَ في نفرته منه فلطالما عبّر طه حسين عن سخطه عليه وسخريته منه رغم َّ أنه مثله أعمى . إنتبهتُ ... هل يصلي هذا الرجل الفاجر الخمّار اللوطي ولمن ولماذا يصلي ؟ سأعرض عليه هذه الأسئلة ولسوف أرى ماذا يكون جوابه عنها . إنه رجل صريح شفاف لا يكذب أبداً يضع ما في قلبه على طرف لسانه .
أما زال أبو نؤاس يسجد ويركع ؟ طالت صلانه وعهدي به يقضيها قضاءً متأخراً . سألتُ عنه إمام الجامع المجاور قال إنه لم يرهُ منذ ليلة أمس . أين ولماذا إختفى هذا اللوطيُّ اللعين ؟ الخوف من لسان وشبح بشار بن برد ؟ محتمل . بعثت إلى بيته خادمَ الجامع ورسالة ً قصيرة ً أقترح عليه فيها أنْ نلتقي مساء اليوم في إحدى خمارات بغداد التي تديرها أخواتنا من قوم عيسى اللواتي جرى خلفهنَّ ناظم الغزالي ولما لم يعثرْ لهنَّ على أثر راح يسأل عنهنَّ راهب الدير [[ يا راهبَ الديرِ هل مرّتْ بكَ الإبلُ ]] ؟ أبابيلُ أبابيلُ أبابيل ... بابل أبابيل ... طير ٌ أبابيل ترميهم بحجارة ٍ من سجيل، وتجعلهم كعصف ٍ مأكول ٍ ... أبابيلُ أبابيلُ ظاهرها حق ٌّ وباطنها أباطيلُ . ما رأيك يا متنبي بهذه الخربطات ؟ كان حاضراً متهيئاً للجواب إذ قال :

مَن الجآذرُ في زيِّ الأعاريبِ
حُمرُ الحلى والمطايا والجلابيبِ ؟

جلابيبُ جلابيبُ جلابيب ... أعاريبُ أعاريب ُ ... تلابيبُ تلابيبُ تل
أبيبْ . هل يتشبثُ العاشق المتيم بجلباب الحبيبة حين تتأهب لصعود ظهر ناقتها عازمة ً على الرحيل ؟ جاء الخادمُ مستبشراً أنْ لا من مانع ٍ لدى أبي نؤاس في هذا اللقاء شرطَ أن لا يشاركَ مجلسَ شرابنا أحدٌ من ندمائنا والأقربين أصدقاء السوء . هل سيقرأ الشاعرُ عليَّ شيئاً من خمرياته أم أنا الذي سيطلبُ منه ويحثه على فعل ذلك ؟ ذلك يعتمد في الأساس على كم رطلاً من قهوة الخندريس المعتقة سيكرع هذا الماجن العربيد . عهدي به لا يسكرُ أبداً فهو يعرف كيف يداري مفعول الخمرة في رأسه ومتى يُبطئ ومتى يُسرع في وتائر ِ تعاطيها ، تماماً كالفارس الذي يعرف كيف يقود جواده . الخمرة المعتقة الأصيلة كالفرس الأصيلة تحتاج الأولى إلى سكير حاذق أصيل والثانية إلى فارس ذي دُربة ٍ أصيل . الخمرةُ تجري بشاربها والفرسُ براكبها فكلتاهما مركوبتان . على أية حال ، أعددتُ قائمة تضم مختارات ٍ من خمريات أبي نؤاس سأعرضها عليه بعد الكأس الثالثة ولسوف نرى ما سيختارُ للقراءة منها أو من غيرها . أخطط للسهرة وفي رأسي يلحُّ بشدة ٍ بيتُ أبي نؤاس الشهير :

ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هي الخمرُ
ولا تسقني سراً إذا أمكنَ الجهرُ

جلابيبُ جلابيبُ جلابيب ... جلا يجلو ... بيبْ بيبْ بيبْ ! هل مرّت بكَ الإبلُ ؟ نعم ، مرّت أسرع َمن مفعول الخمرة برأس متعاطيها الغشيم وأسرعَ من حصان المتنبي الذي قال فيه [[ وأصرعُ أيَّ الوحش ِ قفيّتهُ بهِ / وأنزلُ عنهُ مثله ُ حين َ أركبُ ]] بل وأسرعَ من سرعة الصوت ( سوبر سونيك ) . لبلبي لبلبي حامض حلو ما بلاد عبد الأمير الكوّاد ... لبلبي ... حامض حلو أبيض وبيض ... إلخ . هذا تمهيد لما سأجهز من مزّة ومأكولات لضيفي العزيز أبي نؤاس فهو مثلي يحبُّ الفاكهة َ والحلويات.

عاجَ الشقي ُّ على رسمٍ يسائلهُ
وعُجتُ أسألُ عن خمّارة البلدِ

وصلتُ الحانة َ المتفق عليها قبل أبي نؤاس . هكذا كانت عادته ، التأخر في الوصول إلى مواعيده لعل ذلك من باب التحوّط والخوف من الإغتيال فمثله مُستهدَف للقتل في بغداد في هذه الأيام ! إخترتُ ركناً منعزلاً خافت الضوء لكني كنتُ قادراً على قراءة ما في القائمة من قصائد رشحتها كي يقرأها عليَّ شاعرها أبو نؤاس حين يضرب مفعول الخندريس أمَّ رأسه .
حضر صاحبي بعد نصف ساعة نشطاً جميل الهيئة متهلل الوجه يردد لحناً فارسياً من أنغام أصفهان . تخِذ مجلسَه بجانبي وقال على الفور : أين دنان الخمر يا هذا وأين دوارقه البللورية ؟ ما هذا بيدك يا نديمَ الصعاليك وعابد الصبايا الحسان ؟ إنها قائمة تضم ُّ بعضَ قصائدك في الخمر ومن يعتقه ومن يسفح زِقاقه ومن يفضُّ ختام دنانه من صبيات وغلمان قوم عيسى وموسى . أخذ الورقة من يدي ، تمعنَّ فيها وأعاد قراءة محتوياتها . وضعها على الطاولة بجوار دنان الخمرة الصفراء والحمراء ثم قال : أنا لا أنتَ من سيختار ويقرأ ! لا إعتراضَ لديَّ يا شاعر . إقرأ ما شئتَ وستجدني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرين . قال يا خبيث ! أفي مثل هذا الماخور تتذكرُ دينك ؟ قال هذا الكلامَ الصبيُّ إسماعيلُ لأبيه إبراهيمَ حين فاتحه بموضوع الحلم الذي رآه في منامه وفيه أمرٌ بذبحه قرباناً لوجه الرب بعد أنْ أتمَّ بناء َ الكعبة ورفعَ القواعد . لا تدخلنا يا أبا نؤاس في إيراد ومصرف ، إنما نحن هنا لنشرب الصهباءَ الذهبية وحمراءَ النار والياقوت. ما لنا وإبراهيم وقواعد الكعبة وقد أرسل َ رب ُ إبراهيم َ له كبشاً عظيما ليذبحه قرباناً بدل ولده الصغير إسماعيل إبن هاجر المصرية خادمة سارة أو ساراي . عببنا أول كأس بزنة رطلٍ من الصهباء الكُميت . قلت لصاحبي هيا بادرنا بقراءة بعض أشعارك . قال ألا تطمعُ بسماع قصة شعر[ المستقيم ] قبل أشعار الخندريس ؟ فوجئتُ ... تذكرتُ أنَّ هذه مسألة لا مندوحة من معرفة تفاصيلها . قلتُ ضارباً الطاولة بكفي بقوةٍ بل أطمعُ وأطمحُ ، هيا توكلْ وقصَّ عليَّ خبرَك مع مستقيم خليفتك العباسي أمين الله بن هارون الرشيد . قال : كان هذا الأمين قد إستدعاني ذات يوم ٍ على عجل ٍ إلى قصره على ضفة نهر دجلة . حضرتُ فلم يأذنْ لي بالجلوس وكان شررُ النار يتطاير من عينيه . قلت سيأمرُ خليفة المسلمين بقتلي . قال بإيجاز وصرامة ألم أنهك َ عن تناول الخمر والكفِّ عن الفسق والفجور ؟ لم أجرؤْ على النطق . هززتُ رأسي أنْ بلى ، قد أمرتني ونهيتني يا أميرَ المؤمنين . قال هذه فرصتك الأخيرة وما بعدها إلا تعليقك مشنوقاً على جسر دجلة . ثم طلب مني أنْ أُقسم بكل مقدس أنْ لا أقربها مطلقاً . عببنا رطلاً آخر أصفرَ مثل َ عين الديك . صعدت الحرارة ُ في رأسينا بسرعة الكهرباء . لذنا بالصمت لبرهةٍ ثم حثثته أنْ يواصلَ الكلام . قال : دعتني نخبة ٌ من قدامى الندماء لقضاء ليلة حمراءَ في بستان أحدهم على شاطئ دجلة . كانت ليلة ولا كباقي ليالي العمر . عزفت على عودها مَن عزفت وغنّت مَن غنت ودارت الكؤوس تترى وحين وصلني الدورُ إعتذرت ُ . ألحّوا عليَّ فأصررتُ على رفضي . سألوني عن السبب فقصصت ُعليهم حكايتي مع خليفتي محمد الأمين . وفي تلكم الليلة قلتُ هذه القصيدة التي أعجبتك كثيراً ومطلعها :

أيها الرائحانِ باللوم ِ ، لوما
لا أذوقُ المُدامَ إلا شميما

نالني بالمَلام ِ فيها إمام ٌ
لا أرى لي خِلافَهُ مستقيما

فاصرفاها إلى سوايَ فإني
لستُ إلا على الحديثِ نديما

كُبرُ حظيَ منها إذا هي دارتْ
أنْ أراها ، وأنْ أشُمَّ النسيما

أراد الشاعر أن يمضي في قراءة القصيدة حتى آخرها لكني رجوته أن يتوقفَ لكي نختارَ قصيدةً أخرى تلائم جلستنا وظرفنا الراهن . وضع نديمي في فمه ِ مُضغة َ ترياك كبيرة أخرى فتفاعل على الفور مفعولها المخدِّر ومفعول الخندريس القوي . دارت في محجريها عيناه ُ الواسعتان وتعرّق جبينه الواسع الأبلج فوضع عمامته في حضنه وتأهب ليعبَ الرطلَ الثالث َ . هكذا تلعبُ الخندريسُ إن ْ لعبتْ في رؤوس متعاطيها . جعلته ينسى أو يتجاهل نديمه وجليسه . إعترضتُ ... عاتبته برفق ... ذكرته أنَّ معه نديم ٌ وأنَّ هذا النديمَ هو مَن دعاهُ لهذا اللقاءِ وإنه هو مَن سيدفعُ ثمن أرطال الخمرة وما سيلحقها من حباشات ومزّات ومقبلات من قبيل الجاجيك والتبولة والخيار الحامض واللبلي . لم يأبه ْ بكل ما قد قلتُ له لكأنه لم يسمع ْ ما قلتُ . رفع كأسه وعيناه غائمتان في وجهي ( في صحتك ! ) . في صحة مَن يا مخبول ؟ أترفعُ كأسك في الفراغ ؟ ألا تراني لم أعدَّ بعدُ كأسي الخاص بي ؟ تجاهلني حتى كأني لم أكن معه هناك ولا كأني أنا من إقترح هذا اللقاء وهذه الحانة بالذات . تجاهلني جملةً وتفصيلاً وعبَّ الرطلَ عباً بطيئاً متواصلاً حتى أتى عليه بأجمعه . لحس حوافيه وتطلّع فيه كأنه يغرِّق ناظريه في عيني حبيب . هززتُ رأسي مستنكراً صنيعه وقلة أدبه . ماذا جرى للرجل في هذه الأمسية ؟ قرأ أفكاري في رأسي . طلب رطلاً رابعاً بالوزن المضاعف . قال هيا ، فلنشرب كأس صحة خليفتنا أمير المؤمنين محمدٍ الأمين . لقد خالفته هذه الليلة ونكثتُ عهدي معه له بأن لا أقربَ الخمرة . وها كما تراني عدتُ لعاداتي في السكر بل وعدتُ إليها نادماً على تركها أولاً وتشفياً بالخليفة وأمره لي بترك تعاطيها وتهديده بقتلي ثانياً . نعم ، إنها فرصتي الذهبية للتشفي به ومخالفة أوامره ونواهيه فما باله يتدخل في شؤون البشر وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ما علاقته بما يتناول رعيته من أشربة وأطعمة ؟ هل يسمح لأحد منا أن يسألَ أو أن يعرف َ ما يأكل هو وما يشرب وكم جارية ً وطأ ويطأ في الليلة الواحدة وكم زوجاً نكح وسينكح فوق المثنى والثلاث والرباع ؟ سكر صاحبي ففقد زمام أموره وشرع يتدخل في السياسة العليا والمكان لا يخلو من عناصر أمنٍ وشرطة مخابرات وكتبة تقارير . ثم كيف سيقرأ لي وهو في هذه الحالة أشعارَ خمرياته ؟ تركته ليغفو بعضَ الوقت حتى يؤوبَ لبعض وعيه . معه حق ، ترك شرب الخمر لفترة طويلة خوفاً من بطش الخليفة لا إلتزاماً بشرف ما وعد . تصفحتُ قائمة َ قصائد خمرياته فإنتقيتُ أشعاراً متفرقة ً من هنا وهناك لا قصائدَ طوالاً . وجدتُ ضمن ما إخترتُ قصيدةً تحمل عنوانَ ( سقاهم ومناني ) . أثار عنوانها فضولي . وجدتُ نفسي منساقاً لقراءتها مسترسلاً مع أبياتها وقد إكتشفتُ أنَّ الشاعرَ عاد فيها لذكر الخليفة الأمين وأمره ِ له بترك تعاطي الخمور وإلا فالموتُ ينتظره . هل أوقظ صاحبي لأقرأ له ما قد إخترتُ ؟ كلا ، الأفضل أن أدعه ينام بعد أن سكرَ وإنه حين يسكرُ يفقد هيبته وإتزانه فيتحارش بالصبابا والصبيان من سقاة الحانة أو يتغزلُ أو يداعبهم دعابات ثقيلة فيها مجون ودعوات لممارسة الجنس دون حياء أو تحفظ . وهكذا هو شأنه كلما سكرَ عربدَ . ماذا وجدتُ في هذه القصيدة ؟

أعاذلَ أعتبتُ الإمامَ وأعتبا
وأعربتُ عما في الضميرِ وأعربا

وقلتُ لساقينا أجزها فلم يكنْ
ليأبى أميرُ المؤمنين وأشربا

فجوَّزها عني عُقارا ً ترى لها
إلى الشرف ِ الأعلى شُعاعا ً مُطنّبا

إذا عب َّ فيها شاربُ القومِ خِلتهُ
يُقبّلُ في داج ٍ من الليل ِ كوكبا

ترى حيثما كانتْ من البيتِ مَشرِقاً
وما لم تكنْ فيهِ من البيتِ مَغربا

يدورُ بها ساق ٍ أغن ُّ ترى لهُ
على مُستدار ِ الأذن ِ صُدغا ً مُعقربا

سقاهم ومناني بعينيهِ مُنية ً
فكانت ْ إلى قلبي ألذ ُّ وأطيبا

قبحك الله يا فاسق ! يتحايل على الساقي ويكذب مدعياً أنَّ خليفةَ المسلمين لا يمنعه من الشرب في هذه الليلة ولكن ، يبدو أنَّ هذا الساقي كان على علم بأمر الخليفة وبوعد الشاعر أن لا يتعاطاها . أجاز الكأس عنه . قبل أبو نؤاس بهذه الهزيمة وربما عجب كيف إفتضح أمره في مسألة تعهده أمام الأمين بضبط النفس وحسن السلوك وترك تعاطي القرقف الخندريس ؟ هل بعض الشرطة العلنية أو السرية قد أبلغت الأمرَ لأصحاب خمارات بغداد في أنْ يمتنعوا عن تقديم الشراب لهذا الشاعر وتبيلغ دار الخلافة فيما لو خالف الأمر ونكث وعده ؟ جائز . الشرطة في كل مكان ! يا لعين ! فاتتك سكرة تلك الليلة لكنك لم تتخلَ عن عهرك ومجونك . غازلتَ الساقي ذا الصدغ المعقرب وأغويته ربما ببعض المال حتى لانَ وتجاوب َ مع شذوذك المعروف ... وافق على ما كنتَ تريد منه ... غمزَ لك بعينه أنْ لا من مانع في التنازل لك عما تود وتبتغي في تلك الليلة . إنْ لم تسكرْ يا أبا نؤاس فلا من بأس ٍ في أن تزني . ما أنْ أنجزتُ قولَ هذه الجملة حتى إستيقظ أبو نؤاس لكأنها جرسٌ قُرعَ في دماغه . وضع بين نائم ٍ وصاح ٍ عمامته فوق رأسه وتساءل أين نحن ؟ نحن هنا حيثُ كنا يا مسطول ُ ، شعاعُ الفجر ِ وصياح ُ الديك ِ يفضحانك .

ليست هناك تعليقات: