الأحد، ديسمبر 27، 2009

قراءة في "قليل من الملائكة" لعبد الله المتقي



ركاطة حميد

ناقد أدبي من المغرب

ملائكة تعري المستور ، وتمارس المحضور ، وتسخر من كل القيم الزائفة

تستمر القصة القصيرة جدا في إبراز حضورها المتميز كيفا ونوعا مع توالي الإصدارات ، تأبى إلا أن ترسخ اسمرارها بقوة في المشهد الثقافي المغربي والعربي على السواء ، من طرف مبدعين أخلصوا لعشقها ، طوروها منظورا وهندسة وجمالية ، لتتربع على عرش الحكي متوجة كجنس قائم الذات ، فائق الهيمنة ، سريع التأثير ، وذا شعبية كبيرة .

لقد جاءت مجموعة قليل من الملائكة للقاص المغربي عبد الله المتقي ، لتؤكد هذا الطرح ، بوفائه بالكتابة في نفس الجنس ،بإصراره بقوة على جعل القصة القصيرة جدا تظهر بوجهها المخالف ، والمتطور عن مجموعته الأولى الكرسي الأزرق، كمرحلة انتقالية سواء من حيث التوظيف أو المنظور أو التأثيث ، أو التناول بتوغله العميق والسريع الوامض وهو يجس نبض اليومي والبسيط والمركب من حياة الأفراد بنوع من الريبة والشك والمراوغة ، مغامرا بتجريب جديد يفتح القصة القصيرة جدا على آفاقها الجديدة ،تأملا واستقراء ، وتطويرا سواء داخل النص القصصي او من خارجه اعتمادا على التكثيف والحذف والإضمار ، والتسريع من وثيرة الحكي ، مع إدخال عامل التشويق وشد الانفاس ، والزج بالقارئ ضمن متاهة نصوص لا تهادن ولا تسالم ، تتمنع على الدوام بغنج ، وهي تفتح أبواب التأويل والإفتراض ، والجنون ، والتمرد والشك ، كرهان جديد لها للتعبير عن عوالمها المليئة بالدهشة ، والقص المنتهك لحدود اللغة ، والأجناس ، مما يستدعي استنفار كل الحواس واستفزازها بقوة لأننا سنكون في حضرة ملائكة ، تمارس المحضور ، تسخر من كل القيم الزائفة ، تعري المستور ، وتتمرد على الواقع وتندد بإحباطاته ، وفشله ، ومرارته، مما يبرز منذ البداية أننا داخل جنة سرد وملائكة من حبر تمشي الهوينى على أبسطة من ورق، تفوح منها رائحة السجائر، ونكهة القهوة السوداء ، ومشوشة بلغو المقاهي ، وأحزان السفر ، وأرق النوم .

فماهي أهم الأفكار الجديدة التي جاءت بها قليل من الملائكة ؟ وما إضافتها للمشهد القصصي العربي ؟

عرف القاص عبد الله المتقي بنزوعه نحو الكتابة المغايرة ، من خلال تنويعه للقوالب السردية ، والجماليات المثيرة ، وبنزوعه نحو التجريب لكن بحذر شديد ، وبكتابته لقصص قصيرة جدا ، تعكس قلقا وجوديا عارما ، يرصد من خلالها حالات إنسانية بالغة في التعقيد ، فإذا كانت نصوص مجموعته الأولى الكرسي الأزرق جسدت وجهة نظر خاصة إلى مواضيع ، كالحب والخيانة والعنف ، والكتابة ،والمرأة ، والطفولة ، فإنه في قليل من الملائكة يأبى إلا أن يقدم مواضيعه بمنظور مغاير ، إعتمادا على توظيف قوالب جديدة ــ ربما غير مسبوقة ــ كتابة شذرية وحوارية /وعبثية / وسريالية \ ومسرحية ، وفنتاستيكية ،شكلت العمود الفقري للمجموعة مما خلق تنوعا في القالب والتناول ، وفتح أمام المتلقي أبوابا جديدة للإطلالة على ملائكته وهي تبحث عن تحيق الذات وتحقق الحلم ، مبدية مواقفها الضمنية من الحياة والموت ، والحكي ، والحب والخيانة ، تصرخ بجنون أحيانا وأخرى تتصرف بعبثية وغرابة ، في لحظاتها الجنائزية أو المرحة ، رصدها القاص وهو يلعب بكلماته وشخوصه المنفلتة وقد أبرز تمزقها النفسي والعاطفي ، وعرى عنفها المضمر ، اعتمادا على الرجوع إلى سجلات ثقافية وتاريخية وسياسية ، واجتماعية ، مما أبرز كرهها العميق والدفين للجاهز من الأفكار وموقفها من الاستلاب ، والعلاقات الحميمية المزيفة ،مبرزا صراع الأجيال من خلال سرد اعتمد الكتابة والمحو كقاعدة أساسية له ، والحذف والتكثيف ، والإضمار والتأويل وسيلة لتعرية وجوه ملائكة تمارس المحضور وتهتك بسخر ية كل القيم الزائفة ، نكاية في الواقع الذي تتمرد عليه بشماتة . مما أبرز قدرة الكاتب نفسه على تطويع اللغة والقالب الفني في رصده لحالات إنسانية موجعة بنوع من العجائبية والعبثية أحيانا وأخرى بنوع من الحسرة والحنين ، من خلال استحضار أزمنة ولت للإشارة على موت حكي الجدات تحت ضغظ عولمة جارف يغذي النفس بالعنف المادي والرمزي .

I بين تنوع القوالب وجرأة الكتابة سؤال الإبداع في عوالم قليل من الملائكة


القصة القصيرة جدا والقالب المسرحي


لقد شكلت الكتابة المسرحية وطابعها المميز إغراء على الدوام لكتاب القصة من خلال استلهام قالبها وتوظيفه قصصيا نظرا لما يفتحه من إمكانيات كبيرة في بناء الحدث أو توجيهه بيسر ، لتصبح حركة الشخوص حرة ، وقادرة على جعل المتلقي في صلب أحداثها ، كما تساعد الإرشادات الركحية المكتوبة بين قوسين غالبا من توجيه الحركة ، المعبر عنها جسديا وتمكن من تقمص الدور المسرحي بامتياز وتحويل الحوار الجامد إلى حوار حي مفعم بالحركة والواقعية ، وبالتالي تصبح للنص لغته الجديدة ويتحول من مكتوب جامد إلى عالم حي . والكتابة القصصية هي الأخرى لم تخرج عن بلوغ هذا الهدف ، بخلق النص المتحرك بتوظيف القالب داخل سياق جنس مغاير ، من خلال اعتماد التطويع ، والتوظيف الجمالي لتوشيح صدر النص الضامر بجماليات مختلفة لصنع حدث متميز ، فبين المسرح والقصة القصيرة جدا تنتفي الحدود وتنتهك ، لتنشج علاقات جديدة متينة ، وصلت حد تقديم لوحات ساخرة وامضة أوحت بكون العرض المسرحي هو الآخر يمكن اختزاله وتجزيئه إلى ومضات قابلة للتصريف السريع مع التخلص من بدانة النص الأصلي . كتب جوركي مرة إلى تشيخوف يقول " لا تتجلى واقعية الكاتب في تصوير حياة الناس البائسة والأشياء الصغيرة اليومية بل في تحسيس القارئ بجمال الحياة الخفي وحلمه بغزو الجمال للحياة الرتيبة ...إن الجمال يقابله القبح ، والحقيقة الكذب ، والعمل المبدع ، الحياة الطفيلية ، والسعادة اللامبالاة والتعاسة" (1)

في " مجرد تمثيل " ص 71 يرسم القاص عبد الله المتقي لوحة ساخرة ، مقتنصة من واقع الفن الدرامي ، ومن لحظات مثيرة ، لكاتب ومخرج وممثل وباحث قدير المرحوم محمد الكغاط الذي عرف بجموحه نحو جعل الفن المسرحي متجددا ومتطورا على الدوام ، واللحظة هي تكسير للجدار الرابع في المشهد المسرحي بتواطؤ كل من المخرج والممثل بهدف إشراك الجمهور ( المتلقي) وجعل الخشبة منفتحة على قاعة العرض وهي تقنية مسرحية بامتياز كسرت نمطية وسلبية التلقي ، وكاريزمية العرض المسرحي الكلاسيكي . من خلال رصد أكثر اللحظات قوة خلال العرض المسرحي بتحول الجمهور من وضع التلقي إلى وضع المشاركة في أطوار المشهد يقول السارد "

المخرج متوتر ، ويعب من سيجارته أنفاسا عميقة وسريعة / الجمهور نفد صبره / يركز المخرج عينيه في مقبض الباب ، تم يبصق تفو .... الجمهور بدأ يصفر...الجمهور بدأ يشتم...ترفع الستارة ، يقف الممثل وسط الركح كما تمثال ...ثم يرسل من فمه أنبوبا من القيء ...يصفق الجمهور بحرارة وتنتهي المسرحية "

إن توظيف القالب المسرحي في كتابة النص القصصي الممسرح بامتياز ، والمحيل على قدرة القصة القصيرة جدا على استيعاب جمايات ومقومات كل الأجناس الأدبية دون استثناء .


الكتابة الشذرية


لعل من حسنات الكتابة القصصية القصيرة جدا جرأة كتابها على التوظيف الجامح ،المبتكر ، باعتماد رؤية ومنظور وتناول مغاير يسعى إلى التكثيف والإيماء والومض لإرسال خطاب يستنفر حواس متلقيه ، ويجبره على مواجهة نقط الحذف والفراغات التي غالبا ما تدهشه بل تبرز عجزه المطلق عن مواجهتها ، لكون دلالة المعنى تبقى رابضة خارج النص لا داخله ، وبين بقايا شذرات يتطلب لم شتاتها مجهودا خاصا لتكوين رؤية مقربة تمكن من فهم عالم يعج بالحركة والتناقض .

لم يكن التوسل بالكتابة الشذرية وسيلة لكتابة نص مغاير بقدر ما كان غاية ، تسعى إلى إعادة تنضيد حقول المعاني من خلال تحقيق معاينة قريبة تفرض تمثلا خاصا وقدرة على الربط بين جزئيات النص للوصول إلى المعنى النهائي أو تكوين صورة شبه نهائية توهم بثباتها .

من هذا المنطلق يجسد نص "سمكة حمراء " ص33 حالة إنسانية مقتنصة من لحظات عابرة جمعت بين رجل وامرأة في عربة قطار ، تبادلا بينهما هدايا مفعمة دلالاتها بالرغبة المتأججة والكلمات الساحرة غير أن طوافهما جنبا إلى جنب في إحدى المدن وتيههما من مكان إلى آخر طوال اليوم ألحق بهما تعب قاتل ، استسلما معه إلى النسيان والهدوء في غرفة فندق وقد انتابهما فتور قاتل يقول السارد " في الفندق نسيت حيوانه الخرافي ، كما نسي هو سمكتها الحمراء "

لقد جسد النص بصوره المتعددة حالة من الدهشة والنسيان ومشاعر إنسانية مفعمة بالحب ، وسلوكا حضاريا يغيب الرغبة إلى حين في مقابل الإستمتاع بالآخر لشخصه وبإنسانيته بعيدا عن الرغبة التي ستظل دوما متقدة لتطيل من عمر الحب وتدكيه على الدوام .

في حين يرصد نص " بندولان " 22 من خلال كتابته الشذرية إلى زمن متوقف ، وموعد لم يتحقق فعليا تمت الإحالة إليه من خلال بناء اعتمد التوازي في بناء الحدث وهو توازي تحقق سواء على مستوى الزمان أو المكان أوالشخوص أوالأحداث أواللغة :

رجل / امرأة ، محطة الحافلات / المطار ، الحقيبة / الصرة ، المقهى / الحانة ، بندول معطل / ساعة ببندول واحد، فقد رمز للرجل بالبندول الأول ، والمرأة بالندول الثاني ، والموعد غير المتحقق فعليا هو الساعة المعطلة التي تم اقتناؤها من سوق البراغيث . يقول السارد :

ـ1ـ

رجل جمع حقيبته ، ثم خرج يبحث عن محطة للحافلات.

ـ 2ـ

في نفس اليوم رزمت امرأة صرتها ، ثم خرجت تبحث عن مطار

ـ3ـ

هناك في المقهى ....

امرأة تحدق مليا في بندول ساعتها المعطل ...

ـ4ـ

هناك في الحانة ...

رجل نسي موعد المقهى ، وفي جيبه ساعة يدوية ببندول واحد ، اقتناها من سوق البراغيث.

لقد تميز النص بتتطويع رهيب للغة من خلال اعتماد كتابة شدرية ، بانتقالاتها الدقيقة وإحالاتها العميقة وكأنها قطع على رقعة شطرنج باردة ، أبرزت امرأة تحدق في زمن متوقف باستمرار ، ورجل نسي زمنه في حانه ، على عكس ما أومأت به بداية النص من سرعة ورغبة في السفر من أجل تحقيق لقاء مأمول ، مما جعل رتابة الإنتظار تضفي هالة من القوة على المشهذ ، وتحيله جحيما من اللامبالاة والقهر النفسي .

إن قوة الكتابة الشذرية تكمن في الإيحاء ، والومض ، تفرض قارئا يتمم الفراغات ويكتب المسكوت عنه في النص ، لتشييد المعنى وتتمة النص غير المكتمل ، فهي تدفع كل قارئ إلى كتابة قصته ، ومن منظوره الخاص .


(3)الكتابة الفنتاستيكية


يشير تودورف أن الفنتاستيك يكمن في القارئ وليس في النص " فإذا استطاع القارئ تفسير الظاهرة طبقا للقوانين الطبيعية المعروفة ، فإن ذلك يعتبر من باب الغرائبي ، أما إذا كان بحاجة إلى قوانين جديدة ليفسر الظاهرة فإن ذلك يعتبر من باب العجائبي ، لذا يمكن أن نقول أن الفانتاستيكي يوجد بين الإثنين بين الغرائبي والعجائبي " (2) وهو موقف جسده نص " غبار الضحك " ص 36 إنطلاقا من عتبته ومرورا بموضوع النص ، فغبار الأحزان هو في نفس الوقت صندوق الحكي المعطل الذي جسدته الجدة من خلال الحلم الغريب والعجيب في نفس الوقت حيث توقف الحكي دون قدرة السارد على التمتع بحكايتها غير المكتملة في إشارة إلى مرضها ومفارقتها للحياة وتركه ،فالسارد يستحضر الطفل الكامن بداخله بدهشة وحيرة الرجل الكبير من خلال ضحك ممزوج ببكاء صامت تناثر على شكل غبار لما سألها أن تحكي له تلك الأحجية التي لم تسعفها( التيفويد) .. لتنصرف كساحرة يقول السارد " خرجت من النافذة ، وخلفها غبار من الضحك "إنه استرجاع للحظات غائرة كالجرح في سديم ليل حالك ، متوغل في الذاكرة كسكين في كبد الحكي المثخن بدهشة وحروق النهايات المنفلثة .

إن تفسير السارد لعودة الجدة وزيارتها له من خلال الحلم دون ان تلبي كعادتها طلبه الأثير ، جعل من واقعة النص تعبيرا على صدمة ، ودهشة لايقبلها منطقه ، وبالتالي تحويل الجدة إلى ساحرة عبر سرد أطوار الحكاية ، بقدر ما اضفى عليها نوعا من العجائبية ، أضفى على موقفه غرابة ، وهي المرأة المحبوبة والمبجلة لديه وصندوق حكيه الأثير التي لم ترفض له طلبا من قبل . فتموقف بين واقعين يمزقه إحساس غريب ، ممزوج بدهشة ، وعدم قدرة على تفسير الموقف منطقيا .، مما أحال على وجود ثغرة بين الواقع والخيال ، يقول خوليو كورطاثار " في هذه الثغرات يوجد إحساس مهيأ لهذا النوع من التجارب ، يشعر بحضور شيئ ما مختلف ، ويشعر بعبارات أخرى ، بما يمكن أن نسميه الفانتاستيك" (4)


السريالية والعبثية في قصص قليل من الملائكة


لقد جاءت السريالية كحركة فوضوية رافضة للقيم والمفاهيم والأشكال التعبيرية الفنية المتعارف عليها ، بعد الحرب العالمية الثانية ، مما جعل موقفها مشوبا بعدم طرح أية رؤية مستقبلية ، ولعل المصطلح نفسه أطلقه الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير على عرض جان كوكتو " استعرض" سنة 1917 كمفهوم يتجاوز الواقع في عملية الإبداع الذي كسر المنطق وأضفى طابع العبث على العمل المسرحي ، ويمكن رصد مميزاتها في الجمع بين مجموعة من العناصر غير المتناسقة والمنتقاة من عالم الأحلام والعجائب والعنف والسخرية ، والخيال الجامح ، مما جعلها تجريبا مارس هيمنته وابرز نظرته المختلفة ومنطقه من الثابت والسائد آنئذ .

ولعل انفتاح القصة القصيرة جدا على مدارس فنية ، وابداعية سابقة جعلها تنزع هي الآخرى للبحث عن القالب الفني المغاير ، لتحقيق كتابة متفردة وغير مألوفة وتقديم نصوص تستمد وهجها وبريقها المطلق من خصوصيتها ومنظورها المغاير ، ويجسد نص" مشهد سريالي "ص 27 منظورا آخر وتوجها جديدا لكتابة قصص لا تتحقق فعليا عبر الواقع بقدر ما يتم تحققها مجازيا من خلال اللغة التي تخفي وتعكس كمرآة مجرد صور شخوص تواقة باستمرار نحو تحقيق رغباتها المكبوتة وأمانيها المقموعة بحكم الرقابة الإجتماعية و الأخلاقية ، والدينية ، إلى تكسير طابوهات المثل والقيام بأفعال خيالية تلبية لجموحها وخيالاتها ، فالعلاقة الجسدية التي كان يجب أن تكون هي الهدف المنشود من خلال النص الذي بني على منطق الحدث المتسلسل تحول في النهاية إلى شيئ آخر لا يتقبله العقل يقول السارد:

" المطعم أنيق للغاية ، مصابيح صفراء ، موسيقى صامتة تغري باللعب ، ورجل وامرأة يتهامسان.

المرأة تلاعب ارنبة الرجل ،

والرجل يخلل أصابع المرأة .

خلاج الصدفة والإختيار ، اندفع الرجل إلى مطبخ المطعم سريعا ، يحمل سكينا لامعا ،

اعتلى طاولة أمام الزبناء ، أنزل سرواله ، واجتث عضوه الذكري ،

إلتقطته المرأة ، وضعته في صندوق من الثلج ، ثم انسحبت من هدوء المطعم ، ويدهل في يد الرجل..."

إن الإحالة على إجتثاث وبتر العضو الذكري بقدر ما شكل هاجسا للبطلة في علاقتها مع الرجل فقد جسد من منظور أخر موتا للمفهوم الفحولة وإعلانا عن نهاية أسطورة ذكورة الرجال الخالدة ، ونهاية للقيم والرجولة فالمرأة لم تكن ترغب في جمال الرجل ولا ماله بقدر ما كانت ترغب في رمزيته واستثنائه مما يبرز كاريزمية المرأة التي قد تكون تاجرة لقطع الغيار البشرية ، كما أن خروج البطل وهو يضع يده في المرأة فيه نوع من الإعلان عن مساواة في الجنس ، ورفض الذكور لرجولته موآزرة للنساء .

في حين تجلت سريالية الموقف من خلال عدم شعور البطل بالإغماء أو النزيف ،بل شعوره بالفرحة العارمة وهو يشد يد المرأة فالسريالية في الموقف ، بقدر مأ ابرزت غرابة وعبثية ، أبرزت نزوحا نحو التدمير والموت وقتل الخصوصية ، فلا فرق بين إنسان أو آلة ، المهم تحقيق الهدف مهما كانت الوسيلة ، وهو تصرف قتل إنسانية الإنسان وأفرغها من كل معانيها النبيلة ،وأبرز عنف الآخر ولا معنى الذات من خلال رصد أعطابها ، وتضخم خصوصيتها بنوع من الرفض والإقصاء.

أما في نص " في انتظار غودو " ص 59 فيتم التلاعب بالأزمنة وبتكسير تسلسل الفصول بنوع من العبث الذي يبعث على التساؤل والحيرة ، فكتابة النص لم يقصد منها تحقيق تسلسل زمني يحترم منطق الزمن بقدر ما تم تسريع وثيرة الحكي وتكسير عامل الزمن للوصول إلى نهاية غير مألوفة ، لكنها تعبر عن مأساة مسافر ظل ينتظر زمن سفره لم ولن يتحقق ، بنوع من الإستماتة ، وإستباقية زمنية وعبثية يقول السارد " في الصيف القادم شوهدت الصراصير تنخر التمثال الذي لم يسافر "

إن التناص المحقق في النص هو تناص محيل منذ البداية على مسرحية صاموئيل بيكيت " في انتظار غودو" وهو انتظار طال أمده وتمددت لحظاته حدا من الرتابة والقلق في محطة فارغة منذ البداية يقول السارد " السابعة إلا ربع كان وحيدا في المحطة ينتظر قطار السابعة ، الحادية عشر شتاء ولم يأت القطار "

لقد شكل عامل الزمن المحور الأساسي والسارية التي بنيت عليها أحداث النص ليتحكم في مسار الحدث والبطل بشكل كاريزمي وعبثي أدعى إلى الدهشة والجنون ولم لا نجزم بأنه عين العبث الخالص.


شعرية القصة القصيرة جدا


من النادر جدا العثور ضمن قصص كتاب القصة القصيرة جدا على نصوص تنقل المعنى والنص معا في بنائه من مستواه المحسوس إلى مستوى آخر "شعري " يجعله متميزا ومختلفا في تشكيله البصري وطريقة تقطيعه الإيقاعي مع المحافظة على نحافته وكثافته ، وخصوصيتة ، ولعل القاص عبد الله المتقي من الكتاب القلائل الذين الذين يمتلكون قدرة هائلة تجعله متفردا بهذه الخصوصية بأسلوبه الأقرب إلى الشعرية في العديد من النصوص ، وهي ميزة تجعل منه كاتبا للقصة الومضة على مسوى عال جدا وهو أمر لمسناه في نص "حياتي" ص 21 الذي تمت كتابته بشكل عمودي بمقاطع صغيرة شكلت جداريات مترابطة دالة على حالة هيام عاطفية وتعلق حد الموت بمحبوبة لم يذكر اسمها ،يقول السارد " ألف

بفندق المنار،/ في الغرفة3 ،/ وضعت مسدسي على صدغك / وقتلتك بداخلي كثيرا ،/ كنت تراقبين موتك بهدوء قاتل ،/ وكانت الغرفة تضج بسيمفونية جنائزية.

باء

في العاشرة صباحا ، / عثرت الشرطة على جثتي مثقوبة بطلقات مبعثرة ، وحقيبتي محشوة بقصائد العرابيط والصعاليك/

( في تلك اللحظة كنت تدخنين المونتانا الخضراء في قاعة الانتظار ، وتقرئين برجك بمجلة نسائية ، وكنت أنزل الدرج ، منشغلا بربطة عنقي)

إن الصورة التي تم بناؤها في الجزء الأول من النص تحيل على موت السارد الذي استعمل ضمير الأنا وهو يضع المسدس على صدغه ، في حين أن عملية القتل والتصويب مجازا من خلال النص تحول إلى المخاطبة " قتلتك/ كنت / ، كما أن الحدث وقع بغرفة فندق له دلالته المكانية الواقعية و عملية الإنتحار كانت مجازية تحيل على موت من نوع آخر ، وهو ما تم رصده من خلال الجزء الثاني من النص من استمراره في وصف حالة الجثة المثقوبة بالطلقات المتعددة والمخلفات التي عثر عليها في ساحة الواقعة . غير أن الجزء الأخير من النص يبرز تحولا عاصفا بكل الإنتظارات يحيلنا على نزوله أدراج سلم الفندق نحو قاعة الاستقبال حيث توجد المرأة التي انتحر من أجلها .

مما يبرز تمزقا عاطفيا أملته لحظة انحصر تواجدها خارج الزمن الفعلي للقتل ، الذي كانت نوعا من

الجنون والهلوسة ، هياما بامرأة صعب منالها ، فأقدم على التخلص من صورتها المتمنعة بداخله باغتيالها، وتأبينها رمزيا ، وما قتلها إلا قتل للتوثر الداخلي ، ووأد لأحاسيسه الجامحة جدا .

إن تضارب مشاعر البطل وتناقضها تحيل على انفصام ، وازدواجية حب وكره و تعلق ظاهري ونبد باطني ، وهي أحاسيس بدت أكثر تعقيدا من إخضاعها لبوابة النص وربطها بدلالتها اعتمادا على منطق الواقع ولعل شعرية النص تجلت في جنوح التوظيف المجازي "ونمذجة المعيش اليومي وتفصيله ضمن أقاصيص قصيرة تمثل كل واحدة منها مشهدا قصيرا يعنى كاتبها بتحديد ملامح ...بما يرقى به إلى مستوى الشعرية ...مما يضمن للقصة القصيرة جدا أشراط الإنقرائية ، وتتحول علاقتها بالقارئ من التلقي بما هو فعل أحادي التأثير إلى التلاقي بما يحيل على حميمية وتواصل واندماج"(5)


II الحب والخيانة وسؤال الجنس المضمر، في قليل من الملائكة


هل للحب رائحة ؟ وإن وجدت هل يمكن تمييزها بين بقية الروائح الاخرى المتشابهة ؟

هل للحب قوانين منظمة ؟ ومدونات كي يتنقل ويسير من قلب إلى قلب ،؟ هل يمكن تعليب الحب ، وتصبيره لوقت الشدة ؟

" لم تعمل الدولة في يوم من الأيام على تعليم الحب ، لان جوهر سلطتها يتجلى في الإمتثال والطاعة ، كما أن ظاهرة الحزب لم تبرز إلى الوجود لترتيب الشؤون العشقية بين المراة والرجل ضمن إطار عام يمليه التراتب الضروري داخل هيئته، لأن الحزب يستدعي الإنضباط لشروط التنظيم ، والعشق يعاند كل إرادة للقوة خارج الجسد العاشق الذي تحركه الرغبة في الإلتحاق بالآخر في ايقاعه الوجودي الخاص " (6)


لعل ما يجعل السفر لذيذا مع نصوص قليل من الملائكة هو نزوحها نحو النبش في ذاكرة المحظور ، بوخزها له والسخرية منه وتكسير هالته ، فلا شئ يعلو أو يتمنع عليها من خلال قدرتها على خلق عوالمها الخاصة ، المتجسدة سواء عبر الحلم أو الواقع ، مستشرفة لأفاق بعيدة وباحثة عن بدائل تحقق رغبات شخوصها وأحلامهم ، وتطلعاتهم ، لتعبر عن ضعفهم أوقوتهم ، تنبش في أسرارهم ، وأمانيهم الضائعة وغير المتحققة لتعمل على تحقيقها مجازيا .

من هنا طرح الحديث عن الحب من خلال تأجج العاطفة أحينا وأخرى من خلال استحالة تحقق الحب نفسه ، ونفس الأمر بالنسبة للجنس والعلاقة الجسدية التي استحالت واقعيا وتحققت عبر حلم الشخوص ، وعلى نفس المنوال تم رصد أثر الخيانة وتتبعه من خلال ومضات عرت زيف المظهر وأبرزت كبوات الأبطال الورقيين ، وجموحهم بل توقهم نحو اقتحام دوائر جد محرمة ، مما جعل تلك الأمنيات المضمرة تطفو ، بل تنتشر دون هوادة مكتسحة بالقوة دوائر الصمت لتبوح وتفضفض عن مكنونات صدرها وتنتفض على كل التقاليد والقيم وكأنها تنتقم لكبتها وحرمانها من أبسط الحقوق الجسدية التي يجب أن تتاح في حدود الممكن والمعقول

ولعل مرحلة الشيخوخة مثلت برمزيتها فترة حرجة جنسيا بين فردين ، حيث يمكن تحقيق كل الملذات سوى العلاقة الجسدية التي تظل دائما مستحضرة ومطلوبة سرا رغم تغييبها واقعيا ليظل تحققها ممكنا عبر منفذ آخر ونقصد به الحلم ، وقد جسد نص "بحيرة الشيوخ" ص 20 فالرجل والمرأة مهما بدا عليهما من كبر ووقار تظل عادتهما القديمة سارية المفعول بطقوسها الغريبة والسرية أحيانا مستعينين بعوالم أخرى لتحقيقها كالحلم من خلال سفر عجائبي ، يشير الناقد محمد رمصيص أن " لغة الحلم تمتاز بالكثافة الدلالية وثراء الإيحاء الرمزي ,. فلغته لغة الرغبة بامتياز ، لغة تترجم المعطل فينا والمكسور في أفق تعديل الواقع ، وإذا كان الحلم منتوجا لا شعوريا فهذا يعني تغييبه لرقابة العقل والمنطق" (7)

لقد تم تجسيد رغبة الرجل عبر الحلم كسمكة في صحراء، و رغبة المرأة ب"سمكة لا تزال تترنح خارج بحيرة ماء " ص 20 لتظل بحيرة الشيوخ هي بحيرة اللذة المفتقدة والنفوس الراغبة في تحقيق التحام جسدي مستحيل واقعيا لكنه ممكن من خلال حلم وان ظل مشروخا وقد غادرته ملائكته .

كما تستحيل العلاقة الجنسية عند البعض ، فإن البعض الآخر يتحصن وراء هواجسه ويتخيل وقوعها بنوع من الدراية وكأنه كان شاهدا على حدث لم يشاهده أصلا ، حسب إفادة سارد نص "رائحة الحب" ص 31 ومن خلال تخمينه وتد بدبه بين الشك واليقين المطلق حيث من خلال الحديث عن امرأة تقل قطار نحو المجهول تتمنى ألا تصل محطته الأخيرة وهي تسترجع ذكريات سهرتها مع رجل . وبعد تشييد المشهد الأول يأبى السارد وبنوع من الشك الجارف إلا أن يضيف عنصرا من خلال استدركه على حين غرة يقول " في عربة القطار كان هناك رجل أيضا '" رغم كونه غير متأكد بصفة مطلقة لقوله ' لا أملك أن أكون متأكدا " في عربة القطار ، لم تكن هناك سوى امرأة طاعنة في الحزن " وهو ما يحيل على تضارب وتناقض يفتح أبواب تأويل التأويل واستنتاج غياب مطلق لمصداقية رصد السارد للواقعة بتأكيده النهائي كون استنتاجاته كانت من خلال ملاحظته لأثر " رجل ما تزال رائحته في ملابسها"

إن رمزية الحب في قصص عبد الله المتقي تبرز دوما طبيعة العلاقة الأخرى المتمنعة والخفية فالإشارة إلى الحب لم تكن دوما على قدر من الصفاء بقدر ما كانت إحالة و إشكالا على القارئ يصعب استكناه ماهيته ، فمرة يقنعه بالأنانية والفتور كما هو الأمر في نص"سمكة حمراء " ص 33 ، وأخرى مجرد بحث عن تواصل صادق خال من كل رغبة كما هو الأمر في نص " circuit" ص 34 ففي لحظة تيه جارفة وتدمر قاتل تشاء الصدف إلا أن تجمع بين رجل مجهول وعاهرة لم يختر أي منهما الطريق الذي سلكه نحو نفس المكان في ليل بهيم موحش كل منهما يبحث عن شيئ قد يكون صيدا ثمينا بلسما لجراح الروح المثخنة يقول السارد مخاطبا القارئ " تصطحبها إلى حانة بدون نادل ، تحتسيان البيرة ، تدخنان السجائر الشقراء ، تمشيان تحت مصابيح باهتة ، تغنيان ، تتشاجران ، تنكتان ، وفي مفترق الطرق ، يذهب كل في رصيفه كما لو أن شيئا لم يحدث"

إن سارد النص القلق بقدر ما أماط اللثام عن نفسيته المهزوزة الباحثة والراغبة في تكسير رتابة لحظاته بقدر ما اجتاحه سيل اللحظة نفسها بدخول آخر الى عوالمه فكانت امرأة مسحت أحزانه وشيدت بداخل لحظاته عالما جميلا من رمال بني على الساحل وانتهى به المطاف أخيرا في جوف بحر هادر لاتتأسف على ضياعه بقدر ما تهرب أجمل لحظاته تشييده بداخلك وقد حدث تماس غير منتظر وغير متوقع على الإطلاق .

إن الغور في أعماق شخوص هذا النص يجسد حالة إنسانية تحدث مرارا لكن ليس بنفس القدر من العفوية والبراءة ، فهي لا ترتقي إلى قمة جنون رائع أو لطف ساحر دون أن تجرفك اللحظة مع موج البحر من خلال حدوث تماس عاصف كتماس البحر والرمل الحر والبرد اليأس والأمل ليسقطك في تنويم مغناطيسي على بقايا حلم لذيذ .

يقول محمد نور الدين أفاية " هناك شئ لا واع في الرجل يقاوم الإعتراف بقدرة ما يمكن أن تحوزه المرأة اللهم إلا القدرة على الخيانة والكذب "(8) فالخيانة بقدر ما هي سلوكا إنسانيا شاذا ، هي لحظة مغامرة جامحة لايجب ربطها دوما بالمرأة ،فهي تبدأ بمغامرة غير محسوبة العواقب أو نزوة عابرة يفرضها فراغ واحتباس في المشاعر ، وذبول شجرة الحب ، فيظل كل من الرجل والمرأة ينظر إليها بفتور دون المبادرة نحو سقيها وإروائها بفعل ما يتسلل إلى نفسيتهما من رتابة وملل وكره وشك وحيطة وحذر فيغتال الحب بجرعات الكراهية وقد خلق كل منهما عالمه الفريد ومعسكره الحصين بولوج دائرة السري والسحري في محاولة لتحقيق رغبات مكبوتة وجامحة لتخليص الذات من عذابها اليومي لكنها سلوكات تبقى في نهاية المطاف ممقوتة وخالية من كل شجاعة وارتباط صادق يغلفها جبن وحقارة تتحول إلى خيانة وحصار يضربه كل منها على الآخر لجس نبضه واحتساب أنفاسه ومراقبة تصرفاته دون الجرأة على اتخاذ موقف صريح ينتظر كل منهما كبوات الآخر ليركب عليها وتفجير رمانة الملامة. لقد جسد النص حالة زوجين يعيشان جنبا إلى جنب وهما يحضنان عبوات ناسفة بإقدام كل منهما على دخول مغامرة خارج نطاق رابطهما المقدس مما يبرز عدم نضج وغياب كل صدق في العلاقة وبالتالي لا مجال للحديث إلا عن الإخلاص للخيانة نفسها ، وربما يفرض علينا هذا الأمر التطرق إلى لغة الجسد ، الذي له طلباته ومتطلباته الخاصة ووسائله في التعبير عن احتياجاته الأساسية ، فالجسد عالم فسيفسائي جد معقد بألوانه ، ونزواته ، ولغاته ، ومكوناته الكيميائية ، مما يجعله كوكب يجب اكتشاف كل ربع مجهول فيه .

هل يشتعل الماء ؟ وهل يتوهج هو الآخر بالرغبة التي تسري في جزيئاته التي طالها النسيان لتذكرها انه في مكان ما في الأعماق لا تزال هناك اسرار قابلة للإكتشاف غيبها العقل بسترها في أودية الذات السحيقة إلى أن اشتعل ماؤها بعد طول أمد إنتظاره الطويل

يقول السارد أن " لا أحد في الشقة سوى سيدة في الأربعين وبعض الشهور ، تمسح على ظهر قط رمادي... كانت تتفرج على فلم أمريكي يحكي عن الغياب ، بغثة سقط الغائب فيها كما الزمضة ، حينها المرآة ، تفحصت عريها بإثارة ، ثم ريثما انتبهت أن قطها الرمادي ينكمش ، ويتأهب للقفز على جسدها الشهي " " ص56

إن الجسد المنسي هو بركان لشهوة نائمة سرعان ما انفجرت فجأة في الشرايين وساحت حممها دون توقف ، إننا إزاء قراءة دلالية للجسد ولغته المكبلة والمقموعة عمدا / طوعا / كرها / تفرض حالة من التحرر وكأنه إشتعال للماء ، ماء الأعماق المنسية ، ليحدث الإنفلات المطلق وتنهار صرامة العقل في مواجهة جموح الجسد وتمرده وقد تحول على طوفان من الرغبة التي تجتاح كل شيئ . يقول د عبد الرحمان التليلي" مند القديم والحضارة تطالب بالترفع عن كل متطلبات وضروراته ( الجسد) \، وأن يتطهر ويصبح نورانيا ، لذلك كان نزوع الجسد إلى التحرر أقوى من نزوع النفس إلى الإنصياع فالحضارة كانت دائما تلصق بالنفس كل الصفات التي اعتقدت أنها تناقض صفات الجسد.... فالفلسفة عملت ما في وسعها لإبعاده حاملة ضده شعارا صاغه أفلاطون " الفلسفة تدرب على الموت " فالفلسفة لاتعنى بالسؤال في الجسد ، والفيلسوف الحق هو من نبذ الجسد وتدرب على الموت بمعنى تخلص من الرغبة والشهوة ولم يستجب لصراخ الطبيعة" (9)


II القصة القصيرة جدا بين عنف العنف العنف و سلطة الموت


كيف يمكننا وصف لحظات الاحتضار الحرجة ، وعنفها الممارس بالقوة على الذات المجبرة على الاستسلام ، بنوع من القهر الخارق ، وهي تخترق زمن الواقع تستنفر الروح للسفر نحو عوالم غير مرئية ؟ كيف يمكن النفاد لتصوير قتامة الإحساس بالغبن لحظة الرحيل الجارفة ، دون أن ننبش ذاكرة عنف القصة القصيرة جدا المليئة بالرعب والقلق والإنتظار والحسرة ؟

لعل الترميز خاصية العديد من الأجناس الأدبية ، ولكن الوخز خاصية انفردت بها القصة القصيرة دون غيرها من الأجناس الأخرى بعصف وومض أقل ما يقال عنه رصاصة طائشة تصيب في مقتل وتكسر جاذبية الحلم المرتقب ، وقد أوصدت نوافذ جميع الحواس .

إن عنف القص القصير جدا بقدر ما يمر سريعا يخلق أثر قويا من الصعب تجاوز مخلفاته أو التغاضي عنها لأنها تترك خدوشا ، وجروحا غائرة ، تمارس باللغة العنيفة ، والحدث السريع ، لتشكل لحظات احتضار مأساوية غير منتظرة تحدث شرخا ورعبا في نفسية الملقي

في نص " ساعة موت " ص 70 تم التعبير عن زمن الحتف ضمنيا بتحول الساعة إلى ذات تحتضر عبر مراحل ، من خلال ترميز لتكتكة الساعة كدقات قلب والبندولان لمرحلتي احتضار متوالية يقول السارد " يسقط البندول الأول ، كاد قلب الرجل الهرم يتوقف في النوم / يسقط البندول الثاني / ويتوقف قلب الرجل عن الخفقان "

لقد شكل البندولان برمزية عالية حالة احتضار مزدوجة للزمن من جهة وللرجل من جهة ثانية مع قناعة مطلقة للبندول الثاني الذي ظل " يتفرس موت الرجل الذي هرم ما يكفي "وكأنه ملاك للموت أدى للتو مهمتة الروتينية ويتأكد من كونها تمت على أحسن وجه .

في حين تم رصد الموت في نص" غاز" من خلال عملية اختناق مرعبة رصد السارد مكانها بدقة من خلال تأثيث النص وصفا لسينوغرافية المكان بتقنية التقاط جزئية للصور وكأن عينه تحولت لعدسة كاميرا ، تعمل على توثيق الحدث من خلال استنطاق المخلفات والأشياء المبعثرة مع تحديد سبب الموت " تسربت رائحة الغاز إلى باقي الغرف" ص 14 في حين تم استنطاق الأشياء بنوع من الرصد المزوج بعزاء صامت وبكاء داخلي في " قصة(غير) منسية" ص 16

وهو عزاء لقاصة لن تنساها ذاكرة السرد العربي المرحومة مليكة مستطرف التي أهدي النص لروحها وقد تم بناؤه اعتمادا على تقنية القص والكولاج للإشارة إلى أشياء تبرز حزنها العميق وانتحابها الصامت ، أشياء صورها السارد حزينة حدادا على صاحبتها يقول " قبعة بالمشجب تدرف دمعا ناشفا ، / معطف أسود يرتعش من البرد ، كرسي يجلس القرفصاء ، علبة أنسولين . / قطة رمادية تتفرج في ذهول ، / بضعة مسودات قصصية / وجثة غرقة في الموت"

إنه التقاط للحظات جنائزية متخيلة لكنها مفعمة بالأسى والدهشة على رحيل مبدعة كبيرة إلى الآبد لكن أشياؤها وقصصها ستظل دوما خالدة في القلب .

وارتباطا بالمبدع والموت يأبى القاص عبد الله المتقي إلا أن يفتح أقواسا أخرى في قليل من الملائكة ، بإثارته لوجه العنف الآخر الممارس على الذات من خلال الرصد القصصي القصير جدا ، فالمبدع يموت وحيدا مع أشيائه بغثة من خلال اقدامه على الانتحار إما سخطا على واقع لم تستطع كتابته ورسائله تغييره أو سخطا على احتباسه الثقافي المفاجئ ببروز عمق المأساة وهولها النفسي الكبير فيتحول العالم حوله إلى أشبه بسراب يحاول تخليص ذاته من سرابيته ومخلفاته النفسية وجروحها البليغة وحتى تقييم الحدث من طرف الآخرين الذين يعتبرونه حسب تنبيه العتبة إلى مجرد انتحار أحال على التفاهة والنبذ في النهاية بنوع من الدونية والمقت لشخصه . فالقصدية في بناء أحداث النص حولت محراب الكاتب الى "غرفة مثلجة ... قلم جاف وعاطل عن الكتابة ...(و) جثة تتدلى من السقف ( يمكن التفكير ، ببساطة في أن ما وجدته الشرطة في هذه الغرفة الباردة ، مجرد انتحار) فالنص بقدر ما يبرز نبذا اجتماعيا مقصودا يبنه إلى غياب مطلق لهوية الكاتب ومكانته الاجتماعية الرمزية ، وإلى قتل آخر قبل حدوث عملية الانتحار بقتل فعلي لعملية الكتابة مما يحيلنا على صورة أخرى وتفيسر مجازي للانتحار الكاتب الذي أبى إلا أن يموت كالأشجار واقفا لا جاثيا على ركبتيه طوال حياته متملقا لسلطة الآخرين ، وما شنق نفسه سوى رفض آخر لملامسة تربة فانية وكأنه يتوق نحو تخليد الروح والذات معا بالبقاء في منزلة بين المنزلتين .

في حين يلخص نص "حرب" الموت كزمن لوصف الموت المتسلسل والمستمر في ومض بارق دون الإغراق في التفاصيل المملة بفتح قمقم المغارة على ذخائرها المنسية داخل مأسي الفكر الإنساني ببث صور تنافس المرئي وتعيد تشييد العالم والحدث وتقدمه من منظور خاص ، فكثيرة هي القصص التي صورت هول الحرب وفواجعها لكن القصة القصيرة جدا في نص "حرب " ص 35 جسدته وبدون اطناب كلقطات سينمائية ووضع كارثي لا يحتمل في بضعة أسطر يقول السارد " 1ـ المتاريس فارغة تماما ../ سوى قبعات وبنادق مبعثرة ، تراقب الموت بحذر. / 2 ـ جثت مجهولة الهوية ، ـ 3 ـ لا وقت الآن .. / لدفن الموتى ، إنهم كثر . " فالموت إذن ..هو الحلم المنكسر في أعيننا .. هو الصمت الذي قد ندفنه في صدورنا ، أو ندفع من أجله أعمارنا " (10)


III الطفولة وحكايات الجدات سؤال لسفر أخير في عوالم قليل من الملائكة




لقد تنوعت نصوص هذا المتن وتعددت مواضيعه إلى درجة استحال معها الإمساك بتيماته دون مكابدة .

فقد حضي حكي الجدة بحيز مهم داخل قصص ، وهو حكي يشكل بالنسبة للكثيرين لحظات أثيرة يجنح فيها الخيال بقوة وتبنى من خلاله عوالم داخلية أثيرة ومحبوبة ، تحضى خلاله الجدة المجربة والعارفة والمالكة لكل أسرار الحكي مكانتها الرمزية داخل العائلة من جهة والخاصة بالنسبة للأطفال كمنبع متدفق للحكي الجميل و قاموس فريد لحل كل ما استعصى عليهم من الأحاجي والألغاز . فالجدة تشكل عصارة تجربة حياتية ، ومرجعا للكبار كذلك للإستشهاد ، أو للتأريخ للحظات منفلتة من تاريخ العائلة أو تحديد لأنسابها ، فهي الذاكرة الموشومة على الدوام بأريج الذكريات والعبر والتاريخ والحكي . غير أن نص " PLAY " والذي يمكن اعتباره مقتطف سير ذاتي بامتياز رغم عدم حضور ضمير المتكلم وهيمنته على سرد الأحداث إلا من إشارة الكاتب نفسه كما جاء على لسان سارده بقوله " كل شيئ كان واضحا أمامه تماما ، هو نفسه من يصنع هذه الومضة ظل يكتب ... ويكتب و ... إلا أن تمكن من هذا السطر " وهو سطر جسد حرقة كبيرة لجدة عاصرت زمن وسائل الترفيه الإليكترونية الخاصة بالأطفال والتلفاز الملون ببرامجه المتنوعة وقنواته المتعددة ، وكذلك الخاصة برسوم الأطفال ، والأنترنيت وهي وسائل مارست سيادتها وهيمنتها واستيلابها على الجميع بما فيهم الأطفال وبالتالي عزلتهم عن محيطهم الحقيقي بدخول عوالم افتراضية مما عصف بمكانة الجدة وتنحيتها عن عرش الحكي ، يشير الدكتور عبد اللطيف كدائي أن " طبيعة العلاقة القائمة بين التلفزيون والأسرة في مجتمعاتنا النامية ـ حيث إن كثيرا من البرامج التي تعرضها التلفزيونات العربية مستوردة ولا تنسجم مع البيئة الإجتماعية .. واقتحام التلفزيون للبيئة العربية يساعد على زيادة الفجوة بين العادات والتقاليد المعروفة وبين الظروف المتغيرة الجديدة " (11) كما أن هناك صورة أخرة من خلال نص آخر يعرضها القاص عبد الله المتقي بنوع من الحسرة الممزوجة بالبكاء الصامت يقول السارد " تمة ما يشبه الهيكل العظمي ، في زاوية معتمة . ثمة أحفاد يتابعون بشغف شريطا للرسوم المتحركة ، وثمة جدة " مفقوسة " سبب لها النمر المقنع خريفا غامضا" ص 60

لم يكتف القاص عبد الله المتقي برسم لوحات ساخرة تشد الأنفاس من خلال انتقاده اللاذع لمجريات حياة شخوص نصوص قصصه الكبار المرضى بالعادات السيئة والقبيحة بقدر ما أثار قضايا تهم عالم الطفولة البريئة ، وكيف تقابل تصرفاتهم بردود أفعال عدوانية وعبثية تتجاوز المألوف لندرك أن مجموعة قليل من الملائكة لا تحضن فعلا سوى قليل من الملائكة الجرحى نفسيا والمكرهين على الامتثال لأوامر أربابهم . في نص " لوحة " ص 56 ينقل السارد واقعا قاتما وقهرا يتم تصريفه من خلال المنع وحرمان الأطفال من اللعب يقول السارد " أختي ترسم بالفحم طفلا على الرصيف وتنام فوقه ... يقبلها الطفل بشفتين مرتعشتين ../ تفرح وتتلذذ كثيرا في الخيال .../ وتنتهي الحكاية هكذا : تصفع أمي وجهها ، تصرخ ، تضرب فخديها ، وتنتزع أختي من ضفائرها بقسوة."

إن استحضار أزمنة ولت من خلال الومض القصير تجعل من اللحظات مفعمة بمشاعر ممزوجة بنوع من اللذة والحسرة وأحيانا تظل مجرد صور تعبرنا بالإكراه ترغمنا على إعادة تنضيد حقول ذكرياتنا الداخلية وترميم المعطوب منها أو تجاهله . ولعل مرحلة التعلم بالكتاب تشكلت لدى للكثيرين بحلو ذكرياتها أو مرارتها من خلال استحضار اشد ت اللحظات عنفا أوشغبا مع الاشارة إلى وقع العنف النفسي و الجسدي الذي يتعرض إليه الأطفال ، من خلال تعليم تقليدي يمارس فيه الفقيه إلى جانب مهمة التلقين حرفة كالخياطة التقليدية بمساعدة تلامذة كتابه الذين يتناوبون على إمساك خيوط على مسافة غير بعيدة منه ويستعرض النص إحدى اللحظات القاسية والمتكررة والتي يتعرض فيها مساعد الفقيه لعقوبة الضرب المبرح بقضيب زيتون أو سفرجل بشكل عشوائي في سائر أنحاء جسده يقول السارد في نص" ساديزم" يغفو الطفل ، تسترخي الخيوط ، ثم تمزق الإبرة مسام الفقيه النقية جدا ، يزوق " قطيب االزيتون " جلد الطفل ثم تستقيم الخيوط.ص 28

في حين تبرز صورة الطفولة المعذبة في نص طين الذي يدفعنا إلى طرح اسئلة ضمنية عديدة منها ، هل بإمكاننا محو صور الطفولة بداخلنا ؟ عل باستطاعتنا التنصل ولو من جزء صغير يؤرقنا دوما ؟ وبالتالي أليس الماضي هو زاد المستقبل النفسي وتوازننا العاطفي ، وصورة لطبيعة شخصيتنا ؟

إنها أسئلة بقدر ما تنبش في تربة مهملة ومنسية ، بقدر ما تفتح كتاب الذكريات للتوغل بين جراحاته المثخنة ، وبقايا أعطاب موشومة داخل علبتنا السوداء .

شكل الفقدان المبكر للأب السارد حرقة كبيرة ، لم يستطع نسيانها ، لكن إقدام أمه على الزواج بعد ذلك شكل تكسيرا لرمزية الأب بداخلة ، وهو تكسير سيلحقه تدمير قوي بانتزاع كل ذكرى تمت له بصلة في البيت من خلال إلقاء صور ته في القمامة وكأنها تنتزع ذكراه من خلال التخلي المقصود عن كل ما يمت لعالمه بصلة بعد دخول الزوج الثاني حياتها الفعلية ، وبالتالي خروج سارد النص الطفل الصغير وبداية رحلته نحو المجهول بالعيش مع جدته من أبيه.

إذا كان النص يرسم ملامح بطل قصة قصيرة جدا ومأساة الفقدان المزدوج ، فإنه من جهة أخرى يجسد وفاء لروح والده بالبقاء قريبا من جدته وتمسك بالطين الأصلي لتشكله هو تمسك بالأصل وحفاظا عليه ووفاء له ورد فعل غريزي جسدته الغيرة والحب على السواء


وإذا كانت قوة القصة القصيرة جدا تكمن في قدرتها على الومض والعصف بانتظارات التلقي ، وفتح أفق التأويل المتعدد، فإن روح القص، مستلهم من قدرة مبدعين تمكنوا من إبراز وجوه القصة المتعددة وأرسوا دعاماتها بنوع من التروي والتبات من خلال الدفع بها نحو التميز أسلوبا وكتابة وقالبا راعى الذوق الجمالي للمتلقي ، وبتطعيم مشاهد النصوص بواقعية وهمية يتم تكسيرها بشكل عجائبي أو سريالي داخل بؤرة حلم رهيبة ، يجسد طرحا فلسفيا ومنظورا مغايرا للحياة ، وركيزة للفهم الأشياء وأبعادها ، وهي تندد بغياب بعد النظر ، وواقعية الدلالات و تجسد فتورها القاتل وكرهها الغريب للرتابة ،ومفهوم الحب المزيف ، والمواطنة المقنعة ، لتتحصن في محراب صمتها ، تحتضر ، تنتظر ، وتنظر بسخرية مرجئة الانتصار لنفسها ومواقفها ، بتحقق أثره في نفسية متلقيها ، ليعلن طهرها ودنس العالم من حوله.

إن المثير في قليل من الملائكة هو قدرتها على تكسير خطية السرد من خلال التلاعب بالأزمنة مشيدة أزمنتها الخاصة الحابلة بالفوضى وهو ما أبرز تشويشها وسخريتها من ذاتها ومن الكتابة بنوع من القلق والتشتت ، مما أبرز انفصاما وهلوسة ، وخوفا مطلقا . تقول الشاعرة فرات اسبر أن " قصص عبد الله المتقي دعوة لكشف الذات والوقوف على خباياها ، فمن مجموعته الكرسي الأزرق إلى قليل من الملائكة نرى الأسئلة اكثر امتدادا ، أكثر عمقا تكشف الخبايا التي ترقد في الأعماق ، وما على المرء إلا أن يطهر ذاته ويحررها ، قصص بلا نهايات ، وهذا ما نراه ونلمسه في قليل من الملائكة " ص(12)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش وإحالات

عبد الله المتقي قليل من الملائكة قصص قصيرة جدا دار التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع ط1 / 2 2009

عبد الله المتقي الكرسي الأزرق الطبعة الأولى 2005 مجموعة البحث القصصي بالمغرب

(1)ا. بيلكين ف. لا كشين سكافيتموف تشيخوف بين القصة والمسرح ترجمة الدكتورة حياة شرارة ص 11 دار القلم بيروت الطبعة الأولى مارس 1975


(2)خوليو كورطاثار نظرية الفانطاستيك ترجمة سعيد بنعبد الواحد مجلة قاف صاد ص 64 العدد 6 / 2008 منشورات مجموعة البحث القصصي بالمغرب

(3)خوليو كورطاثار الإحساس الفانتاستيكي ترجمة سعيد بوخليط مجلة قاف صاد ص / 36 / العدد 6 / 2008منشورات مجموعة البحث القصصي بالمغرب


(4) خوليو كورطاثار الإحساس الفانطستيكي ص( 36) مرجع سابق

(5)عبد الدايم السلامي شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (قصص عبدالله المتقي ومصطفى لغثيري أنموذجا) ص7 منشورات أجراس والصالون الأدبي 2007

(6)محمد نور اليدن أفاية الهوية والإختلاف في المرأة والكتابة والهامش ص (56/ 57 ) إفريقيا الشرق 1988

(7)د محمد رمصيص أسئلة القصة القصيرة بالمغرب مقلربات موضوعاتية ص 16 طوب بريس الطبعة الاولى 2007

(8)محمد نور الدين أفاية الهوية والإختلاف في المرأة ، والكتابة والهامش ص 32 إفريقيا الشرق 1988

(9)د عبد الرحمان التليلي عنف الجسد مجلة عالم الفكر ص 152 العدد37 إبريل يونيو 2009

(10) كريمة الإبراهيمي " قليل من الملائكة .. هل هو موت العالم ..؟ أم دعوة إلى الحب ..المنعطف الثقافي عدد 251 / 2009

(11) د عبد اللطيف كدائي الطفل والاعلام أثار التنلفزيون في شخصية الطفل المغربي سلسلة المعرفة للجميع ص 32 منشورات رمسيس 2006

(12) فرات أسبر "قليل من الملائكة لعبد الله المتقي" جريدة المنعطف الثقافي عدد248 / 2009

ليست هناك تعليقات: