السبت، أغسطس 16، 2008

عذرا محمود ... سامحني

د. احمد موسي سلامة

لم تكن مهمة الكتابة عندي بالمهمة العادية .. فانا أقف أمام حقيقة صعبة ترددت كثيرا عندما قررت أن أكتب شعوري وإحساسي وعاطفتي لأستاذي ومعلمي الذي تعلمت منه الكثير وحفظت كلماته وأنا في الصف الأول الابتدائي حيث كانت مناظراته مع سميح القاسم ورساؤله الينا بمثابة النبراس الذي نسترشد منه ودليلنا للثورة وعنواننا للوطن وطريقنا نحو الحرية ..

كم كانت قصاؤده بمثابة منشورات توزع علينا ونتناقلها بسرية تامة حيث كان ممنوع ان نتداول كتبه وقصاصات أشعاره وحرمت غزة التي تخضع للاحتلال الإسرائيلي من متابعة أي إصدارات جديدة للشاعر محمود درويش , فكم كانت كلماته لهيبا للانتفاضة الشعبية والإعداد الوطني والتربية والتنشئة الثورية .

أنها أيام مضت , ما أجملها وما أقساها على أنفسنا , جميلة لأنها تحمل معنى الأخوة والانتماء لفلسطين الأرض والشعب والقضية , وقاسية على أنفسنا لأنها تعود بذاكرتنا الى الجندي القاتل الذي أراد أن يقتل كل ما هو جميل في حياتنا , نتمنى أن تعود لأنها أفضل مائة ألف مرة من هذه الايام التي نحياها في غزة الحبيبة الأسيرة المختطفة والتي أصبحنا فيها رهائن ومجرد أرقام .. وأصبح عندنا القاتل هو فلسطيني والمقتول هو فلسطيني أيضا.. فهذا الزمن المهزوم فينا هو ليس لنا .. ليس زماننا .. انه زمن الغدر والانكسار .. انه زمن الهزائم .. زمن ممنوع فيه أن تحلم .. وممنوع فيه أن تقرأ الصحف .. وممنوع فيه أن تتنفس الهواء أو تخرج في نزهه خلوية أنت وأطفالك أو حتى تفكر في لون السماء ومتى سيسقط المطر في الصيف .. ممنوع فيه أن تعرف الأرصاد الجوية .. أو تبحث عن رغيف خبز ورشفة ماء .

لقد رحل درويش .. وبقيت في داخلي ثورته التي لن ولم تمت أبدا .. واعترف الآن بأن رحيل حبيبي وصديقي وأستاذي محمود درويش هو الذي حرك في مشاعر الكتابة .. وما كنت اكتب او أحاول الكتابة الا من أجل ان أكون وفيا لأستاذي ومعلمي محمود درويش فكرا وثورة وممارسة الذي طالما كسر خوفي وعلمني أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة .

لقد أصبحت مهمة الكتابة في أيامنا هذه بالمهمة الصعبة وأصبح قلمي جبان ويرتعش خوفا من سطوة الجلاد وبساطير الموت .. وأصبح الخوف هو المسيطر والمهيمن على أفكارنا .. فالقتل ليس له أي ثمن في شوارع غزة والتهمة سهلة جدا والوصفة أصبحت جاهزة فيكفي أن تكون فلسطينيا لكي تقتل او تشوه جسدا وتحطم روحا وتسجل رقما في سجلات القتلى ومقابر الظلمات في ظل أنغام الأمن والوحوش الكاسرة الهادرة التي تنساق وراء الشهوة اللذيذة لممارسة القتل .

في غزة تشعر أنك في مدينة أشباح مدينة موت والموت هنا لا يعني الا أن تكون جثة مجهولة الهوية والعنوان .. نحن في غزة موتى أحياء ننتظر القرار أو أحيانا بدون قرار , فيكفي أن يضغط على زناد الرشاش لينال منك برصاص الحقد الأعمى او يشوه جسدك ووجهك وتقلع عينيك وفي أغلب الأحيان تجتمع كل أصناف الموت في جثة واحدة , ولتكون الضحية الجديدة في زمن الموت الجديد .. في زمن الموت الرخيص .. يا الله .. يا الله ما أرخص الموت في بلادي .. ما أبشع أن تموت مرتين .. مرة وأنت تحاول قراءة الفاتحة على روح من سبقوك .. ومرة وأنت تتأمل بشاعة الموت البطيء من حولك.



نم واسترح حبيبي محمود لا تفكر أبدا في تلك الجدلية التي لا معنى لها في تاريخنا والتي هي خارجة عن نصنا وروحنا وهويتنا وعنوان دولتنا .. لا تفكر ابدا في قتل الجملة في غزة فغزة مهد العزة منهم تبرأ .. وغزة التي أحببتها ستنتفض على عصابات ابا جهل وتثأر للطفل الذي لم يولد بعد .

انها لحظات الألم التي نعيشها والحسرة التي تلاحق هزائمنا .

فيا غزة الحبيبة ويا معشوقتنا الجميلة .. يا غزة هاشم .. يا بوابة الشرق .. اليوم يرحل محمود وتبكيه غزة ألما وحسرة ويرحل كل شيء جميل سكن في مدينتنا الجميلة .. ولم يبقى فيها الا الغربان وأصوات البوم .. وغزة التي كانت أسطورة تاريخنا ..انتفاضتنا .. وحكايتنا .. ستنهض من جديد .. تنهض من الحلم الواعد , ومن أزقة الصبر , من بين الآهات ستنهض .. فهم لن ينالوا من غزة التي ترفضهم ولم يبقى لهم سوى الهزيمة فهم تناسوا يا محمود أن المنتصر في معركتهم هو المهزوم .. وتناسوا أننا نحن المهزومون سننتصر بقوة حقنا وارادتنا لأن على هذه الأرض الحبيبة ما يستحق الحياة يا شاعر الحياة .

لقد رحل شاعر الحياة محلقا فلا تحزن أبا عمار فاليوم هو يوم محمود , سيسرد عليك قصتنا وحكايتنا .. يوم أن قرأنا الفاتحة على قبرك متعاتبين .. ويوم أن كفروا وارتدوا وكانوا من عصر مسيلمة وهولاكو وأبي لهب.. ويوم أن ذبحوا غزة نحرا ومنحورين .

أرجوك يا محمود أن تسامحني ان حملتك رسالة لأبا عمار فهو صديقك ورفيق دربك وكم هو أحبك لأنك فلسطيني الهوية والعنوان والرؤية والحقيقة والهدف .. ولأنك من هذه الأرض الطيبة تشكلت منها وشكلتنا وكنت الفلسطيني الأول الذي تقدم وكتب آيات الانتصار .. باسم الله باسم الشعب العربي الفلسطيني نعلن قيام دولة فلسطين .. هذا هو أنت يا محمود وهذه هي كلماتك مؤمنا بالثورة ومؤتمنا على فلسطينيتك التي ستبقى لحنا خالدا عبر التاريخ .

سامحني حبيبي محمود ان ياسر عرفات هو قلق علينا الان ويبكي دما وحرقة على ما حل بنا فأقسم يا محمود أن غزة ستكون لنا لأنها فينا .. أقسم ان غزة لن ترحل .. فكلهم سيرحلون وهي باقية طالما بقينا .. فأقسم يا محمود أن فلسطين تكبر ودولتنا تكبر وحلمنا يتحقق رغم قتل اطفالنا ومعاهدات السلام وأسرانا في سجونهم , انها معادلة البطش والابادة فهم يريدون ان نكون موتى لأن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت , انهم يا محمود لم يدركوا بعد حقيقة قوة موتنا فموتنا يوحدنا , فامضي في نومك عميقا وارحل الى عالمك فها نحن اليوم كتبنا تاريخا لن نحيد عنه , وحققنا وعدا قطعناه على أنفسنا بأن تبقى أنت فينا طالما نحن أحياء .

لا تخف يا حبيبي لا تخف يا محمود أرجو أن تستريح لأن علم فلسطين بألوانه الأربعة سيبقي هو الأعلى .. لأنه هو الوطن الذي حلمنا به وعشنا معا من أجله فلن تسقط رايتنا ولن تهزم إرادتنا وسنكسر حواجز الخوف وننتصر لغزة فنم قرير العين يا حبيبي نم واسترح .

ليست هناك تعليقات: