الأربعاء، ديسمبر 30، 2009

نبيـــــل عــــــودة يـــــــروي : قصص الديوك

( تظهر الديوك في الحياة بأشكال متعددة ،أحيانا تظن نفسها أقرب للبشر ، وأحيانا اقرب للضباع )



القصة الأولى : يوم في حياة ديك



مع تسلل أولى خيوط الفجر .. انطق صياح الديك ، كعادته منذ صار شاعر القوم ، معلنا بدء يوم جديد .

كان للديك ، مثل كل مثقف وشاعر كبير ، فلسفته الحياتية الخاصة .وهي تتشكل من منظومة من التصورات والأفكارالأدبية والدينية ، يحاول بها ان يخضع جماهيره البياضة الى نشوة الفجر الجديد ليبدأ الجميع نهارهم بنشاط وهمة . وكان يصاب بالغضب الشديد حين تتماطل بعض الدجاجات فوق بيضاتهن ، ويرى بذلك خضوعا لألاعيب الجن واغراءاته ، فيزداد صراخه حدة مهددا بلغة شعرية موزونة واضحة ، انه لن يقرب الدجاجات المتكاسلة عقابا على تماطلهن ..ولن يسمح لديوك الجيران بالأقتراب من مملكته الدجاجية ، أولا صونا للعرض ، وثانيا منعا للإختلاط غير المشروع .وثالثا حفاظا عى حقوقه غير القابلة للنقض والنقل.

كانت تشغل الديك مسألة فلسفية كبرى : وماذا بعد .. هل من تطور الى مرحلة جديدة أرقى من ملك متوج على خم دجاج ؟

وكثيرا ما يغرق في البحث بمعلوماته المعرفية . ولكنها معلومات لا تتعدى بعض النزوات مع دجاجات الجيران .. حقأ أمدته بشعور من التعالي على ما عداه من جنس الطيور . ولكنه شاهد مرة أوزة في حديقة الجيران ، حاول الوصول اليها فهاجمتة بمنقار حاد ولم يكرر المحاولة . كان دائما يفكر ، ماذا لو صار ديك أوز ؟ يملك من القوة والقدرة ان يملأ فراغ خم دجاجات الجارة الفارغ من الديوك ، بعد ان نفق ديكها الشرس ، الذي كان له معه جولات من المناوشات الدموية ، وقد هجاه بقصيدة عصماء ما زال يسمعها للديوك الصغيرة حتى لا تتوهم انها أصبحت كواسرا متوجة على عشيرة من قليلات العقل ؟ وان تظل مهما ارتفعت قيمتها ، ذليلة امام عرشه .

كان الديك ، بمفهوم ما فيلسوفا ... ولو استطاع صاحب الخم ان يحول صياحه الى كلمات ، لتسجل في كتاب جينيس كأول فيلسوف بين الأصناف غير البشرية ، ولنقلت "الجزيرة" أحاديثه وقصائده وحكايات عن تجاربه الفكرية ، وخاصة جملته الشهيرة بعد ان اعلن مقاطعة ساحة الجيران حيت تعيش الأوزة الشرسة مع صغارها ، اذ قال : " ماذا تظن هذه الأوزة نفسها ، انها مجرد قليلة عقل مثل كل اناث الطيور ، وان شراستها تتحول حين يحضر ديك أوز الى استسلام مشين . انها تمارس البغاء بنت الكلب مع كل ديك أوز غريب تلتقي به ، عكس دجاجاته ، القنوعات الملتزمات بديكهن ."

كان الديك يغضب عندما يحضر تجار من السوق يتمايزون دجاجاته ، ويجسون بطونها وأفخاذها ، وقد حاول تنظيم مقاومة دجاجية ، بأن تبدأ الدجاجات بعفر التراب فور اطلال وجه غريب صونا للعرض من هذا التعدي الفاحش . ولكن الأمر لم يكن يساعد كثيرا .. فيدخل " أولاد الأيه ..؟" بين الدجاجات ويبدأون بالقاء القبض على أفضلهن جمالا وسمنة ، وهن اللواتي يفضلهن بعد قيلولة الظهر .. وقد فوجئ مرة ، وأصيب بكآبة حين نظر اليه تاجر شره المنظر ، وسال :

بكم تبيعني هذا الديك ؟
انه ليس للبيع .
أتمنى ان أراه محشوا فوق مائدتي...
وحاول ان يقتنصه ، فانتفض الى سقف الخم وتوجه مثل الصاروخ نحو قمة رأس هذ الشره مشغلا منقاره الحاد في جلدة رأس التاجر الشره ، الذي سرعان ما صرخ وخرج راكضا من خمه .. ناسيا وجبته الفاخرة بديك محشو على مائدته ، وسره ان صاحب الخم ضحك سعادة ، وخرج سريعا وراء التاجر ليعالج له جلدة رأسه المنقورة ، وهو يقول ضاحكا :

هل ما زلت تصر على تناوله محشوا على مائدتك ؟
سأشتريه عندما تقرر بيعه حتى لو كان لحمه غير صالح لأكل البشر ... سأقطعه وأطعم لحمه للكلاب ..
وانطلقت الضحكات وكأنهم يتحدثون عن ديك لا قيمة لرأيه ، مما جعله يفكر بطريقة ما للتخلص من هذا الخم والبحث عن فضاء أوسع من الحرية وعدم التعرض الدائم لخطف دجاجاته وتعريض أمنه الشخصي لخطر الذبح والحشي والالتهام ، وكأنه مجرد وجبة دسمة لا أكثر ، وهو الفيلسوف الشاعر الذي ينق جلدة رأس كل من يطمع به ويستهتر بمكانته .

في زاوية بعيدة جلست بضع دجاجات ينظرن اليه مبتسمات ، وكأن مصير ديكهن لا يهمهن .. او اكتشفن انه في طريقه مثلهن ، للموائد والالتهام .

ازداد غضبه :

ما الذي يثير ضحككن يا عاهرات ؟
قالت الأولى:

لأول مرة اكتشفنا ان خطر الموت من نصيبك أيضا ، فلا تتعالى علينا بعد اليوم .
قالت الثانية :

ايضا انت صالح للحشو والطبيخ مثلنا تماما ، بل يفضلونك عنا .
قالت الثالثة :

- الخوف من الموت لم يعد من نصيبنا فقط .. فلا تتباهى علينا يا ابن العرص .. كفانا شعارات وتباه .

قالت الرابعة :

كنا نظن الديك ملكا ، فاذا هو مجرد ظاهرة صوتية بين الدجاجات .
احتقن وجهه غضبا ، وتوقع ان تكون وسائل اعلام معادية قد حرضت دجاجاته ، وليس مجرد تاجر عبر عن شراهته بالتهامه محشيا. وقد يكون وصل للدجاجات معلومات سرية لا يفصحن عنها ، وسيعرف كيف يجعلهن يقررن امام سريرة بكل ما يعرفن من أسرار ، والا حرمهن من المتعة التي يتنافسن عليها أمامه ، قبل أن ينفقن محشوات على موائد المشترين. وبعد تأمل فلسفي ، واستعراض الدجاجات الضاحكات الوقحات بعينية ، قال:

هل تعلمن يا فاجرات انه يوجد ما هو أسوأ من الموت؟
أسوأ من الموت ، ما هو يا ديكنا المتباهي ؟
هل قضيتن مرة اسبوعا كاملا دون أن الاطفكن وتتمسحن بجناحاتي و... ؟
نظرت الدجاجات بعيني بعضهن البعض ، وظهرت ابتسامة خبيثة على وجوههن ، وقلن بصوت واحد :

سنرى .. من ينهزم أولا .
وتمايلن وتقصعن وهززن اردافهم بشكل أثار شهوته ، وانضممن لسائر الدجاجات وهن يتسائلن :

هل يصمد هذا المدعي امام سحرنا ؟


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


القصة الثانية : كيف صار الديك فيلسوفا ؟



انطلق صوت الديك عاليا معلنا فجرا جديدا . احتجت احدى الدجاجات ان الوقت ما زال مبكرا على الصياح ، وان ساعة نوم قبل صعود الفجر أفضل من نوم الليل كله.

ولكن ما أخرس ألسنة الاحتجاج كان االلمعان الغريب في عيني الديك ، فأيقنت المتثائبات انهن أمام حدث كبير.

ولم تتأخر المفاجأة .

قال الديك ، بعد ان اتخذ مكانا مرتفعا يرى منه كل دجاجاته:

أمس ، وأنتن نيام لا تدرين من أمور دنياكن شيئا ، دعيت الى اجتماع قمة طارئ عقد في خم جارتنا ام كميل .. حضره الأشقاء ديوك الجيران من المشرق والمغرب ، لبحث موضوع أشغل تفكيرنا . والهدف هو الوصول الى موقف ديكي مشترك واتفاقية تعاون مشتركة ، نطرح فيها المصالح الاستراتيجية لنا جميعا ، بحيث لا نبقى مستبعدين من مراكز القرار ومستهدفين من شعراء ديوك غرباء ، لا هم لهم الا نتف ريشنا الملون والجميل. وكان موضوع البحث يتعلق بالفكرة التي خطط بها الله جسم الطيور.. وخاصة نحن معشر الديوك ، المسؤولين عن تحسين النسل واكثاره لنشبع البطون الجائعة .. لنضع خطة تحمي ريشنا الجميل.
وتوقف الديك مستعرضا بنظره جمهور الدجاجات ، متذكرا وقفة ابن جلا في العراق...

همرت بعض الدجاجات احتجاجا .. وتجرأت الدجاجة الغبراء المعروفة بلسانها الطويل ، وقالت :

ولكن يا سيدي لحومكم انتم معشر الديوك مطلوبة دائما على موائد الطعام .. بل والبعض يفضلها عن لحومنا.
اخرسي .. انت مجرد وجبة دسمة ، وبدوننا لن يكون وفرة في انتاج الفراخ ....لا تقاطعنني والا أشغلت منقاري بكن ، القصة يا سيداتي المبجلات أن الله كرس فكرا كبيرا في تصميمنا. ووصلنا الى قناعة انه مهندس ماكينات.. انظرن المفاصل التي زودنا بها كيف تعمل بليونة وبدون تعقيد ( وعرض حركة ساقيه ) .. ولكن ديك خم ام كميل أصر ان الله مهندس الكترونيكا، اذ زودنا بأجهزة أعصاب مع الاف الوصلات المعقدة. وهذا كان موضوع بحثنا ودراستنا ، وأخيرا اتفقنا انه يحمل شهادتين ، الأولى بالهندسة الميكانيكية ، والثانية بالهندسة الألكترونية . وهكذا انتهى اجتماعنا وجئت لأبلغكم بالقرارات الجديدة لتعرفوا مبنى هياكلكم ومن وهبكم اياها . لذلك أطلقت صياحي أبكر من المعتاد كي لا يسرقني النوم ، وتبدأن نهاركن وانتن على استمرار بجهلكن بحقيقة خالقكن ودوركن في هذه الفانية.
وبماذا سيفيدنا هذا الاكتشاف .. اذا اختارونا لوجبة اليوم أو غدا أو بعد غد ؟ همهمت الدجاجات بغير اهتمام للإكتشاف الجديد .. ابحثوا كيف تمنعوا ذبحنا ومعطنا وسلقنا وشوينا .. ذلك أفضل . قمتكم تشبه قمم العرب .. كلها خلافات وتراجعات وبيانات تضامن واتفاق.
ولكن قبل ذبحكن يا جاهلات يذكرون اسم الله .. فذبحكن اذن شرعي من ناحية الدين .
قالت الغبراء محتجة :

لا نريد هذه الشرعية الدينية .. نقدمها لك ولسائر الديوك على صحن من ذهب. . لتذبح انت ولنبق نحن ، حتى بلا دين .. وبلا فلسفة الديوك .
غضب الديك من الاهانة المباشرة التي وجهت له . وخاصة من الغبراء أم لسان طويل ، وصاح :

انتن قليلات عقل وقليلات دين.. ومصيركن الحرق..
قهقهت الدجاجات .. بغير اكثراث من هذه التهم الخطيرة . وعلت أصواتهن :

- وماذا ينفعنا عقلنا وديننا بعد ذبحنا والتهامنا ؟

وهل من مصير آخر في عالم يسيطر عليه الديوك ؟
وتحينت الغبراء ام لسان طويل ، الفرصة لترمي بقنبلتها .

ونسيت أن أقول لك انكم يا معشر الديوك مغرورون ومخطئون في اكتشافكم .
هذه دراسة وجهد تفكير طال لأيام .
طز بهكذا تفكير ، يجعلنا ما دون مستوى الديوك وينتقص من حقنا في الحياة.
وقام الضجيج ، والديك يحاول اخراس المحتجات والمعلقات بغضب. ولكن الحبل قد فلت . ولولا دجاجة تجلس في القرنة ترفض ان تترك بيضاتها ، لوقع ما لا تحمد عقباه ولتمرمغت عنجهية الديك بالتراب. قالت الدجاجة بصوتها الرخيم والهادئ :

بحثكم يا ديكنا العزيز يثبت كم انتم بلا علم وذكور مغرورون .. لو استعنتم بمعلوماتنا ( نحن المتهمات بقلة العقل ) لتغيرت نتيجة قراركم .
نستعين بالدجاجات ؟
صرخ الديك مذهولا من المفاجأة .

أجل أيها مدعي .. الا تعرف ان الله مهندس شبكات ، من يستطيع ان يخلق جسما مثل الماسورة ، يدخل شيئا من جهة ويخرجه من الجهة الأخرى مختلفا ؟ .. حتى شهوتك يا مغرور تدخل الى مواسيرنا فنخرجها بيضا وفراخا ... فأي مهندس هو اذن ؟
وفهم الديك انه هزم .. ولكنها أنقذته من غضب الدجاجات . كيف لم يفكروا بهذا الأمر الأساسي؟ وهو الآن ، رغم فشله يشعر بالسعادة والانتصار ، اذ قوي يقينه انه سيصير فيلسوف ديوك الحارة وكبيرهم عقلا وتأثيرا. وسيدعو الليلة أصحاب الفخامة والجلالة الديوك الى اجتماع قمة طارئ جديد ، يبلغهم فيه انه بعد تفكير فلسفي استغرقه ساعات يومه ، دون أن يقرب أي دجاجة اليه حتى لا تتفركش أفكاره ، توصل الى الحقيقة بأن الله هو مهندس شبكات وليس مهندس ميكانيكيات أو الكترونيكا .. كما يدعي الضالون. ويكلف شاعر القمة ، ديك خم أم يوسف ، بصياغة اتفاق جديد بلغة الشعر حتى يرسخ في عقول قليلات العقل أيضا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



القصة الثالثة : الديك يبني ارشيفاته الثقافية




لم يكن الديك يثق بأحد من حوله ، ولا حتى بأكثر الدجاجات تمسحا بجناحيه وتوددا امام مجلسه وخضوعا لرغباته ونزواته . كانت شكوكه عظيمة بأن مؤامرة تجري لاستبداله ، وقد أقلقه التفكير بالمؤامرة ، ومشكلة عدم وضوح أبعاد هذه المؤامرة ، او اتضاح بعض تفاصيلها وغياب تفاصيل أخرى . وكان أشد ما يخافه من المؤامرة تحويله الى وجبة يلتهمها رواد المطاعم . وقد يكون التذلل والتودد من حوله خداعا مخططا من قوى تتحين الفرصة لاسقاطه وغزو مملكته التي تكاثر دجاجها في السنة الأخيرة بمعدلات فاقت التوقعات ، مما رفع قيمة خمه في البورصة الدجاجية .. ورغم ذلك .. السياسة مليئة بالمطبات الخطيرة .. والمفاجئات غير المتوقعة ، ولا تحكمها الأخلاق .. وتغيب عنها القيم . السياسة أضحت تجارة بيع وشراء ، مطبات ومؤامرات ، يضحكون بوجهك لإلهاءك عما يطبخون ، وديك بمثل مقامه ، مثقف ، شاعر ، مفكر ، فيلسوف ، قائد عسكري ، رجل دولة ، وراعي شؤون الخم وفحله ، تتكاثر حوله المؤامرات والأطماع والدسائس الداخلية والخارجية .. طمعا بانتاجه الدجاجي ، الذي يوازي اليوم الانتاج النفطي في أهميته الاستراتيجية ، والرغبة في التهامه واكتساب صفاته الفكرية والفحلية عبر وجبة شهية تتعاظم ، وتُشغل السياسة الدولية ...

كان أمنه الشخصي يقلقه أكثر من أمن مملكته . لأن نفوقه هو نهاية للتاريخ ونفوق لملك لا يظهر مثله في التاريخ الا كل قرن كامل ، أو عدة قرون . وكان الديك يحب ان يؤكد ، حتى لا يلتبس المعنى على قليلي العقل ، انه يقصد بالقرن مائة سنة وليس تلك الموزة الصلبة التي تنمو في أعلى رأس وحيد القرن.

من سيصدح صوته صباحا مجلجلا بشعر ثوري تعادل قوة القصيدة فيه ما يتجاوز حتى قوة الصواريخ البلاستية عابرة القارات ..؟ من قادر مثله ان يُخضع أكثر الدجاجات استعلاءا وتمخترا بجمالهن لأوامره ورغباته ؟ من يروي شبق هذا الجيش الدجاجي قليل العقل والدين .. ؟

المسؤوليات جسام . وهو خلق لتحمل هذه المسؤوليات الأرضية ، وايجاد الحلول لمسائل الأمن الحارقة في جمهوريتة الدجاجية ، الأفلاطونية بتنظيمها .

حقا ، هل تتصورون ما قيمة المملكة اذا نفق ديكها ، والى ما يمكن أن تؤول الية التطورات من اشكاليات تنظيمية وانتاجية ؟ .. وتأثير ذلك السلبي على استقرار الاقتصاد العالمي ؟ وهل ستصمد البورصات امام أزمة غير متوقعة مثل نفوق الديك ؟!

مضطرا ، قام الديك بخطوات أمنية حاسمة مستعينا بخبرة ديوك الجيران الأشقاء .. فعين بعض الدجاجات ليعملن كعيون في مملكتة ، أسوة بممالك الأشقاء السابقين له في الخبرة .. وأطلق على هذه المجموعة أسم " ثقافة الأمر بالحسنى ".. ولكن هذا الأمر حسب ارشادات ديك ام كميل يبقى ناقصا ويحتمل نسبة خطأ كبيرة . والحل تعيين عيون من دجاجات أخرى ليعملن كعيون على العيون من المجموعة الأولى . وسمى المجموعة الثانية " هيئة النهوض بشؤون الشعر الفصيح " ليعطي انطباعا ان خمه يعنى بشؤون الثقافة والتربية والتعليم ، كيف لا ورجل الدولة الأبرز في الخم ، هو الديك الفصيح ... رغم ان نسبة الأمية تكاد تكون مطلقة.. لكن المعطيات التي توزع على الاعلام تصاغ في ادارة الخم حسب رغبات الديك ، وهذا لا يعتبر تزويرا انما تيمنا بما سيكون عليه المستقبل .

ولكن يبدو ان هذا الهرم الأمني يبقى ناقصا في فاعليته، كما أشار الأشقاء في آخر مؤتمر قمة جمعهم في خم أبي العلاء . حيث أكد الأشقاء على ضرورة اقامة مكتب أمني سري لا يعلم به الا الديك نفسه ويسمى ب " أرشيف الديك الثقافي " ، تكون مهمته مراقبة المقربين والمتحذلقين حوله . ومكتب آخر صلته غير مؤكدة بأعمال الأمن .. سمي " مكتب الاستثمارات " يتخذ شكلا دوليا للمشاريع العمرانية مما يسهل تجنيد الدعم الخارجي ، ولكنه عمليا ينفذ سياسة أمنية مشددة جدا ، ويمول سائر أجهزة الأمن ، وليذهب العمران الى الجحيم بعد أمن الديك وسلامته .. ويقول بعض العالمين بلغة الديوك وتصرفاتها انه أقيمت مع الوقت فئة عيون أخرى لم ينشر اسم رسمي لها مما جعل الهيئات المشتغلة بالأمن الشخصي للديك تزداد الى أربعة تنظيمات أو خمسة ، والعلم بالعدد الحقيقي ،عند الله جل جلاله .. ولكن تسربت معلومات ذكرتها " الجزيرة " دون أن تفضح مصادرها ، ان الديك أنشأ هيئة هي " المكتبة القومية" حيت يحتفظ بملف عن كل طير دجاج داخل خمه ، منذ خرج من قشرة البيضة وحتى لحظته الأخيرة داخل الخم .

وباتت مملكة الديك مكتظة بالعيون المختلفة ، ثلاثة منها( وربما أربع ؟) معروفة بأسمائها، وواحدة سرية ( وربما اثنتان؟ ) قائمة بالتأكيد . وآخرى سرية معروف وجودها ومجهول اختصاصها ، وغير ملموس نشاطها في مجال العمران اطلاقا رغم اسمها ، ورغم تدفق الأموال النفطية اليها.... ووصل عدد العيون على العيون على العيون الى نصف سكان الخم والبعض يقول ربما أكثر اذا علمنا عدد المشتغلين بالأجهزة السرية من مختلف الهيئات .. واذا أنزلنا من حسابنا الفراخ الصغيرة التي لتوها قد خرجت من قشرة البيضة ، يكون قد عين عينا لكل دجاجتين أو ثلاث وعليهن عين أخرى تراقبهن وتراقب كل همسة او حركة غير واردة في الحركات المسموح بها للدجاجات ، بما في ذلك تسجيل عدد المرات التي تحرك فيها الدجاجة أجنحتها ، وعدد المرات التي تقترب من وعاء الماء ، وعدد المرات التي تعملها فوق الارض بلا حياء.. وبالحساب الأخير يمكن ان نفترض بدون خطأ كبير انه يوجد عين لكل دجاجة ونصف الدجاجة تقريبا ، حسب معلومات تؤكدها أيضا معاهد الدراسات العسكرية التي يديرها ديوك شعراء مرهوبو الجانب تجيئهم المعلومات من عيونهم المنتشرة حول الكرة الأرضية . والهدف طبعا ، أن يبقى أمن الديك مضمونا ، وينام نومته السلطانية بعد تأدية واجباته العائلية والأمنية وقضاء شهوته اليومية من دجاجاته .

المستهجن ان هذه المملكة تسمى خما في لغة الضاد . يا لها من لغة قاصرة ، وأول المتضررين منها هم شعراء الخم وعلى رأسهم الديك .. لأن كلمة خم تفتقد للوزن الشعري وتعني الرائحة النتنة، فهل يستقيم الشعر مع هذا الوضع ؟!

بالطبع ، ان لتخصيص العيون في المملكة الخمية تبريرها المنطقي. اذ ان الخطر الداهم على مكانة الديك ورفعته وعدم المساس به ، هي من ضرورات بقاء الديك الزعيم الأوحد في مملكته. وصاحب الصوت الأقوى في الخم . وصاحب الفراع الأحمر الوحيد النابت مثل التاج الملكي عل قمة رأسه.. والناصع الريش بألوانه التي تسحر أجمل طير خلقة الله ..

من وظائف العيون في مملكة الديك الابلاغ عن كل فقس جديد وعدد الديوك المتوقع في الفقس الجديد ، وتنمية خبرة العيون في التمييز بين البيضة التي سيخرج منها ديك والبيضة التي ستسفر عن دجاجة. وضرورة سحب البيضات الديكية من تحت الدجاجات ليلتهمها أو يبيعها صاحب الخم ، حتى لا يبلغن مرحلة التفقيس وتبتلي المملكة بمنافسين من فصيلة الديكة . . فتعم الفوضى نظام الخم وقد ينهار النظام أو ويسوء ، وينهار أمن الدجاجات وفراخهن ..

وغني عن القول انه لولا هذا التنظيم العبقري لسادت الفوضى ولشكلت كل دجاجتين حزبا مستقلا ولقامت المظاهرات التي تطالب بحصص أكبر من معاشرة الديك ، الأمر الذي سيربك النظام ويستنزف قدرات الديك .. ولعمت الفوضى الاجتماعية داخل الخم .. ولأقيمت النقابات الهدامة ، وتعطلت مشاريع الانتاج البيضي والفراخي ولأقام كل فرخ دجاجي مجلة ثقافية لينشر فيها شعرا مقاوما لسلطة الديك .. ، وقد يكون أحد الديكة الناشئين جني فيقوم العراك ويسيل الدم .. ، وتصبح حال ديكنا مثل حال الدجاجات، مجرد وجبة دسمة على مائدة في أحد المطاعم.. ويصبح المرحوم ، أو السابق ، بعد ان يحل محله فحل جديد !!

وفي الحقيقة انه وقعت أخطاء عدة في الاستدلال على البيضات الديكية .. أخرجت بيضات بريئة ... وظلت بيضات تـآمرية .. ومع كل ذلك بقي الديك صاحيا ، متيقظا لعملاء الاستعمار والصهيونية ، حتى لا يجند عملائهم بعض الفراخ الديكة ويحرضونهم على المنكر وطريق الشر ، وتصبح حياة الخم قتالا وصراعا ونتف ريش ودما، ولا بد مهما بلغت مكانة الديك اليوم ، أن يجيء يوم أسود ، كما حدث مع الديك السابق الذي نفق في القتال مع ديكنا الحاكم الأوحد اليوم . . وكان الديك على قناعة انه لا يمكن ان يكون في الخم ديك زعيم سابق. بل ديك زعيم أوحد، والزعيم السابق مرحوم او نافق.

حسنا ، سيجيء اليوم الذي يختار الديك وريثه في التتويج على الخم ، من أحدى أجمل الدجاجات.. ولكن الآن كل شيء سابق لأوانه.. فها هو بقوة الفحل .. يحرت بلا كلل وبمتعة .. ولا يقصر بواجباته .. ومتنبه بواسطة العيون على كل ما يجري تحت الفراخ من فقس جديد. ويعرف كل التحركات ، وحتى يعرف الوقت الدقيق بالثواني ،الذي تقضي فيه كل دجاجة حاجتها فوق أرض الخم ..

غير ان الرياح لا تجري كما تشتهي السفن.

أطل صاحب الخم فجر أحد الأيام ، ليعلف دجاجاته ، وأدخل للخم ديكا جديدا جمال ريشه يأخذ العيون ، وفتوته بارزة مما جعل الدجاجات يتضاحكن ويهرولن لملامسته واثارته .. دون حياء ودون أخلاق .. وكأن الزعيم الأوحد لم يرو شبقهن ليلة أمس .

الديك الفتي وقف يتأمل الديك الملك ببعض النظرات التي تثير الغضب.. ودون أن يكلف خاطره لتقديم صكوك الطاعة. كان من المتوقع ان يفهم هذا الغبي انه لم يدخل للخم لينصب ملكا او وريثا. وأن القرار بالتنصيب يعود لمجلس الدجاج البرلماني المشكل بأكثريته المطلقة من الدجاجات العيون على اختلاف هيئاتهم الثقافية ( الجاسوسية) .. والدجاجات أصحاب الحظوة في أمسيات الديك اللاهبة.

قرر الديك ان يكلف دجاجة بملاحقة هذا الوافد الجديد ، الذي دخل ليستملك الأرض والبيت والعرض .. بينما صاحب الشأن حي يرزق .

ولكنه لا حظ ان المعلومات التي تصله من الدجاجة العين لا تشمل الكثير من التفاصيل ، فهل تظن ابنة الزنا انه غافل عما يدور في خمه..؟ وهل تظن انها الوحيدة التي تراقب الوافد الجديد ؟ والا تعرف ان كل الحركات تصله من عدة مصادر على الأقل ، حيث تقارن المعلومات وتصنف في الأرشيف الثقافي ؟

وفي ليلة قمراء ، قرر ان يفرض حظر التجول،ليقبض على الوافد والخائنة بالجرم المشهود . فأعلن الأحكام العرفية التي أقرت بلا مشاكل في مجلس الدجاج البرلماني . وأبلغ الديك الدجاجات بان يلزمن مواقعهن لأنه يعتقد ان مؤامرة كبرى تحاك ضد أمن الدجاجات ورفاهيتهن .. وحبهن المطلق لزعيمهن الأوحد ديك الديوك .

خمدت الدجاجات فوق بيضاتهن بوجل ، بانتظار ما قد يسفر عنه نظام الطوارئ .. ومضت الساعات متوترة ثقيلة. وفجأة سمع صوتا يتأوه ..وصوت يأمر بأن " أصمتي .. لا تفضحينا "

فأطل على الزاوية التي تسرب منها الصوت ، ويا لهول ما كشف . كانت الدجاجة العين التي كلفت بمراقبة الديك الجديد تتأوه تحته بلا حياء ..وهو يطالبها بتكرار بالصمت .

صاح الديك غاضبا: انها خيانة!!

جفل الديك الفتي : وقال بحياء : انا أمارس حقوقي.

لا حقوق في خمنا الا باذن مني
ولكنك مثلنا كلنا .. انت عابر أيضا .
ما هذه الوقاحة .. انا الملك أيها الحقير !
صاح بقوة وغضب متفجر ، متحفزا للإنقضاض بمنقاره على رأس هذا المعتوه المغرور.

ولكنه تريث اذ فكر بأن غضب صاحب الخم أشد بأسا من نظامه الديكي ، اذ انه يملك وسائل قمع وقتل رهيبة لا يمكن تجاهلها في اقرار النهج الديكي . وقال:

في خمنا لا يوجد ملكان .. بل ملك واحد .. وكل ملك آخر هو مرحوم أو لم يخلق بعد.
يا سيدي أحضروني الى هنا لأقوم بواجبي القومي.. الاكثار من الدجاج والبيض...
اخرس .. انت عميل وستجري محاكمتك . يا عيون القوا القبض عليه ,,,
وبعد تفكير قال :

وعليها ايضا التي باعت كرامتها وتنازلت عن ثقتنا بها مقابل شهوتها.
انتفض الديك الفتي وانقض بمنقاره على رأس دجاجة من العيون حاولت تقييد جناحيه ، فتزعفلت ألما بالتراب وما هي الا لحظات حتى نفقت.وما هي الا لحظة أخرى او بعضها والا والديك الملك ينقض على الديك الدخيل بمنقاره وينتف ريش رقبته وبعضا من جلد رقبته ليزعق الغبي بألم ويتأوه من نزيف دمه ، وليفهم مرة والى الأبد ، من هو الملك هنا . وقال بلهجة التهديد :

بقصد لم الحقك بالدجاجة الميتة .. اعتبر هذا انذارا !!
في فجر اليوم التالي تفاجأ صاحب الخم بالدجاجة الميتة . وقد شاهد ضربة المنقار في أعلى راسها.

قذف الدجاجة لكلب الحراسة الذي سارع يقطعها بأنيابه الحادة ويلتهمها . تأمل الديكين بغضب.. وشاهد آثار المعركة بينهما . ولكنه أيقن ان العقاب لن يكون لصالح ازدياد انتاجية الخم .. و ان الضحية ربما كانت ضرورية لتنظيم العمل الديكي داخل الخم .. المهم ما ستكون عليه النتائج خلال الشهر كله .. ان ديكين أفضل للخم من ديك واحد .. وسيفهم الغبيان هذا الأمر او ينفق أحدهما... وهذا يقاس لمن لا يعلم بعدد البيضات ، طبعا الديك معفي من البيض .. ولكن تقول الأساطير ان بعض الديكة لها بيضة واحدة نادرة .. تسمى " بيضة الديك " ، يرزق ربنا من يجدها بأحلى أمانيه!!

ترى هل ديكنا من أصحاب البيضة النادرة ؟

او ربما لسد العجز المتوقع قد يصير ديكنا بياضا !!



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



القصة الرابعة : لم يخلق الديوك للصياح فجرا فقط !!




كثيرا ما ادعى الديك بقدرته على التمييز بين الخواص ذات القيمة والخواص الطارئة. طرح على عموم الدجاجات تفسيرا قريبا لما طرحه الفيلسوف الأغريقي أرسطو عن نفس الموضوع.والحق يقال ان الديك لم يسمع بأرسطو ، وأرسطو لم يفكر ان ديكا ما قد يصير فيلسوفا في زمن قادم .

ذكاء الديك أصبح حديث الدجاجات في جميع الخممة ( جمع خم ) المصدرة للبيض والفراخ .صحيح ان بعض الدجاجات استهترن بعقل الديك واتهمنه بالهذيان .غير ان دجاجات اخريات أصبن بذهول من ان يكون وراء ما يبدو انه ذكاء ، علما جديدا قد يغير نظام الخممة.. فيذهبن هباء بعد مجهوداتهن الكبيرة في رفع انتاجية البيض الى أكثر من بيضة واحدة يوميا ، بل وأحيانا ثلاث او أربع بيضات .

كان الديك يشرح بلا ملل رؤاه الفلسفية ، وفحوى فكرته الجديدة ،وبلغة دجاجية بسيطة.

كان يقف في مكان مرتفع ، ويجيل نظراته بين دجاجات خمه ، قبل أن يبدأ حديثه المنمق ، ويقول: ان الخواص القيمة هي التي لا يمكن ان يوجد الشيء بما هو عليه بدونها. ويسال :

- مفهوم ..؟

ويرد الشعب مهموما من الجهل :

- مفهوم !!

والشعب الدجاجي لم يفهم بالتأكيد. ولكنه موقف احتياطي حتى لا يتورطن بالتحقيقات الجنائية والسياسية ويتهمن بالعمالة لأعداء الوطن . ويواصل:

- اما الخواص الطارئة فهي التي تقرر كيف يكون الشيء وليس ما هو الشيء.

وينظر بحدة بعيني دجاجاته منذرا من اللغط المتزايد دون ان ينبس ببنت شفة ، ويمشي الخيلاء دائرا حول نفسه.. عارضا ريشه المميز بألوانه الزاهية . وعندما يسود الصمت الكامل يقف مسلطا نظراته القاسية ويسأل :

- الشرح واضح ؟

- واضح واضح ...

همهمت الدجاجات بببغاوية غير داريات من كلام الديك حرفا واحدا. ولكنهن لا ينسين للحظة واحدة ان الطاعة واجبة لمن يولى عليهن.

حتى صاحب الخم الذي وقف دون أن يراه الديك متأملا مقاقاته وذهول الدجاجات امام شموخه ، أصابته الحيرة في تصرفات ديكه الغريبة .. وهو قد عبرت عليه مئات الديوك ، ولكن مثل هذا الديك لم يشهد في حياته . والحق يقال انه يدير الخم بانضباط شديد ولا يقصر بالواجبات التي كلف بها، والا لصار لحمه وجبة فاخرة ولصارت عظامة طعاما للكلاب.

صحيح انه في الشهر الأخير قصر في واجباته بسبب ضغط الموضوع الجديد على دماغه. ولكن ديك جارته ام يوسف سد بعض العجز في خمه ، ومنحه تبعا لذلك شهادة تقدير مشيدا بدورة الوطني في خدمة القضية العادلة.. بل وأوعز لمجلس الأمة ان يمنحه شهادة دكتوراة فخرية .. وقد راقته هذه الفكرة ، وتوقع ان يمنح هو بالمقابل لقب بروفسور من مجلس خم ديك اؤلئك الجيران . وهذا ما كان فعلا. فصار الديك بروفسور شرف وملك وشاعر، أدامه الله .. وأدام عزه وسطوته على دجاجاته !!

بعد مشاورات بالخفاء عن الديك ، وارضاء لديكهن قررت الدجاجات أن يكررن أقوال ديكهن ، لدرجة ان احدا لا يعرف هل كان التكرار عن فهم واستيعاب ، أم عن مراضاة لولي الأمر ؟ أم هو استسلام طبعن عليه كسائر اناث العرب ؟! والى جانب ذلك الخضوع البارز ، أشدن الدجاجات ، بمناسبة وبلا مناسبة ، بفكر الديك العظيم . بل وقامت بعض الدجاجات الثرثارات بكتابة دراسات معمقة وطويله عن فلسفة الديك ، جرى نشرها في الخممة .. ووصل بعضها الى أقنان اوروربا ، محدثة ثورة في العلوم الفكرية بين الدجاج الأوروربي ، لدرجة ظن بعض اطباء البيطرة ان الدجاج أصيب بجنون البقر المشهور.أو ربما انفلونزا الخنازير ...

في الواقع ان صاحب الخم تحرك محتارا بديك خمه ودخل ليجمع بعض البيض ، وظل الديك منتصبا في مكانه وكأنه يستعرض جحافله المقاتلة .. مع ان الخم فارغ من وسائل القتال .. وفكر صاحب الخم ان يجري السكين على رقبة هذا الثرثار.. ليرى كيف تصير حاله مع فلسفته.. ولكن السؤال الأساسي كان عن مدى الارتباط العاطفي بين الدجاجات والديك ؟ وخوفه ان يسبب نكسة لهن ، فيخسر أكثر مما يربح. وبذلك بدل ان ينقذ دجاجاته من مدعي فلسفة وشاعر جاهل بمفردات لغته واملائها الصحيح ، ولا يعرف عاميتها من فصحتها ، يعرضهن لحزن شديد وطويل يدخل الفوضى والتسيب الى الخم ..

وكان قراره ان يعلم الديوك الوارثين لهذا الخم في المستقبل ، ان الفلسفة والشعر ليست لهم ، انما لها أصحابها من البشر وليس من الديوك حتى لو علت رؤوسهم التيجان الحمراء . وأن أصواتهم الصداحة لا تطلع الفجر ، بل الفجر يحرك غريزتهم فيصدحون بلا عقل . " اما انتم فقد خلقكم ربكم للحرث والدرس لبطرس " قال لنفسه.

وتمنى صاحب الخم لو يفهم لغة الطيور مثل سليمان الحكيم ، ليلقن هذا الفيلسوف درسا لا ينساه ، يجعله يتحسس رقبته كلما وقف فوق منصته متمخترا في خيلاء.. عارضا فصعته البارزة بريشها الملون .

ولكن ما العمل والزعماء على كل أشكالهم في الخممة وغير الخممة ، وحتى لو سموها اسما شاعريا أكثر ، أقنان مثلا .. لا يرون الا ريشهم وألوانه الزاهية ؟ ولا ينتظرون من جماهيرهم أكثر من عقل دجاجي واستجابة بلا تردد للآمر الناهي صاحب النعمة والمناضل الكبير من أجل أمنه وراحته وسطوته ونشر شعره ، وجعل اسمه يتردد بالرضا عليه ، على لسان كل من يعشق وجبة بيض مقلية بزيت الزيتون على الفطور .

وتسائل صاحب الخم :

- لماذا يخلق الله الديوك ؟ .. هل للصياح فجرا فقط ؟ كل وسائل الراحة مؤمنه لهم ..اذ رغم ارتفاع أسعار العلف في بورصة نيويورك وبورصات الشرق الأوسط والأقصى ،الا ان الوجبات لم تنخفض كما ونوعا . فلماذا هو مشغول دائما مثل ام العروس ، لا شيء يعمله الا القفز على الدجاجات واطلاق صوته المزعج فجرا ، في أحسن ساعات النوم ؟

كان الديك يتأمل صاحب الخم وهو يجمع البيضات .. ويقول لنفسه : " آه ما أتفهكم أيها البشر.. هذا ما يشغلكم كل نهاركم .. كم بيضة سنجمع اليوم وكم غدا .. وما هي الوسائل التكنلوجية الحديثة لجعل الدجاجات يرفعن عدد بيضاتهن اليومية ، بحيث صارت الدجاجة مصنعا صغيرا متحركا للبيض ." وفكر :"ربما يجري الاستغناء قريبا عن دور الديوك في عملية الفقس ، عندها لن ينفع الديوك شعرها ، ولا فلسفتها ولا درجاتها العلمية المقدمة تقديرا لمكانتهم وحكمتهم من خممة الأمم الدجاجية ."

هذه الأفكار أشعرته بالخوف .

وقال الديك لنفسه أيضا : " اما أن تفكروا أيها البشر، وتتخذوني نموذجا لكم ، وتستعملوا دماغكم ، فهذا مرهق للعقل. ربما حان الوقت يا الهي لتتغير الأدوار. هم في الخم ونحن طلقاء .. ولكن هل يبيض البشر ؟.. ترى ماذا يبيضون في بيوتهم ؟ بيضهم مثل بيضنا؟ ومن يأكل بيضهم ؟ كم أتمنى ان اشاهد شكل بيضهم وأتذوقه ."

في فجر أحد الأيام وصلهم ان أعتداء آثم وقع على خم أبو علاء من ذئاب داشرة .. على أثره جرت اتصالات عاجلة بين الديوك للتشاور ، وقد قر رأي الأكثرية على عقد مؤتمر قمة طارئ.. رغم ان التشاور لم يقد الى موقف واضح بين الديوك.

وجرت الاستعدادات لاستقبال الديوك الأشقاء في خم ديكنا ، الفيلسوف ، والحائز على لقب بروفسور شرف من خم الجيران .

نبه على دجاجته بلهجة تحذيرية بأن لا يظهرن أمام الديوك الغرباء الوافدين لحضور القمة ، منعا لوقوع المحظور. وان التي تتهاون بتحذيره سينتف ريشها وينقر راسها ، وينسب نفوقها للذئاب.

تجمع الأشقاء لتدارس الوضع .. ورغم أهمية الحدث الا ان عيونهم لم تتوقف عن البصبصة شمالا ويمينا.. لعل وعسى تظهر لهم حورية من خم الفيلسوف ، ربما لها طعم مختلف عما اعتادوا عليه ، الأمر الذي جعل ديك هذا الخم شاعرا وفيلسوفا في دنيا الدجاج ، شهرته عمت الشرق والغرب ..

افتتح الديك الفيلسوف المؤتمر داعيا الجميع لادانة العدوان واعلان التضامن والأسى الشديد على الديك النافق .. والترحم على الدجاجات النافقات بسبب الهجوم الوحشي .. وذلك تنفيذا لأبسط بنود اتفاق الدفاع المشترك . واعلمهم انه توصل لرؤية فلسفية جديدة تماما في هذا الظرف الماساوي ، وقبل ان يسمع أي تعليق بدأ يشرح فلسفته رغم زيغان عيون الأشقاء وراء مؤخرات دجاجاته ، اللواتي أخفين وجوههن حسب تنبيهاته .. .وقال شارحا ، والله أعلم اذا نصتوا لحديثه :

- الخواص ذات القيمة هي التي تجعلني انا نفسي الديك الذي أمامكم . صاحب الفكر والقدرات الصوتية والشعرية. اخواني ، بدون عقلي لن أكون أنا نفسي. لو نزعتم ريشي الزاهي الجميل ، لن يتغير الواقع ، سأظل انا نفسي بريش منزوع . أما الخواص غير ذات القيمة فهي تتعلق بالشكل والحالة. من هنا اعتداء الذئاب على خم الجيران الأشقاء لم يغير مضمون الدجاج والديوك في الحارة كلها . ظل مضموننا سليما.. ما تغير هو الشكل والكم وهذا نتجاوزه بزيادة جهودنا المشتركة مع جماهيرنا الدجاجية. قتل الذئاب 70 دجاجة ، الله لا يعطيهم عافية ، ولكن ، وهذا المهم والجوهري .. فقست الدجاجات الناجيات من الذئاب في نفس الخم ، وفي نفس ليلة الاعتداء الاجرامي الغاشم ، أكثر من 180 بيضة أسفرت عن 180 فرخا جميلا يفرح قلوبنا جميعا .. لذا نحن لم ننهزم . بل انتصرنا على الذئاب، لأن القيمة الأساسية لم تتغير ولم تسقط . بل ازدادت.

وقام كوكوكوكو عاصف تأييدا لهذا الموقف القومي الجريء.

هذه الفلسفة المستحدثة في القمة الطارئة أرضت جميع الديوك .. لدرجة ان عيونهم لم تعد تبصبص شمالا ويمينا. فقد وجد الديك الفيلسوف الكلمات الدقيقة للتعبير عن الموقف الطارئ وايجاد التعابير التي تلائم الموقف المسؤول . ومن لم يفهم صمت خوفا من فضح جهالته وقصر نظره !!

واعلنت الديوك انها مساهمة في تعميق هزيمة الذئاب سيبدأ الأخوة الديوك باعادة بناء ما تهدم من الخم ..

وتسائلت دجاجة تبدو عليها الوقاحة والجرأة ، ويبدو انها مراسلة لاحدى الفضائيات :

- واذا هوجم الخم مرة أخرى .. ما هي خطط المستقبل ؟

- سنعيد البناء مرات حتى تفهم الذئاب اننا لن نتخلى عن الأشقاء.

- ولكن ريشكم لا يمعط مثل ريش الدجاجات وعظامكم لا تكسر مثل عظامها ، وانتم معشر الديوك لا تتعرضون لأي خطر في ملاجئكم التحت أرضية؟

- وهل تظنين يا سيدتي ان الانتصار يتحقق بدون تضحية ؟ واذا تعرضنا للخطر من سيعقد حسب رأيك مؤتمر القمة القادم ؟

- وهل التضحية هي نصيب الدجاجات لوحدها في هذه الحياة؟

- الله أكبر.. هناك من يستهتر بالشهادة ؟ .. هذا كفر.. هذه عمالة للذئاب ..

صرخت الديوك صرخة واحدة. ولكن الدجاجة المراسلة أصرت متشجعة من تأييد بنات جنسها :

- ما رأيكم ان تختبئ الدجاجات ونترككم يا أعزائي الديوك تعاركون الذئاب؟ الستم أولي الأمر الأقوياء والشرسين ذوي المناقير الجارحة والقاتلة ؟

- وقاحة .. خيانة قومية ..

صرخ المؤتمرون الديوك . ولكن الديك الفيلسوف انتظر حتى هدأ غضب الديوك . وقف متأملا جرأة المراسلة الجميلة ومفكرا ، ترى لو نط عليها كيف ستصير حالها ، كم هي مغرية في جرأتها ومثيرة ، وقال :

- سيدتي الأنيقة .. قلوبنا تبكي على الدجاجات .. وسنصدر وعدا لهن بالجنة وسنمنحهن كل ما يتطلبة تجديد وزيادة عدد الفراخ .. واذا احتاج خمهم لديك آخر .. سنقوم بالمهمة بالتناوب حتى ايجاد بديل للأخ العظيم الديك النافق . فلماذا هذا التوتر.. ؟ مثل هذه التضحية لن تجدوها في أقنان الغرب الفاسدة . لذا نحن لا نتشبه بهم . الا تعلمين سيدتي ان للشهداء جنان لا يدخلها الا معشر الصالحين ؟ اني أدعوك لنشر هذا الموقف وضمان آخرتك انت ايضا مع أبناء جنسك . .

- يا سيدي انت تتحدث من الصبح ولم نفهم الا ان موت الدجاجات انتصارات.. ولكن الدجاجات يقلن انهن يردن صيصانهن تحت أجنحتهن وضمانة ان لا يتكرر غزو خمهن وقهرهن من جديد ، فهل هذا مستحيل ؟

فغضب ديك ام كميل وصرخ :

- هذا استهتار بالنصر التاريخي .. هذه اهانة للنافقين الشجعان .. هذا استهتار بانتصاراتنا القادمة ..

- كوكوكوكو ... لا تستهتري يالانتصار.. يجب طردك من الخممة .. اذهبي لخم اوروبي يا ملعونة .. اسحبوا ترخيصها هذه المغرورة .. لنها تعمل لصالح العدو ..

علت الأصوات تشجيعا لديك ام كميل. واستنكارا لأسئلة الدجاجة الصحفية الاستفزازية.

وانتهى مؤتمر القمة بقرارات حاسمة. . وعلى رأسها قرار لا يقبل التأخير.. استنكار وشجب العدوان الذئبي ، والاستعداد لاستقبال دجاجات الخم المنتصر في ضيافة ديوك الخممة .. ويستحسن ان يكن من الجيل الجديد لضمان جودة الانتاج الدجاجي ، وبذلك يستفيد دجاج الخم ويكرس الديوك الأشقاء طاقات يومهم ونهارهم في انشاء جيل جديد يسير على الدرب البطولي الذي شقه الآباء والأجداد النافقين .

وكلف الديك بصياغة نشيد قومي يعبر عن المرحلة الجديدة من التضامن الدجاجي، والتآخي الديكي !!


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


القصة الخامسة : الديك الفصيح لم يعد يصيح


بدأ الديك الذي صار اسمه مرادفاً للفصاحة الخطابية وللفلسفة ولنظم الشعر ، يشعر بثقل الالتزام بمسؤوليته ، وكثيراً ما خضع للنوم القاهر ، رغم سطوع الشمس واحمرار قرصها، فتوقفت الساعات وتجمدت الدقائق وكادت تقع مصيبة للبشر، بأن يكون يوماً "مفركشاً" لأن الديك لم يَصْدَح صوته استقبالا للفجر الجديد.

ولكن تاريخ الديك المجيد في رئاسة مجلس الدجاج البلدي، حرك همم الرفاق الديوك من الحارة القريبة، وحتى من حارات بعيدة، لم يعرفوا الديك شخصياً، إنما وصلتهم أخباره وفصاحته الخطابية ، فبدأوا يتقاطرون أفرادا وجماعات لِشَدَّ أزره ولتخفيف مسؤولياته داخل الخم حتى لا يحدث المكروه، فينقص إنتاج البيض ويجوع أولاد صاحب الخم، وعندها ، حتى لو تدخلت الأمم المتحدة، لن تحل المشكلة. وقد يواجه الديك الفصيح، خطر الذبح حسب الشرع، إذا انفضح عجزه وصار عالة على الخم. كانت المشكلة في إيجاد من يحل محله في رئاسة المجلس البلدي ألدجاجي، بحيث يرتاح الديك من التزامات المسؤولية وأثقالها ، ويقوم بالمهمة ديك نشيط، تحت اسم وإشراف الديك الفصيح، الذي يبقى متمدداً بين الصحو والنوم . ولا يظهر إلا ساعات الشدة، مثل المنقذين العظام في التاريخ البشري.

زيارة الديوك ساعدت، وعززت مكانة الديك الفصيح، فألقى قصيدة بنت ساعتها مرحبا بالزوار الديوك، الذين هبوا لمناصرته في محنته الصعبة، وأثبتوا أن الديوك لبعضها وقت الشدة ، حتى الخلافات والمشاكسات أجلت من أجل المصلحة القومية والشخصية ، وألقيت الخطب والتصريحات ، وتكاتف الديوك في دبكة وطنية أمام الجماهير التي تصفق مغلوبة على أمرها ، خوفا من عيون المراقبين وعقاب المتخلفين عن إظهار السعادة والرضاء والشكر للديوك والرب الخالق على هباته الكريمة .. وهكذا استقر الوضع واستتب النظام !!

الديك الشاب يعمل ولا يقصر، والبيض يتزايد...وصاحب الخم على آخر انبساط، فصحن البيض المقلي بزيت الزيتون صباح كل يوم..هو الوجبة المفضلة لديه ولدى أبنائه الصبيان. أما بناته، فعقلهن افتل مثل أمهن، لا يتنازلن عن صحن الزعتر واللبنة المكدرة بزيت الزيتون.

لم يحدث خلل في إدارة الخم، ولم يؤثر قضاء الديك الفصيح ليله ونهاره ممددا مرهقا أو دائخا ، وحتى لو تكاسل عن مهمته الاسمية ، بإعلان ظهور فجر يوم جديد، فالديك الشاب متنبه لكل التفاصيل ، ويقوم بالمهمة مقلداً صوت الديك الفصيح وحركاته، حتى لا يميز احد من الجيران أو من ديوك الجيران، أن الصوت ليس صوت الديك الفصيح بل صوت الديك البديل الوارث الموعود لمسؤوليات الخم بعد عمر طويل .
الراحة جعلت الديك الفصيح يتنشط، خاصة وهو يرى الفراخ الجديدة بألوانها الزاهية، وتغنجها في مشيتها. وبدأ ديكنا الفصيح يشعر بالملل. فانشد مطلع قصيدة يتذكرها من أيام شبابه وإبداعاته الشعرية التي صارت حديث الخممة في الشرق والغرب:

- تطاول هذا الليل واسود جانبه

وارقني أن لا خليل ألاعبه.

دَبَّت الحماسة في الديك الفصيح لأن يبدأ باستعادة مجده الغابر ولو في السطو على الدجاجات المتغنجات. أعلن ذلك في اجتماع الخم البلدي. وكاد أن يقع الخلاف مع الديك الوريث الشاب، الذي شعر أن مكانته تتهدد وحقوقه تنتقص ولكن الفصيح أعلن أن المسألة اصغر من الرغبة في العودة إلى الصدارة بمفهومها العملي التطبيقي، فهو عاف هذا العمل. وكل ما يطلبه بعض الملذات التي لا يمكن للحياة أن تستمر بدونها، واستذكر أقوالا تراثية تقول "إن النكاح مثل الجهاد"!!

كان النقاش حاداً.. واستمر حتى ساعات الفجر، لدرجة ان الديك الشاب أطلق صوته، آمراً الشمس بالظهور، فلا خوف عليها. وهنا نظر الديك الفصيح حوله، وكتب بطاقة دفعها إلى الديك الشاب يطمئنه بها على مكانته. جاء فيها بيت شعر يقول:

- إن الإناث رياحين خُلِقنَ لنا

وكلنا يشتهى شم الرياحين.

واتبع بيت الشعر جملة تقول :

- فما الداعي لهذا القلق من نزوة في آخر العمر؟!

فقال الديك الشاب:

- هذه حلها عندي.

فانفرجت الأسارير، وذاب التوتر.

عرضوا على الديك الفصيح دجاجة يتسترون عليها في الخم لجمال ريشها، كي لا تصاب بالعين، وكي لا تقع سكين صاحب الخم الشره عليها شهوة للحمها. كانت يافعة، متناسقة الألوان. وكأن رساماً موهوباً رسمها بريشته السحرية... تمشي مشية غنج، تثير الشهوة. فسر الديك الفصيح بما عرضوا عليه. وشعر بان فتوَّته تعود إليه.

وهمست دجاجة فصيحة:

إنها رشوة!!
ولكن الخوف لجم الألسن. ونفقت الدجاجة الفصيحة من مرض مجهول.

اختلى الديك الفصيح، الذي طعن في السن، مع دجاجته الفتيه، التي أسكرته بدون خمره.

حاول الليل بطوله حتى أرهقه التعب، فغط في شخيره. هذه الحالة تكررت خلال الشهر الأول، حتى بدأت الدجاجة تشكو همها وتنفر من ملازمته .

طلب الديك الفصيح فوراً عقد مجلس استشاري سري، يمنع حضوره إلا لزعماء الخممة ذوي التجربة.

انعقد المجلس بناء على الطلب الطارئ للديك الفصيح. وقف الديك متردداً، ثم قال:

- أعزائي، نحن في الهم إخوة، وما يفشل فيه احدنا يسجل ضدنا جميعاً. كما تعلمون تزوجت من دجاجة فتية ساحرة، نفسي بها ولكني لم انجح بإيصالها إلى قمة اللذة، فتكاثرت شكواها، وهذا الأمر يثقل على حياتي معها. وأخاف أن يثقل على ضميري ... فما العمل يا إخواني الديوك؟!

بعد مشاورة سريعة، قال رئيس الجلسة :

- عليك أيها الأخ العزيز، وبما انك طعنت في السن، وحتى لا يحدث المكروه، أن تجند ديكاً شاباً، تماما كما جندت واحدا لرئاسة الخم .. يقف فوقكما إثناء احتضانك لدجاجتك، ويحرك جناحيه، ليتحرك الهواء ويلطف الاحتضان. وعندها يحصل ما تتمناه".

وهذا ما كان. عاد إلى الخم، واختار احد الديوك الشباب، الكثيف ريش الجناحين. وفسر له مهمته، ووعده بان يجعله مستقبلاً من الوارثين له. وبذلك ارتفع عدد الموعودين بالزعامة إلى اثنين !!

تحمس الديك المجند، ووقف من المساء حتى صباح اليوم التالي وهو يحرك جناحيه فوق الديك الفصيح والدجاجة التي تنوَء بثقل الديك الفصيح وتبكي نصيبها الأسود!!

ولكن الحالة لم تتغير...

عاد الديك الفصيح شاكيا همه وباكيا حظه العاثر إلى المجلس الاستشاري، طالباً حلا مع دجاجته النضرة.

طالت المشاورة، وعندما انتهت قالوا له:

- لا تجزع لكل مشكلة حل. الآن يجب تغيير الأدوار. الديك الشاب الذي جندته ينام مع دجاجتك النضرة. وأنت تقف فوق رأسيهما ملوحاً بجناحيك، ولنرى ما يحدث؟!

بصعوبة ، ومغلوبا على أمره ، نفذ الديك الفصيح وصية المجلس الاستشاري. الديك الشاب اخذ الدجاجة النضرة بين أحضانه، والديك الفصيح وقف فوق رأسيهما يلوح بجناحيه ويحملق بعينيه رافضاً أن يصدق، ولكنه ملتزم بقرار المجلس الاستشاري.

كانت الدجاجة النضرة تتأوه بلذة، وتقرقر فرحة حتى سمعها الخم كله.

- يا للفضيحة . قال الديك الفصيح لنفسه .

واصل الديك الفصيح التلويح بجناحيه، كان يلوح متوتراً هائجاً تعباً. وعندما انتهى الديك الشاب من مهمته الرسمية واستلقى على يساره دائخا من اللذة ، والدجاجة النضرة استكانت بلا حركة محملقةً في السماء السابعة، نظر الديك الفصيح شذراً للديك الشاب وصرخ به:

- يا ابن القحبة، أنت لم تلوح بجناحيك بشكل صحيح، كان يجب أن تلوح مثلي هكذا.

وانطلق الديك الفصيح يلوح بجناحيه...وإذا بضحك الدجاجات يفجر الصمت في الخم.





القصة السادسة : الديك في عالم السياسة




صحيح انه من الصعب فهم مسار أفكار الديوك ، الملاحظ الذي لا يختلف عليه اثنان انها متيقظة الذهن ، سريعة البديهة ، حادة الرؤية ، وجاهزة دائما للدفاع عن نفسها بمنقارها الحاد ، لذا ليس بالصدفة انها تدير خممها ( جمع خم ) أفضل من أي جهاز حكومي لبني آدم . لدرجة ان البعض يروج ان أفلاطون العظيم تأثر بممكلة الدجاج لصياغة فكرته العبقرية عن جمهوريتة وتقسيمها الاجتماعي والطبقي بين حكام ، هم الديوك المتسلطون ، والحراس ، من الديوك الناشئة ، والشغيلة من عنصر الدجاجات .. كأفضل نظام لتأسيس جمهورية بلا قلاقل وتمردات وثورات وانقلابات وأحزاب سياسية ونقابات وبرلمانات ، يتبادل فيها النواب الديوك من جميع أصناف المخلوقات الحوار بالأيدي ، أو المناقير ... بدل اللسان ، وكل ما يمت بصلة من مؤسسات دولة فسادها مضمون في بداية طريقها.



في أحد الخممة ، عاش ديك صيغت حوله قصص وحكايات مثيرة بسبب تميزه وذكائه وسطوته على دجاجات خمه ، وتعاليه على ديوك سائر الخممة في محيط بلده .

كان صوته الأقوى فجرا والمميز بين الأصوات ، منذ تولى مهامه الخمية ، ولكنه لم يكن مجرد ظاهرة صوتية ، وقد توصل الديك بعد تفكير الى رؤية ثاقبة بأن ما يجري داخل الخممة أكثر قيمة من مجرد علاقة بين دجاج وديوك . والموضوع لا ينحصر بالمميزات البيولوجية بين الدجاج والديوك .انما الموضوع هو فن تسييس الدجاجات من ديوكها. والتاريخ ينقل أحداثا عن ثورات دجاجية ، أعملت فيها الدجاجات مناقيرها معطا ونقرا بديوكها حتى نفقت. لذا الموضوع ينحصر في فن السياسة .. وفن الممكن مع الدجاج .. أي كيف تسيس دجاجاتك ؟ تماما كما يجري في عالم البشر.. حيث ان الحكومة الناجحة ، ليست بسبب عدلها واهتمامها بحياة الناس ، انما بحسن تسييسها للناس ، وحتى لو عدت عليهم انفاسهم .. وأذاقتهم الويلات ...

لشدة ذكاء ديكنا أطلق عليه لقب "ديك الجن" تيمنا بشاعر قديم .. مما يميزه عن غيره من ديوك البلد . وكان ديك الجن يصر ان التسمية الخاصة أيضا سياسة ، وأن هذا التعبير ( تسييس وسياسة ) ليس وقفا بالأصل على ابناء البشر ، لأنه تعبير نشأ أصلا من تسييس الحمير والخيل ... والتسييس من أصل السياسة ، والمسيس ( بكسر الياء ) صار سياسيا. والمسيس ( بفتح الياء ) ظل على حاله من الخضوع . فصار تسييس البشر من الضرورات في المجتمعات الحديثة ، ليخضعوا لأولي الأمر الذين بيدهم الحل والربط ، كما أقر ذلك أفلاطون في جمهوريته أيضا . وهنا لا بد من اشارة الى أن تعابير " الحل والربط " التي هي من صفات السياسيين ، هو تعبير جاء من عالم الدواب ، عالم الخيول والحمير والبغال والبقر والجمال . كان أصحابها يسيسونها ويتحكمون بحلها وربطها ، ولو خبطت ولبطت ضد قيودها من الفجر وحتى المغيب ، قرار حلها وربطها ليس بيدها ، انما بيد مسيسها الذي صار في عصرنا الحديث سياسيا يسوس الناس.. ويحل ويربط على ذوقه ، تحت غطاء الكلمة السحرية " سياسة " .

سبحان الله .. كيف غاب عن ذهن الديوك ، في مؤتمرات قمتهم المتعددة ، ان السياسة هي حاجة ضرورية ليبقى الحل والربط في جمهوريات الديوك ملك أيمانهم .. بدون تدخل من أصحاب الخممة التابعين لمختلف الأحزاب ، والمختلفين دائما حول من دجاجته ألذ على الموائد ، ولماذا يفضل أصحاب الحل والربط في الحزب وجبة فاخرة من دجاجاته عن دجاجات جاره. ولكن الحقيقة انهم يرفعون من قيمة دجاجات الذي يفرد لهم المائدة ، أي ان كل أصحاب الخممة يحصل كل منهم على بدوره على تقييم يثلج الصدر للحوم دجاجاته. وهذا فتح جبهة نقاش وخلاف بين أصحاب الخممة . ويقول البعض ان هذا الخلاف حول وجبات الدجاج هو من ضمن سياسات الحل والربط التي يتحكم بها أصحاب المراتب العليا في الأحزاب ، مهما تعددت أشكالها وألوانها !!

الديك كان على قناعة انه لولا السياسة وتسييس التابعين ، لقامت الفوضى في عالم البشر أيضا . وأن السياسيين في عالم البشر استفادوا من خبرات ساسة الحمير والخيل والبغال والجمال والبقر واساليب تسييسها وترويضها لخدمة احتياجات أصحابها ورفع مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية ، وفي بعض الحالات مكانتهم الثقافية أيضا ... وما شابه !!

كانت مشكلة الديك جهله بلغة البشر . ولو فهمها لفوجئ ان تعابير سياسة الدواب المذكورة ، هي نفسها تعابير رجال السياسة في بلدنا ، وربما في كل اللغات التي أوجدها الله لاستعمال البشر..

مثلا من بعض التعابير التي تستعمل بالسر أحيانا وبالعلن أحيانا أخرى ، سجلنا هذه الجمل : " هذا لا يسلك الا بالعصا ... فلان مربوط في خان الزعيم في الحزب ... هذا البغل لا ينفع لتمثيل الجماهير... مجموعة فلان لا تنفع لغير الحرث والركوب ... اللي عند الحمار دلاه .. فلان حصان ،ولكنه شديد الرفس يجب لجمه جيدا... التحالف بين البغل والحمار يجعل السياسة كارخانة.. اولئك لا ينفعون الا في النهيق والصهيل... قوته قوة بغل يحمل الزعيم لوحده دون تعب .. يريد منصبا ؟ اعلفوه بكمشة قمح ... خطاب منافسي مثل نهيق الحمير ... لا تخبط وتلبط بقدميك ، قراري نهائي... من أجل ان تتقدم عليك بصبر أبي صابر... وصوتوا لفلان الذي يعرف كيف يلجم الأعداء... نحن جمالك يا زعيم ودائما نسير وراءك ... "



كانت النتيجة التي توصل اليها الديك بعد تفكير وبحث مضن ، انه يجب ان يكون شديد الفخر بحسن بديهته ، وسرعة فهمه واستيعابه لأهمية السياسة في التعامل مع الدجاج أيضا ، وجعل التسييس ضمن خطط القيادات الديكية . وربما في التعامل مع أصحاب الخممة المسيسين مثل الدجاج في خدمه أوامر ونزوات زعيمهم . وبالتلخيص ما حدا أحسن من حدا . الدجاج يخضع للديوك ، وأصحاب الخم يخضعون لزعيم بشري مكانته في حزبه بمكانة الديك في خمه . وهكذا دواليك دجاج وديكة مهما اختلفت التسميات والأصناف ، حتى أعلى منصب في الدولة ... وبنفس الوقت كان الديك أشطر من أن يتورط بمواجهة مع صاحب خمه بسبب ان الربط والحل في الخم بيده. أي يتحكم بسياسة الخم بشكل عام . تاركا للديك تسييس الشؤون اليومية الطارئة ، والحفاظ على النظام الأفلاطوني ... وكان الديك يسمي صاحب الخم ب " البغل الغبي ".. ويضطر للترحيب به رافعا عقيرته .. ولكنه في داخله يضمر له العداوة لأن دينه يختلف عن دين الديوك .. وبطنه لا تعرف الشبع ، ولولا نجاعة الانتاج لصار جميع مواطني خمة وجبات على موائد البغل ، ولأقفل الخم أبوابه من وقت طويل!!

كان حضور البغل يثير الرعب في اوساط الدجاجات والديوك من فصيلة الحراس . . ويُشغل حتى الديك عن متابعة سياسة الخم .

الأمر الذي كان يقلق الديك هو لون ريشه ... الذي يميل أكثر للألوان الغامقة .وهي الوان تحتاج الى ضوء قوي لتنعكس في أعين البغل صاحب الخم المسيس من ديك حزبه .

كان الأمر الذي يرعب الديك ، ان يتوهم البغل ، صاحب الخم ، انه صار زعيما مثل مسيسه الحزبي، ويجرب الحل والربط بمواطني الخم ، فيخرب النظام السياسي الذي يديره الديك باتقان وموهبة فطرية تجعل حضوره بارزا في كل وقت . وأيقن طبقا للمعطيات الاساسية التي لمسها ، انه عليه مهمة عظيمة ، بتغيير لون ريشه بالوان زاهية أكثر ، تتوهج حتى في الضوء الخافت.. عندها سيبرز بمكانته ويشد الأبصار بجمال ريشه وترتفع قيمته في بورصة السياسة .وقد لاحظ ان بعض دجاجاته ، يتمتعن بريش يتلألأ في الضوء الخافت ، ولا يكف عن اللمعان حتى في الظلمة. كيف رزق الله اؤلئك الغبيات ، بهذا الريش المتوهج الذي يليق بمكانة الديوك فقط ؟ حقا ان طرق الرب غير مفهومة للديك . واستقر رأي الديك أن يجري عملية تجميل شاملة لنفسه ، ليصبح مقامه أعظم وأكثر لياقة في عالم السياسة والسياسيين المتحكمين بالحل والربط ، واتخاذ القرارات المصيرية بحق الحمير والخيل واالبغال والبشر ، وهو مصمم ان يجعل للديوك مكانا محترما في سلسلة رجال السياسة ، بحيث يضاف الدجاج الى الحمير والبغال والخيل والبشر ، المسيسين من رجال السياسة ، وسيكون ذلك انقلابا سياسيا تاريخيا ، عندما يصير الديك ضمن السياسيين المتحكمين بالصغيرة والكبيرة في هذا العالم .. يحل ويربط على ذوقه . ولم لا ..؟ .. وهو ديك لا تنقصه الفصاحة ولا البلاغة ، وربما لو جرى امتحان لغوي باشراف الداهية في اللغة العربية " أبو العلاء شمشم" لاحتل الديك المكان الأول في الاملاء سابقا حتى السياسيين الرجال الذين يسقطون في الاملاء لأنهم مجرد نهاقين لا يقرأون ولا يكتبون .

وعليه ، اعتمد الديك على الله وعلى ذكائه ، وقرر تنفيذ مشروع لتغيير ريشه ، باستبداله بريش براق يزين أجنحة دجاجاته ، ويليق بأن يكون لون ريشه ليبهر الجميع بما فيهم البغل صاحب الخم.

كانت خطته بسيطة ، وكان الديك يعرف ان البساطة هي العبقرية بذاتها ، وقد تجعله أبرز رجال السياسة والتسييس ، صراخا وعقلا وشكلا.

كانت خطته ان يقتلع كل ليلة بضع ريشات من احدى الدجاجات ، حين تكون دائخة في أحضانه ، فلا تشعر بالألم وهي في قمة لذتها ، ويبقى الموضوع مستورا .

كان تقديره ان الموضوع يحتاج الى شهر قمري كامل ، يجمع فيه الريشات ويستبدل ريشه ، ويظهر بشكله الجديد الزاهي الذي يخطف البصر والألباب ، محققا معجزة ديكية لم يذكر التاريخ السياسي او تاريخ التسييس ، او تاريخ الخممة أو أفلاطون في جمهوريته ... مثيلا لها .

وانتهت المهمة السرية على أكمل وجه .وفي فجر مشرق أصيبت الدجاجات بالذهول وهن يستمعن لصياح ديكهن بالوانه الزاهية الجديدة. ولولا معرفتهن لصوته لأنكرنه .. ولكن لصغر عقولهن ، أسوة بسائر الاناث ، جعلهن لا يفهمن كيف صار الديك زاهي الألوان بين ليلة وضحاها؟

هل يكون قد عاد زمن استجابة الرب لطلبات أولي الأمر من الساهرين على الدين والنظام ؟!

غير ان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن .

في فجر اليوم التالي جاء البغل صاحب الخم لجمع البيض واختيار دجاجة لتحضير وجبة مدعو لها زعيم حزبه وحاشيته من المصفقين ذوي الأهمية في الحزب .

نظر البغل حوله وانقض على الديك زاهي الألوان ، وعبثا ذهب صياح الديك لينبه صاحب الخم انه ديك الجن نفسه سائس الخم .. كانت السكين الحادة أسرع .. وعندما تزعفل الديك بدمه تطاير ريشه الجديد الزاهي كاشفا ريشه القديم ، فخبط صاحب الخم على رأسه بأسى متأوها:

آه يا ديكي العزيز ... سامحني .. لم أعرفك بهيئتك الجديدة !!





القصة السابعة :كيف صار الديك استا ؟!

يقولون في عالم البشر ، أن الحاجة أم الإختراع .في هذا القول لا اعجاز علمي ولا تجديد. انما السؤال الذي يتسلل الى ذهني من تجربتي في التعامل مع أصناف مختلفة من الديوك ،وبعضها ديوك بشرية ... ومنذ عهد بعيد ، هل وصل عالم الديوك الدجاجية، الى أفكار اعجازية كما هو الحال في عالم الديوك البشرية ؟ .. بحيث تختفي الحدود الفاصلة بين عالم الديوك الدجاجية وعالم الديوك البشرية ؟ وغني عن القول ان بعض الديوك من عالم الطيور ، لا تقبل مقارنتها مع بعض الديوك من عالم الإنسان ..
ففي قضايا النظام والتنظيم مثلا ، راقبوا الخممة (أي الأقنان - حتى لا أتهم بجهل اللغة من شاعر لا يعرف مفردات اللغة ) . هل يمكن اكتشاف تغيير جذري على نظامها اليومي ، أو الأسبوعي أو الشهري أو السنوي ، أو مدى العمر منذ ادخل الدجاج في نظام التدجين ؟
المجتمع الدجاجي مستقر ، كل يعرف دوره ومهمته ، بينما مجتمعات الانسان فوضى محيرة ، نظامها الاجتماعي متقلب ، لا أحد يعرف دوره الا بلغة الفرض والقانون ، اختلاف اللون لا يغير واقع النظام في الخممة ، واختلاف اللون يحدث مذابح في مجتمع البشر ، والويل اذا اختلفت العقائد والأفكار.. الديوك البشرية تريدنا في مسار فكري واحد ، ضمانا لراحتها وتربعها على قمة التحكم بالرقاب تحت صيغة القيادة . الخروج عن فكر الديك الكبير جريمة تقود الى المقصلة . والسبب ان الديوك البشرية ، أو بعضها .. لم تستوعب بعد ان المخ البشري اجتاز مرحلة من الرقي والتطور ، بحيث لم تعد الغريزة التي تتحكم بعالم الطيور تصلح للتحكم بعالم البشر ، ولكن من يقنع أصحاب الفخامة والجلالة من فصيلة الديوك البشرية ، وخاصة الشرقية منها ، بأن غيرها أيضا من البشر يملكون عقلا مفكرا وقادرا عى التمييز والاختيار ؟
ولكن لا بد من تساؤل هام : هل سبب استتاب النظام في الخممة ، هو العزل القسري السائد بين الخممة ؟ أو عقلية الديوك التي ترفض صوتا آخر غير صوتها ؟ وهل العزل يقف حاجزا أمام تطوير رؤية ديكية اجتماعية مختلفة لدى الطيور ؟ أوطرح رؤية مختلفة لأنظمة الخممة ؟ أو قيام حركات تصحيحية في عالم الخممة ؟ أو انقلابات على النظام المتسلط مثلا ؟
أسئلة هامة كثيرة تتبادر الى الذهن .. لدرجة أن بعضها يمكن ان يلائم عالم بعض البشر ، حيث الديوك هي كل شيء .. !
صحيح اني لا أكتب مقالا فكريا .. كما قد يتوهم بعض القراء الأفاضل ، انما شدتني الأفكار الى عالم الديوك الدجاجية لشدة مطابقتها للجتمعات التي لا تسمع الا لصوت ديكها.
هذه بعض الأفكار التي راودت ديكنا بعد ان أنجز مهمته الصياحية الصباحية ، محركا الكرة الأرضية بإتجاه الشمس ليبدأ يوم جديد!!
قال لنفسه : " الديوك عادة تعمل مع أكثر من عشرين دجاجة بالمعدل ، ويستحق الديك مقابل هذا الجهد ان يحرر في الطبيعة ، حين يصبح ثقيل الهمة ، وغير قادر على تثبيت نفسه فوق ظهر دجاجة."
وبعد تفكير أضاف : " ربما لتحريره في الطبيعة فوائد جمة تجنى ، بأن يكون سفيرا فوق العادة ، وداعية في مديح نظام الخممة وأصحابها ، والتستر على جشعهم ، مما قد يحول الخممة الى مطلب نفوس الكثير من الديوك البرية التي يشتهي لحمها الانسان ، فتكون الفائدة مضاعفة ، في اللحوم ، وفي ادخال جينات جديدة وتحسين النوع الدجاجي وانعكاس ذلك على نوعية البيض وحجمه وطعمه وكميته ، ورفع القيمة الغذائية للحم الدجاج ، وارتفاع اسهم الدجاج في بورصة اللحوم ".
المهم ان يقتنع أصحاب الخممة بأن تحرير الديوك الى الطبيعة ، بعد استنفاذ قواها ، سيكون تفكيرا سياسيا ابداعيا ضمن رؤية مستقبلية سليمة ، وقد يطرح الموضوع للتصويت في الهيئة التشريعية ، ضمانا للتنفيذ ، وعدم ابقاء الموضوع ضمن الأخلاقيات المتقلبة لأصحاب الخممة .
هذا سيرفع من معنويات الديوك . يزيد ثقتها بنفسها . ينزل عنها حلم السكين المرعب .ولا يرتجف قلب الديوك كلما فتح باب الخم لاختيار وجبة لشخصية مرموقة ، حيث لحم الديوك أوجب للتقديم على مائدة صاحب الخم ، للزعيم الضيف !!
التحرير في الطبيعة اقتراح عبقري . كان الديك الفصيح راضيا عن أفكاره . مثلا تستطيع الديوك المحررة ان تغري ديك النيص بهجر مغارته واللجوء الى خم دجاج . واغراء ديوك البط البري .. وديوك الحبش البري ... وتخيلوا هذه الحركة المباركة ، تتقدم الديوك للإنضمام للخممة ، وتجر وراءها قوافل من الأناث قليلات العقل ، اللواتي سيصير لحمهن فخر الموائد ، وبيضهن وجبة افطار دسمة .. وتكثر دعوات الطعام مما يسهل تقدم أصحاب الخممة والمقربين اليهم في المناصب البلدية والحزبية ووظائف الدولة ، وربما يصبح أحدهم ، مع انه حمار .. رئيسا لتحرير صحيفة أوحاملا لعصا الزعيم ، والمسألة هنا لا تتعلق بالعقل والذكاء والقدرات ، انما بموهبة معرفة رغبات الزعيم أو القابض على كيس المال ، والنقاط الحساسة في جسد الأعداء والمنافسين.
"الفائدة هنا عظيمة " ، قال الديك الفصيح لنفسه. وأضاف : " أهم ما فيها ان الديوك تصبح معفية من التعرض للذبح والمعط والطبخ والألتهام ".
بعض الدجاجات كن يتهامسن ان الديك الفصيح منذ بان عجزه ، ازدادت فلسفته وثرثرته . وواحدة تجرأت وقالت بعدم اكتراث انه : " يغطي على قصوره بطول لسانه " وأخرى قالت : " وضع مكانه ديك شاب يحرث ويدرس لبطرس ... يقوم بكل أشغاله وتسجل باسم الديك الفصيح ". وقالت واحدة تبدو من اللعوبات : " ديوك الجيران تتطاول على دجاجاته ، ويظن صاحب الخم ان الديك بألف خير .. ما شاء الله ".
ورغم قصورات الديك الفصيح ، الا انه لا يفوت مؤتمر قمة ، يعقد كلما طرأ طارئ على ديوك الحارة ، ويشارك في المنافسة على رئاسة مجلس الديوك ، ودائما يتلقى الدعم من ديوك حلفاء ،يأتون جماعات جماعات لمبايعته والتقاط الصور بقربه حتى لا تبقى زلاتهم السابقة عالقة بهم مدى الحياة. رغم انه معروف للجميع ، بان الديك الفصيح سينتدب من يحل محله في رئاسة مجلس الديوك أيضا . وعقبت دجاجة وقحة انها تتوقع ان: " ينافس الديك الفصيح على منصب سكرتير عام الأمم المتحدة واذا فاز به يعين من يدير بإسمه شؤون ديوك العالم البشرية .. وليس شؤون الديوك الدجاجية فقط " !!
تلك الدجاجة الوقحة كسّرت ساقها بحادثة عمل فسارع صاحب الخم الى ذبحها قبل ان تنفق .
كان الديك ، الى جانب ما يشغل وقته القليل ، اذا أخذنا بالحساب ساعات اليقظة ، هو اقرار مسودة قرار تؤكد مكانته ، وبذهنه أن هذه المكانة لا تقل عن مكانة أي صاحب فخامة أو جلالة. بصراحة ليس أقل من صفة ملك . وهذا يمنع ان يتعالى علية القواريط أو يعترضون على رغباته التي بدونها : " هو لن يكون هو نفسه ". وبالتالي يا ويل الجماهير التي تقاقي ، عندها لن تنفعها حتى مقاقاتها . كان ، مثل كل ُمتوج ، يريد الطاعة والإخلاص لتعاليمه . كانت الديوك الشابة فخورة بديكها
الفصيح وتسحج وهي تصفق بجناحيها مولدة تيارات هوائية منعشة للديك الفصيح انه علمها :" ان الديوك لا تبيض .. وأن البيض هو واجب وطني للدجاج لمنع انتشار الجوع ".

في عصر أحد الأيام ، وعلى غير العادة ... حدثت حركة حول مهجع الديك ، في ساعات كان من المفروض ان يقضيها نائما . "استيقظ الديك " انطلق صوت بعض الدجاجات .. منبها الى ضرورة الاستعداد لاستقبال الديك بما يليق بمكانته . ولكن الديك جلس مثقلا من الإرهاق في مكانه ، رغم ان "تعبه من كثرة الراحة " كما همست دجاجة ملثمة حتى لا يصير فيها ما صار بغيرها من حوادث عمل أو نفوق لأسباب مجهولة . وبسرعة وقف الى جانبه المفوض بادارة الخم باسمه .
أجال الديك الفصيح ببصره في وجوه الدجاجات والديوك الصغار حوله وسألهم بدون مقدمات :
- هل تعرفون من هو الملك الحقيقي في الخم ؟
- انت هو الملك .. انت يا ديك الديوك ..
كان الرد جماعيا وبصوت واحد. ولكنه لم يهتز، ولم يتأثر . فهو يعرف مكانته .قال لهم مستاء:
- السؤال ليس شخصيا يا غبيات متغنجات ...
- اذن ما القصد يا رئيسنا؟
تنحنح . أمسكته قحة قوية ، كادت تكتم أنفاسه .. الدجاجات انتظرن بفارغ الصبر خروج روحه والتخلص من هذا الموقف الحرج أمامه وأمام أسئلته الغريبة. . ولكنه أخذ نفسا طويلا وواصل:
- قصدي من هو الملك في أجسادنا يا شاطرات ؟
قلن بتردد وببعض الحياء :
- الملك هو ما يملكه الديوك ونفتقده نحن الدجاجات؟
ضحك بسعادة مما خفف وطأة التوتر وعلت الابتسامات الفرحة على وجوه الدجاجات .
- ايضا تملكن ما نشتهيه نحن الديوك ولا تطيب لنا الحياة بدونه ؟
- اذن تساوينا !!
سارعت الى القول دجاجة نضرة .
- ُطب القنينة على ُتمها بتطلع الدجاجة لأمها ... يعني غبية بنت غبية .
فاصيبت المسكينة بالصدمة والرعب على مصيرها.. والندم لتسرعها بالإفصاح عما فهمته . وشعر الدجاج انه أمام معضلة صعبة ، قد تكلف المتفوهين أو المتفوهات بما لا يتلاءم مع فكر الديك الرئيس ثمنا رهيبا . حتى منفذ أعمال الرئيس آثر الصمت ورسم ابتسامة مدعي الفهم على شفتيه ، و"هو مش فاهم أيضا " همست دجاجة لصاحبتها .
- يا سيداتي اللواتي لا تنفعن الا للركوب والبيض ، في جسم كل منا ، ذكور واناث لا فرق ، ملك لا يمكن معارضته .
- وهل يوجد ملك غير سعادتك ؟
وانطلق صوت منفذ أعمال الرئيس على غير عادته :
- أبدا .. أبدا .. أبدا
- أصمت .. انت أيضا لا تفهم شيئا !!هل تريد ان أصنفك مع قليلات العقل ؟!
وساد صمت ثقيل. كسرته دجاجة بخوف وتردد:
- اذن يا رئيسنا هل يوجد في جسمي ملك ؟!
ضحك الديك الفصيح وقح :
- بالطبع هناك ملك .. ولدى كل دجاجة وديك ملك ولدى صاحب الخم ملك ولدى زعيم الحزب ملك .. وحتى لو كانت دجاجة مشوهة لديها ملك ...
- كيف يجوز ذلك .. لم نسمع ان في الدجاجات ملوكا ؟
- سأشرح الموضوع ... لكل دجاجة أو ديك أو بشر .. رأس فيه عقل .. وفيه عينان وفيه فم وأنف وكلها حيوية لكل واحد منا .. ولكل منا قلب ينبض ، ورئات تضخ الهواء ومعدة تهضم واست تفرغ ...فمن هو الملك من بين الأعضاء التي ذكرتها؟
وتعالت الاجابات بحماس :
- الرأس هو الملك
- العقل هو الملك
- القلب هو الملك
- العينان هما الملك
- المعدة هي الملك
- الرئتين هما الملك
ورفع الديك الفصيح يده باشارة أعادت الصمت . وأعطى لكل مجموعة ان تفسر لماذا تعتقد ان الطرف الذي اختارته هو الملك .. والديك الفصيح يستمع بصمت ويبتسم من غباء دجاجاته . اشاربيده فصمتن.وقال بهدوء :
- الإست هي الملك !!
وارتفعت الضحكات وصرخات الإحتجاج
- الإست ؟!
- أجل الإست هو الملك !!
- انه أقذر عضو فينا يا رئيسنا ؟
- ومع ذلك هو الملك .
تجرأت دجاجة وهتفت :
- كيف يمكن أن نقبل بذلك .. نرفض ان نعترف بالإست ملكا.
- لنفرض انه الآن وقت الطعام .. عقلكم يستوعب ان أجسامكم تحتاج للطعام ولا يعترض . قلبكم لا دخل له .. ينبض بالحياة .. ورغم قيمته العليا في الجسم الدجاجي أو البشري ، الا انه ليس الملك . والمعدة تتلقى ما تلتهمون .. وتهضمه .. تأخذ ما يفيد أجسامكم .. وماذا بعد ؟!
- الإست تخرج الفضلات !!
- لنفرض أن الاست أضربت ولن تخرج الفضلات ...
- لايمكن .. سننفجر ..
- اذن الاست لن تخرج الفضلات حتى تحصل على اعترافكم انها الملك ...؟
- ...
- لماذا سيطر الصمت عليكن يا ثرثارات ؟
- الإست ؟!.. هذا أمر غير معقول.
- هل باستطاعتكن الصوم لكل الحياة .. لا يمكن .. ستأكلون ، ولكن الإست أغلقت بابها بالمفتاح ولن تخرج حتى حبة رمل .. الا بعد ان تعترفوا انها الملك ... ما العمل ؟
أجابوا بأصوات مهمومة ومتألمة :
- سنعترف صاغرين انها الملك ..
- اذن الإست هي الملك .. وانا است هذا الخم .. هل تفهمون معنى كلامي؟

وانطلقت الدبكة باشارة من منفذ أعمال الرئيس:
- عاش الإست .. عاش الملك !!



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

توقفت الحكايات انتظارا لفجر جديد لشهرزاد ....



نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة

nabiloudeh@gmail.com

قراءة في "نهيل نسمات كرمية" للأستاذ زياد جيوسي

د. حسن محمد الربابعة


عندما يستل الأستاذ زياد جيوسي قلمه للكتابة فانه يحضر قبل كتابته آلة تصوير معه وبعض أمتعته استعدادا لزيارة المكان المنوي زيارته، كما يحشد أبعاد الزمان والمكان والشخوص الذين قابلهم موظفا طاقات اللغة ليبني مشهده بحذق ومهارة مستعينا بغير عين منها عينه الباصرة وعين البصيرة يشحنها بعواطف جياشة وهم يتمثل المكان وما يبرزه له من دال ومدلول فيبعث فيه الذكرى الحلوة والمرة معا ، شانه في مقالته المنشورة على شبكات الانترنت التي اطلعت عليها في التاريخ المذكور بأعلاه،

لقد صور بآلة تصوير له ثلاث شجرات باسقات وتحتهن عبارة صباحكم أجمل التي هي من أفعال التفضيل فالزمان عنده مشوب بالنبات رمز الحياة ، ثم يبدأ مقالته بسؤال عن الحنين إن كان يمكن أن يتوقف لان في توقفه موت النبض في عروق المرء وموته عندئذ وحياته سواء ، انه التحنان إلى ارض الوطن، موطن آبائه وأجداده، انه حنينه لشمال فلسطين ونسائمها التي اصطحبها عنوان لمقالته "نسمات كرمية "حنين إلى طول كرم وما أحلى أن يوري بين طول كرم وكرم العنب الذي يزدان عليها رمز الحياة والنبض المتدفق حيوية ونماء ، ويحدد تشوقه في رحلته مساء، ليوظف فيه الأماسي حيث يرق الهواء نسمات كرميه فتزيده تحنانا وعشقا للزمان والمكان معا ،،كما يجول ب"رام الله "وشوارعها ودورها في نهاية أسبوع يحرص للتوثيق على ربط الزمان والمكان إذ لا يمكن تصور حدث ما بمعزل عن زمانه أو مكانه، وفي رام الله يسرح ناظريه محدقا بالياسمين المتعربش على الحيطان موظفا "متعربشة"على أنها عامية لها دلالات تسد عن الفصيح لأنها متداولة بين أهل رام الله ولعل بعض الكلمات العامية أفصح في الدلالة من التفصحن الذي لا يفهم أو يطنب في وصف نعوته، شان الروائيين الذين ينهجون النهج ذاته، فيعزون بعض المفردات العامية لاستخدامها الحقيقي على السنة العامة، ويعتمد الأستاذ جيوسي على الحركة في وصفه فكأنه مع المثل القائل "في الحركة بركة " فيقيل تحت شجرة اسماها "بركة". ثم يقوم متحركا ليقرأ بعض الكتب للمتعة والإمتاع يرمز إلى دور التثقيف في امة "اقرأ" وتصاقبه "ارق "وأول سورة كانت بفعل الأمر "اقرأ" وحذف المفعول به ليدل على أهمية القراءة المقرونة بالفهم من كتاب كان، فأمتنا في علمها عامة لا خاصة ، ثم يتحرك مع عدسة الكاميرا ويتجه شمالا يحدد اتجاهه بل من رام الله شمالا وهو أستاذ جغرافي من قبل يرسم حركته بوضوح يوم خميس إذ لا ينسى الزمان لأهمية كما في دائرة الحدث في نصف تشرين ، ويلصق وجهه بنافذة من نوافذ الحافلة التي تنقله من الجنوب إلى الشمال، وعلى عادته يبدأ بهمس لكل شجرة يمر عنها في مكانه المتحرك "الحافلة " كما يهمس لكل صخرة ميتة يستنطقها ويبث إليها همساته، وكلماته الهامسة تجديد محبته لوطنه فلسطين،ويرى مستوطنات اليهود بل مستخرباتهم التي تتقمم التلال ، ويرى الصهاينة خلف دشمهم الإسمنتية يراقبون بحذر لأنهم يعلمون داخليا أن أرض فلسطين لها أهل يمكن أن يدافعوا عنها في كل حين ولذا بدوا في هيئة المحاذر لا سيما وان الجدار العازل لم يمنع صواريخ حزب الله من أن تزور حيفا مرات وتنذرهم بإمكانية تدمير مفاعل حيفا فنقلوا قنابلهم الكيميائية خلال أربع وعشرين ساعة إلى الخضوري، لبيعدوها عن مدى الصواريخ الإسلامية ، ولم تمنعهم الجدر من أن يدكدكوا ما أرادوا من مواقعهم ، فبدت حالة الترصد عندهم خلف دشمهم "الإسمنتية " كأنهم مع قوله تعالى يصف حالهم "لا يقاتلونكم الا من وراء جدر باسهم بينهم شديد" لو وظفته وسائل إعلامنا لتشكَّلَ من بينهم أعداء بعض، فيقتل بعضهم بعضا ،كما هي عداوة بين يهود الشرق ويهود الغرب ،وفي هواجس الأستاذ جيوسي تلوح أمال بان تشرق الشمس وينمحق الظلم والظلام ، عندما وصل إلى طولكرم بدأ ينتشف أعباق الوطن الجميل العطري، لان روحه ندَّى وفوَّح أعطارا يحملها إليه نسيم طولكرم عند الأصيل، وتستوقفه مقابل النسائم العطرية نسائم اصطناعية من أقذار من لم يهتموا بنظافة مدينتهم من جهة وسموم يبثها مصنع كيماويات حول الجدار، جال الجيوسي في شوارع المدينة ، والتقى أهل الثقافة فيها فبادلوه احتراما باحترام في عبث التاريخ وحكايات الأجداد فارتبط الماضي عنده بالحاضر، وسار ركبه إلى خضوري وانبعث منها رموز العتاقة اسما على مسمى يوم كانت من ستينيات القرن العشرين معهدا زراعيا لتخضرَّ البلاد التي تدر لبنا وعسلا كما كان دورها لتخضير أراضي الضفة الشرقية، وهكذا كان دورها وما زالت تتطور إلى أن قامت جامعة التقى من أساتيذها رئيسها وأعضاء من هيئة التدريس وبعض الطلبة ، ذكرهم بالأسماء توثيقا لعرى الصداقة ، شان بعض رحالة العرب وأصحاب التراجم كالسخاوي والسيوطي ،وعرض كناقد جاد تقصيرا في استنبات الشجر حفاظا على اسم خضوري وتاريخها ، وأصاخ في مقابلاته إلى شكاوى وعذابات يعيشها أبناء فلسطين فنقل همومهم في هذه المقالة، واخذ على المسئولين ممن لم يصيخوا بأسماعهم إلى شكاوى الناس فخير الناس انفعهم للناس وقضى يوم الجمعة في التقاء أصدقائه من الطلبة، ورافقهم إلى أمكنة شعبية في مقهى كما رافق غيرهم في قاعات الجامعة ، وتأمل المدينة يوم السبت كأنه يودعها وعسى الا تكون نظرته الأخيرة إليها ، ثم ارتحل لنابلس المدينة الوطنية التي سميت على ذمة ياقوت الحموي نسبة إلى ناب "حية تدعى لس" وقد ذاقت إسرائيل من لدغات النوابلسية لدغات مريرة وتغدى عند صديق له وأشاد بكنافة أم باسل ربة المنزل التي تصنعها محليا، يرمز إلى مهارة المرأة وإمكانية التصنيع الذاتي، وتمنيت على الأستاذ زياد أن ينظر في ديوان شعر لابن عمنا الأستاذ الشاعر "وليد الكيلاني" ليرى أطباق الكنافة النابلسية وهي تتسعر حامية بالكلمة والصورة في ديوان شعر له، ثم يقارن بينها وبين ابن الرومي وهو يصف الزلابية:

رأيته سحرا يقلي زلابية في رقة القشر والتجويف كالقصب

كأنما زيته الفضي حين بدا كالكيمياء التي قالوا فيها ولم تصب

يلقي العجين لجينا من أنامله فيستحيل شبابيكا من الذهب.

وان كنا نأخذ على ابن الرومي صرفه شبابيكا ومن حقه منعه لأنه على وزن "مفاعيل "لكن يبدو أن تلمظه لحلاوة الزلابية أنسته بعض قواعد اللغة.

واسلم أيها الناقد الفذ

الدكتور حسن محمد الربابعة

28/10/2009م

(مؤتة )- الأردن



تصدق بايه؟؟

ايمن يحيي‏

تصدق بأيه
مبقتش اشوف الدنيا غير بس بعنيك
في الحلم انام واتخيلك
وانا صاحيه عايشه اتأملك
وان غبت ثانيه بحنلك
واشتاق اليك
صوتك وصمتك بعشقه
لو مهما قولت بصدقه
قربك دا حلم هاحققه
انا روحي فيك
طال البعاد ووحشتني
قربني منك ضمني
انت الوحيد بتحسني
لو كنت فين
قربك حياتي ودنيتي
ومعاك باعيش انا جنتي
قرب وكمل فرحتي
خبيني فيك


الثلاثاء، ديسمبر 29، 2009

قـراءة فـي كـتـاب " الـرقـص بألـم عـلـى حـافـة مـن زجـاج" لـفاطـمـة الحـويـدر

هـيـثـم الـبوسـعـيـدي

تقدم الكاتبة " فاطمة الحويدر" للقارئ العربي مجموعة من النصوص الأدبية المتنوعة التي تنقل القارئ عبر صفحات كتاب " الرقص بألم على حافة من زجاج" من سحر الخاطرة وجاذبية القصة القصيرة إلى جدية المقال الهادف الذي يرفع من قيمة الكتابة ويتضامن مع حقوق الكاتب العربي.

تقدم الكاتبة أيضا من خلال تلك النصوص مجموعة من التجارب والأحداث التي تعكس تجربة شخصية عاشتها الكاتبة عبر فترات متباعدة وأماكن متباينة، كما أن نصوص الكتاب توحي للقارئ الواعي بنوعية التطور الذهني والعاطفي واللغوي لدي الكاتبة عبر مراحل لاحقة من عمرها الكتابي.

ومن ناحية آخرى، يمزج الكتاب بين أدوات وصور الطبيعة التي تتفاعل مع المشاعر الإنسانية المتدفقة والتصرفات البشرية المتضادة لترسم صورة آخرى للحقائق والوقائع الانسانية، فتتضح أدق التفاصيل وتفسر أبسط الأشياء.

ويمتاز الكتاب بتنوع المفردات وثراء الالفاظ وتباين الافكار وملامسة القضايا الوجودية بلغة فنية وأسلوب متقن وطريقة سلسلة تسعى من خلاله الكاتبة نحو التشبث بإهتمام القارئ وشده نحو التأمل مليا فيما يدور بين السطور والعبارات.

كما أن جزء من نصوص الكتاب ترتهن للأسلوب الرمزي بقصد تهيئة القارئ نحو إعادة القراءة مرة أخرى حتى تزول القشور وتطلع العيون على لب القضايا الهامة والمعاني العظيمة الكامنة في اعماق هذه النصوص والتي تحفر عميقا وتبحر طويلا في سر الكون وقيمة الحقيقة وأسباب الوجود وفرصة الحياة المحدودة.

أخيرا، جل النصوص في هذا الكتاب تقدم تفسيرا جديدا لكلمات عابرة في حياة البعض ولكنها ذات معاني براقة وأنوار مشعة في حياة البعض الآخر مثل كلمات الحب والوفاء والاخلاص والحزن والعدل والحق والذاكرة والنسيان.

الاثنين، ديسمبر 28، 2009

الشرابُ

د. نوري الوائلي


أفنيتُ عمري في رباكِ رحالا = وطرحتُ فكري في علاكِ سؤالا
أبحرتُ في سرٍ بجوفكِ غامض = فوجدتهُ للضامئين زلالا
وجمعتُ من كلّ العلوم لأرتوي = ممّا ملكتِ نوادراً وخصالا
وطرقتُ أبواباً لكنْهكِ باحِثاً = فنزعتُ منها عنّوةً أقفالا
وعبرتُ وادي المهلكاتِ لأقتفي = درراً تصوغُ من الرحيقِ جمالا
فوجدتها حبُلى وبطناً مثقلاً = بعوالمٍ قد أوزعت أفضالا
ودخلت فجّ بطونها فرأيتهُ = بحراً يفيضُ زُمرداً وشمالا
الله قد أوحى لتصنعَ ما حوى = للعالمين طبابةً ونهالا
فإذا الشرابُ من البطون شفائه = قد فاقَ كلّ طبابةٍ أفعالا
بين الزهور تناغمت رقصاتُها = فكأنّها حورٌ تفيحُ دلالا
أوحى أليها ان تسيرِ وترتقي = ما يعرشون وتستقلُّ جبالا
ثم الكريمُ أثابها من جوده = ثمراً تعانقه الصباحَ سجالا
تحيا لأيّام كأنّ عطائها = كعطاء من عاش السنين نزالا
عمرٌ يغابطه الزمانُ لأنّه = يزدادُ فوق مثيله أنْزالا
فوق المناحل والزهور تلألأت = ككواكبٍ تفضي السماءَ جلالا
عجباً لأجنحة بديعٌ خلقها = والرأسُ يحملُ للعيان نجالا
صوت الرفيف كأنّه معزوفةٌ = وجميلةٌ قد أرقصت خلخالا
فبطونها تحوي لكلّ وجيعة = لوناً يزيحُ عن العليل ثقالا
عسلٌ بألوان يثيرُ ظلاله = غددَ اللعاب حلاوةً وخيالا
عسلٌ يغابطه الجمالُ كأنّه = يستلُ من عبق الجمال كمالا
عسلٌ تلملمه بكلّ طراوة = نحلٌ تغازلها الزهورُ وصالا
عسلٌ يشافي والشفاءُ بأذنه = يهبُ الشفاءَ لمن يشاء عجالا
يشفي السقام صغيرها وكبيرها = يشفي الخبيثَ بأذنه وسعالا
لسعاتها تشفي بوغز وابل= قد فككت لمفاصلٍ اغلالا
الشمع يشفي للمريض مواجعا= والصمغ يجلي علة وهزالا
وقوائم حملت حبوبَ لقائح = فتضيفها للشافيات فعالا
وتجودُ للملكات خيرَ غذائها = فيزيح من جوف العليل عضالا
مرحى لمالكة تفوق بزهوها = بلقيسَ مُلكا والرشيدَ رجالا
يا نحلة الخيرات يا لونا به = تزدان كل حديقة اطلالا
يا نحلة الخيرات يا طبّاً له = أهل المواجع أرتموا اقبالا
يا نحلة البركات يا أمّ الشفى = منك الشرابُ يرمّمُ الأوصالا
تجرين في سبل كأنّك آية = بين الزهور وتزهرين تلالا
تجرين في ذلل كأنك للضحى = شمسٌ تزيحُ عن الضياء سدالا
ياليتني أدنو لنحل ضامئاً = وأذوقُ منه بالرضى مِثقالا
فيه الشفاءُ كأنّ جسمي بعده = للصاعدات , ولن يهاب مُحالا
هل تسعف الأبياتُ وصفَ مشاعر = من مغرم يدنو لها اجلالا
وسجدتُ مذهولاً لخالق نحلة = قد أوجدَ الأفعالَ والأشكالا
عجبي لمن قراء القصيدة واغتنى = عن سجدةٍ متوارياً مختالا
أهلُ العقول لنحلة إن قاربوا = لله خرّوا سُجداً أوجالا
يا خير معجزة وآية خالق = ملئ الوجودَ معاجزاً وتعالى


عبقري اللغة العربية- سيبويه

نعمان إسماعيل عبد القادر
من منا لم يسمع عن سيبويه؟ ومن منّا لا يعرف العلم الذي برع بل وأبدع فيه صاحبنا سيبويه؟ ألم نسمع بالمثل الذي يُقال – أتجعل من نفسك سيبويه؟ وأين نحن من سيبويه؟ كثيرٌ ممن درسوا النحو وفشلوا في فهمه أو في فهم بعضٍ من أجزائه يُلقون باللائمة على سيبويه ويَعتبون عليه لوضعه كتابَه الشهير – "الكتاب" الذي أصبح مرجعًا أساسيًّا من مراجع كتب النحو بل ودستور اللغة العربية.. وكثير ممن يحبون النحو ويفهمونه، يثنون عليه كل الثناء، ويزيدون في مدحه، ويودون لو تنجب الأمة المئات بل الآلاف من أمثال سيبويه..
ولو قام اليوم صاحبنا من قبره وعاد ليكمل عقودًا أخرى من حياته، مثلما أفاق أهل الكهف من نومهم، ووجد الناس على الحال التي هم عليها اليوم، لدعا الله أن يعجّل في موته، أو لولّى هاربا إلى أبعد بقعة على الأرض حزنًا وغضبًا واستياءً من الوضع الذي آلت إليه اللغة ووضع الناطقين بها.. لوجدناه حتمًا يتساءل عن مكان الأعراب الصادقين الذين كان يسمع منهم الفصحى الخالصة التي لا تشوبها شائبة..
حين رحل سيبويه عن الدنيا لم يكن يبلغ السادسة والثلاثين من عمره.. وقد اعتبره البعض معجزة عصره إذ إنه رغم صغر سنّه فقد بلغ صيته كل الآفاق، وظلّ يردّد على ألسنة علماء النحو وغيرهم إلى يومنا هذا.. ورغم كونه من غير العرب فقد فاق العرب في نحوهم، ليس هذا فحسب بل إنه استطاع خلال فترة وجيزة أن يصبح من كبار النحاة وينافس شيوخهم حتى تمّ تتويجه زعيمًا للمدرسة البصرية.. وكُتبتْ ولا تزال تُكتب الأبحاث الجامعية والدراسات والمقالات عنه وعمّا اختص فيه هذا النابغة.
كانت أمّه تحب أن تدلّله وتراقصه، فأطلقت عليه اسمًا فارسيًّا: "سيبويه"- وهو اسم مركّبٌ ويعني رائحة التفاح.. إذن هو فارسي الأصل. وهكذا اشتهر بهذا الاسم. لكن اسمه الحقيقي هو عمرو بن عثمان بن قِنْبَر وكان يكنّى أبا بشر. ولد عام (140هـ 756 م) على أرجح الأقوال في مدينة البيضاء من بلاد فارس، وهي أكبر مدينة في إصطخر وتبعد ثمانية فراسخ عن شيراز. حين رأى النور أوّل مرّة، كان فارسيّ اللسان، ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى العربيّة.. فجاء إلى البصرة ، قبلة المتعلمين وحاضرة العلم آنذاك.. كان غلامًا صغيرًا إذ ذاك وقد بلغ الرابعة عشرة من العمر؛ جاء لينشأ فيها قريبًا من مراكز السلطة والعلم، ومن حسن حظّه أن مجيئه إليها كان بعد أن رفعت الدولة العباسية الظلم عن الفرس وفسحت لهم المجال كي يتولوا أرفع المناصب وأسناها..
وها هو ينكبّ على العلم مع أقرانه فيتلقى علوم الفقه والحديث من أستاذه حماد البصري ويحاول الاجتهاد وإثبات قدرته اللغوية أمام شيخه وهو يملي عليه حديثًا للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء…"
لكنّ النحويّ الصغير كان يدرك أن الأفعال الناقصة- كان وأخواتها- ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، لذا لم يرق له أن تكون كلمة "أبا" في حالة النصب ما دامت قد وقعت بعد ليس، فانتفض وقرأ الحديث على الهيئة التي يعرفها: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبو الدرداء …" فما كان من شيخه حماد البصري إلا أن صاح فيه: لَحَنْتَ يا سيبويه، إنما هذا استثناء؛ خجل الفتى من تصرفه وشعر بالإحراج الشديد فقال في نفسه: والله لأطلبنَّ علمًا لا يلحنني معه أحد.
مضى سيبويه وطلب من الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب كتاب العين- وهو أول معجم في اللغة العربية- وواضع علم العروض، أن يلزمه ويعلّمه مما آتاه الله من علمٍ في النحو.. تردد الخليل في بداية الأمر لكنه بعد أن رأى شدة إصرار الفتى وصدق عزيمته وافق على شرط أن ينتهج منهجه وأن لا يحيد عن الخطوط العريضة التي يسير عليها نحاة البصرة في فهمهم للنحو. كم كانت فرحة سيبويه عظيمةً حين أدرك أنه لن يلحن بعد اليوم ولن يقع في مواقف حرجة مثل الموقف الذي وقع فيه سابقًا.. ثم أخذ يتلقى الدرس تلو الدرس.. أحبّ سيبويه أستاذه الخليل حبًا شديدًا وتعلق فيه كثيرًا ولذلك ظلّ يَذْكُرُهُ في كل مجلس وكل حديث حتى روى عنه في كتابه "الكتاب" خمس مائة واثنتان وعشرين مرةً.. وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على محبّته له ومكانته الخاصة في قلبه.. ومع كل هذا ولم يكتف بهذا المدرّس بل لزم غيره من العلماء أهمهم- أبو الخطاب الملقب بالأخفش الكبير، وعيس بن عمرو، وأبو زيد النحوي، وأخذ يتعلم على أيديهم في معظم أوقات فراغه.
تحدثنا العديد من المصادر أن سيبويه بقي في البصرة منذ أن دخلها إلى أن صار فيها الإمام المقدم، وأن شهرته قد لاحت في الآفاق..
ويدعوه أحد الوزراء من البرامكة وكان يدعى يحيى بن خالد البرمكي وهو من المقربين من الخليفة العباسي هارون الرشيد.. فيلبي العالِم الشاب الدعوة ويسافر إلى بغداد حاضرة الخلافة آنذاك، وهناك أعدت مناظرة بين كبيري النحاة: سيبويه ممثلاً لمذهب البصريين والكسائي عن الكوفيين، وأُعلن نبأ المناظرة، وسمع عنها القريب والبعيد، ولكن الأمر كان قد دُبِّر بليل، فجاء الكسائي وفي صحبته جماعة من الأعراب.. ويذكر لنا عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه مجالس العلماء نقلاً عن شاهدٍ عيانٍ من المدرسة الكوفيّة يقال له الفرّاء فيقول: "لما حضر ذلك اليوم تقدمت والأحمر فدخلنا، فإذا بمثالٍ (أي فراش) في صدر المجلس فقعد عليه يحيى وقعد إلى جانب المثال ابنا الوزير وهما جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألة أجاب سيبويه، فقال له: أخطأتَ. ثم سأله عن ثانية فأجابه فيها فقال له أخطأت. ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له أخطأت. فقال له سيبويه هذا سوء أدب.
قال الفراء فأقبلت عليه وقلت إنَّ في هذا الرجل عجلةً وحِدّةً، ولكن ما تقول فيمن قال: هؤلاء أبون ) و ( مررت بأبين، ) كيف تقول على مثال ذلك من وأيتُ) و ( أَويتُ فقدَّر فأخطأ. فقلتُ أعد النظر! فقدَّر فأخطأ. فقلتُ أعد النظر! فقدَّر فأخطأ ثلاث مرات يجيب ولا يصيب. فلما كثر ذلك عليه قال لا أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره قال فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال تسألني أو أسألك فقال بل تسألني أنت فأقبل عليه الكسائي فقال كيف تقول: "كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي ) أو ( فإذا هو إياها ؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي ولا يجوز النصب. فقال له الكسائي: لحنتَ ثم سأله عن مسائل من هذا النحو نحو: خرجتُ فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ؟ فقال سيبويه في ذلك بالرفع دون النصب. فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه فدفع ذلك سيبويه- أي رفضه- ولم يجز فيه النصب فقال له يحيى ابن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب ووفدت عليك من كل صقع وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم فيحضرون ويسألون. فقال له يحيى وابنه جعفر: قد أنصفت. وأمر بإحضارهم. فدخل الأعراب وكانوا قد تآمروا عليه وفيهم شخص يقال له أبو فقعس وآخر يقال له أبو زياد وأبو الجراح وثالث يقال له أبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه فوافقوا الكسائي، وقالوا بقوله، فأقبل يحيى بن خالد على سيبويه فقال له قد تسمع ما يقولون. وأقبل الكسائي على يحيى وقال أصلح الله الوزير إنه وفد عليك من بلده مؤملا فإن رأيتَ أن لا تردهُ خائبًا. فأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج وتوجه نحو فارس وأقام هناك ولم يعد إلى البصرة..
نعم هنا تظهر خيوط المؤامرة وتأتي بثمارها؛ فقال الأعراب بقول الكسائي؛ فانقطع سيبويه واستكان، وانصرف الناس يتحدثون بهذه الهزيمة التي مُني بها إمام البصريين. كان سيبويه لا يتصور بفطرته النقية أن يمتد الشر مدنسًا محراب العلم والعلماء؛ فحزن حزنًا شديدًا وقرر وقتها أن يرحل عن هذا المكان إلى أي مكان آخر ليس فيه حقد ولا أضغان؛ فأزمع الرحيل إلى خراسان. وكأنما كان يسير إلى نهايته؛ فقد أصابه المرض في طريق خراسان، ولقي ربه وهو ما زال في ريعان الشباب، وذلك سنة (180هـ/ 796م) على أرجح الأقوال.
من الصعب جدًا أن نحصي تلاميذ سيبويه، خاصة لو وضعنا في اعتبارنا أن كل النحاة الذين جاءوا بعده غاصوا في بحور لغتنا الجميلة عبر كتابه، ولكن لو تعرضنا للتلاميذ بالمعنى الحرفي فإننا نقول: برز من بين تلاميذ سيبويه عالمان جليلان هما: الأخفش الأوسط (أبو الحسن سعيد بن مسعدة) (أي الأخفش الثاني) وقطرب (أبو محمد بن المستنير المصري).
ومات سيبويه رحمه الله وجل شيوخه على قيد الحياة!
naamankq@yahoo.com



الأحد، ديسمبر 27، 2009

حبيبتى سيدة ُ الكمال

عيسى القنصل
كسحر ِ الضؤ ِ فى الفجــــــر ِ

ونبع الماء ِ للنهـــــــــــــــــر ِ

ورق الصوت ِ للطيــــــــــر ِ

اراك فانت ِ غاليتــــى

كصوت ِ الريحِ بالسحــــــب ِ

وعزف ألناى فى طـــــــرب ِ

وخفق الحب ِ فى قلبــــــــــى

احبك ِ انت سيدتـــــــــــــي

كعاصفة ٍ من العطـــــــــــر

واغنية ِ الى عمـــــــــــــرى

وتسبيح ٍ على ثغـــــــــــرى

انادى اسم ملهمتــــــــــــــــــي

جمالك ِ انت اغنيــــــــــة ُ

وقربُك ِ انت امنيـــــــــــة ُ

و هجرك ِ انت فاجعـــــة

فكونى انت اغنيتــــــــــــــــــــــي

اراك ِ فلا ارى احـــــــدا

فقلبى عندكم وئـــــــــــدا

وروحى تبتغى الوعــــدا

تعالى مثلما انــــــــــــــــــــــــــــــــــت ِ


كفى طعنا ً باعصابـــــى

وتمزيقي بانيــــــــــــاب ِ

واغلاقا ً لابـــــــــــــواب ِ

بشعرى انت قافيتـــــــــــــــــــــــــــى

احب الروح تفديــــــــــك

واشعارى تناديـــــــــــــك

طوال العمر ابغيـــــــــــك

فما اغلاك ِ سيدتـــــــــــــــــــــــــــي

اطلت البعد غاليتــــــــــي

فصار النوم امنيتــــــــــي

ارى فى الحلم ملهمتـــــي

بجسمي انت اوردتـــــــــــــــــــــــــي


قراءة في "قليل من الملائكة" لعبد الله المتقي



ركاطة حميد

ناقد أدبي من المغرب

ملائكة تعري المستور ، وتمارس المحضور ، وتسخر من كل القيم الزائفة

تستمر القصة القصيرة جدا في إبراز حضورها المتميز كيفا ونوعا مع توالي الإصدارات ، تأبى إلا أن ترسخ اسمرارها بقوة في المشهد الثقافي المغربي والعربي على السواء ، من طرف مبدعين أخلصوا لعشقها ، طوروها منظورا وهندسة وجمالية ، لتتربع على عرش الحكي متوجة كجنس قائم الذات ، فائق الهيمنة ، سريع التأثير ، وذا شعبية كبيرة .

لقد جاءت مجموعة قليل من الملائكة للقاص المغربي عبد الله المتقي ، لتؤكد هذا الطرح ، بوفائه بالكتابة في نفس الجنس ،بإصراره بقوة على جعل القصة القصيرة جدا تظهر بوجهها المخالف ، والمتطور عن مجموعته الأولى الكرسي الأزرق، كمرحلة انتقالية سواء من حيث التوظيف أو المنظور أو التأثيث ، أو التناول بتوغله العميق والسريع الوامض وهو يجس نبض اليومي والبسيط والمركب من حياة الأفراد بنوع من الريبة والشك والمراوغة ، مغامرا بتجريب جديد يفتح القصة القصيرة جدا على آفاقها الجديدة ،تأملا واستقراء ، وتطويرا سواء داخل النص القصصي او من خارجه اعتمادا على التكثيف والحذف والإضمار ، والتسريع من وثيرة الحكي ، مع إدخال عامل التشويق وشد الانفاس ، والزج بالقارئ ضمن متاهة نصوص لا تهادن ولا تسالم ، تتمنع على الدوام بغنج ، وهي تفتح أبواب التأويل والإفتراض ، والجنون ، والتمرد والشك ، كرهان جديد لها للتعبير عن عوالمها المليئة بالدهشة ، والقص المنتهك لحدود اللغة ، والأجناس ، مما يستدعي استنفار كل الحواس واستفزازها بقوة لأننا سنكون في حضرة ملائكة ، تمارس المحضور ، تسخر من كل القيم الزائفة ، تعري المستور ، وتتمرد على الواقع وتندد بإحباطاته ، وفشله ، ومرارته، مما يبرز منذ البداية أننا داخل جنة سرد وملائكة من حبر تمشي الهوينى على أبسطة من ورق، تفوح منها رائحة السجائر، ونكهة القهوة السوداء ، ومشوشة بلغو المقاهي ، وأحزان السفر ، وأرق النوم .

فماهي أهم الأفكار الجديدة التي جاءت بها قليل من الملائكة ؟ وما إضافتها للمشهد القصصي العربي ؟

عرف القاص عبد الله المتقي بنزوعه نحو الكتابة المغايرة ، من خلال تنويعه للقوالب السردية ، والجماليات المثيرة ، وبنزوعه نحو التجريب لكن بحذر شديد ، وبكتابته لقصص قصيرة جدا ، تعكس قلقا وجوديا عارما ، يرصد من خلالها حالات إنسانية بالغة في التعقيد ، فإذا كانت نصوص مجموعته الأولى الكرسي الأزرق جسدت وجهة نظر خاصة إلى مواضيع ، كالحب والخيانة والعنف ، والكتابة ،والمرأة ، والطفولة ، فإنه في قليل من الملائكة يأبى إلا أن يقدم مواضيعه بمنظور مغاير ، إعتمادا على توظيف قوالب جديدة ــ ربما غير مسبوقة ــ كتابة شذرية وحوارية /وعبثية / وسريالية \ ومسرحية ، وفنتاستيكية ،شكلت العمود الفقري للمجموعة مما خلق تنوعا في القالب والتناول ، وفتح أمام المتلقي أبوابا جديدة للإطلالة على ملائكته وهي تبحث عن تحيق الذات وتحقق الحلم ، مبدية مواقفها الضمنية من الحياة والموت ، والحكي ، والحب والخيانة ، تصرخ بجنون أحيانا وأخرى تتصرف بعبثية وغرابة ، في لحظاتها الجنائزية أو المرحة ، رصدها القاص وهو يلعب بكلماته وشخوصه المنفلتة وقد أبرز تمزقها النفسي والعاطفي ، وعرى عنفها المضمر ، اعتمادا على الرجوع إلى سجلات ثقافية وتاريخية وسياسية ، واجتماعية ، مما أبرز كرهها العميق والدفين للجاهز من الأفكار وموقفها من الاستلاب ، والعلاقات الحميمية المزيفة ،مبرزا صراع الأجيال من خلال سرد اعتمد الكتابة والمحو كقاعدة أساسية له ، والحذف والتكثيف ، والإضمار والتأويل وسيلة لتعرية وجوه ملائكة تمارس المحضور وتهتك بسخر ية كل القيم الزائفة ، نكاية في الواقع الذي تتمرد عليه بشماتة . مما أبرز قدرة الكاتب نفسه على تطويع اللغة والقالب الفني في رصده لحالات إنسانية موجعة بنوع من العجائبية والعبثية أحيانا وأخرى بنوع من الحسرة والحنين ، من خلال استحضار أزمنة ولت للإشارة على موت حكي الجدات تحت ضغظ عولمة جارف يغذي النفس بالعنف المادي والرمزي .

I بين تنوع القوالب وجرأة الكتابة سؤال الإبداع في عوالم قليل من الملائكة


القصة القصيرة جدا والقالب المسرحي


لقد شكلت الكتابة المسرحية وطابعها المميز إغراء على الدوام لكتاب القصة من خلال استلهام قالبها وتوظيفه قصصيا نظرا لما يفتحه من إمكانيات كبيرة في بناء الحدث أو توجيهه بيسر ، لتصبح حركة الشخوص حرة ، وقادرة على جعل المتلقي في صلب أحداثها ، كما تساعد الإرشادات الركحية المكتوبة بين قوسين غالبا من توجيه الحركة ، المعبر عنها جسديا وتمكن من تقمص الدور المسرحي بامتياز وتحويل الحوار الجامد إلى حوار حي مفعم بالحركة والواقعية ، وبالتالي تصبح للنص لغته الجديدة ويتحول من مكتوب جامد إلى عالم حي . والكتابة القصصية هي الأخرى لم تخرج عن بلوغ هذا الهدف ، بخلق النص المتحرك بتوظيف القالب داخل سياق جنس مغاير ، من خلال اعتماد التطويع ، والتوظيف الجمالي لتوشيح صدر النص الضامر بجماليات مختلفة لصنع حدث متميز ، فبين المسرح والقصة القصيرة جدا تنتفي الحدود وتنتهك ، لتنشج علاقات جديدة متينة ، وصلت حد تقديم لوحات ساخرة وامضة أوحت بكون العرض المسرحي هو الآخر يمكن اختزاله وتجزيئه إلى ومضات قابلة للتصريف السريع مع التخلص من بدانة النص الأصلي . كتب جوركي مرة إلى تشيخوف يقول " لا تتجلى واقعية الكاتب في تصوير حياة الناس البائسة والأشياء الصغيرة اليومية بل في تحسيس القارئ بجمال الحياة الخفي وحلمه بغزو الجمال للحياة الرتيبة ...إن الجمال يقابله القبح ، والحقيقة الكذب ، والعمل المبدع ، الحياة الطفيلية ، والسعادة اللامبالاة والتعاسة" (1)

في " مجرد تمثيل " ص 71 يرسم القاص عبد الله المتقي لوحة ساخرة ، مقتنصة من واقع الفن الدرامي ، ومن لحظات مثيرة ، لكاتب ومخرج وممثل وباحث قدير المرحوم محمد الكغاط الذي عرف بجموحه نحو جعل الفن المسرحي متجددا ومتطورا على الدوام ، واللحظة هي تكسير للجدار الرابع في المشهد المسرحي بتواطؤ كل من المخرج والممثل بهدف إشراك الجمهور ( المتلقي) وجعل الخشبة منفتحة على قاعة العرض وهي تقنية مسرحية بامتياز كسرت نمطية وسلبية التلقي ، وكاريزمية العرض المسرحي الكلاسيكي . من خلال رصد أكثر اللحظات قوة خلال العرض المسرحي بتحول الجمهور من وضع التلقي إلى وضع المشاركة في أطوار المشهد يقول السارد "

المخرج متوتر ، ويعب من سيجارته أنفاسا عميقة وسريعة / الجمهور نفد صبره / يركز المخرج عينيه في مقبض الباب ، تم يبصق تفو .... الجمهور بدأ يصفر...الجمهور بدأ يشتم...ترفع الستارة ، يقف الممثل وسط الركح كما تمثال ...ثم يرسل من فمه أنبوبا من القيء ...يصفق الجمهور بحرارة وتنتهي المسرحية "

إن توظيف القالب المسرحي في كتابة النص القصصي الممسرح بامتياز ، والمحيل على قدرة القصة القصيرة جدا على استيعاب جمايات ومقومات كل الأجناس الأدبية دون استثناء .


الكتابة الشذرية


لعل من حسنات الكتابة القصصية القصيرة جدا جرأة كتابها على التوظيف الجامح ،المبتكر ، باعتماد رؤية ومنظور وتناول مغاير يسعى إلى التكثيف والإيماء والومض لإرسال خطاب يستنفر حواس متلقيه ، ويجبره على مواجهة نقط الحذف والفراغات التي غالبا ما تدهشه بل تبرز عجزه المطلق عن مواجهتها ، لكون دلالة المعنى تبقى رابضة خارج النص لا داخله ، وبين بقايا شذرات يتطلب لم شتاتها مجهودا خاصا لتكوين رؤية مقربة تمكن من فهم عالم يعج بالحركة والتناقض .

لم يكن التوسل بالكتابة الشذرية وسيلة لكتابة نص مغاير بقدر ما كان غاية ، تسعى إلى إعادة تنضيد حقول المعاني من خلال تحقيق معاينة قريبة تفرض تمثلا خاصا وقدرة على الربط بين جزئيات النص للوصول إلى المعنى النهائي أو تكوين صورة شبه نهائية توهم بثباتها .

من هذا المنطلق يجسد نص "سمكة حمراء " ص33 حالة إنسانية مقتنصة من لحظات عابرة جمعت بين رجل وامرأة في عربة قطار ، تبادلا بينهما هدايا مفعمة دلالاتها بالرغبة المتأججة والكلمات الساحرة غير أن طوافهما جنبا إلى جنب في إحدى المدن وتيههما من مكان إلى آخر طوال اليوم ألحق بهما تعب قاتل ، استسلما معه إلى النسيان والهدوء في غرفة فندق وقد انتابهما فتور قاتل يقول السارد " في الفندق نسيت حيوانه الخرافي ، كما نسي هو سمكتها الحمراء "

لقد جسد النص بصوره المتعددة حالة من الدهشة والنسيان ومشاعر إنسانية مفعمة بالحب ، وسلوكا حضاريا يغيب الرغبة إلى حين في مقابل الإستمتاع بالآخر لشخصه وبإنسانيته بعيدا عن الرغبة التي ستظل دوما متقدة لتطيل من عمر الحب وتدكيه على الدوام .

في حين يرصد نص " بندولان " 22 من خلال كتابته الشذرية إلى زمن متوقف ، وموعد لم يتحقق فعليا تمت الإحالة إليه من خلال بناء اعتمد التوازي في بناء الحدث وهو توازي تحقق سواء على مستوى الزمان أو المكان أوالشخوص أوالأحداث أواللغة :

رجل / امرأة ، محطة الحافلات / المطار ، الحقيبة / الصرة ، المقهى / الحانة ، بندول معطل / ساعة ببندول واحد، فقد رمز للرجل بالبندول الأول ، والمرأة بالندول الثاني ، والموعد غير المتحقق فعليا هو الساعة المعطلة التي تم اقتناؤها من سوق البراغيث . يقول السارد :

ـ1ـ

رجل جمع حقيبته ، ثم خرج يبحث عن محطة للحافلات.

ـ 2ـ

في نفس اليوم رزمت امرأة صرتها ، ثم خرجت تبحث عن مطار

ـ3ـ

هناك في المقهى ....

امرأة تحدق مليا في بندول ساعتها المعطل ...

ـ4ـ

هناك في الحانة ...

رجل نسي موعد المقهى ، وفي جيبه ساعة يدوية ببندول واحد ، اقتناها من سوق البراغيث.

لقد تميز النص بتتطويع رهيب للغة من خلال اعتماد كتابة شدرية ، بانتقالاتها الدقيقة وإحالاتها العميقة وكأنها قطع على رقعة شطرنج باردة ، أبرزت امرأة تحدق في زمن متوقف باستمرار ، ورجل نسي زمنه في حانه ، على عكس ما أومأت به بداية النص من سرعة ورغبة في السفر من أجل تحقيق لقاء مأمول ، مما جعل رتابة الإنتظار تضفي هالة من القوة على المشهذ ، وتحيله جحيما من اللامبالاة والقهر النفسي .

إن قوة الكتابة الشذرية تكمن في الإيحاء ، والومض ، تفرض قارئا يتمم الفراغات ويكتب المسكوت عنه في النص ، لتشييد المعنى وتتمة النص غير المكتمل ، فهي تدفع كل قارئ إلى كتابة قصته ، ومن منظوره الخاص .


(3)الكتابة الفنتاستيكية


يشير تودورف أن الفنتاستيك يكمن في القارئ وليس في النص " فإذا استطاع القارئ تفسير الظاهرة طبقا للقوانين الطبيعية المعروفة ، فإن ذلك يعتبر من باب الغرائبي ، أما إذا كان بحاجة إلى قوانين جديدة ليفسر الظاهرة فإن ذلك يعتبر من باب العجائبي ، لذا يمكن أن نقول أن الفانتاستيكي يوجد بين الإثنين بين الغرائبي والعجائبي " (2) وهو موقف جسده نص " غبار الضحك " ص 36 إنطلاقا من عتبته ومرورا بموضوع النص ، فغبار الأحزان هو في نفس الوقت صندوق الحكي المعطل الذي جسدته الجدة من خلال الحلم الغريب والعجيب في نفس الوقت حيث توقف الحكي دون قدرة السارد على التمتع بحكايتها غير المكتملة في إشارة إلى مرضها ومفارقتها للحياة وتركه ،فالسارد يستحضر الطفل الكامن بداخله بدهشة وحيرة الرجل الكبير من خلال ضحك ممزوج ببكاء صامت تناثر على شكل غبار لما سألها أن تحكي له تلك الأحجية التي لم تسعفها( التيفويد) .. لتنصرف كساحرة يقول السارد " خرجت من النافذة ، وخلفها غبار من الضحك "إنه استرجاع للحظات غائرة كالجرح في سديم ليل حالك ، متوغل في الذاكرة كسكين في كبد الحكي المثخن بدهشة وحروق النهايات المنفلثة .

إن تفسير السارد لعودة الجدة وزيارتها له من خلال الحلم دون ان تلبي كعادتها طلبه الأثير ، جعل من واقعة النص تعبيرا على صدمة ، ودهشة لايقبلها منطقه ، وبالتالي تحويل الجدة إلى ساحرة عبر سرد أطوار الحكاية ، بقدر ما اضفى عليها نوعا من العجائبية ، أضفى على موقفه غرابة ، وهي المرأة المحبوبة والمبجلة لديه وصندوق حكيه الأثير التي لم ترفض له طلبا من قبل . فتموقف بين واقعين يمزقه إحساس غريب ، ممزوج بدهشة ، وعدم قدرة على تفسير الموقف منطقيا .، مما أحال على وجود ثغرة بين الواقع والخيال ، يقول خوليو كورطاثار " في هذه الثغرات يوجد إحساس مهيأ لهذا النوع من التجارب ، يشعر بحضور شيئ ما مختلف ، ويشعر بعبارات أخرى ، بما يمكن أن نسميه الفانتاستيك" (4)


السريالية والعبثية في قصص قليل من الملائكة


لقد جاءت السريالية كحركة فوضوية رافضة للقيم والمفاهيم والأشكال التعبيرية الفنية المتعارف عليها ، بعد الحرب العالمية الثانية ، مما جعل موقفها مشوبا بعدم طرح أية رؤية مستقبلية ، ولعل المصطلح نفسه أطلقه الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير على عرض جان كوكتو " استعرض" سنة 1917 كمفهوم يتجاوز الواقع في عملية الإبداع الذي كسر المنطق وأضفى طابع العبث على العمل المسرحي ، ويمكن رصد مميزاتها في الجمع بين مجموعة من العناصر غير المتناسقة والمنتقاة من عالم الأحلام والعجائب والعنف والسخرية ، والخيال الجامح ، مما جعلها تجريبا مارس هيمنته وابرز نظرته المختلفة ومنطقه من الثابت والسائد آنئذ .

ولعل انفتاح القصة القصيرة جدا على مدارس فنية ، وابداعية سابقة جعلها تنزع هي الآخرى للبحث عن القالب الفني المغاير ، لتحقيق كتابة متفردة وغير مألوفة وتقديم نصوص تستمد وهجها وبريقها المطلق من خصوصيتها ومنظورها المغاير ، ويجسد نص" مشهد سريالي "ص 27 منظورا آخر وتوجها جديدا لكتابة قصص لا تتحقق فعليا عبر الواقع بقدر ما يتم تحققها مجازيا من خلال اللغة التي تخفي وتعكس كمرآة مجرد صور شخوص تواقة باستمرار نحو تحقيق رغباتها المكبوتة وأمانيها المقموعة بحكم الرقابة الإجتماعية و الأخلاقية ، والدينية ، إلى تكسير طابوهات المثل والقيام بأفعال خيالية تلبية لجموحها وخيالاتها ، فالعلاقة الجسدية التي كان يجب أن تكون هي الهدف المنشود من خلال النص الذي بني على منطق الحدث المتسلسل تحول في النهاية إلى شيئ آخر لا يتقبله العقل يقول السارد:

" المطعم أنيق للغاية ، مصابيح صفراء ، موسيقى صامتة تغري باللعب ، ورجل وامرأة يتهامسان.

المرأة تلاعب ارنبة الرجل ،

والرجل يخلل أصابع المرأة .

خلاج الصدفة والإختيار ، اندفع الرجل إلى مطبخ المطعم سريعا ، يحمل سكينا لامعا ،

اعتلى طاولة أمام الزبناء ، أنزل سرواله ، واجتث عضوه الذكري ،

إلتقطته المرأة ، وضعته في صندوق من الثلج ، ثم انسحبت من هدوء المطعم ، ويدهل في يد الرجل..."

إن الإحالة على إجتثاث وبتر العضو الذكري بقدر ما شكل هاجسا للبطلة في علاقتها مع الرجل فقد جسد من منظور أخر موتا للمفهوم الفحولة وإعلانا عن نهاية أسطورة ذكورة الرجال الخالدة ، ونهاية للقيم والرجولة فالمرأة لم تكن ترغب في جمال الرجل ولا ماله بقدر ما كانت ترغب في رمزيته واستثنائه مما يبرز كاريزمية المرأة التي قد تكون تاجرة لقطع الغيار البشرية ، كما أن خروج البطل وهو يضع يده في المرأة فيه نوع من الإعلان عن مساواة في الجنس ، ورفض الذكور لرجولته موآزرة للنساء .

في حين تجلت سريالية الموقف من خلال عدم شعور البطل بالإغماء أو النزيف ،بل شعوره بالفرحة العارمة وهو يشد يد المرأة فالسريالية في الموقف ، بقدر مأ ابرزت غرابة وعبثية ، أبرزت نزوحا نحو التدمير والموت وقتل الخصوصية ، فلا فرق بين إنسان أو آلة ، المهم تحقيق الهدف مهما كانت الوسيلة ، وهو تصرف قتل إنسانية الإنسان وأفرغها من كل معانيها النبيلة ،وأبرز عنف الآخر ولا معنى الذات من خلال رصد أعطابها ، وتضخم خصوصيتها بنوع من الرفض والإقصاء.

أما في نص " في انتظار غودو " ص 59 فيتم التلاعب بالأزمنة وبتكسير تسلسل الفصول بنوع من العبث الذي يبعث على التساؤل والحيرة ، فكتابة النص لم يقصد منها تحقيق تسلسل زمني يحترم منطق الزمن بقدر ما تم تسريع وثيرة الحكي وتكسير عامل الزمن للوصول إلى نهاية غير مألوفة ، لكنها تعبر عن مأساة مسافر ظل ينتظر زمن سفره لم ولن يتحقق ، بنوع من الإستماتة ، وإستباقية زمنية وعبثية يقول السارد " في الصيف القادم شوهدت الصراصير تنخر التمثال الذي لم يسافر "

إن التناص المحقق في النص هو تناص محيل منذ البداية على مسرحية صاموئيل بيكيت " في انتظار غودو" وهو انتظار طال أمده وتمددت لحظاته حدا من الرتابة والقلق في محطة فارغة منذ البداية يقول السارد " السابعة إلا ربع كان وحيدا في المحطة ينتظر قطار السابعة ، الحادية عشر شتاء ولم يأت القطار "

لقد شكل عامل الزمن المحور الأساسي والسارية التي بنيت عليها أحداث النص ليتحكم في مسار الحدث والبطل بشكل كاريزمي وعبثي أدعى إلى الدهشة والجنون ولم لا نجزم بأنه عين العبث الخالص.


شعرية القصة القصيرة جدا


من النادر جدا العثور ضمن قصص كتاب القصة القصيرة جدا على نصوص تنقل المعنى والنص معا في بنائه من مستواه المحسوس إلى مستوى آخر "شعري " يجعله متميزا ومختلفا في تشكيله البصري وطريقة تقطيعه الإيقاعي مع المحافظة على نحافته وكثافته ، وخصوصيتة ، ولعل القاص عبد الله المتقي من الكتاب القلائل الذين الذين يمتلكون قدرة هائلة تجعله متفردا بهذه الخصوصية بأسلوبه الأقرب إلى الشعرية في العديد من النصوص ، وهي ميزة تجعل منه كاتبا للقصة الومضة على مسوى عال جدا وهو أمر لمسناه في نص "حياتي" ص 21 الذي تمت كتابته بشكل عمودي بمقاطع صغيرة شكلت جداريات مترابطة دالة على حالة هيام عاطفية وتعلق حد الموت بمحبوبة لم يذكر اسمها ،يقول السارد " ألف

بفندق المنار،/ في الغرفة3 ،/ وضعت مسدسي على صدغك / وقتلتك بداخلي كثيرا ،/ كنت تراقبين موتك بهدوء قاتل ،/ وكانت الغرفة تضج بسيمفونية جنائزية.

باء

في العاشرة صباحا ، / عثرت الشرطة على جثتي مثقوبة بطلقات مبعثرة ، وحقيبتي محشوة بقصائد العرابيط والصعاليك/

( في تلك اللحظة كنت تدخنين المونتانا الخضراء في قاعة الانتظار ، وتقرئين برجك بمجلة نسائية ، وكنت أنزل الدرج ، منشغلا بربطة عنقي)

إن الصورة التي تم بناؤها في الجزء الأول من النص تحيل على موت السارد الذي استعمل ضمير الأنا وهو يضع المسدس على صدغه ، في حين أن عملية القتل والتصويب مجازا من خلال النص تحول إلى المخاطبة " قتلتك/ كنت / ، كما أن الحدث وقع بغرفة فندق له دلالته المكانية الواقعية و عملية الإنتحار كانت مجازية تحيل على موت من نوع آخر ، وهو ما تم رصده من خلال الجزء الثاني من النص من استمراره في وصف حالة الجثة المثقوبة بالطلقات المتعددة والمخلفات التي عثر عليها في ساحة الواقعة . غير أن الجزء الأخير من النص يبرز تحولا عاصفا بكل الإنتظارات يحيلنا على نزوله أدراج سلم الفندق نحو قاعة الاستقبال حيث توجد المرأة التي انتحر من أجلها .

مما يبرز تمزقا عاطفيا أملته لحظة انحصر تواجدها خارج الزمن الفعلي للقتل ، الذي كانت نوعا من

الجنون والهلوسة ، هياما بامرأة صعب منالها ، فأقدم على التخلص من صورتها المتمنعة بداخله باغتيالها، وتأبينها رمزيا ، وما قتلها إلا قتل للتوثر الداخلي ، ووأد لأحاسيسه الجامحة جدا .

إن تضارب مشاعر البطل وتناقضها تحيل على انفصام ، وازدواجية حب وكره و تعلق ظاهري ونبد باطني ، وهي أحاسيس بدت أكثر تعقيدا من إخضاعها لبوابة النص وربطها بدلالتها اعتمادا على منطق الواقع ولعل شعرية النص تجلت في جنوح التوظيف المجازي "ونمذجة المعيش اليومي وتفصيله ضمن أقاصيص قصيرة تمثل كل واحدة منها مشهدا قصيرا يعنى كاتبها بتحديد ملامح ...بما يرقى به إلى مستوى الشعرية ...مما يضمن للقصة القصيرة جدا أشراط الإنقرائية ، وتتحول علاقتها بالقارئ من التلقي بما هو فعل أحادي التأثير إلى التلاقي بما يحيل على حميمية وتواصل واندماج"(5)


II الحب والخيانة وسؤال الجنس المضمر، في قليل من الملائكة


هل للحب رائحة ؟ وإن وجدت هل يمكن تمييزها بين بقية الروائح الاخرى المتشابهة ؟

هل للحب قوانين منظمة ؟ ومدونات كي يتنقل ويسير من قلب إلى قلب ،؟ هل يمكن تعليب الحب ، وتصبيره لوقت الشدة ؟

" لم تعمل الدولة في يوم من الأيام على تعليم الحب ، لان جوهر سلطتها يتجلى في الإمتثال والطاعة ، كما أن ظاهرة الحزب لم تبرز إلى الوجود لترتيب الشؤون العشقية بين المراة والرجل ضمن إطار عام يمليه التراتب الضروري داخل هيئته، لأن الحزب يستدعي الإنضباط لشروط التنظيم ، والعشق يعاند كل إرادة للقوة خارج الجسد العاشق الذي تحركه الرغبة في الإلتحاق بالآخر في ايقاعه الوجودي الخاص " (6)


لعل ما يجعل السفر لذيذا مع نصوص قليل من الملائكة هو نزوحها نحو النبش في ذاكرة المحظور ، بوخزها له والسخرية منه وتكسير هالته ، فلا شئ يعلو أو يتمنع عليها من خلال قدرتها على خلق عوالمها الخاصة ، المتجسدة سواء عبر الحلم أو الواقع ، مستشرفة لأفاق بعيدة وباحثة عن بدائل تحقق رغبات شخوصها وأحلامهم ، وتطلعاتهم ، لتعبر عن ضعفهم أوقوتهم ، تنبش في أسرارهم ، وأمانيهم الضائعة وغير المتحققة لتعمل على تحقيقها مجازيا .

من هنا طرح الحديث عن الحب من خلال تأجج العاطفة أحينا وأخرى من خلال استحالة تحقق الحب نفسه ، ونفس الأمر بالنسبة للجنس والعلاقة الجسدية التي استحالت واقعيا وتحققت عبر حلم الشخوص ، وعلى نفس المنوال تم رصد أثر الخيانة وتتبعه من خلال ومضات عرت زيف المظهر وأبرزت كبوات الأبطال الورقيين ، وجموحهم بل توقهم نحو اقتحام دوائر جد محرمة ، مما جعل تلك الأمنيات المضمرة تطفو ، بل تنتشر دون هوادة مكتسحة بالقوة دوائر الصمت لتبوح وتفضفض عن مكنونات صدرها وتنتفض على كل التقاليد والقيم وكأنها تنتقم لكبتها وحرمانها من أبسط الحقوق الجسدية التي يجب أن تتاح في حدود الممكن والمعقول

ولعل مرحلة الشيخوخة مثلت برمزيتها فترة حرجة جنسيا بين فردين ، حيث يمكن تحقيق كل الملذات سوى العلاقة الجسدية التي تظل دائما مستحضرة ومطلوبة سرا رغم تغييبها واقعيا ليظل تحققها ممكنا عبر منفذ آخر ونقصد به الحلم ، وقد جسد نص "بحيرة الشيوخ" ص 20 فالرجل والمرأة مهما بدا عليهما من كبر ووقار تظل عادتهما القديمة سارية المفعول بطقوسها الغريبة والسرية أحيانا مستعينين بعوالم أخرى لتحقيقها كالحلم من خلال سفر عجائبي ، يشير الناقد محمد رمصيص أن " لغة الحلم تمتاز بالكثافة الدلالية وثراء الإيحاء الرمزي ,. فلغته لغة الرغبة بامتياز ، لغة تترجم المعطل فينا والمكسور في أفق تعديل الواقع ، وإذا كان الحلم منتوجا لا شعوريا فهذا يعني تغييبه لرقابة العقل والمنطق" (7)

لقد تم تجسيد رغبة الرجل عبر الحلم كسمكة في صحراء، و رغبة المرأة ب"سمكة لا تزال تترنح خارج بحيرة ماء " ص 20 لتظل بحيرة الشيوخ هي بحيرة اللذة المفتقدة والنفوس الراغبة في تحقيق التحام جسدي مستحيل واقعيا لكنه ممكن من خلال حلم وان ظل مشروخا وقد غادرته ملائكته .

كما تستحيل العلاقة الجنسية عند البعض ، فإن البعض الآخر يتحصن وراء هواجسه ويتخيل وقوعها بنوع من الدراية وكأنه كان شاهدا على حدث لم يشاهده أصلا ، حسب إفادة سارد نص "رائحة الحب" ص 31 ومن خلال تخمينه وتد بدبه بين الشك واليقين المطلق حيث من خلال الحديث عن امرأة تقل قطار نحو المجهول تتمنى ألا تصل محطته الأخيرة وهي تسترجع ذكريات سهرتها مع رجل . وبعد تشييد المشهد الأول يأبى السارد وبنوع من الشك الجارف إلا أن يضيف عنصرا من خلال استدركه على حين غرة يقول " في عربة القطار كان هناك رجل أيضا '" رغم كونه غير متأكد بصفة مطلقة لقوله ' لا أملك أن أكون متأكدا " في عربة القطار ، لم تكن هناك سوى امرأة طاعنة في الحزن " وهو ما يحيل على تضارب وتناقض يفتح أبواب تأويل التأويل واستنتاج غياب مطلق لمصداقية رصد السارد للواقعة بتأكيده النهائي كون استنتاجاته كانت من خلال ملاحظته لأثر " رجل ما تزال رائحته في ملابسها"

إن رمزية الحب في قصص عبد الله المتقي تبرز دوما طبيعة العلاقة الأخرى المتمنعة والخفية فالإشارة إلى الحب لم تكن دوما على قدر من الصفاء بقدر ما كانت إحالة و إشكالا على القارئ يصعب استكناه ماهيته ، فمرة يقنعه بالأنانية والفتور كما هو الأمر في نص"سمكة حمراء " ص 33 ، وأخرى مجرد بحث عن تواصل صادق خال من كل رغبة كما هو الأمر في نص " circuit" ص 34 ففي لحظة تيه جارفة وتدمر قاتل تشاء الصدف إلا أن تجمع بين رجل مجهول وعاهرة لم يختر أي منهما الطريق الذي سلكه نحو نفس المكان في ليل بهيم موحش كل منهما يبحث عن شيئ قد يكون صيدا ثمينا بلسما لجراح الروح المثخنة يقول السارد مخاطبا القارئ " تصطحبها إلى حانة بدون نادل ، تحتسيان البيرة ، تدخنان السجائر الشقراء ، تمشيان تحت مصابيح باهتة ، تغنيان ، تتشاجران ، تنكتان ، وفي مفترق الطرق ، يذهب كل في رصيفه كما لو أن شيئا لم يحدث"

إن سارد النص القلق بقدر ما أماط اللثام عن نفسيته المهزوزة الباحثة والراغبة في تكسير رتابة لحظاته بقدر ما اجتاحه سيل اللحظة نفسها بدخول آخر الى عوالمه فكانت امرأة مسحت أحزانه وشيدت بداخل لحظاته عالما جميلا من رمال بني على الساحل وانتهى به المطاف أخيرا في جوف بحر هادر لاتتأسف على ضياعه بقدر ما تهرب أجمل لحظاته تشييده بداخلك وقد حدث تماس غير منتظر وغير متوقع على الإطلاق .

إن الغور في أعماق شخوص هذا النص يجسد حالة إنسانية تحدث مرارا لكن ليس بنفس القدر من العفوية والبراءة ، فهي لا ترتقي إلى قمة جنون رائع أو لطف ساحر دون أن تجرفك اللحظة مع موج البحر من خلال حدوث تماس عاصف كتماس البحر والرمل الحر والبرد اليأس والأمل ليسقطك في تنويم مغناطيسي على بقايا حلم لذيذ .

يقول محمد نور الدين أفاية " هناك شئ لا واع في الرجل يقاوم الإعتراف بقدرة ما يمكن أن تحوزه المرأة اللهم إلا القدرة على الخيانة والكذب "(8) فالخيانة بقدر ما هي سلوكا إنسانيا شاذا ، هي لحظة مغامرة جامحة لايجب ربطها دوما بالمرأة ،فهي تبدأ بمغامرة غير محسوبة العواقب أو نزوة عابرة يفرضها فراغ واحتباس في المشاعر ، وذبول شجرة الحب ، فيظل كل من الرجل والمرأة ينظر إليها بفتور دون المبادرة نحو سقيها وإروائها بفعل ما يتسلل إلى نفسيتهما من رتابة وملل وكره وشك وحيطة وحذر فيغتال الحب بجرعات الكراهية وقد خلق كل منهما عالمه الفريد ومعسكره الحصين بولوج دائرة السري والسحري في محاولة لتحقيق رغبات مكبوتة وجامحة لتخليص الذات من عذابها اليومي لكنها سلوكات تبقى في نهاية المطاف ممقوتة وخالية من كل شجاعة وارتباط صادق يغلفها جبن وحقارة تتحول إلى خيانة وحصار يضربه كل منها على الآخر لجس نبضه واحتساب أنفاسه ومراقبة تصرفاته دون الجرأة على اتخاذ موقف صريح ينتظر كل منهما كبوات الآخر ليركب عليها وتفجير رمانة الملامة. لقد جسد النص حالة زوجين يعيشان جنبا إلى جنب وهما يحضنان عبوات ناسفة بإقدام كل منهما على دخول مغامرة خارج نطاق رابطهما المقدس مما يبرز عدم نضج وغياب كل صدق في العلاقة وبالتالي لا مجال للحديث إلا عن الإخلاص للخيانة نفسها ، وربما يفرض علينا هذا الأمر التطرق إلى لغة الجسد ، الذي له طلباته ومتطلباته الخاصة ووسائله في التعبير عن احتياجاته الأساسية ، فالجسد عالم فسيفسائي جد معقد بألوانه ، ونزواته ، ولغاته ، ومكوناته الكيميائية ، مما يجعله كوكب يجب اكتشاف كل ربع مجهول فيه .

هل يشتعل الماء ؟ وهل يتوهج هو الآخر بالرغبة التي تسري في جزيئاته التي طالها النسيان لتذكرها انه في مكان ما في الأعماق لا تزال هناك اسرار قابلة للإكتشاف غيبها العقل بسترها في أودية الذات السحيقة إلى أن اشتعل ماؤها بعد طول أمد إنتظاره الطويل

يقول السارد أن " لا أحد في الشقة سوى سيدة في الأربعين وبعض الشهور ، تمسح على ظهر قط رمادي... كانت تتفرج على فلم أمريكي يحكي عن الغياب ، بغثة سقط الغائب فيها كما الزمضة ، حينها المرآة ، تفحصت عريها بإثارة ، ثم ريثما انتبهت أن قطها الرمادي ينكمش ، ويتأهب للقفز على جسدها الشهي " " ص56

إن الجسد المنسي هو بركان لشهوة نائمة سرعان ما انفجرت فجأة في الشرايين وساحت حممها دون توقف ، إننا إزاء قراءة دلالية للجسد ولغته المكبلة والمقموعة عمدا / طوعا / كرها / تفرض حالة من التحرر وكأنه إشتعال للماء ، ماء الأعماق المنسية ، ليحدث الإنفلات المطلق وتنهار صرامة العقل في مواجهة جموح الجسد وتمرده وقد تحول على طوفان من الرغبة التي تجتاح كل شيئ . يقول د عبد الرحمان التليلي" مند القديم والحضارة تطالب بالترفع عن كل متطلبات وضروراته ( الجسد) \، وأن يتطهر ويصبح نورانيا ، لذلك كان نزوع الجسد إلى التحرر أقوى من نزوع النفس إلى الإنصياع فالحضارة كانت دائما تلصق بالنفس كل الصفات التي اعتقدت أنها تناقض صفات الجسد.... فالفلسفة عملت ما في وسعها لإبعاده حاملة ضده شعارا صاغه أفلاطون " الفلسفة تدرب على الموت " فالفلسفة لاتعنى بالسؤال في الجسد ، والفيلسوف الحق هو من نبذ الجسد وتدرب على الموت بمعنى تخلص من الرغبة والشهوة ولم يستجب لصراخ الطبيعة" (9)


II القصة القصيرة جدا بين عنف العنف العنف و سلطة الموت


كيف يمكننا وصف لحظات الاحتضار الحرجة ، وعنفها الممارس بالقوة على الذات المجبرة على الاستسلام ، بنوع من القهر الخارق ، وهي تخترق زمن الواقع تستنفر الروح للسفر نحو عوالم غير مرئية ؟ كيف يمكن النفاد لتصوير قتامة الإحساس بالغبن لحظة الرحيل الجارفة ، دون أن ننبش ذاكرة عنف القصة القصيرة جدا المليئة بالرعب والقلق والإنتظار والحسرة ؟

لعل الترميز خاصية العديد من الأجناس الأدبية ، ولكن الوخز خاصية انفردت بها القصة القصيرة دون غيرها من الأجناس الأخرى بعصف وومض أقل ما يقال عنه رصاصة طائشة تصيب في مقتل وتكسر جاذبية الحلم المرتقب ، وقد أوصدت نوافذ جميع الحواس .

إن عنف القص القصير جدا بقدر ما يمر سريعا يخلق أثر قويا من الصعب تجاوز مخلفاته أو التغاضي عنها لأنها تترك خدوشا ، وجروحا غائرة ، تمارس باللغة العنيفة ، والحدث السريع ، لتشكل لحظات احتضار مأساوية غير منتظرة تحدث شرخا ورعبا في نفسية الملقي

في نص " ساعة موت " ص 70 تم التعبير عن زمن الحتف ضمنيا بتحول الساعة إلى ذات تحتضر عبر مراحل ، من خلال ترميز لتكتكة الساعة كدقات قلب والبندولان لمرحلتي احتضار متوالية يقول السارد " يسقط البندول الأول ، كاد قلب الرجل الهرم يتوقف في النوم / يسقط البندول الثاني / ويتوقف قلب الرجل عن الخفقان "

لقد شكل البندولان برمزية عالية حالة احتضار مزدوجة للزمن من جهة وللرجل من جهة ثانية مع قناعة مطلقة للبندول الثاني الذي ظل " يتفرس موت الرجل الذي هرم ما يكفي "وكأنه ملاك للموت أدى للتو مهمتة الروتينية ويتأكد من كونها تمت على أحسن وجه .

في حين تم رصد الموت في نص" غاز" من خلال عملية اختناق مرعبة رصد السارد مكانها بدقة من خلال تأثيث النص وصفا لسينوغرافية المكان بتقنية التقاط جزئية للصور وكأن عينه تحولت لعدسة كاميرا ، تعمل على توثيق الحدث من خلال استنطاق المخلفات والأشياء المبعثرة مع تحديد سبب الموت " تسربت رائحة الغاز إلى باقي الغرف" ص 14 في حين تم استنطاق الأشياء بنوع من الرصد المزوج بعزاء صامت وبكاء داخلي في " قصة(غير) منسية" ص 16

وهو عزاء لقاصة لن تنساها ذاكرة السرد العربي المرحومة مليكة مستطرف التي أهدي النص لروحها وقد تم بناؤه اعتمادا على تقنية القص والكولاج للإشارة إلى أشياء تبرز حزنها العميق وانتحابها الصامت ، أشياء صورها السارد حزينة حدادا على صاحبتها يقول " قبعة بالمشجب تدرف دمعا ناشفا ، / معطف أسود يرتعش من البرد ، كرسي يجلس القرفصاء ، علبة أنسولين . / قطة رمادية تتفرج في ذهول ، / بضعة مسودات قصصية / وجثة غرقة في الموت"

إنه التقاط للحظات جنائزية متخيلة لكنها مفعمة بالأسى والدهشة على رحيل مبدعة كبيرة إلى الآبد لكن أشياؤها وقصصها ستظل دوما خالدة في القلب .

وارتباطا بالمبدع والموت يأبى القاص عبد الله المتقي إلا أن يفتح أقواسا أخرى في قليل من الملائكة ، بإثارته لوجه العنف الآخر الممارس على الذات من خلال الرصد القصصي القصير جدا ، فالمبدع يموت وحيدا مع أشيائه بغثة من خلال اقدامه على الانتحار إما سخطا على واقع لم تستطع كتابته ورسائله تغييره أو سخطا على احتباسه الثقافي المفاجئ ببروز عمق المأساة وهولها النفسي الكبير فيتحول العالم حوله إلى أشبه بسراب يحاول تخليص ذاته من سرابيته ومخلفاته النفسية وجروحها البليغة وحتى تقييم الحدث من طرف الآخرين الذين يعتبرونه حسب تنبيه العتبة إلى مجرد انتحار أحال على التفاهة والنبذ في النهاية بنوع من الدونية والمقت لشخصه . فالقصدية في بناء أحداث النص حولت محراب الكاتب الى "غرفة مثلجة ... قلم جاف وعاطل عن الكتابة ...(و) جثة تتدلى من السقف ( يمكن التفكير ، ببساطة في أن ما وجدته الشرطة في هذه الغرفة الباردة ، مجرد انتحار) فالنص بقدر ما يبرز نبذا اجتماعيا مقصودا يبنه إلى غياب مطلق لهوية الكاتب ومكانته الاجتماعية الرمزية ، وإلى قتل آخر قبل حدوث عملية الانتحار بقتل فعلي لعملية الكتابة مما يحيلنا على صورة أخرى وتفيسر مجازي للانتحار الكاتب الذي أبى إلا أن يموت كالأشجار واقفا لا جاثيا على ركبتيه طوال حياته متملقا لسلطة الآخرين ، وما شنق نفسه سوى رفض آخر لملامسة تربة فانية وكأنه يتوق نحو تخليد الروح والذات معا بالبقاء في منزلة بين المنزلتين .

في حين يلخص نص "حرب" الموت كزمن لوصف الموت المتسلسل والمستمر في ومض بارق دون الإغراق في التفاصيل المملة بفتح قمقم المغارة على ذخائرها المنسية داخل مأسي الفكر الإنساني ببث صور تنافس المرئي وتعيد تشييد العالم والحدث وتقدمه من منظور خاص ، فكثيرة هي القصص التي صورت هول الحرب وفواجعها لكن القصة القصيرة جدا في نص "حرب " ص 35 جسدته وبدون اطناب كلقطات سينمائية ووضع كارثي لا يحتمل في بضعة أسطر يقول السارد " 1ـ المتاريس فارغة تماما ../ سوى قبعات وبنادق مبعثرة ، تراقب الموت بحذر. / 2 ـ جثت مجهولة الهوية ، ـ 3 ـ لا وقت الآن .. / لدفن الموتى ، إنهم كثر . " فالموت إذن ..هو الحلم المنكسر في أعيننا .. هو الصمت الذي قد ندفنه في صدورنا ، أو ندفع من أجله أعمارنا " (10)


III الطفولة وحكايات الجدات سؤال لسفر أخير في عوالم قليل من الملائكة




لقد تنوعت نصوص هذا المتن وتعددت مواضيعه إلى درجة استحال معها الإمساك بتيماته دون مكابدة .

فقد حضي حكي الجدة بحيز مهم داخل قصص ، وهو حكي يشكل بالنسبة للكثيرين لحظات أثيرة يجنح فيها الخيال بقوة وتبنى من خلاله عوالم داخلية أثيرة ومحبوبة ، تحضى خلاله الجدة المجربة والعارفة والمالكة لكل أسرار الحكي مكانتها الرمزية داخل العائلة من جهة والخاصة بالنسبة للأطفال كمنبع متدفق للحكي الجميل و قاموس فريد لحل كل ما استعصى عليهم من الأحاجي والألغاز . فالجدة تشكل عصارة تجربة حياتية ، ومرجعا للكبار كذلك للإستشهاد ، أو للتأريخ للحظات منفلتة من تاريخ العائلة أو تحديد لأنسابها ، فهي الذاكرة الموشومة على الدوام بأريج الذكريات والعبر والتاريخ والحكي . غير أن نص " PLAY " والذي يمكن اعتباره مقتطف سير ذاتي بامتياز رغم عدم حضور ضمير المتكلم وهيمنته على سرد الأحداث إلا من إشارة الكاتب نفسه كما جاء على لسان سارده بقوله " كل شيئ كان واضحا أمامه تماما ، هو نفسه من يصنع هذه الومضة ظل يكتب ... ويكتب و ... إلا أن تمكن من هذا السطر " وهو سطر جسد حرقة كبيرة لجدة عاصرت زمن وسائل الترفيه الإليكترونية الخاصة بالأطفال والتلفاز الملون ببرامجه المتنوعة وقنواته المتعددة ، وكذلك الخاصة برسوم الأطفال ، والأنترنيت وهي وسائل مارست سيادتها وهيمنتها واستيلابها على الجميع بما فيهم الأطفال وبالتالي عزلتهم عن محيطهم الحقيقي بدخول عوالم افتراضية مما عصف بمكانة الجدة وتنحيتها عن عرش الحكي ، يشير الدكتور عبد اللطيف كدائي أن " طبيعة العلاقة القائمة بين التلفزيون والأسرة في مجتمعاتنا النامية ـ حيث إن كثيرا من البرامج التي تعرضها التلفزيونات العربية مستوردة ولا تنسجم مع البيئة الإجتماعية .. واقتحام التلفزيون للبيئة العربية يساعد على زيادة الفجوة بين العادات والتقاليد المعروفة وبين الظروف المتغيرة الجديدة " (11) كما أن هناك صورة أخرة من خلال نص آخر يعرضها القاص عبد الله المتقي بنوع من الحسرة الممزوجة بالبكاء الصامت يقول السارد " تمة ما يشبه الهيكل العظمي ، في زاوية معتمة . ثمة أحفاد يتابعون بشغف شريطا للرسوم المتحركة ، وثمة جدة " مفقوسة " سبب لها النمر المقنع خريفا غامضا" ص 60

لم يكتف القاص عبد الله المتقي برسم لوحات ساخرة تشد الأنفاس من خلال انتقاده اللاذع لمجريات حياة شخوص نصوص قصصه الكبار المرضى بالعادات السيئة والقبيحة بقدر ما أثار قضايا تهم عالم الطفولة البريئة ، وكيف تقابل تصرفاتهم بردود أفعال عدوانية وعبثية تتجاوز المألوف لندرك أن مجموعة قليل من الملائكة لا تحضن فعلا سوى قليل من الملائكة الجرحى نفسيا والمكرهين على الامتثال لأوامر أربابهم . في نص " لوحة " ص 56 ينقل السارد واقعا قاتما وقهرا يتم تصريفه من خلال المنع وحرمان الأطفال من اللعب يقول السارد " أختي ترسم بالفحم طفلا على الرصيف وتنام فوقه ... يقبلها الطفل بشفتين مرتعشتين ../ تفرح وتتلذذ كثيرا في الخيال .../ وتنتهي الحكاية هكذا : تصفع أمي وجهها ، تصرخ ، تضرب فخديها ، وتنتزع أختي من ضفائرها بقسوة."

إن استحضار أزمنة ولت من خلال الومض القصير تجعل من اللحظات مفعمة بمشاعر ممزوجة بنوع من اللذة والحسرة وأحيانا تظل مجرد صور تعبرنا بالإكراه ترغمنا على إعادة تنضيد حقول ذكرياتنا الداخلية وترميم المعطوب منها أو تجاهله . ولعل مرحلة التعلم بالكتاب تشكلت لدى للكثيرين بحلو ذكرياتها أو مرارتها من خلال استحضار اشد ت اللحظات عنفا أوشغبا مع الاشارة إلى وقع العنف النفسي و الجسدي الذي يتعرض إليه الأطفال ، من خلال تعليم تقليدي يمارس فيه الفقيه إلى جانب مهمة التلقين حرفة كالخياطة التقليدية بمساعدة تلامذة كتابه الذين يتناوبون على إمساك خيوط على مسافة غير بعيدة منه ويستعرض النص إحدى اللحظات القاسية والمتكررة والتي يتعرض فيها مساعد الفقيه لعقوبة الضرب المبرح بقضيب زيتون أو سفرجل بشكل عشوائي في سائر أنحاء جسده يقول السارد في نص" ساديزم" يغفو الطفل ، تسترخي الخيوط ، ثم تمزق الإبرة مسام الفقيه النقية جدا ، يزوق " قطيب االزيتون " جلد الطفل ثم تستقيم الخيوط.ص 28

في حين تبرز صورة الطفولة المعذبة في نص طين الذي يدفعنا إلى طرح اسئلة ضمنية عديدة منها ، هل بإمكاننا محو صور الطفولة بداخلنا ؟ عل باستطاعتنا التنصل ولو من جزء صغير يؤرقنا دوما ؟ وبالتالي أليس الماضي هو زاد المستقبل النفسي وتوازننا العاطفي ، وصورة لطبيعة شخصيتنا ؟

إنها أسئلة بقدر ما تنبش في تربة مهملة ومنسية ، بقدر ما تفتح كتاب الذكريات للتوغل بين جراحاته المثخنة ، وبقايا أعطاب موشومة داخل علبتنا السوداء .

شكل الفقدان المبكر للأب السارد حرقة كبيرة ، لم يستطع نسيانها ، لكن إقدام أمه على الزواج بعد ذلك شكل تكسيرا لرمزية الأب بداخلة ، وهو تكسير سيلحقه تدمير قوي بانتزاع كل ذكرى تمت له بصلة في البيت من خلال إلقاء صور ته في القمامة وكأنها تنتزع ذكراه من خلال التخلي المقصود عن كل ما يمت لعالمه بصلة بعد دخول الزوج الثاني حياتها الفعلية ، وبالتالي خروج سارد النص الطفل الصغير وبداية رحلته نحو المجهول بالعيش مع جدته من أبيه.

إذا كان النص يرسم ملامح بطل قصة قصيرة جدا ومأساة الفقدان المزدوج ، فإنه من جهة أخرى يجسد وفاء لروح والده بالبقاء قريبا من جدته وتمسك بالطين الأصلي لتشكله هو تمسك بالأصل وحفاظا عليه ووفاء له ورد فعل غريزي جسدته الغيرة والحب على السواء


وإذا كانت قوة القصة القصيرة جدا تكمن في قدرتها على الومض والعصف بانتظارات التلقي ، وفتح أفق التأويل المتعدد، فإن روح القص، مستلهم من قدرة مبدعين تمكنوا من إبراز وجوه القصة المتعددة وأرسوا دعاماتها بنوع من التروي والتبات من خلال الدفع بها نحو التميز أسلوبا وكتابة وقالبا راعى الذوق الجمالي للمتلقي ، وبتطعيم مشاهد النصوص بواقعية وهمية يتم تكسيرها بشكل عجائبي أو سريالي داخل بؤرة حلم رهيبة ، يجسد طرحا فلسفيا ومنظورا مغايرا للحياة ، وركيزة للفهم الأشياء وأبعادها ، وهي تندد بغياب بعد النظر ، وواقعية الدلالات و تجسد فتورها القاتل وكرهها الغريب للرتابة ،ومفهوم الحب المزيف ، والمواطنة المقنعة ، لتتحصن في محراب صمتها ، تحتضر ، تنتظر ، وتنظر بسخرية مرجئة الانتصار لنفسها ومواقفها ، بتحقق أثره في نفسية متلقيها ، ليعلن طهرها ودنس العالم من حوله.

إن المثير في قليل من الملائكة هو قدرتها على تكسير خطية السرد من خلال التلاعب بالأزمنة مشيدة أزمنتها الخاصة الحابلة بالفوضى وهو ما أبرز تشويشها وسخريتها من ذاتها ومن الكتابة بنوع من القلق والتشتت ، مما أبرز انفصاما وهلوسة ، وخوفا مطلقا . تقول الشاعرة فرات اسبر أن " قصص عبد الله المتقي دعوة لكشف الذات والوقوف على خباياها ، فمن مجموعته الكرسي الأزرق إلى قليل من الملائكة نرى الأسئلة اكثر امتدادا ، أكثر عمقا تكشف الخبايا التي ترقد في الأعماق ، وما على المرء إلا أن يطهر ذاته ويحررها ، قصص بلا نهايات ، وهذا ما نراه ونلمسه في قليل من الملائكة " ص(12)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش وإحالات

عبد الله المتقي قليل من الملائكة قصص قصيرة جدا دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع ط1 / 2 2009

عبد الله المتقي الكرسي الأزرق الطبعة الأولى 2005 مجموعة البحث القصصي بالمغرب

(1)ا. بيلكين ف. لا كشين سكافيتموف تشيخوف بين القصة والمسرح ترجمة الدكتورة حياة شرارة ص 11 دار القلم بيروت الطبعة الأولى مارس 1975


(2)خوليو كورطاثار نظرية الفانطاستيك ترجمة سعيد بنعبد الواحد مجلة قاف صاد ص 64 العدد 6 / 2008 منشورات مجموعة البحث القصصي بالمغرب

(3)خوليو كورطاثار الإحساس الفانتاستيكي ترجمة سعيد بوخليط مجلة قاف صاد ص / 36 / العدد 6 / 2008منشورات مجموعة البحث القصصي بالمغرب


(4) خوليو كورطاثار الإحساس الفانطستيكي ص( 36) مرجع سابق

(5)عبد الدايم السلامي شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (قصص عبدالله المتقي ومصطفى لغثيري أنموذجا) ص7 منشورات أجراس والصالون الأدبي 2007

(6)محمد نور اليدن أفاية الهوية والإختلاف في المرأة والكتابة والهامش ص (56/ 57 ) إفريقيا الشرق 1988

(7)د محمد رمصيص أسئلة القصة القصيرة بالمغرب مقلربات موضوعاتية ص 16 طوب بريس الطبعة الاولى 2007

(8)محمد نور الدين أفاية الهوية والإختلاف في المرأة ، والكتابة والهامش ص 32 إفريقيا الشرق 1988

(9)د عبد الرحمان التليلي عنف الجسد مجلة عالم الفكر ص 152 العدد37 إبريل يونيو 2009

(10) كريمة الإبراهيمي " قليل من الملائكة .. هل هو موت العالم ..؟ أم دعوة إلى الحب ..المنعطف الثقافي عدد 251 / 2009

(11) د عبد اللطيف كدائي الطفل والاعلام أثار التنلفزيون في شخصية الطفل المغربي سلسلة المعرفة للجميع ص 32 منشورات رمسيس 2006

(12) فرات أسبر "قليل من الملائكة لعبد الله المتقي" جريدة المنعطف الثقافي عدد248 / 2009