فوزي الديماسي
رواية على حلقات
-1-
على عتبات غربة زئبقية ، قاب قوسين أو أدنى من شروق ضليل ، تلوح على مقربة من البحر أرض مدججة بالدموع السوداء و بخور الموتى .
قافلة نخرة، ناسلة من عمق التيه ، تخبط في الليل الملطخ بالعويل خبط عشواء ، تسير على درب متيم بالأشواك المخضبة بدم الفجيعة .
القافلة العارية إلا من رحيلها المحموم ، موجهة وجهها شطر الأرض المضرجة في الأنياب ، تغازل رؤاها المتعبة شمسا ذابلة تطل من كوة حلم عابس .
عواء يشق نقيق القبور اللائذة بأعشاشها، و الجثث المجلّلة بالصقيع ترمق بعين قاحلة كلابا تمزق بشراهة زئبقية ابتسامة طفل وليد يهدهد حلما شريدا قابعا على ضفّة الريح الرابضة على باب الوقت الآهل بالفراغ.
سرب حمام مهيض الجناح يحلق فوق البحر المراقص لعاصفة متغنّجة ، عاصفة مجنونة تلاحق بألسنتها الممتدة كالسعير قطعة خشبية يتيمة تصارع بشراسة مخالب الموج ، الخشبة على يأسها تدفع رغم العواصف و الأنواء بصبح الجثّة الواقفة على كفّ المنيّة نحو المرافئ ، الجثة الناسلة من زمن الحكايا مستمسكة بالخشبة و الأمل ، تدفع بعسر صبحها نحو الشاطئ اللائذ بالصمت ، و الصمت المرتعد يتتبع العاصفة الرافعة في وجه الزورق رباطة جأش بدائية .
الواقف على متن الزورق في وجه المغناج كتوم ، يجترّ بين الفينة و الأخرى شتيت رجولة محطّمة على صخرة التيه الأزليّ .
الجثة و الزورق و الخوف و البحر الهائج كالتنّين، و الموج المتصاعد في رقصة جنونية نحو السماء يمزّق بكل ما تضمره أنيابه من مكر جثّة السكينة ، و الواقف في وجه المنيّة على متن خشبته متشبّث بأفق رميم .
الليل الكثيف يرقب من ثقب الرحيل المتعفّن راكب البحر و مطيته المتلعثمة في جفن الردى ، و البحر المزبد يراود الزورق الشموس عن نفسه . و الأرض على مقربة منهم مجهدة لا تنبس بحرف ، تشيّع بعينين مثقلتين بين الحين و الآخر تخبّط الزورق و صاحبه المتسمّر في الإصرار.
تعثّر الزورق في وجه الغاضبة مرات عديدة ، و كذلك تدحرج الغريب الواقف على الشوك كأنّ المنيّة تحته من رأس الدود إلى أخمص قدميه، و بعد عناء طويل ، و بعد مكابدة شرسة أتلفت بعضا من حجب الليل ، بلغ الزورق الشاطئ المترهل.
****
نزل أشعث الأحلام مبلّلا، خائر القوى ، لاهثا ، دافعا بزورقه المرتجف بين يديه المتعبتين نحو الرمل ، تارة في رفق، و طورا في عنف ، و لمّا بلغ به اليابسة أسلمه لسكون البون و مصيره.
****
ترك الغريب زورقه حجرا هامدا بعدما أنزل منه متاعه و نخلته رفيقة دربه ، ألقى الغريب بجسده غير بعيد ليسترد بعضا من أنفاسه المتعتعة ، و يلملم مزق راحة كان قد فقدها على متن البحر الرافل في أمواجه البركانية . بقي الجسد قسطا من الزمن لم يقدّره كأنّ الشوك يهدهده .
و لمّا حلت بالبدن السكينة ، و استردت نخلته أنفاسها ، اجتث الغريب جثته من رمل الشاطئ ، و عواء الحلكة يحرسه ، و الريح تمدّ نحوه ألسنتها الحارقة ، اتجه بخطى متعبة نحو زورقه الرابض في خشوع ، و طاف به مرات عديدة كمن يبحث عن شيء ذي بال فقده ، ولما أعياه التّطواف جثم على دمعتيه و راغ عليه بالتقبيل ، و الزورق متدثّر بجليد اللغات .
اطمأنّ الغريب في جلسته و ضمّ إليه نخلته ، و بعث بعينيه يد رحمة تهدهد الزورق ، و تهدّئ من روعه ، و تبثّ فيه شيئا من الأمن ، و الزورق على سكونه يبدو مضطربا .
دوّت في تلك اللحظة نواقيس الجنائز السرمديّة في أرجاء الشجن المنبسط ، و اعشوشبت السكاكين العمياء حول الغريب و نخلته ، و انتشرت العناكب تلفّ حروف الموتى بخيوط من وهم الفارّين من زمن السياط . اضطرب الغريب بين يدي الوجود المقطوعتين ، و أسند جمجمته المثقلة إلى نار بربريّة الهوى
و انهمر من لسانه نشيد القبائل المسبيّة :
على كف الريح استريحي ....
يا النخلة الممتدة في وريدي ....
يا الحاضنة لربي المنشود ...
يا الباسقة بين جنبي نورا متوشحا بالغد المطرود ...
يا النخلة … يا الممتدة نحو الله … ردّي عليّ وجهي ...
و اكرعي من بؤبؤ دمي صحوك و صحوي ...
و استبيحي تحت قدمي الحمامة المسرحة في شراييني نحري ...
و انفخي في وجهي قمم الجبال … أجنحة الطير...
لكي ألدني من بين أصابع أرضي المنذورة للعواء و النهب ...
وانفخي في لساني الطوفان… وبثّي فيّ و فيك شرفة القمر
واسرجي أنفي للشرف المغلول بسلاسل العرش الأبدية
يا نخلتي … يا المنذورة لربي و الرحيل ...
يا الرافلة في عروقي … هزّي إليّ بخيط الشمس الكامنة في ابتسامات الثكالى
يا نخلتي … لملمي صوتي التائه في السياط … و سرّحي الدود في نبيذهم ...
يا نخلتي يا التي تبذرين الأريج في الأفق
قد أهرق يومهم سوقي … و عقرت خفافيشهم نوقي … و مزّق إلههم المتأبط ذلاّ روحي الثخينة ...
يا نخلتي … يا المنذورة للغد القريب بثّي في لغتهم النخيل …
و نقّي أرضهم أرضي ... من الجماجم ... و القبور ... و الذئاب
****
هكذا أسرّ الغريب لوحدته المعلّقة على باب الغياب ثمّ تقهقر إلى الخلف خطوات محزونة ، ثمّ شيّع البحر المطأطئ ، و بقر بطن رحيله بمستقرّه ، و حضن نخلته ، و استقبل بالشمس الجالسة في خدر غده أرض الأجداث و الأشواك الممتدة نحوه كالليل البهيم . قلّب زورقه الرابض على صمته ذات اليمين و ذات الشمال برهة ، ثمّ تحامل على تردّده و أضرم النار فيه .
الفصل الثاني
الصباح المتيّم بالسواد حزين على عادة الصباحات المشرقية ، و النور يجلس في شرفة الدموع يحتسي قهوته المضمّخة برائحة الموت العتيق ، يرمق بين الفينة و الأخرى من عليائه الواهنة الأرض الشاحبة ، غراب يشيّع جنازة بكارة جفّت منابعها بين يدي خنزير جنوبيّ يتلهّى بانهيارها . الصبح المتيم بالظلام على عادة الصباحات المشرقية يجلس على حافة هوّة سحيقة تربّت بحنوّ على كتف مخالب شمالية احترفت نبش وجه طاعن في النخيل .
الصباح المتيّم بالحيض العفن على عادة الصباحات المشرقية يتتبّع من شرفته الرميم تخبّط بحيرة في الجثث ، و بنت صغيرة لم تبلغ سنّ اليتم تلطم وجهها على مقربة من جثّة أبيها الموغل في الغياب
و الصمت الحزين ، و من فوقها حلّقت الغربان في رقصة جنونية على إيقاع الهمّ التليد .
الموتى جنوب البحر ينامون ملء غفوتهم ، تحرسهم الضفادع المطرّزة بالعمائم توقد على إيقاع النصر حول الجثث الرافلة في اليباب الليل المسيّج بالبرد الزمهرير ، انتشرت رائحة الشواء و الموتى في الرحب ، و سال الدم المقرفة رائحته في المكان و انتشر الذباب و الدود ينخر الخياشيم و العيون
و الصمت العتيد ، احتلّت الرائحة النتنة انف الغريب الممدّد على الأرض ، فمادت به الأرض من تحته فأطلق العنان لسيل القيء بجانب نخلته و متاعه القليل . اجتث متين الأحزان جثته من أودية وجومه
و الدوّار ، وأطلق العنان لرجليه و النسيان تاركا وراء ظهره زورقه مضرّجا في آهاته و الرائحة الكريهة و سار نحو اللامعنى .
****
مشى الغريب مكبّا على شجنه ، بيمينه متاعه ،و بشماله نخلته تلوك صمتها .
سار الغريب بخطى سكرى نحو الجبل الجاثم على أرض الصحراء الممشّطة بالأشواك أحلام موتاها . سار الشريد نحو الجبل بخطوات عليلة، ثكلى ، سار على الدرب الموغل في الجماجم و الدمّوع و الابتسامات الموءودة ، سار على الدرب المتسربل بالصحراء الممتدّة امتداد الهمّ ، و المنبسطة كالخيال المحموم ، و الموحشة كظلمة الجبانة .
لم يأبه الغريب للوهلة الأولى لصدى العويل المتردّد في قاع الرعدة ، و استأنف سيره رغم كل شيء ، و أصرّ على التوغّل نحو الجبل رغم توسّل رفيقته النخلة مرتعدة الفرائص بشماله ، و كلما توغّل في الدرب نحو الجنوب استأسد الديجور ، و أطنبت العفونة في إكرامه ، تقدم الغريب مصعّرا اهتمامه لأنفه المتبرّم ، تحامل على رعبه و توسّل رفيقته الملحاح ، و مدّ درب سيره ليقف على مصدر العويل و النّواح ، إلاّ أنّّّّ صوتا زلزالا أسدل جناحه الشوكيّ على المكان ، و دثّر البحر بالخوف ، و اليابسة دثّرها بالصمت ، كما طوّق الواقف على عتبة الرعب صحبة نخلته بحلّة من الاضطراب . تسمّر التائه في مكانه ، كما ذهب عقله مذاهب شتى ، و انحدرت سكينته إلى أسافل الفوضى المبعثرة . بقي كذلك زمنا غير محدّد يتخبّط في لجج التردّّد كخشبة لقيطة مستسلمة لأحكام الماء الهادر ، ارتفع لهيب الضّجيج القادم من داخل الجبل و من حوله ، و اشتدّ على إثره زئير جارح ، و امتدّت مخالب الموت تنبش الدرب ، تردّد الغريب ، و تلعثمت قدماه ، و استوى الخوف في قلبه واستغلظ ، أشارت عليه صاحبته بالتقهقر و العودة ، لكنه آثر أن يلوذ بقبر غير بعيد منه جاثم على صدر الأرض المنهكة ، افترش الغريب خوفه و الثرى ، و لفّ نخلته بحذر مصطكّ العمد ، وأسرج العمى ليبعث به رسولا للعيون المنتشرة حول القبور المنثورة هنا وهناك .
****
عاصفة الموت أفعى مجنونة ، و جحافل من الدّود خارجة لتوّها من الجبل ملأت الرحب ،و قوافل تنوء ظهورها بخيرات من كلّ الثمرات . ضمّ الغريب نخلته إلى رعبه ، تاركا وراءه عينيه تتّبعان المشهد .
غناء كالنحيب ، و نحيب كالغناء يرافق صوت الطبول ، دود يزحف ، و دموع تذرف ، وحناجر تنشج ، و نيوب تنهش ، حرائر كثيرات يلبسن السواد من الماء إلى الماء، مغلولات حدّ الأذقان بالحديد والنار ، و مشدودات إلى عرش محمول على ظهور الحمير ، محاط بالذئاب و القردة و الكلاب المتأهّبة للفتك .
غلمان ، و فاتنات ، و عمائم ، و شعراء ، و نوق محمّلة بدنان المدام ، و خيام ، و قيان ، ودفوف تنقر، و عبيد ، و عسس مدجّجون باليقظة . لم يفهم الممدّد وراء القبر مرتجفا ما رأته عيناه ، كما انحدر عقل نخلته إلى قيعان سراديب الحلكة ممتطيا صهوة البوار .
رجال كثير يدقون الطبول ، يتقدّمون الموكب ، والموكب يسير بسرعة النمل نحو البحر ، يتقدم في خشوع جارّا وراءه اسودا مغلولين و علامات التعب و السياط تحتلّ ظهورهم ، فركت النخلة عينيها
و من بعدها صاحبها ، ليريا رجالا تلامس لحيّهم بطونهم ، يرتدون عمائم مبعثرة على زركشتها ، ساجدين بين يدي العرش .
ضجّ المكان و ران عليه الصخب ، و تحرّكت الفاتنات في كلّ مكان بين الخيام المنتصبة على الشاطئ ، يطفن من حول الموائد السافرات بالكؤوس و الصحون يوزّعن الأكل على السادة و الابتسامات غير آبهات بدموع المصفّدات في الأغلال . فاتنات عاريات إلا من عرائهنّ مقبلات في تغنّج على العمائم
و العرش ومحتفيات ببطانتهم في غير اقتصاد .
****
أكلوا، وضحكوا ، و رقصوا ، و داعبوا القيان ، وترشّفوا رضاب الأقداح . خمر و رقص ، نحيب و ضحك ، تغنّج و عواء ، نباح و فحيح ، و عمائم مبعثرة في الأرض تحتسي المدام مع تراب الأرض المسكونة بالفجيعة من الأزرق إلى الأزرق ، و الليل المتيّم بالأظافر قد أرخى سدوله مناجيا بحرا
ذلولا يتتبّع حمارا يواقع أقحوانة ، ونيوب رافلة في السكر تنتظر صياح الديكة الآذنة لها بالنهش .
****
استبدّ الصمت للحظة ، وخيّم السكون على الوجوه المسافرة نحو الفجيعة ، و توكأت الأرض المسبيّة على فحش الأفق ، و توسّدت السماء الذبيحة عفن العويل المنبعث من أفواه المغلولات ، تقلّب الغريب في نار فضوله و سعير الغليان ، أمّا نخلته فقد أسلمت أمنها إلى براثن الليل اللقيط تعبث به على مقربة من القبور المرتعدة على أديم القحط الجنوبي القاحل ، ومن حين إلى آخر يرفع الغريب جمجمته المثقلة بأسئلة شوكيّة معربدة ، فيسترق النظر و السمع معا ، و يبعث في الأثناء بعينيه المتيقّظتين رسلا يفتّشون في ثنايا القابعين على صمتهم ينتظرون ، قافلة من الخرفان مسرّحة في شرايين الجبل المطلّ في انكسار على الجاثمين حول المغلولات و الأسود .
أينع الفضول في العيون المنتشرة على الشاطئ تحت مطر من الأسئلة ، ترجّل صاحب العرش السرمديّ ، و مشى بخطى ثابتة نحو المذبح المقدّس ، فشاع في الجوّ التهليل و التكبير و خرّ الحاضرون سجّدا لولي أمرهم ، فتح صاحب العرش كيس الذهب و الفضة و طفق ينثر الأموال و الضحكات المتبرجات هنا و هناك، و من ورائه النمل و الخنازير و القردة و العمائم و الجماجم يلتقطون النعم الجارية من بين أصابع يده الكريمة المبسوطة حدّ الفحش . و بعد تدافع و تنافس في التقاط الخيرات ، و بعد هرج و مرج و تصفيق و تهليل و سجود و تقبيل ، إذ بصوت كبير العمائم ينادي ان فكّوا عن المغلولات أغلالهنّ و قدّموهنّ قربانا للعرش في عيده ، و اهدوا الأسود الصابئة لأقبية النسيان و القبور و السياط .
اضطربت القبور المتلبّسة بالصحراء الثكلى ، و حلّق في السماء المضرّجة في دموعها النحيب و الغربان ، و الشمس الذابلة سقطت مغشيّا عليها قرب الصبح المغلول حدّ الانهيار ، زأر الغضب في شرايين الممدّد بجانب نخلته المضطربة و راء الجدث ، و ارتفعت ألسنة الانتقام في دمه الضاجّ في مرجل القلق ، انتفض الغريب الممدّد على حزنه ، و استأسدت رفيقته في تهدئته ، ترجّته بدموعها الغزار أن يلزم مكانه ، لكنه انتفض من مكانه كمن به مسّ من الجنون ، شدّته رفيقته إليها شدّا و استبسلت في إثنائه لكنه ترك توسلاتها وراء ظهره ، و فكّ بكل ما أوتي من قوة و إصرار من بين يديها بدنه المزبد ، و أطلق العنان لرجليه الملتهبتين غضبا و حقدا لينقذ من براثن السكين المنتصب في يمين كبير العمائم الحرائر المطروحات قرب المذبح المقدّس ، ركض نحو المذبح كحصان مخبول ، و ارتفعت ألسنة توعّده تسابق الريح ، لم تخفه صيحات الفزع ، و لم تثنه براثن الوعيد و النهش ، ركض كأنه لم يركض من ذي قبل ، نحو كبير العمائم المدجّج بالليل و الشوك العنيد و السكين المتوثّب ، و قبل أن يبلغ الغريب مأربه استقبله الرصاص من كل مكان : من الطائرات السابحات في السماء المنطوية على حسرتها ، و من الدبابات الرابضات على الشاطئ . دبّ الضجيج في الجماعة ، و طوّقت العيون و المخالب المكان ، و ذابت النخلة وراء الرمس في خوفها الوحشيّ ، تتابع خلسة تخبّط صاحبها في دمه .
أطلقت النسوة المغلولات الزغاريد ، و اختلط المكان بالرهبة و الحذر و الصياح و النباح و الفرح الدّفين ، و طوّق العسس الجثّة من كلّ مكان ، و انتشرت العيون في مناكب الأرض بين القبور المتراصّة .
ألقت الكلاب بجثة الغريب الممزّقة على باب البحر بعدما قطّعتها عيون الخائفين و الحاقدين. وبعدما أنزل الحرس بها عقابهم ، و لملم الناس في أفئدتهم أشلاءها المتناثرة وأحلامها المبعثرة و استعاد المكان صفاءه ، حينها تقدّم سادة الصحراء نحو العرش المبجّل و ركعوا بين يديه تبجيلا و اعتذرا ، ثمّ توجّهوا جميعا نحو المذبح محروسين بالكلاب و الذئاب و الأفاعي و الضفادع و القردة ليشهدوا عيد النحر السنوي .
رفع كبير العمائم السكين المتأهّب في وجوه المطروحات أرضا ، ثمّ نحرهنّ الواحدة تلو الأخرى ، فانفجرت الحناجر بالزغاريد و النحيب و التهليل و الصياح و البخور و الغثيان ، و سقت فرحا القيان الحاضرين خمرا معتّقة ، و رقص العرش و الغربان ، و سيقت الأسود إلى أقبية النسيان الأبديّ ، ثمّ رفعت على ظهور الدّواب المنحورات على أن يتمّ نحرهنّ مرّات أخرى في أعياد متلاحقة و رفع حملة العرش سيّدهم و من ورائه الخلق جميعا ساروا نحو الجبل من حيث أتوا ، و خلا بذلك المكان إلاّ من النخلة الجالسة في بركة الذعر تواسيها القبور المرتجفة و تغطّيها السماء بكتمانها خوف أن تلقى ما لقيه صاحبها فتسقط من يمين حلمها الشمس الموعودة .
الفصل الثالث
القافلة الناسلة من عمق صحراء التيه تغطّ في رحم عقيم ، و ابتسامة وليد فقدت نضارتها على مشارف خلجات الليل . جثة الغريب الملقاة على حافة الغدر مسجّاة بشدو الذئاب و صهيل الخرفان و من كل همّين اثنين ، و الأشواك المنمّقة بالضياع تهدهد حلما سقيما ، و الدمعة المجروحة شريدة في كفّ النخلة ، و النخلة تتفرّس وجوه دراويش تنوء أكفّهم بنعش مخضّب بالسفح و الأماني الموءودة ، و الشمس المشدودة بحبل إلى جذع حيرة متشامخة تداعب بأناملها الرميم سؤالا يئنّ في قاع شجن ملتفّ الأوهام .
تحلّق الدراويش حول الجثة ، و النخلة ترمقهم من كوّة صمتها الكئيب ، غسّلوا الجثة بكلمات شاحبات ، و طيّبوها بخيالات محمومة ، ثم زفّوها للنعش المطأطئ .
مشت الجنازة مكبّة على حلمها ، مشت نحو الجبل الجاثم على صدر الصحراء ، و تبعتهم عيون النخلة المحتمية بقلق وارف الظلال . مشت الجنازة المشدودة إلى التراب بسلاسل من خوف عتيد ، و تهادت على كفّ اليتم ، حتى الماء غادر يومها مواقعه خوف العسس و الأنياب المعربدة في غضب ، و عانق دم الذبيحات دم المجلّل بالنعش و تراب الأرض الثكلى ، و استأسد الصمت في جوارح القبور المنثورة بين شقوق الحلم المهزوم ، و غصّت شرايين الدروب بالأظافر و الذئاب ، و لاذت الأزهار بالأجنحة المهشّمة على عتبات الضوء العليل ، و اشتعل رأس الجبل المترهّل خرفانا تتبّع الجنازة بعيون ناسلة من عرش الصحراء المتيّم بالفتك . سار الدراويش على الشوك كأنّ النار تحتهم حذرين جيئة و ذهابا خشية السيف المتطاول في البنيان .
غابت الجنازة ، و بقيت النخلة على عتبات النحيب تتقاذفها أمواج اليتم و العدم . نسيم جنائزي يولول بين جنبات الأرض باعثا في الوجود رعدة متوحّشة ، و خوف زئبقي يعبث بقبور مبعثرة غادرت أعشاشها لتحطّ على أغصان الأفول . نزلت ابتسامة النخلة للوادي الشوكي لتغتسل من رجس الهزيع الأخير من الضياء على صياح الدّياجير، و البحر على مقربة منها أجهش صحراء
و من حوله انخرط الوجود في بكاء مديد ، رتقت النخلة بعض شجاعة بالية و أقرّت العزم على اقتفاء أثر الجنازة بعدما حلّ الصمت بالمكان و أينع الأمان
اجتثت النخلة حراكها من قعودها ، و اقتلعت أمنها من خوفها مصعّرة خدّها لقهقهات متبرّجات منبعثات من سفور الليل الأليل ، ووجّهت وجهها شطر الجبل المرصّع بنجوم جنوبية صاعدة نحو الحضيض ، تحاملت النخلة على إعيائها مقتفية آثار الجنازة . مشت بخطى سكرى على وقع الآثار ، سارت بخطاها المترنحة ، وولجت طرقا شتّى ، بحثت عن الجنازة في الشعاب و الجبال
و السجايا و في الأفق الضّنين ، و سألت عن مكانها حبّات التراب و أمواج البحر الذليل ، سألت عن مكان صاحبها البوم و الغربان و الفئران الجارية على حافة الوباء الزلال ، سألت عنها القبور و النجم الهزيل ، بحثت عنها في ترائب القمر المعبّأ بالأنين ، وذات دهشة مقمرة ، و بعد مشقّة وقفت المنهارة على باب جبّانة منتبذة مكانا شرقيا ، و لمّا تقدّمت النخلة نحو العمق خطوات رفعت دمعة عقيرتها بالممات ، و دوّى صوت الفجيعة في السماء متفجّعا ، ووجه الموت وقف
عند رأس النعش متبرّجا ، و سليل الجلدة في شقائه ينعم متفرّجا ، وسراب الأحلام قرب النعش في دمه مضرّجا ، و عويل النفخة انبعث من السور مترجرجا ، وهتف هاتف من وراء الشمس السوداء متوجّعا :
يا زمن الأزمان يا ألمي
و يا ألم الآلام يا زمني
و يا سنم الأدواء يا عمري
و يا حطب الأحلام يا عبثي
و يا عبث الأيام يا أربي
هكذا غنّت طويّة النخلة المتسمّرة على باب الجبانة لسجيّتها ، وهكذا أسرّ شوك الزمان لقدمي التائهة بين القبور . تمشّت النخلة بين الأجداث مفتّشة عن ساكن قلبها ، نادت عليه بأعلى صمتها ، لكن لا صوت يأتيها سوى ترجيع حزنها ، أعادت النداء مرة ومرتين ، فاستقبلها زئير العدم من وراء القبور ، و استوقفها فحيح القدر في قاع اللوعة ، و صهيل التيه يدنو و ينأى .
أعياها البحث ، و أرهقها النداء ، دبّ اليأس في سريرتها . و لمّا أعياها التطواف في مناكب السؤال النحيف جلست إلى قبر لتلملم أنفاسها ، غمست رأسها في السقوط وأجهشت تلوّعا ، لكن لا حياة مع اليأس ، انتفضت من سباتها لتعاود البحث، وضربت في الأرض باحثة عن صاحبها علّها تجده
****
الليل همّ على كتفي الجبانة منسدل ، و برك من الدم القديم مبثوثة على أديم الأرض ، أرض الجبانة على امتدادها غاصة بجثث متفحّمة و أخرى مبتورة الأحلام ، مئات الأطفال المشردين ينامون بين أحضان سمرتهم الموءودة على فوهة الموت المتدلية عناقيده من كوة النار. نقيق الضفادع على حافة الصبح المهزوم يذكي في عروق القبور الجاثمة على آهاتها فحيح الشوك ،
قافلة من الخرفان تجوب عفن السؤال مفتّشة عن نقطة ضوء مضاجعة لخطيئة النهار ، قافلة الخرفان احترفت مع زعيمها مغازلة القمر من ثقب جمجمة نخرة ، فللجماجم حكمتها في تصريف الضوء ، و يبدو الكون أجمل ، و الضوء أبهى حين ترمقه العين الخاوية أسوة بالخرفان من ثقب جثّة عفنة ، الظلمة الشوكية المنحدرة من أعالي شحوب اللغات تربّت على كتفي الخرفان المفتشين غدوا و رواحا عن أشعة القمر المعانقة لنصب السؤال . تحاملت النخلة على طقوس رحيلها ،وتناست فؤادها المخضّب بالوحشة ، و أقرّت العزم على التوغّل في ارض الجبانة بحثا عن صاحبها فربما تظفر به ذات صدفة . مشت بين أكوام الجثث المتفحّمة و الأخرى المتعفّنة ،
و شقّت برك الضوء الآسن برجليها المتعبتين ، سارت بين يدي القبور مترفّقة ، تتفحّص الوجوه المنشقّة على دود كثيف خارج لتوّه من الخياشيم و الجماجم و الأرض الملفوفة بشجون متخمة ، و عاصفة حجرية تمشط عواءها بأظافر عرش قديم يزقزق على فنن أزلي .
تقدّمت النخلة خطوات وجلة و قد ظلّلتها سحابة من الأفاعي المتبرّجة ، تحاملت على رجليها المتورّمتين و خوفها المتنامي ، و توغلت نحو العمق بين كثبان الجماجم و الجوارح المنفوشة
و جيوش الدود و عفن السؤال ، مشت بين صفوف القبور المتشابكة كالأغصان الناسلة من أرض يغطي الملح تفاصيل وجهها المتشقق . اقتربت من القبور الآهلة بالأفواه المختومة
و الشحوب ، و لم تعر مواء المجهول و أنين الصباح المضرّج في عظام نخرة أذنا صاغية ، لم يعقها عن الطواف بعينيها في أرجاء الجبانة نباح الأظافر و زئير الحريق المتردّد في سرائر اليتامى ، أناخت سؤالها رغم كل شيء ، و جثمت على ركبتيها المرتعدتين قرب قبر و شرعت في نبشه بحثا عن رفيقها صنو قلبها و شقيق نفسها ، نبشت بكل ما أوتيت من قوّة ، و أطنبت في النبش ، و بينما هي كذلك إذ ببطن القبر ينشقّ على رافدين ، يجري أحدهما جماجم زلالا ،
و الآخر يجري شوكا رقراقا ، و بين النهرين تنام فاتنة مقطوعة الأوصال تحمل بين يديها رضيعا مجلّلا بالردى ، و قد تحلّق حول ثدي المرأة الجاري حليبا أسود ذئاب كثيرة تنهش تفاصيل بسمة عذراء سمل عينيها نسر ثلجيّ . تسمّرت النخلة ، و توقفت عن النبش تتبّع المشهد بحيرة زانية ، سمّّر مشهد النهرين المذبوحين عينيها في محجريهما ، و دثّرها برعدة وحشية ، و أرسل بين جوانحها الحيرة ريحا صرصرا تذرو رمال السكون على بوابات الفجر المغدور ، سرّحت النخلة لبّها في تفاصيل المشهد فيما أحجمت يداها عن البحث في أعماق السؤال المعلق على باب مدينة العذابات. بقيت النخلة المتجذّرة في حيرتها و خوفها الزئبقي تتقاذفها مواسم القحط الجرداء ، و لولا وخز الشوق لصاحبها لاستسلمت للضياع .
انهمكت في التفتيش مرة أخرى بين ركام الدموع و العواء و الحشرجة ، شمّرت على شوقها
و الفضول ، و امتطت أصابعها بساطا متيّما بلقاء صاحبها المفقود ، اشتعلت يداها نبشا وراحت بحنين الأولين و الآخرين تزيل عن وجه القبر تراب النسيان ، قلّبت المشهد مرّة أخرى
و كأنّها لم تقلّبه من ذي قبل ولما فازت بالخيبة و لم تجد صاحبها أطلقت سبيل القبر، و راحت تطلب ودّ قبر آخر ، نبشت الثاني بعزم أشدّ عزما ، و فتحت باب القبر فهاج الدّود و ماج ، و حطّ على يديها و غمرها ، كما هاجمتها جحافل من العفونة بأنيابها الضارية ، تناست الألم و تحاملت على الرائحة الكريهة وواصلت النبش حتّى لاحت لها جثث آدمية متعفّنة متحلّقة مع جثث لكلاب نخرة حول قطعة خبز مضمّخة بالعار تلتهمها أفواههم المختومة بشراهة زئبقيّة يحرسها سياط متآكل. بحثت الواقفة على باب دهشتها شاخصة التفكير عن رفيقها بعينين جائعتين فربّما نال الجوع منه فتحلّق مع المتحلّقين حول قطعة الخبز ، أجالت بصرها في المتحلقين مثنى و ثلاث فلم تستقبلها إلاّ الخيبة ، أعادت التقّليب كرّة أخرى يمنة و يسرة ومن بين أيديهم و من خلفهم فطلعت عليها جثث أخرى مغلولة بالحديد و النّار تكرع من بحيرة جنوبية مترعة الفحيح ، و بين الفينة و الأخرى ترمق الجثث بعين كسيرة سراب ضياء يرتق النهار بقمم جبال منذورة لجذع حمامة مهيضة الجناح . بقيت النخلة على باب القبر زمنا لم تقدّره تتابع رقصة زهرة موءودة ضلّت سبيلها إلى حلم القابعين في قاع القبر خلف الأنياب تلاحق عيونهم الخاوية من شرفة السفح ثعلبا ثلجيّا يواقع دجاجة سمراء متغنّجة . نفشت القبر بعينيها لعلّها تظفر بصاحبها ، و لكن كلما نفشت جثّة أينعت أخرى . أتعبها النفش و النبش و رغم ذلك أعادت الفعل مرة و مرّتين حتّى وقفت على قحط المحاولة ، و دون عميق تفكير أسلمت القبر إلى الجثث و الدود .
اقتلعت النخلة صحوها من غفوتها ، و لملمت أملها المتخبّط في أحشاء الغيب و انتقلت إلى رمس آخر ، انحنت قرب الجدث الثالث أو الرابع أو المائة أو الألف و راحت تنبشه بنفس الإصرار متكتّمة على إعيائها و غثيانها ، فجأة تجلّت لها جثث ملتفّة حول أسس عرش طاعن في السنّ جذعه ثابت و فرعه في الدم ، الجثث تحاول مجتمعة اقتلاعه من جذوره و العرش ثابت لا يريم ، يغرس الجالس عليه من حين إلى آخر أنيابه في الجثث المتربّصة به ، وبين القلع و النهش تقف النخلة متعبة ، محزونة الفؤاد ، كفكفت النخلة إعياءها، و أطنبت في تتبّع المشهد . الجثث مستأسدة في زحزحة العرش ، و العرش من فوقهم متنمّر يتحيّن فرص النهش من على الجماجم المنثورة على دربه ، بعثت النخلة بعينيها رسولا إلى ما بين العرش و مقتلعيه فربّما غطّت جموع الغاضبين جثّة صاحبها ، تمشّت عيناها فاحصة المقتلع و المقتلعين و لكن دون جدوى و لمّا وقفت النخلة على فشل المحاولة مرّة أخرى جنحت لقبر آخر تنبشه ، و استمرّت ثورة النبش إلى أن أتت على الجبّانة كلّها ، و مع فقدان الأمل في العثور على رفيقها عتقت رقاب القبور و أقرّت العزم على الرحيل بعدما أسرجت دمعتها و نحرت على عتبة الخيبة أملها .
سارت نحو باب الخروج ، و قد ركبت دمعة جريحة سنم خدّها المبحوح ، و أرخت حبل المسير لرجليها الناحبتين و القنوط . مشت بخطى كئيبة لا تلوي على شيء تدفع أمامها خيبتها و السؤال .
مشت مشي التيه لا تعرف أيّ الدروب تسلك و أيّ الطرق تلج ، مشت مشي الأعمى في أرض لا عهد له بها - أو هكذا تزعم - على درب غير قاصد ، سارت على طريق الضياع زمنا طويلا ، و ذات ضياء عليل برز لها من بين شقوق الشجن نعش صاحبها و قد تخيّر له من الأماكن أسفل الجبل .
أطلقت ساقيها للغنم و للفرح ، و اتجهت نحوه بكل ما أوتيت من قوة لا تلوي على شيء ، و لما بلغته جثمت بجانبه على ركبتيها تتفحص الجثمان المسجى ، ولما همّت بتقبيله وضمّه إلى صدرها استحال بين ذراعيها هباء منثورا . لملمته في كفنه على عجل خوف العيون ، و أودعته قلبها قبل أن تحمله على ظهرها . سارت على شاطئ البحر المتتبع للمشهد بصمت . مشت مكبّة على عبرتها باحثة عن مكان حجاب تواري فيه عورتها الجاثمة في كفنها على ظهرها . مشت حائرة الخطوات تدفع بقدميها دفعا عنيفا يكاد السؤال يشجّ رأسها المفتّت . مشت على الشوك كأن الأرق تحتها ، وصاحبها على ظهرها متجذّر في رميمه لا ينبس بحرف ، تخيّرت لها من الطرق أوعرها ، و من المسالك أوحشها خوف العسس و الرقباء ، مشت النخلة المتيمة بالرميم المتوكّئ على صمته مدقّقة الحذر في البر و البحر خوف فتك عيون الليل و أنياب النهار وبينما هي على تلك الحالة إذ بها تظفر بمغارة قرب الشاطئ تحصي الخلاء و تؤنسه فانحدرت نحوها انحدارا جنونيا .
الفصل الرابع
اقتربت النخلة من فم المغارة المفتوح كاللحد مندفعة في البداية ، أصوات غريبة منبعثة من جوفها شدّت المبعثرة إلى مكانها بمسامير من ذعر ، أصوات آدمية منبعثة من ركام السكون . لملمت الطمأنينة شيئا من شظايا مشاعر النخلة المشتّتة . تقهقرت النخلة خطوات إلى الخلف ثمّ عزمت على مغادرة المكان الغامض و النافخ في خوفها أسباب الظهور بعد كمون . بقيت على أرض بركانية تعفّر التردّد تارة و يعفّرها الخوف أطوارا .
الظلام كثيف و عباءته الشوكيّة محيطة بالمكان الغارق في موته البارد ، لا شيء ينبئ بالحياة ، تملّكت النخلة مشاعر الرهبة و الخوف المتأبّط ارتعاده ، حتّى الرماد الجاثم في كفنه على ظهر النخلة سرت في مفاصله قشعريرة الهواجس المخيفة ، تمسّكت النخلة ببعض هدوء لكن عاصفة جنائزية اقتلعت سكينة الواقفين بباب المغارة من منبتيهما ، عادها بأسها بعد غياب ، فهتكت شيئا من تردّدها ، و سارت نحو الدّاخل بخطى وجلة .
نحيب نسويّ يمزّق شعر السكون ، و الظلمة تتمايل ذات اليمين و ذات الشمال ، أرهفت الواقفة بباب المغارة السّمع ثم استرقته ، نحيب ملطّخ بعويل شوكيّ يدمي الأمن ويلقي في أوصال السامع بذور الوحشة . تقدّمت النخلة وتخلّف هدوءها ، خوف زئبقي حلّ بالجاثم في كفنه على رعبه ، مشت النخلة مشي من يتلمّس طريقه على شفا حفرة لتتنسّم العويل في مصادره يدفعها فضول و يشدّها رعب .
ظلمة حالكة تراقص أنين الصمت ، و صوت البوم يغازل الأظافر الناهشة لوجنتي الوجود المتورّمتين ، فرائص الجثة الرماد المنطوية في كفنها كزهرة يتيمة تعبث بها الدّمن العاتية ، أصوات مفزعة ترفرف حول المكان .
أسرجت النخلة بعد عناء سكينتها ، وشدّت إلى الداخل ترحالها ممزّقة باصرارها النحيف خيوط الظلام المولولة . في قاع المغارة يلوح ضياء سقيم يتلوّى على صدر الجدار كالثعبان و قد تحلّقت حوله ظلال رؤوس آدمية تميد كالفلك ، اقتلعت النخلة خطاها و من ورائها على ظهرها صاحبها في كفنه مظطربا في بؤبؤ خوفه البركاني .
نساء كثيرات يناهز عددهنّ العشرين أو أكثر بقليل ، يلتحفن السواد من الأقصى إلى الأقصى متحلّقات حول قبر ، و منهمكات في بكاء و عويل وشقّ جيوب و تمزيق هدوء ، و القبر بينهن ّ يهدهد شمعة نحيلة ، القبر قديم تنبعث منه رائحة عتيقة تشيع في النفس أمنا بعد خوف ، حزن أعشى يلفّ الزوايا بأجنحته المتكسّرة ، و برد زمهرير يرقب بأشعّته البكم السواد المعاقر لآنية المنيّة ، سارت النخلة نحو النسوة حذرة ، و لما اقتربت منهنّ وقفت غير بعيد تتطلّع حذر المجهول إلى بطن القبر لتتفحّص نازله . لم يتفطّن لوجودها أحد . فالمكان برمّته غارق في عبرته المسافرة على جناح الليل السميك . حاولت النخلة الاقتراب من المتحلقات لكن التردد كان أقوى من عزيمتها . و بينما هي على خشبة الإضطراب تذروها ريح الإنحدار تفطنت لها إحدى النادبات صدفة فانتفضت من مجلسها كمن به مسّ من الجنون ، صاحت في وجهها بأعلى صوتها ، و انتفض على وقع الصياح الباقيات و توثّبن جميعهنّ للفتك بعدما أسدلن عليهنّ من أغطيتهنّ ، ثمّ تقدّمن نحو النخلة رافعات غضبهنّ في وجه الواقفة مترنّحة من شدّة الخوف ، تقهقرت النخلة خطوات إلى الوراء و حاولت تهدئتهنّ بكلمات طيّبات رقيقات خوفا و ريبة ، مفصحة عن سبب دخولها ، انفجر التوسّل من لسانها و غطّت دموعها الغزار أرض المغارة و الواقفات على غضب يلوّحن بالانتقام . اشتعل لسان الرماد من على ظهر رفيقته تودّدا و تزلّفا ، و لما تيقّنّ من بعد الخطر عن حماهنّ
و لمسن منهما نقاوة كشفن عن وجوههنّ و سوّين جلابيبهنّ و عدن سيرتهنّ الأولى . ولما كفكفت الجدران هلعها دعت إحداهن النخلة للجلوس بينهنّ ، فألقت بما على ظهرها و تخلّت ، ثم افترشت الأرض و تقوقعت على ظنّها .
****
بطن القبر مفتوح يضمّ بين راحتيه شيخا يجلّله البياض من أمّ رأسه إلى أخمص قدميه ، ينام ملء سكونه ، على يمينه تجلس شمس مشرقة تحكي النور و تحاكيه ، و ترقص على يساره الخضرة جذلى ، مبتسم في غير إسراف . راغت إحدى الجالسات على النخلة بالسؤال عن ساكن
الكفن رفيقها . فطأطأت النخلة رأسها كمن يستجمع ذاكرته و أجهشت حديثا :
عاش غريبا ، ومات غريبا ، فارق أهلا ، و عاقر نحيبا ، عاشر سؤالا ، و طوّف في شعاب عقله حتى أهرق التّطواف ، و سار على دروب وعرة كثيرة حتى قضت نحبها تحت قدميه ، عرّافة قالت له ذات رؤية مقمرة أن لن يستعيد وجهه إلا إذاعثر على الهه المفقود المنشود ، سفك السؤال لبّه و جدّ في البحث ، فالعرّافة قالت له ذات رؤيا حصيفة أنه حتما سيجده ، و سيستردّ من بعده أرضه و جدّ في البحث ، و رغم تجرّع الخيبات جدّ في البحث .
عاش غريبا ، و مات غريبا ، هو رجل نذر حياته للبحث عن ربّه الذي بذر في قلبه حبّات حبّه له معلّمه لمّا كانا رفيقين في زنزانة العشيرة ، وقد كان معلمّه هذا هو مرشده في كتّاب الزنزانة مع بقيّة صبيان الزنزانة قبل أن يصبحا صديقين حميمين متلازمين على مشارف الأهل و الخلاّن ، حدّثه معلّمه لمّا كبر و اشتدّ عود الودّ بينهما و لمس فيه ترحالا عظيما نحو ربّ لم تلده أيادي العابثين و ألبابهم قال : ” إله الزنزانة قديم قدم حذائي ، توارثناه عن أسياد آبائنا جيلا عن جيل
و سيرثه من بعدي عنّي بقدرة سلطان الزنزانة التي لاتقهر ابني وابنك ، إنّه اله حفر فيه الزمان أخاديده ، يقلّب السلطان أمره بين راحتيه كما يشاء ، و إن نال منه العياء أوكل به أمين سرّه و كاتبه المقرّب ليتعهّده و يرمّمه و يرقّعه لكي لا يصغر في عيون الأهل ، و نحن كما تعلم يا بني ّ على دين السلطان ، فسر في الأرض و امش في مناكب عقلك و ابحث عن الهك ، ابحث عنه
في الرعد ، في البركان ، في الشمس ، في النخل " و لمّا أتمّ المعلم حديثه لرفيقه ذات سرّ
و الناس نيام التقط بفمه حجارة صغيرة و ثبّتها بين شفتيه المرتعشين خوفا و احتسابا و رسم شيخا طاعنا في السنّ معلّق عرشه بين السماء و الأرض يحاول رفع لقمة ثريد إلي فمه ولكن أنّا ليمناه أن تبلغه و هي المغلولة بسلاسل من الحديد و مشدودة لعرش سيّد الزنزانة و حاكمها ، و لمّا أحسّ المعلّم بوقع خطى في اتجاههما يومها مسح الرسم بلسانه وتظاهر بالنّوم فربما كان القادم أمين سرّ السلطان ولو رأى الرسم لقطع رأسه كما قطع يديه و رجليه يوم تفطّن له يتلو شعرا على الصّغار في الكتّاب و قد قال فيه :
كان الله - قديما - حبّا . كان سحابة(*)
كان نهارا في الليل
وأغنية تتمدّد فوق جبال الحزن
كان سماء تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض
أين ارتحلت سفن الله …. الأغنية الثورة ؟
صار الله رمادا
صمتا
رعبا في كفّ الجلاّدين
****
عاش الغريب غريبا ، و مات غريبا ، وبين الغربتين ترعرع بين أحضان أمّ تقاسمت مع أبيها و أخيها و سلطان الزنزانة خلقه في الليالي الوردية . نشأ الغريب في أهله بين الزنزانة و ضيعتها ، يغدو إليها في الصباح مع الغادين ، و يعود إليها حين تأذن لهم الشمس بالرحيل مع أهله المحملين بخيرات الأرض من كل الثمرات المنذورة لنسر الثلج ، و حين يستقر بالأهل المستقر بين جدران زنزانتهم ، يلقي لهم السلطان بخبز و زيت ، ثم يقف فيهم أمين سره آمرا إياهم بالنوم فغدهم من كل غد قبل أن تتمطى الشمس في خدرها و تستل صحوها من كسلها سيكون شاقّا
و مليئا بالسعي . و حين تخلد الزنزانة للنوم و تبحر الجفون في غياهب التعب يزحف الغريب تحت جناح الحذر نحو مرقد معلّمه ليتلقّى منه كلمات تنفث الأمل في شمسه التائهة ، و تبثّ فيه أريج إلهه الجالس على سفن الغد القريب المفعم بنسيم الصباح المشرق .
نشأ الغريب في أهله عاقّا ، عنيدا إلى أن اشتدّ عوده فازداد تمنّعا و تكبّرا وولها بمعلمه مقطوع الفروع ، فما عاد يسجد بين يدي سلطان الزنزانة كل صباح مع أهله قبل أن يتوجّهوا للعمل ، كما أصبح يأكل من ثمر البستان السلطاني دون أن يزحزحه عن غيّه وعد أو وعيد ، و قد كرهت أمه سلوكه و خافت أن يحصد غضب السلطان و الرب الجالس على عرشه على راحة أمين سّر
الزنزانة .
اشتدّ كفر الغريب و كان من اله أمه ساخرا و راح يحثّ شباب الزنزانة كلما سنحت الفرصة على الإنتقام من الرب الضعيف و الأفعى أمين الزنزانة و السلطان الشرس الذي صادف أن حدّثه عنه معلمه ذات ليل كتوم قائلا : ” كتبت في سرّي قبل أن يقطع السلطان يدي و رجلي سيرته التي ذكرت فيها يوم ميلاده ، فلقد شهدت أمه في ذلك اليوم عسرا لمّا جاءها المخاض إلى جذع همّ مغتمّ ذات ليلة بباحة الزنزانة لما كانت على عهد أبيه ، فلقد صاحت صيحة أفزعت ما بين المشرقين
و المغربين ، فتعبت ليلتها و أتعبت ، حتى أن أطباء الزنزانة كلهم اجتمعوا و لم يوفقوا ، حينئذ دعي طبيب اسرائيلي . جلس الطبيب بجانبها ، و فتّش في ثنايا فرجها ، أطرق قليلا ثم أخرج من حقيبته موسى و شقّ فرجها نصفين ليتسنّى للمولود الجالس على عرشه الخروج من طور الموت إلى طور الحياة ، و ظهر و لأول مرة في تاريخ جنوب البحر هذا الطفل المعجزة الذي يعدّ مفخرة لسكان الزنزانة . أبلت أم السلطان ليلتها البلاء الحسن ، طفل كأنه السحاب الداكن في حلوكته ، يجلس على عرشه الملتصق به التصاق الروح بالبدن ، يمسك بيمناه سياطا و بيسراه قناطير مقنطرة من الجماجم ، و سمّي عام ميلاده بعام المعجزة . نشأ الطفل رفقة عرشه ، إذ كانا ينموان معا ، و كان يتنقل معه على أكفّ الراحة و التبجيل ممن اصطفاهم أبوه . و لقد نشأ الطفل السلطان زير نساء و مقتف لآثار المردان و متهالكا على الملذّات و لو في نساء أبيه ،و مقبلا على الفواحش إقبالا سافرا حتى أنه إذا اشتهى غلاما أو جارية أمر بها حملة عرشه فيرفعونها بلطف و يركبونها قضيبه إلى أن يقضي منها أو منه زينته . كره المعلّم من الطفل المعجزة خلقه وخلقه ، و رفع أمره إلى أبيه السلطان ، فلقي منه ما كان يكره لرفضه مواصلة تزكيته و تعليمه كأقرانه .
****
كان الغريب المحلّق في اللاّمدى من أهله في الزنزانة جزوعا ، و بمعلمه ولوعا ، و بمعاشرته له قنوعا ، و لقد كان أحبّ لقلبه من أمّه التي كانت على أثر قومها تهرع ، تعبد إله السلطان خوفا و طمعا ، خوفا من بطش أمين سرّه و جبروته ، و طمعا في مكرمته و قوته ، كره الغريب من أمه هذا السلوك و مجّه ، و آمن بما جاء به معلّمه ، لقد أينع بين يديه في كتّاب الزنزانة و بعده ، وترعرع على قوله ، و كرع منه إلى أن خطّ الزمان في شعره بياضه .
حثّ الغريب في أهله قافلة السؤال ، و كذا في قفرهم و على طريق التّيه ، بحث عن ربّه في الزنزانة ، في أقرانه ، فجاءه الجواب سياطا و تجويعا و عذابا ،استأسدت في جثث الأجوبة المغلولة حدّ الجرح الأوهام ، مشى الغريب مع معلمه بين جنبي طريق مسدودة و جدّ في البحث كلّما خلا إلى أهله رغم أظافر الخوف المستمسكة بكل كيان .
عاش غريبا و مات غريبا ، امتطى في الزنزانة سنم الترحال ، وصعّد به في اللبّ بساط التّسآل ، مشى بين الجثث الجاثمة على أحزانها المكبوتة بين أحضان الزنزانة الرءوم يسأل كلّما أينعت أسباب السؤال ، مشى زمنا طويلا من شبابه و بعضا من كهولته بين جثث أهله بخطى مثقلة ، سار في شوارعها سيرا غير قاصد . و ذات يوم خريفيّ أقرّ العزم على كشف سرّه و دعوة أهله إلى إلهه الجديد المخلوق من الشمس جهرا ، فبثّ في ذوي القربى رسالته ، فكذّبوه و عذّبوه و في الحقد سجنوه ، و فكّت أسره دعوات معلّمه المتيّم بالنخل و الشمس ، لم يستسلم الغريب إلى ضعفه و آمن برسالته ، و طلع بها على الناس رغم بطش السلطان و عيونه و أوليائه ، و خرج إلى الشوارع يدعو إلى إلهه في وضح النهار .
****
الشوارع واجمة ، و الجثث على قارعة الطريق ملقاة في غياهب النسيان و تحت الجدران ، قد طلّقت وجوهها ملامحها ، جلس ذات سؤال القرفصاء بملل أمام جثّة ، حاول أن يتجاذب معها أطراف نجوى ، فلم تعره أذنا صاغية ، ، ونظرت إليه شزرا ، استعاد الغريب شيئا من حلمه و سألها : ” أما مرّ بك ربّي ؟ ” فجاءه الجواب صمتا مقيتا ، أخيرا تحرّكت الجثّة ، بعدما قلّبت خوفها في الزنزانة ذات اليمين و ذات الشمال ، و بعد طول سكوت أفصحت مشيرة إلى قطعة خبز بيمينها باقتضاب : ” هو ذا ” ، لمس الغريب الجثّة بيد رءوم و همّ بالرحيل لا يعرف أيّ الطرق يسلك ، استمسك من فضوله بالبقية و كتم غيضه ، و أراد أن يعيد السؤال ، لكن الدود سبقه للسان الجثّة اللاّئذة بخبزها و الصمت ، فتّش الغريب في ثنايا الجثّة المحروسة بالدّود علّه يظفر بجواب ، فلم يدرك منها مطلبه، أعاد تقليبها و كأنّه لم يقلّبها من ذي قبل ، ظفر بورقة صغيرة أفرحته ، لكن سرعان ما امتصّ ضحكته و اكتفى بابتسامة تنمّ عن القناعة و الرضا ، قلّب الورقة بفضول زئبقي ّ فعثر على رقم يثبت هويّتها كالرقم الذي تحمله أمّه و معلّمه و بقيّة أهله ، نهض الغريب محبطا ، و مخلّفا الجثّة لخبزها و الدّود ، و اعتزم التنقّل إلى جثّة أخرى علّه يرد المورد الزّلال في زنزانة اللّسان الأبكم ، تنقّل بين الجثث المبثوثة ، و في طريقه إلى هدفه تذكّر قول معلّمه ذات ليلة و هما بالزنزانة مضطجعين : ” لكي تحيا ها هنا هانئا عليك أن تكون جثّة بامتياز ” ، فأعرض الضارب في تيه السؤال عن الجثث و مشى بين الطرق الحبلى بالقنوات المتفجّرة ، بحث بعينين شاردتين عن مكان يقيه سيول الدّود و الخراء ، و بعدما انخفض به درب وارتفع به آخر حلّ به المقام في مقهى مزدحم بوجوه مكفهرّة تحتسي الفراغ ، تجاسر الغريب على قرفه ، و انطلق بين الطاولات السافرات إلاّ من خشبها يسأل نازليها عن ربّه المنشود ، لكن لا أحد يعلم عنه شيئا ، طاف بكلّ الطاولات و سأل الجثث جميعها رغم قحط السؤال المفترش ألسنة الناس المتجذّرين في الجفاف . فتّش في عقولهم و أفئدتهم و جيوبهم عن جوابه المنشود غير آبه بالعيون المنتشرة هنا و هناك و كذلك الآذان ، و بينما هو يسأل إذ بجثّة تلوح عليها علامات النّباهة دعته بعينها الخاوية إلى حماها فتوجّه نحوها بخطى مثقلة ، نظرت الجثّة بعينين مختومتين من الوريد إلى الوريد إلى صورة سلطان الزنزانة المعلّقة على صدر المقهى وكأنّها تقول للسائل عن ربّه : ” هو ذا ” . تنامت في صدر الغريب مشاعر خيبة ، فطلّق دون عميق تفكير المكان . مشى بين شوارع الزنزانة كسيرا ، و بينما هو على بساط الشّجن إذ به يرى مجموعة من الجثث تلبس السّواد متحلّقة حول اثني عشر قبرا تلطم الخدّ و تشقّ الجيب و تضرب الولدان بكل ما أوتيت من قوّة ، تقدّم الغريب نحوهم بخطى وجلة ، ثمّ راغ على أحدهم بالسؤال عن ربّه ، فرمقته الجثّة بازدراء مشيرة إلى تلك القبور المتآكلة قائلة في صمت : ” هو ذا ” ، تملّكه شعور بالفشل ، وغاب إلهه كما غاب من بين جوانحه الأمل ، و استغلظت مرارة الخيبة في فمه و دكّه الإحباط المتاشمخ و خيّب أهله آماله فترك الجماعة و أطلق ساقيه للفشل و للأحزان تنهشه . فارقه الأهل و الصحب ، و تنكّر له كل الأحبّة ، و حذّروا منه كما حذّروا من معلّمه عيالهم ، و طلّقوا مجلسه ، و ألحقوه بزمرة المفردين ، كره العيش بينهم لولا بعض أمل دفعه إلى المكوث فيهم ، كما أنكر منه معلّمه الاستسلام و حثّه على الإصداع بدعوته و لو كان في ذلك حتفه ، فسار على نهجه المزروع ليلا بهيما ، و سار على دربه اقتفاء لآثار الشمس و النخل المترع بالفجر المنبثق من بين شقوق الجثث المجلّلة بالدود و العرش ، فلم يثنه التجويع و كذلك الحديد و النار ، و لم يثبّط عزمه كفر أهله به و بغده الكامن في الأفق المتورّد البعيد … البعيد ، و ذات ليلة ، وفي طريقه إلى مضجعه في ركن مظلم من الزنزانة اعترضت سبيله حبيبته .
رمقته بعينين حائرتين فبادلها نفس الحيرة ، مالت عليه و همست :” مالي أراك كموج البحر في يوم مطير ؟ أو كمن تحمل في بطنها وزرا ، تودّ لو ماتت على أن يراها أهلها ، أو يفضح ساكن أحشائها أمرها ، فراغ عليها بصوت خفيض :” زنزانتنا خراء ، لقد ضقت ذرعا بجثثها و بإلهها العجوز العاجز و المبارك لسلطانها أعماله على لسان أمين السرّ ، زنزانة أموات زنزانتنا هذه المتعهّرة ، تدير وجهها للشرفاء و تحتفي بالسفهاء ، لقد كرهت العيش على أرض تشرّد أزهارها و حمامها ” . أنكرت منه حبيبته قوله ذاك ، و صعّرت له حبّها ،و من معلّمه حذّرته ومن سمومه أنذرته ، وبدين الأهل أغرته قائلة : ” الهي ، اله أمّي و سيدي و نحن على دين الآباء و الآباء على دين الأسياد ، فلا تكن نطفة المروق ، فإنّي أخاف أن تلقى منهم ما سيلقاه معلّمك غدا في بيت القدّاس ” . نزل عليه قولها صاعقة محرقة . و اقتلعته كلماتها من سكونه و ألقت به في قيعان الحيرة ووخز الإبر المسمومة . تحامل على سقوطه و حاول استدراجها في الحديث ليعرف منها أكثر عن أمر معلّمه لكنها استمسكت بالصمت خوف الآذان المنتشرة في المكان . فأذكى صمتها نيران حيرته و نخرت كلماتها المقتضبة جداران فؤاده المحزون .
قضّى ليلته تلك متبرّما متململا كأنّ النار تحته ، يرقب بين الحين و الحين مطلع الصباح ، تمطّط الليل و فارق النوم عيني المنتظر ، و عصفت به في هاتيك الليلة رياح الذكريات العاتية ، و حمله عقله المضطرب إلى أقاصي الجرح حيث الشجن الممدّد كالوباء ، ضاق به فراشه ذرعا و لفظه ، فاستجمع قواه و خرج إلى باحة الزنزانة ، الأهل كلهم نيام إلا الدود على عادته متأبّط نشاطه ، عواء الذئاب الباعث في الجوّ نسمة سامّة متحلّق حول جثّة الفجر يمزّق تفاصيل وجهه ، جرت بالغريب حيرة شموس في كافة الأرجاء ، و طوّفت به في دروب الأرق المسامق لخيط الظلام ، نفد الصبر و غاب الصباح ، كل شيء هنا ينبئ بالبوار ، الشوارع المجترّة لخريفها ، و الجدران الجاثمة على صدر الأرض الضيّق ، و الطيور المنشورة على مشانق الزنزانة المتوشّحة بالقرف ، تسمّر الغريب في دمعته مترقّبا صياح الديكة ، فحضر العويل و نامت الديكة على فنن السواد ، و في غفلة من يقظة الغريب امتطى الضياء الباهت صهوة الليل السميك ، حطّم الغريب وجومه و أطلق العنان لرجليه نحو بيت القدّاس .
****
لم يتصوّر الغريب كلما تذكّر كيف استطاع اختراق الحرس و المنتصبين على جنبي طريق بيت القدّاس كأشجار شاهرة نيوبها . الطريق الغارقة في الأظافر نظيفة على غير عادتها ، حتّى المكدّون الأبديّون و طالبوا الصدقة قد تركوا مواقعهم تحت جدار البيت المعمور بحدّ السيف ، فالسيد يوم عيد عرشه المنصرم أصدر مرسوما يمنع التسوّل حفاظا منه على صورة زنزانته في عيون الوافدين من وراء البحر ، وقد جدّ رجاله و أشياعه و عيونه المعربدة منذ الصباح الباكر في اجتثاث المتسولين و ترحيلهم عن الجدار الذي آواهم سنوات طوال قبل المرسوم و بعده كي لا يرى السيد مشاهد تغضبه و تحرجه أمام زمرة من ضيوفه الأخيار الذين جاؤوا من كل فجّ عميق ليشاركوه فرحته بتنصيب الإله الجديد و مفتي الدّيار .
ألقى الغريب بجثّته داخل بيت هيكل الربّ ، و أسدلت عليه الرطوبة ستائرها وكذلك تهليل الخرفان و الفئران و النعاج و الضفادع و القردة ، جلس الغريب على شوك الانتظار يصارع صياح المرحّبين و تهليلهم المتطاول في البنيان ، استسلم المتعب الحزين للانهيار و الصمت ، و طفقت عيناه تطرقان باب الخيبة بحثا عن المعلّم المنذور لليباب ، فجأة ساد صمت كثيف و تلبّس بالجدران و بالمنبر الجاثم على صدر الأرض منتحبا . تقدم موكب سلطان الزنزانة و ضيوفه محروسا بالكلاب و الذئاب و الأفاعي و التماسيح المعمّمة بعمامات سوداء و أخرى بيضاء و الأفاعي و الحمير و العرجان و البرصان و الصمّ و البكم و العمي ، ومن ورائهم يجرّ حملة العرش السلطانيّ المعلّم مصفّدا في الأغلال . استقرّ بالموكب بين المحراب و المنبر المكان .
اشرأبّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، و تطاولت الهواجس في البنيان . صعد أمين السرّ مفتي الديار الجديد- الذي ارتقى بعدما أكل حصير الكتّاب مؤخّرته في المناصب داخل الزنزانة بسرعة جنونية لأنّه كان لا يرفض للسيد طلبا كما كان عين السلطان الساهرة التي كشفت أمر المعلّم ، لقد كان يخشى غضب سيّده و يتّقيه كما تعلّقت همّته بما عند العرش فناله يوم رفع النّقاب عن مؤامرة تحاك ضدّ العرش من قبل المعلّم أو هكذا قال و قدّم لسيّده نسخة منقّحة من الكتاب المقدّس وافقت هوى السلطان فاستحسنها و باركها - استقام المفتي في وقفته على المنبر و سوّى عمامته ، ثمّ نظر في الوجوه الرامقة له ، وأمطر الجالسين على يمين المنبر من بطانة السلطان و ضيوفه ابتساما ، ثمّ أطلق للسانه العنان يعدّ نعم السلطان و يحصيها داخل الزنزانة و خارجها مذكّرا بفضائل الكتاب المقدّس الجديد ، و مشيدا بمكارم السلطان ، و لمّا أتمّ درّته نزل من على المنبر و الناس لائذين بعيون جائعة مضطربة في محاجرها ، مشى المفتي الجديد نحو السلطان بخطى و جلة ، ولمّا بلغه جثم على ركبتيه بين يديه ، و أخرج من تحت عمامته طينا و خلطه بكلمات ناسلات من أصابع السلطان الجالس على بساط السكينة ، أينعت الكلمات ، و تمشّت في أوصال الطين كالسّنة و استوت على سوقها ، و تململ الطين بين يدي المفتي و تشكّل فنفخ فيه من عمامته ، فاستحال إلها سويّا ، فقدّمه بين يدي السلطان هديّة ، فخرّ الرب بين يدي السلطان ساجدا و من ورائه كلّ الحاضرين له سجدوا وبعد ذلك قدّم الربّ للسلطان سياطا وخزائن رزق .
اقترب الغريب الجالس على سياط دهشته من حافة الجنون ، لكنّه تحامل على نفسه ليرى خاتمة معلّمه ، شمل الخشوع بيت القداس بجناحيه و انخفضت الرؤوس جميعا و كأنّ الطير فوقها ، سجد الغريب مع الركّع السّجود كي لا يفتضح أمره . لمّا أتمّ الربّ و عياله السجود لسيّد الزنزانة ، و قف مفتي الديار الجديد أمين السرّ بأمر من سيد الزنزانة و فكّ عن المعلّم أغلاله و تقدّم به نحو المذبح المحاذي للمنبر ، انتفض الغريب كالمسعور و اقترب نحو الصفوف الأمامية علّه يودّع معلّمه رفيق دربه ، رفع المعلّم عينيه الغارقتين في الدمع و كأنّه يودّع الدّنيا و النّاس ، فالتقت عيناه بعيني الغريب حبيبه فابتسمت العيون و تعانقت و بكلام نورانيّ تحادثت ، انحنى المفتي على المطروح قرب المذبح ليشقّ صدره كي يقتلع منه إلهه الفاسد المضلّل لشباب الزنزانة ، و قبل أن يعمل فيه سكّينه المقدّسة طارت من بين جنبي المطروح نخلة و استقرّت في قلب الغريب ، و النخلة هي أنا الجالسة بينكنّ فأحكم الغريب حفظي و التكتّم عليّ و صانني من العيون كما صان حبّ معلّمه و سرنا على طريق الخوف أياما عديدة و ليالي مديدة نصارع بطش و الذلّ في زنزانة احترفت وأد الصّباح . كفكفت النخلة كلماتها الحزينات و لفّت الرماد الجاثم في كفنه بنظرة رؤوم ثمّ صمتت .
................................
(*) الابيات الشعرية للشاعر عبد العزيز المقالح
الفصل 5
الليل و الأنياب و الدمعة السّقيمة ….
و مسامير الأفق الأفق المسجّى في دمه تجري في جناح وردة ثكلى …
شمس الجنوب تمدّ نحو اليابسة أشعّة سوداء مخضّبة بخراف من الزمن المبتور…
و عقارب الوقت على قمّة رمس متشظّ تهدهد سياطا مضاجعا لنهر مفتضّ الثدي
****
الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة ….
يد هزيلة متستّرة بالكتمان…
ووردة متسلّلة من كوّة عابسة تبذر في عين فجر مسبيّ خبز الصباح …
و الماء على إجهاده يدفع عنه بين الحلكة و السواد المعاول الباسقة في ترائب خنازير الصحراء و أصلاب نعامها …
****
الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة
والكرمل المجبول على منفاه يضمّد جراح التائهين على عتبات الذئاب …
و على مقربة من الحنين يرتق سراب الضحى نجوما تائهة على درب ضياء مصلوب …
و قلوب العاشقين بين أصابع الردى تعبث بها أمواج شوكية ناسلة من مرافئ اليتم الأبديّ …
****
الليل و الأنياب و الدمعة اليتيمة ….
غد شريد متأبّط برد النيام على وهن …
و ليالي الدفلى تدفع أحلام الجاثمين على سنم منفى جليديّ …
****
الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة
المغارة الضليلة ارتداها البؤس منذ الأزل ، ولفّ وجوه المتحلّقات صحبة النخلة حول القبر خريف بركاني . تدحرجت النخلة من علياء عبرة سحيقة متوكّئة على خيبة أزليّة ، و القمر العليل من فوقها يسيل أنهارا من الضوء الرماديّ .
****
الليل و الأنياب و الدمعة القديمة
و النخلة التائهة على لوح الهجرات السقيمة تلملم جراحا متناثرة ، و تعضد قلوب الحيارى المتحلّقات حول القبر منتظرات صبحا قد يأتي و قد لا يأتي .
****
الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة و الدرب الطويل العنيد
ضاع الغريب في شعاب غربة ممتدّة الأطراف ، كما أفل معلّمه في متاهات متشعّبة ، و تاه الإله المنشود في شرايين حلمة أضاعت طريقها إلى البياض .
صبح المغارة الثخين يضمّد أخاديده بخيط من الفئران في غفلة من فحيح عمائم خرافية . كما ضاعت شلالات العيون في زحمة نقيق أفعواني . لم يستسلم الغريب ، و قد نشط في طويّته حبّ الإله الموعود ، و ضرب في مناكب عقله منذ فرّ من بيت القدّاس تحت جنح الحذر قبيل أن تنهشه العيون المزروعة في كل مكان فتحرمه من هديّة عزيزة تلقّاها من فؤاد معلمه قبل أن يفارق الطين . وذات عدم شقيّ خرج الغريب صحبة النخلة هديّة معلّمه تحت جنح الظلام حذر العيون المبثوثة هنا و هناك ، و لكن تفطّطنت له كلاب الزنزانة و اقتفت آثاره لاسترجاع النخلة ، و ثقفوه جالسا على ابتسامة محشوّة بالدود يداوي جراح نخلته بجراحه المتفحّمة مستعرضا بين الحين و العبرة قول معلّمه : ” سر في الأرض بحثا عن إلهك ، ابحث عنه في النّار ، في الرعد ، في البركان في النخل ، و ذرهم و ما يعبدون قليلا ” انتفض الغريب كمن أصابه مسّ من الجنون لمّا رآهم متّجهين نحوه و أطلق ساقيه للريح نحو البحر بعدما أحكم إخفاء نخلته في أحشائه ، و اتّجه سابحا نحو أعماق البحر نحو زورق فاتح غمّه بالوصيد ، ووجّه وجهه نحو شرق الماء لعلّه أرحم به و بصاحبته من غربه
****
الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة
دمع المغارة في المآقي سال ، و الظلام المعربد استبدّ بالطرق ، و الدود المتورّد انتشر في المفاصل و التفاصيل كالوبال ، و المتحلّقات على أرقهنّ داخل المغارة يعانقن في النور الترحال . تململت النخلة المتيّمة برماد صاحبها الجاثم على صمته في كفته بجانبها وتنحنحت ، و فكّرت ثمّ قدّرت ، و استقدمت سؤالها ثمّ استأخرت ، وبعد طول تردّد راغت على إحدى الجالسات بالسؤال عن سرّ ساكن القبر و أسباب تحلّقهنّ حوله ، فطأطأت الملتحفة السواد من الأقصى إلى الأقصى ، و انسكب من صوتها المجروح الكلام :” نحن أيتها النحلة الغريبة المعطّرة بسلاحف الوقت نساء من قبائل جنوبيّة شتّى ، و كنّا قبل ذلك امرأة واحدة ثمّ صرنا أقواما قددا ، كان أبونا النائم في الجدث سورا مانعا في أهله ، يذود عن حياضنا ، و يردّ عنّا فلك الطامعين ، و يحقن دماءنا ، ولمّا نال منه الكبر و خطّ فيه الدّهر مداده اجتمعت عليه الذئاب و الكلاب ومزّقوه إربا ،وصنعوا من أعضائه من بعد ذلك نسوة قددا مبتورات الطرف، منهكات ، خائرات ، كالنهر مشرعات للغاصبين ” .
توقّفت محدّثة النخلة عن ذكر تفاصيل حياتهنّ و كشفت عن أعضائها المبتورة ، و كذلك فعل المتحلّقات من بعدها و النخلة بينهنّ متسمّرة في دهشتها تتّبع المشهد بعين شاخصة . استأنفت محدّثتها قولها :” ثمّ بثّوا في أرحامنا عيالنا ، غدر بنا أبناؤنا ، و سقوا الوافدين دماءنا كلّ هذه السنين الطّوال و كذلك هم منها كرعوا ، و اجتثّوا من ترائبنا أحلامنا و أحبلونا أحلامهم ، فتفتّحت في وجوهنا من بعد أبينا عين الرّدى ، وصرنا وليمة لأنياب الظلام ، حملنا أبانا في أحشائنا في غفلة من العيون ، حملناه أملا مبتسما للقمر الجريح في ابتساماتنا آملين في عودته سيرته الأولى لنعود معه نهرا واحدا بعدما مزّقنا الغريب و ابن الجلدة جداول عرجاء صمّاء ، منهوشة على الدّوام ، و مضت القرون و ما عاد أبونا سيرته الاولى و ما عدنا نحن إلى مجرانا ، و بقينا على الشتات تتقاذفنا العروش الشاحبة و العمائم النحيلة و اللحيّ المتلاطمة فتتوجه بنا يمينا تارة و شمالا تارة أخرى ”
و بينما هي تقصّ على النخلة قصّتها و قصّة صويحباتها إذ بالأرض من تحتهنّ فجأة ارتجّت ، و أخذت زينتها الأولى ، و رفلت في بهجتها و علت محيّاها من الأفق إلى الأفق ابتسامة رضيع ، و دبّت في البحر الحياة ، و تداعت جدران المغارة و تبدّدت الظلمات ، و على زغاريد الفجر الوليد رقصت الأمنيات ، و الماء المعطّر بالضّحى أينع و استوى على الضياء ، كما غارت الثعابين و الأفاعي و ذبلت الذّئاب المتدلّية من عناقيد الجرح ، و ألقت العفونة بأخاديدها و خدودها عل أديم الأفول ، و الشمس العليلة تغنّجت بالصبح الرافل في حمامة جنوبية تخيط لريشها بياضه و تزفّ للحبور أجنحته ، و السماء من فوقهم جميعا اتّكأت في خيلاء على زرقتها تدندن بمواويل البزوغ على وقع خرير جنين يداعب سؤدده ، و الوجود في زمرة من أصفيائه رفع على أكفّ شلاّلات النهار جثّة الديجور. دبّ الذّعر في المتحلّقات حول القبر ، و حلّ
بأرضهنّ الذهول ، و مادت بهنّ الحيرة ، و سرت في أبدانهنّ رعدة من خوف زئبقيّ . شدّهم المشهد إلى أماكنهنّ و السؤال ، و نمت في عيونهنّ أمواج الاضطراب ، فهدّأت من ذعرهنّ كبيرتهنّ بحركة متّزنة من يمناها ، فعدن سيرتهنّ الأولى .
ارتجّ القبر ، و انشقّ صمته على سرر المياه السندسيّة ، و تململت جثّة الشيخ المجلّل في رمسه بالبهاء ، وانقلبت نهرا يجري عسلا لم ير له الوجود مثيلا ، فانتفضت أسارير الوجوه المتحلّقة حول القبر شاخصة الذّهول ،انتفضن جميعهنّ ، و انحنين على القبر يتفحّصن جثة أبيهنّ السائلة ، و النخلة بينهنّ تتقاذفها أمواج الاندهاش ، سافر بهنّ السؤال نحو الأقاصي حيث المرافئ الغائبة ، تحرّكت العيون و رجمت شجرة السؤال بالظنّ ، فاسّاقطت عليهنّ رطب الفراغ تعوي حاملة بين جنباتها الخلاء ، كلهنّ حتّى النخلة عربدت فيها الحيرة إلاّ امرأة كبيرتهنّ فاستمسكت بالخشوع و لم تحرّك ساكنا و لاذت بالهدوء الذي لم يطل لسانها المشتعل ذكرا ، و فجأة اجتثتّ كبيرتهنّ لسانها من ذكره و بدنها من وقاره و صاحت فيهنّ بصوت منغّم :
” هذه أشراط بزوغ الشمس من الجنوب ، فأطلقن يا بنات الصحراء بطونكنّ لابنكن الرافل في رماده الخصيب ، و اهززن إليكنّ بروح نخلة الفجر العتيد و اكرعن من عسل أبيكنّ المديد …. فهذا ما بشّر به كتابنا المقدّس القديم ” و قبل أن تتمّ كلامها اتجهت النسوة إلى القبر يكرعن من عسله حدّ الاشتهاء ، ثمّ نفخن من بعد ذلك في فروجهنّ من رماد ابنهنّ الرافل في كفنه قرب النخلة المتوشّحة بالكبرياء ، و لمّا اختلط الرماد بالعسل و دبّت الحياة في الأرحام و تنمّر الضياء و جاء الصباح ينشر أريجه هززن إليهنّ بجذع النخلة المستمسكة بلوح الحيرة العاتية بين أيدهنّ و الضحكات ، و أكلن من ثمار النخلة حدّ التخمة
، و لمّا أتممن الطقوس و أتين على الوصيّة عرضن أرحامهنّ على الشمس ، فبذلك أمرتهنّ كبيرتهنّ ، و ضاجعتهنّ الشمس زمنا طويلا و بثّت فيهنّ رجالا كثيرا و نساء بيد كلّ واحد منهم نخلة و سالوا من الفروج كالسيل الهادر ، و انتشروا في الأرض يضمّدون جراحها بالنخل و يرتقون شتاتها منشدين :
على كفّ الشمس استريحي
و من بين أنامل الضوء النسر الثلجيّ و سدنته بالنخل المطهّر استبيحي
يا أيتها الأجساد المنتشرة في الأرض ارتقي شتاتكم
و ازرعي النخل ثلجا في عيون القحط
يا أيتها الفروج المباركة اقذفي بالصبيان و رشّيهم ياسمين على كفّ الخلود
يا أيها الكرمل بثّ في الرافدين الأزهار و الأطيار و الخضرة السرمديّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق