د. عدنان الظاهر
تحذير غير خطير /
على قارئ نصوص هذا الكتاب ـ القنبلة الذرية / عيار قنبلة هيروشيما ـ أنْ لا يرجو مُتعةً في قراءتها ولا أيَّ ضربٍ من ضروب التسلية وأنْ لا يتوقع شعوراً ببهجة أو مسرّةٍ بل ، عليه أنْ يُعدَّ نفسَهُ جيّداً لرحلة شاقّة من التفكير العميق وبعض التوتر والقلق والإحساس بالنقص جرّاءَ الشعور بالتخلّف وراءَ كاتب هذه النصوص . على القارئ أنْ يظلَّ يلهث ويظمأ وربما يسعل في صدره ويتعثر في خطوه وهذا ثمن وضريبة الدخول في مغامرة التصدّي لكتابات أنيس الرافعي .
أيها القارئ الكريم : تأهبْ معي للدخول في عالم مجهول لا تجدُ فيه صديقاً ولا موسيقى تصدح أو لحناً يُطربكَ أو يُشجيكَ... إنه عالم يبدو محايداً لا هو بالضاحك ولا هو بالباكي ، ليس معتماً وليس مُضاءً ... فتأهبْ لخوض مغامرة لا قِبَلَ لك بها ولم ترَ ما يضاهيها . أضفْ إلى ذلك أنَّ نصوص الرافعي لا تحتاجُ في كتابه هذا إلى تفكيك أو إعادة بناء ، ذاك انَّ تفكيكها يدمّرُ تصاميم هندسة بنائها المحكمة ، وإعادة هيكلة بنائها يُهدّمُ الأساسات قبل أنْ تنهار البناءات العلوية .
ملاحظة : أطلق الرافعي على قصص مجموعته هذه " قصصاً صوتية " لكني ، الحقَّ أقولُ، وجدتها " قصصاً بصريةً " بالدرجة الأولى ، وهنا تكمنُ أهميتها وطرافتها وندرة أمثالها . الرؤية أولاً ثم يأتي الصوتُ بعدها . الضوء ، الرؤية ، أسرع من الصوت ، السماع . ولنتذكّر البرقَ في السماء أولاً يليه صوتُ الرعدِ ثم ينزلُ المطرُ . أنا مأخوذ بنور الرؤية البصرية لا بتأثير الصوت فالصوت ، صوت القصِّ ، ظاهرة فيزيائية رتيبة تغدو مع مرِّ الزمن مملّةً إذا ما تكررت ، أما الرؤيةُ فإنها في حركة دائبةٍ تتغيرُ حسبَ تغيّر المَشاهد البصرية المرئية .
سأتناول في قراءتي هذه قصتين هما
1 ـ الزجاجة / مساهمة في تدمير الإيقاع
2 ـ البالون / إحدى أجزاء القسم الثالث من المجموعة الموسومة " في قسم آخر من الغابة "
أولاً : الزجاجة
أية تقنية [ تكنيك ] كتابية قد إتّبع الرافعي في تصميم وتنفيذ هذه القصة البصرية بجدارة ؟
ثلاث توليفات :
التوليفة الأولى ، ويحلو لي أنْ أسميها تقنية الخط المتعرج بإنتظام ، الخط الزكزاكي ، أو كما قال الأقدمون من نقّاد الشعر العربي { رد العجز على الصدر أو العكس }. المثال :
ضفادع على العشب : أصابع على البيانو
أصابع على البيانو : زخات على النافذة
زخّات على النافذة : نقرات على الطبل
نقرات على الطبل : موجة تتبعها موجة
< أصابع على البيانو > التي ختمت السطر الأول عجزاً أو عجيزةً تدور لتتصدر السطر الثاني وهكذا الأمر بالنسبة لباقي الأسطر التالية . هذا هو أسلوب أو تكنيك الزكزاك وهي كلمة إنكليزية تُكتب كما يلي :
Zig Zag
فأسلوب مُبتكرٌ في الكتابة كهذا يتطلب متابعة بصرية قبل أنْ يتطلب متابعة صوتية . لا من قيمةٍ للصوت هنا إنما القيمة الأكثر أهمية هي في متابعة العين البشرية للإنتقالات الحركية لإتجاهات خطوط مسارات عناصر الزكزاك وتغيّر زوايا هذه الخطوط في حركتها من اليسار إلى اليمين تارةً ومن اليمين إلى الشمال تارةً أخرى . حركات مثل هذه تختلف لا ريبَ عن حركة بندول الساعة الدائرية أو عقاربها الأخرى ، كما تختلفُ عن حركة مكّوك الحائك المستقيمة يميناً وشمالاً ولكن بدون زوايا هندسية . هنا نجد كذلك نوعاً من رتابة التكرير لكنها رتابة تُضحكني وأرتاح لها ومنها كأنها لعبة أطفال .
التوليفة الثانية : تقنية التكرير الإزدواجي
نهجَ القاصُّ في هذا المقطع نهجاً مغايراً للنهج السابق . فلقد آثر أنْ يغيّرَ وأنْ يختلف وفي الإختلاف رحمة كما يُقال . ترك نهجَ الأسلوب المتعرّج بإنتظام كما حركة الكثير من الأفاعي ، فجرّبَ أسلوب الخطوط المستقيمة الخالية من التعرج والزوايا [[ وبعضُ الزوايا مظلمة ومخيفة ! ]] لكنه كرر كلمات السطر الأول ليجعلها كما هي وبحذافيرها مضمون السطر الثاني الذي يليه وهكذا بقية سطور هذا القسم من قصيدة الزجاجة . مثال :
أوراقُ لعبٍ واقفةٌ تنهارُ فوق بعضها البعض
أوراقُ لعبٍ واقفةٌ تنهارُ فوق بعضها البعض
القرون الإستشعارية لحشرةٍ تنكمشُ وتنبسطُ
القرونُ الإستشعاريةِ لحشرةٍ تنكمشُ وتنبسطُ
نلحظُ هنا نوعين من الحركات كما نلحظ تغيّر مضمون ومعاني المزدوجات . فمعنى السطرين المتطابقين الأول والثاني يختلف عن معنى السطرين الثالث والرابع ولكنْ ، في كلا المزدوجين حركة فيها قوة وحيوية ففي الزوج الأول [ أوراق لعب واقفة تنهارُ فوق بعضها البعض ] وفي المزدوج الثاني [ القرون الإستشعارية لحشرة تنكمشُ وتنبسطُ ] . هذه الأنواع من الحركة تجعلُ عين القارئ ، لا أذنه ، منجذبةً أو أسيرةً مُجبَرَةً على متابعة لحظات الحركة وإتجاهاتها وطبيعتها بثوانيها الزمنية . في الحركة حرارة وربما يقدحُ ضوءٌ وشررٌ نتيجة هذه الحرارة والضوءُ والشررُ ظاهرتان بصريتان وليستا صوتيتين كما يعلمُ الجميعُ . إنهيارُ واقفٍ بالطبع أقوى وأكثرُ عنفاً من حركة مجسّات حشرة لكنَّ الحركة في تأثيرها على عين الرائي تبقى حركةً تراقبها العين رغم أنفها .
التوليفة الثالثة : تقنية التجميع التكثيفي في بؤرة عدسة كاميرا تلفزيونية أو سينمائية .
جمع القاص في هذا الجزء الأخير من قصة الزجاجة عناصر الجزأين الأول والثاني كما هي فكثّفَ السطور واختصر المسافات واقتصدَ في المساحة الورقية فما كان قصدُهُ الرئيسُ؟
لا يخطو الرافعي أنيس خطوة عشوائية في فراغ فلكل خطوة ولكل سطر مغازيها ومعانيها ودلالاتها الخاصة التي لا يكشف عنها وليس من الضروري أنْ يكشف عنها بل يدعها لقراءة القارئ وإجتهاده وكيفية فهمه وتفسيره لما يقرأ من نصوص . فبمَ إمتاز القسم الثالث من قصة الزجاجة وما إستجدَّ فيه من أسلوب ؟ التجميعُ التكثيفي ، تجميع الكل في بقعة أو نطقة مركزية واحدة هي بمثابة عدسة الكاميرا . التجميعُ والتكثيف هي عمليات إضافة كمٍ إلى كمٍ آخر لكنها ليست عمليات تظل ثابتة الوتائر إلى الأبد . الكم يتحول لدى بلوغه مستوىً كمياً معيناً إلى كيفية أخرى حسبما يعلمنا الدايالكتيك . فهل قصد الكاتب أنْ ينقلَ هذا التحوّل إلى صميم فكر القارئ وهو يتابع عملية التحول خارج فكره مستقلةً عنه وعن إرادته وسلطانه ؟ معروفٌ أنَّ دماغ الإنسان يعكس العالم المادي المحسوس ، يتأثرُ به من ثمَّ يعودُ ليؤثّرَ فيه . الرافعي يدخلُ في شبكة أعصاب قارئه ويحفر في دماغه ، يُثقفه ويغيّره ويعيد خلقه وهذا هو الإبداعُ وهذا هو المُبدع وإلاّ فعلى الأدب وعلى الأدباء ألف سلام .
نعم ، جمع الرافعي في القسم الثالث والأخير كل ما قال وكتب في القسمين الأول والثاني فحصل التحول النوعي في رأس قارئه ووقعَ تأثيرُ ما قد قال سَلَفاً ثلاثي القوة والفعل والإيحاء أي مضروباً بالرقم 3 . سوى إستثنائين إثنين : كتب في أول هذا القسم [[ شخصٌ يُمسكُ بذراعي كلَّ مرّةٍ أحاولُ أنْ أكتب ]] ثم وضع هذا الكلام بعينه دون زيادة أو نقصان في نهاية هذا القسم كأنه وضعه خلف قضبان سجن وأقفلَ عليه الأبواب وانصرف بلا وداع.
هل نفهم من هذه الجملة التي طوّقت القسم الأخير كله بطوق من الفولاذ ... هل نفهمها على أنَّها تمثّل ولو رمزياً نزعة الكاتب إلى ترك كتابة هذا القسم وأنه غير راغبِ أساساً في كتابته خاتمةً لقصة الزجاجة ؟ لماذا أحكم غلق بوابات السجن وما فلسفة هذا الإطار القاسي؟ هل أنه يخشى الحرية ، حرية التفكير والتعبير بالكتابة أم أنه يحذرُ من إنطلاقة فكر الإنسان بسبب تربيته البيتية الأولية المتزمتة ثم مجتمعه المحافظ ؟ ما طبيعةُ هذا الشخص الذي يُمسكُ ذراعه كلما أزمعَ أنْ يكتب ؟ هل هي يد الوالد أو المعلم الإبتدائي أم المجتمع والسلطات التنفيذية التي تُحصي أنفاس المواطنين في بعض بلدان العرب ؟
ثانياً : قصة " البالون "
يعرض الرافعي في هذه القصة البصرية محنة سيدة أرملة فقدت زوجها لتعيش وحيدةً في شقتها . وكدأبه وشأنه دوماً ، رسم وصوّر ما يعتلج في صدرهذه الأرملة وما يدور في رأسها من خواطر ولكن بأساليب مبتكرة لا يجد القارئ فيها مللاً أو معالجاتٍ مطروقة أنهكها الزمن والإعادة . كان الرافعي في هذه القصة عميقاً وأصيلاً في إنسانيته وفي تضامنه مع الجنس الآخر المنكوب برحيل عزيز والمبتلى بعده ببرودة الحياة ورتابتها وثقل هواء مسكنه وشعوره الرهيب بالوحدة والعزلة ففقدان عزيز يترك فراغاً لا يحتمله إنسانٌ وفيٌّ لمن فقدَ . لم يفتْ القاص موضوع الجنس وهو ركن أساس في الحياة الزوجية إعتادت إتيانه هذه الأرملة مع زوجها الراحل ولكن مع مَنْ ستمارس هذا الجنس وهي سيدة حريصة على عفتها ووفائها للزوج الراحل وعلى سلامة سمعتها في مجتمع محافظ لا يرحم إنطلاقة المرأة فيه ولا يغفرُ زلةً ولا يحفظُ عهداً ، مع مَنْ ؟ ففيما يخص السكس المشروع
( الجنس ) أبدع القاص في قوله فيه [[ دعكَ من لمستها الحانية التي تستعيدُ ، الآن ، جسده على هذه الأريكة التي تشاطرها النكث بوعدِ إرتداء قامة صاحبها كل ليلة . دعكَ منها فهي ، الآن ، تبحثُ عن شئٍ آخرَ ]] . [[ إرتداء قامة صاحبها كلَّ ليلةٍ ]] ، هل هناك أكثر بلاغةً وحرارة من هذا التعبير الآيروسي الموحي الذي قال كلَّ شيء عن العلاقات الزوجية وكأنه لم يقلْ شيئاً . قاله بأدبٍ وحياءٍ لكنه مسَّ الصميمَ مسَّ الملائكة . أما عمق وحجم الفراغ الذي تعانيه هذه السيدة فقد عبّر عنه بأساليب غير مباشرة كلها إبتكار وإبداع من قبيل [[ دعك من العكاز بلا يد . من السبحة {{ الأصح مسبحة }} بلا أصابع دعك . دعكَ من الساعة بلا معصم . من الشبشب بلا أقدام دعكَ . دعكَ من الفنجان بلا شفاه . من الكتب بلا عيون دعك. دعك من المذياع بلا آذان . من المرآة بلا وجهٍ دعك . دعك منها غاصةً عاجّةً بالغبار والأرضة والصمت والأسف . دعكَ منها قاطبة دعك فهيَ ، الآن ، تبحثُ عن شيءٍ آخرَ ]] . ليس عسيراً علينا وضع اليد على نمط جديد من أساليب السرد القصصي مختلف عما سبقه من أساليب كشفتُ عنها في قصة الزجاجة . هنا كرر الرافعي ـ ليس بلا مغزى وهدف ـ فعل الأمر دعكَ . لكنه إستخدمه إستخداماً مغايراً إذْ جعله يتناوب ويتبادل المكان محتفظاً بقوة فعله بدون تغيير : يبقى فعلُ الأمرِ فعلَ أمرٍ يؤدي وظيفته المعتادة . فإذا وضع هذا الفعل الذي يحمل قوة الأمر في الجملة الأولى فإنه عاد ووضعه في آخر الجملة التي تليها [[ دعكَ من الساعة بلا معصم ( فعل الأمر في أول الجملة ) . من الشبشب بلا أقدام دعكَ ( جاء هذا الفعل بعينه وعيانه في آخر الجملة التالية ) ]] . يخيلُ لي أنَّ وضع فعل الأمر في مفتتح الجملة يعطيه قوة زخم إضافية تجرُّ الجملة السابقة ألفاظاً ومعنىً لتلتحمَ بالجملة التالية إلتحاماً مُحكماً وإنْ تفاوتت المعاني والغايات لأنَّ الغاية النهائية هي نقل مشاعر السآمة والضجر لدى السيدة المتوحدة في شقتها إلى عصب وحس ورؤية القارئ وقد نجح الرافعي في مسعاه هذا دون أدنى ريب . فحيثما إنتقلنا داخل شقة هذه الأرملة نواجه الفراغ القاتل وعبثية الحياة وثقل وطأة الزمن يمرُّ مرَّ السيف الحاد النصل على رقبة مُرْهفة ٍ . فأيُّ معنىً لمسبحةٍ لا تجدُ أصابعَ تداعبها وتلهو بها ؟ وأي معنىٍ لفنجان قهوة لا من شفاهٍ تقرَبُهُ لترتشفَ منه بعضَ ما فيهِ ؟ وأيُّ مغزى وأهمية لكتاب يفتقد مَن يتصفحه ليقرأ ما فيه ؟ فراغ وخواء وعبثية قاتلة وبرودة شديدة تقصم الظهر وتشل حركة الركبتين فأية حياة هذه وهل هي حقاً حياة ؟ لم يعالجْ هذا الموضوع الشديد الحساسية أيُّ كاتبٍ قبل أنيس الرافعي بهذه التقنية المُبتكرة وهذا الأسلوب الراقي المُستَطرَف وهذا القدر الهائل من دقة الملاحظة والإعجاز في التركيز وتجميع إشعاعات النور المتعددة المصادر والأطياف في بؤرة واحدة صغيرة تحاكي في مقدار قطر دائرتها بؤبؤ عين الإنسان . سألتُ قبل قليل عن هدف أنيس من إتباع هذا التكنيك السردي الذي لا يخلو من بعض الهرطقة والتعقيد ؟ لا مناص من بعض الهرطقة إذا إكتشفنا الجواب في المقطع الأخير من هذه القصة . لقد مهدَّ القاص لحدثٍ فاجأنا به في الأسطر الخمسة الأخيرة حين فتح موضوع البالون الأحمر [[ الذي كان زوجها الراحل قد بثَّ فيه زفيره قبل أنْ يخونه قلبهُ على حين ذبحة ]] ... [[ لأنها هي ، الآن ، ما كانت تبحثُ عنه . وسوف ترى كيف ستفتحه . كيف قليلاً فقط ستفتحه . كيف ستُدني السدادة إلى فمها . كيف قليلاً فقط ستُدنيها . كيف ستختلسُ منه جُرعة هواءٍ عزيز . كيف جرعة هواء عزيز قليلة فقط ستختلسُ منه . وكيف ستكونُ بعد هذا . بعد هذا فقط قادرة على مواصلة الحياة في غيابه ، ولكنْ وهي تحملُ أنفاسه بداخلها إلى الأبد ]] . لا يكرر أنيس تراكيبه اللغوية أبداً بل إنه يُبدعُ أشكالاً طريفة تناسب موضوعات قصصه المختلفة . نراه في هذه القصة يتلاعب بمهارةٍ في هيكلية جمله القصيرة الشديدة التركيز السريعة الإيقاع الزمني والصوتي كأنها خارجة من فوّهة مسدس سريع الطلقات . إنه ماهرٌفي الخروج الرشيق من بناء معين ليدخلَ في آخرَ يليه يولّده من رحم البناء السابق تماماً عدا بعض التغيّرات الطفيفة {{ يُخرجُ الحيَّ من الميّتِ ويُخرجُ الميت من الحيِّ }}. أُعيدُ كتابةَ بعضِ ما قال أنيس بهذا الصدد [[ وسوف ترى كيف ستفتحه . كيف قليلاً فقط ستفتحه . كيف ستُدني السدّادة إلى فمها . كيف قليلاً فقط ستُدنيها . كيف ستختلسُ منه جرعةَ هواءٍ عزيز . كيف جرعة هواء عزيز قليلة فقط ستختلسُ منه ]] . طالَ التغييرُ في الألفاظ كلمتين إثنتين لا غيرهما : قليلاً و فقط ... فضلاً عن تغيير سياق تسلسل بعض الكلمات تغييراتٍ أفقية تُضفي قوّةً تأكيدية للمعاني التي يستهدفها القاص ، وهذا نهجه الخاص وإبداعه الخاص الذي إبتكره ليخرج على العالم بنصوص غير مسبوقة . قد يظن البعضُ أنَّ أنيس الرافعي متأثرٌ بالكتاب والفلاسفة الفرنسيين أمثال جاك دريدا والشاعر بودلير صاحب ديوان أزهار الشر ... أقول لهذا البعض بكل ثقة : أنيس مثقف موسوعي يُتقن الفرنسية ويقرأ آدابها شعراً وفكراً ورواية وقصصاً لكنني لم أجد فيما يكتب أيَّ أثرٍ ـ مهما ضؤلَ ـ لأيٍّ من هؤلاء الكتاب والمفكرين الفرنسيين وخاصة دريدا وبودلير اللذين أنهيتُ للتوِّ قراءة كتابين لهما إبتعتهما من الرباط والدار البيضاء في زيارتي الأخيرة لهاتين المدينتين .
النصوص القصيرة التي إستعرتها وقدّمتها بين أقواس مُزدوجة للقارئ الكريم قبل قليل ... أدعوه أنْ يُطيل النظر والوقوف عندها ليتحسسَ فلسفتها وما فيها من عناصر ثريّة تخدمُ غرضاً واحداً في مخطط الرافعي قبل سواه : العجلة ، السباق مع الزمن ، اللهفة ، الشوق المستعر للقاء شيءٍ ما ، هدفٍ ما ، وهو هنا البالون الأحمر الذي يحوي أثراً من الزوج الراحل ، هواء شهيق وزفير رئتيه تركه في البالون قبل مغادرته الحياة . يفاجئنا هذا الهدف المُستَهدَف بصدمة عنيفة لم يقلها القاص لكننا نراها شديدة الوضوح بالغة الدلالة . كل تلك اللهفة وتلك العجلة وذلك الشوق العارم تنتهي جميعاً إلى ... هواء ، هواء محبوس ... فراغ يحتويه بالون من المطاط الخفيف سريع الإنفجار ! أهذه هي آمالنا في الحياة وهذه هي نتيجة شقائنا لبلوغ أهدافنا التي أضنانا السعيُ للوصول إليها ... هواء وفراغ وخيبة ! ظلي يا أرملةُ أرملةً قدرها أنْ تعاني وأن تشقى وأنْ تتعلق بسراب وأنْ تتحمل صقيع الوحدانية والعزلة ثم الحرمان الجنسي.
لا نرى صورَ العجلةِ ومسابقة الزمن في تقنية أنيس الأخيرة إنما ونرى بملء العيون صوراً بصريةً متحركة لإرتباك الخطوات وتعثّر السير عبّرَ القاصُّ عنها بالتكرير المضاعف وإضطراب سياق تسلسل بعض الكلمات في جملها من قبيل [[ كيف ستختلسُ منه جرعةَ هواءٍ عزيز . كيف جرعة هواء عزيز قليلة فقط ستختلسُ منه ]] . إذا أعدنا قراءة الجملة الثانية نرى أنفسنا مصعوقين متضامنين مع هذه الأرملة المسكينة المضطربة الخطوات اللاهثة الأنفاس لا تستطيعُ السيطرة على حركات قدميها ولا ضبط سرعة تنفّسها فما إضطرابُ وفوضى تسلسل الكلمات إلاّ دليلٌ على التخبّط الفكري والنفسي وضياع السيطرة على بعض أجزاء الجهاز العصبي .
هل من قراءة أخرى لموضوعة البالون الأحمر وسدّادة هذا البالون ؟ الجواب نعم . كان الرافعي ، كما هو دوماً ، ذكياً مراوغاً يظهر ويختفي أمام القارئ وأمام نصوصه فهو هنا أشار بطريقة مُبتكرة إلى موضوع الجنس الذي فقدته وما زالت تفتقده هذه السيدة المترملة وذلك : [[ كيف ستُدني السدّادةَ إلى فمها . كيف قليلاً فقط ستدنيها ]] . يا أنيس ! فضحتنا نحن الرجال وفضحتَ نفسك وبعض مراميك ! دلالتا الفم والسدادة واضحتان ليس لفرويد حسبُ ، إنما لكل مثقف ولكل رجل يُحسن قراءة المخبوءات وراء النفوس والنوايا والهواجس والرغائب المبطّنة ! هنا ، مرةً ثانية ، جنسٌ مخفيٌّ وآخر ظاهر الدلالة يُسمّى بالإنكليزية
Oral Sex
لكم وددتُ لو أستطيع مناقشة قصة " المايسترو " بالتفصيل ولكن ... اللعنة على ظروف الإنسان المشاكسة . إنها تحفة فنية بصرية أخرى جمع الرافعي فيها كل معارفه الأدبية والموسيقية وتوحّدت فيها أعضاءُ البصر والسمعِ جميعاً فإنها قصةٌ بصريةٌ ـ سمعيةٌ في عين الوقت .
أعتب على أنيس ، لا ألوم ، أنه إستخدم كلماتٍ لا يعرفها إلا الأخوة والأخوات المغاربة . أسوق أمثلة لكي لا أظلم الرجل :
" غمولة " ... الصفحة 30
" الكرطون " ... الصفحة 30
" المينطور " ... الصفحة 34
أليس لهذه الكلمات مرادفات أخرى في اللغة العربية ؟ أسعفنا أيها الأنيس الأبيُّ .
هامش *
إعتقال الغابة في زجاجة / مجموعة قصص . المؤلف : أنيس الرافعي ، الطبعة الثانية 2009 . الناشر : التنوخي للطباعة والنشر ، الدار البيضاء ، المغرب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق