الأربعاء، ديسمبر 30، 2009

قراءة في "نهيل نسمات كرمية" للأستاذ زياد جيوسي

د. حسن محمد الربابعة


عندما يستل الأستاذ زياد جيوسي قلمه للكتابة فانه يحضر قبل كتابته آلة تصوير معه وبعض أمتعته استعدادا لزيارة المكان المنوي زيارته، كما يحشد أبعاد الزمان والمكان والشخوص الذين قابلهم موظفا طاقات اللغة ليبني مشهده بحذق ومهارة مستعينا بغير عين منها عينه الباصرة وعين البصيرة يشحنها بعواطف جياشة وهم يتمثل المكان وما يبرزه له من دال ومدلول فيبعث فيه الذكرى الحلوة والمرة معا ، شانه في مقالته المنشورة على شبكات الانترنت التي اطلعت عليها في التاريخ المذكور بأعلاه،

لقد صور بآلة تصوير له ثلاث شجرات باسقات وتحتهن عبارة صباحكم أجمل التي هي من أفعال التفضيل فالزمان عنده مشوب بالنبات رمز الحياة ، ثم يبدأ مقالته بسؤال عن الحنين إن كان يمكن أن يتوقف لان في توقفه موت النبض في عروق المرء وموته عندئذ وحياته سواء ، انه التحنان إلى ارض الوطن، موطن آبائه وأجداده، انه حنينه لشمال فلسطين ونسائمها التي اصطحبها عنوان لمقالته "نسمات كرمية "حنين إلى طول كرم وما أحلى أن يوري بين طول كرم وكرم العنب الذي يزدان عليها رمز الحياة والنبض المتدفق حيوية ونماء ، ويحدد تشوقه في رحلته مساء، ليوظف فيه الأماسي حيث يرق الهواء نسمات كرميه فتزيده تحنانا وعشقا للزمان والمكان معا ،،كما يجول ب"رام الله "وشوارعها ودورها في نهاية أسبوع يحرص للتوثيق على ربط الزمان والمكان إذ لا يمكن تصور حدث ما بمعزل عن زمانه أو مكانه، وفي رام الله يسرح ناظريه محدقا بالياسمين المتعربش على الحيطان موظفا "متعربشة"على أنها عامية لها دلالات تسد عن الفصيح لأنها متداولة بين أهل رام الله ولعل بعض الكلمات العامية أفصح في الدلالة من التفصحن الذي لا يفهم أو يطنب في وصف نعوته، شان الروائيين الذين ينهجون النهج ذاته، فيعزون بعض المفردات العامية لاستخدامها الحقيقي على السنة العامة، ويعتمد الأستاذ جيوسي على الحركة في وصفه فكأنه مع المثل القائل "في الحركة بركة " فيقيل تحت شجرة اسماها "بركة". ثم يقوم متحركا ليقرأ بعض الكتب للمتعة والإمتاع يرمز إلى دور التثقيف في امة "اقرأ" وتصاقبه "ارق "وأول سورة كانت بفعل الأمر "اقرأ" وحذف المفعول به ليدل على أهمية القراءة المقرونة بالفهم من كتاب كان، فأمتنا في علمها عامة لا خاصة ، ثم يتحرك مع عدسة الكاميرا ويتجه شمالا يحدد اتجاهه بل من رام الله شمالا وهو أستاذ جغرافي من قبل يرسم حركته بوضوح يوم خميس إذ لا ينسى الزمان لأهمية كما في دائرة الحدث في نصف تشرين ، ويلصق وجهه بنافذة من نوافذ الحافلة التي تنقله من الجنوب إلى الشمال، وعلى عادته يبدأ بهمس لكل شجرة يمر عنها في مكانه المتحرك "الحافلة " كما يهمس لكل صخرة ميتة يستنطقها ويبث إليها همساته، وكلماته الهامسة تجديد محبته لوطنه فلسطين،ويرى مستوطنات اليهود بل مستخرباتهم التي تتقمم التلال ، ويرى الصهاينة خلف دشمهم الإسمنتية يراقبون بحذر لأنهم يعلمون داخليا أن أرض فلسطين لها أهل يمكن أن يدافعوا عنها في كل حين ولذا بدوا في هيئة المحاذر لا سيما وان الجدار العازل لم يمنع صواريخ حزب الله من أن تزور حيفا مرات وتنذرهم بإمكانية تدمير مفاعل حيفا فنقلوا قنابلهم الكيميائية خلال أربع وعشرين ساعة إلى الخضوري، لبيعدوها عن مدى الصواريخ الإسلامية ، ولم تمنعهم الجدر من أن يدكدكوا ما أرادوا من مواقعهم ، فبدت حالة الترصد عندهم خلف دشمهم "الإسمنتية " كأنهم مع قوله تعالى يصف حالهم "لا يقاتلونكم الا من وراء جدر باسهم بينهم شديد" لو وظفته وسائل إعلامنا لتشكَّلَ من بينهم أعداء بعض، فيقتل بعضهم بعضا ،كما هي عداوة بين يهود الشرق ويهود الغرب ،وفي هواجس الأستاذ جيوسي تلوح أمال بان تشرق الشمس وينمحق الظلم والظلام ، عندما وصل إلى طولكرم بدأ ينتشف أعباق الوطن الجميل العطري، لان روحه ندَّى وفوَّح أعطارا يحملها إليه نسيم طولكرم عند الأصيل، وتستوقفه مقابل النسائم العطرية نسائم اصطناعية من أقذار من لم يهتموا بنظافة مدينتهم من جهة وسموم يبثها مصنع كيماويات حول الجدار، جال الجيوسي في شوارع المدينة ، والتقى أهل الثقافة فيها فبادلوه احتراما باحترام في عبث التاريخ وحكايات الأجداد فارتبط الماضي عنده بالحاضر، وسار ركبه إلى خضوري وانبعث منها رموز العتاقة اسما على مسمى يوم كانت من ستينيات القرن العشرين معهدا زراعيا لتخضرَّ البلاد التي تدر لبنا وعسلا كما كان دورها لتخضير أراضي الضفة الشرقية، وهكذا كان دورها وما زالت تتطور إلى أن قامت جامعة التقى من أساتيذها رئيسها وأعضاء من هيئة التدريس وبعض الطلبة ، ذكرهم بالأسماء توثيقا لعرى الصداقة ، شان بعض رحالة العرب وأصحاب التراجم كالسخاوي والسيوطي ،وعرض كناقد جاد تقصيرا في استنبات الشجر حفاظا على اسم خضوري وتاريخها ، وأصاخ في مقابلاته إلى شكاوى وعذابات يعيشها أبناء فلسطين فنقل همومهم في هذه المقالة، واخذ على المسئولين ممن لم يصيخوا بأسماعهم إلى شكاوى الناس فخير الناس انفعهم للناس وقضى يوم الجمعة في التقاء أصدقائه من الطلبة، ورافقهم إلى أمكنة شعبية في مقهى كما رافق غيرهم في قاعات الجامعة ، وتأمل المدينة يوم السبت كأنه يودعها وعسى الا تكون نظرته الأخيرة إليها ، ثم ارتحل لنابلس المدينة الوطنية التي سميت على ذمة ياقوت الحموي نسبة إلى ناب "حية تدعى لس" وقد ذاقت إسرائيل من لدغات النوابلسية لدغات مريرة وتغدى عند صديق له وأشاد بكنافة أم باسل ربة المنزل التي تصنعها محليا، يرمز إلى مهارة المرأة وإمكانية التصنيع الذاتي، وتمنيت على الأستاذ زياد أن ينظر في ديوان شعر لابن عمنا الأستاذ الشاعر "وليد الكيلاني" ليرى أطباق الكنافة النابلسية وهي تتسعر حامية بالكلمة والصورة في ديوان شعر له، ثم يقارن بينها وبين ابن الرومي وهو يصف الزلابية:

رأيته سحرا يقلي زلابية في رقة القشر والتجويف كالقصب

كأنما زيته الفضي حين بدا كالكيمياء التي قالوا فيها ولم تصب

يلقي العجين لجينا من أنامله فيستحيل شبابيكا من الذهب.

وان كنا نأخذ على ابن الرومي صرفه شبابيكا ومن حقه منعه لأنه على وزن "مفاعيل "لكن يبدو أن تلمظه لحلاوة الزلابية أنسته بعض قواعد اللغة.

واسلم أيها الناقد الفذ

الدكتور حسن محمد الربابعة

28/10/2009م

(مؤتة )- الأردن



ليست هناك تعليقات: