د. عدنان الظاهر
(( إلى أبي ذرٍّ الغفاري : الزاهد المعارض الجسور . سياحة عَبْرَ التأريخ للوصول إلى الهدف ))
ماذا لو تخلّت حبيبتي مريمُ العذراء عن نخلتها ورطب نخلتها واقتنعت بترك شمال إفريقيا للعيش معي ضيفَ شرفٍ دائمٍ في بافاريا ؟ قالت أهلها سيعترضون. قالت إنها ستخسرُ وظيفتها ومصدر معيشتها . قالت إنَّ تقاليد قبيلتها الضاربة في رمال الصحراء الإفريقية الكبرى لا تسمح لها بمغادرة بلادها . قالت إنهم سيقتلونها ثم يتبرأون منها ويحللون ويبررون سفك طاهر دمها . قالت مريمُ وقالت وقالت حتى لم يعدْ أمامي مجالٌ لأيِّ قولٍ فهل أتراجعُ وأتقبّلُ الهزيمة ؟ لا. ليس في طبيعتي أنْ أتقبّلَ الهزائم في دنياي المتقلبّة الخؤون . تخيّلتُ : أنْ أُغريها بالهروب ليلاً معي تحت جُنح الظلام على طريقة أبي الطيّب المتنبي :
أزورهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصبحِ يُغري بيْ
أحتاجُ عندذاك ناقة أصيلةً كريمة سريعة العدو لأردف مريمَ خلفي وأهربُ بها حتى أقاصي الدنيا . وافقت مريمُ من حيثُ المبدأ على فكرة إختطافها ليلاً والهروب معها إلى حيثُ لا يعثرُ أهلوها لها على أثرٍ . وافقتْ وقد كتبتْ لي ذاتَ يومٍ :
[[ يا رجلاً ما كتبتُ لرجلٍ آخرَ سواهُ أبداً مثلَ ما أخطّهُ الآنَ له .
يا رجلاً أنتَ يا عدّونْ يا مُحرِّك كلّ مشاعر الانوثة بداخلي .
يا رجلا أتلذذُ ريقَهُ كلما أحسُّ بملامسة لسانه يرتوي من ريق مريم .
يا رجلاً يُشعرني بكل حميمية المرأة و أنوثتها .
يا رجلاً تتمنى مريمُ لو يعانقها مثل ما يكتب لها و يتركها تهيم في تلك الدنيا الجميلة الغارقة في جمال الحب و أسمى الاحاسيس .
يا رجلاً أحبّته مريمُ و لا يهمها فارقُ السن .
يا رجُلاً لا تستطيعُ مريمُ أنْ تقولَ له لا ! فالنهدُ يتنهّدُ و يرتوي فقط اليوم لانك رضعتَ منه و سقيتَ شفايفَ المريم اليابسة قبل مجيئك .
يا رجُلاً خليني جنبك خليني ، في حضن قلبك خليني ، وسبني أحلم سبني ، و سبني احلم سبني ، يا ريت يا ريت ... صدقتْ أمُّ كلثوم .
أمّا عن إخواني و والديَّ فلا يقرأون أيَّ شيءٍ من خصوصياتي أبدا . أكيد ، أعجبتني حوارية مجنون مريم ...
دعني أنا التي أُجنُّ يا مجنونها بحبّك ؟
شكرا على كل شيء يا عدّوني ]].
أليس في محتوى هذه الرسالة ما يكفي لإقناعي أنَّ سيدتي وحبيبتي مريم مستعدّةٌ للتضحية بنخلة حديقة دار أبيها وما تحمل من رطبٍ جنيٍّ عاماً إثرَ عام واللحاق بي والعيش معي حتى ولو في صحراء الرَبَذة ؟ رفع رأسَه أبو ذرٍّ الغِفاريُّ من تحت ظل خيمته المرقّعةِ البائسة ليقولَ لي : غامرْ بحياتك يا هذا ولا تغامرْ بحياة حبيبتك مريم . أحوالُ صحراء ورمال الرَبَذة لا تُطاقُ . أنظرْ وتبصّرْ حال حرمتي وقد جفَّ جسدُها وذبل عودها وضمرَ صدرها وقد كان عامراً باللبن وقصرتْ قامتها فهل تتمنى هذا الحال لمريمَ التي غامرت معك وتركتْ نعيمَ بيتِ أبيها ووظيفتها وما كانت فيه من دلال وترفٍ وجاهٍ وأُبّهةٍ . قال تفضّلا ، لدينا تُميرات ولبن معزى ولا من شيءٍ سواهما ، تفضلا وأريحا بدنيكما ثم إفترشا الرمل مهاداً ووسادا كما أفعلُ عادةً أنا وعجوزي . بتنا ليلتنا متعانقين ـ أنا ومريم ـ وسادنا الرملُ وذراعانا مخدتانا . غفونا بعد أنْ تأكّدنا أنَّ أبا ذرٍّ وصاحبَتَه وشريكة بؤسه وما لحق به من ظلم أكثر من مضاعف ... تأكدَّ لنا أنهما غطّا في سبات عميق . نامت مريم جيداً فلقد كانت مغامرتنا شاقّةً وطريقنا إلى الغفاريِّ طويلاً ، أما أنا ، أنا من أغوى إبنة العالمين ونهبها من بيت أبيها ومدينتها الجميلة وأوطان آبائها وأجدادها وأسلاف أسلافها ... أما هذا الأنا فلم أنمْ ! كيف ينامُ مثلي في صحراء الرَبَذةِ ومعي مريم أمانةً في عُنُقي وشرفها شرفي وأبو ذرّ شيخٌ عجوزٌ طاعنٌ في السن مهدود القوى لا يستطيعُ حماية ضيفه والدفاع عنهم والصحراء هي الصحراءُ وما عنها وأهوالها تعرفون ؟ كان أبو ذرّ مثلي يتقلّب يمنةً ويسرةً على عظام جنبيه يهذي أحياناً بكلمات لا معنى لها بل لم أستطع فهمها . وكان كلما إنقلب رفع ذيل جلبابه البالي إلى أعلى فأستحي وأنهض لأغطيه كاملاً دون أنْ ينتبه لما كان يجري له . ذكّرني بالزعيم الهندي مهاتما غاندي . أما عجوزه فكانت ملتفّةً متدثّرةً متزمّلةً بعباءتها من شعر الماعيز . كانت هادئة في رقدتها لا تتقلب ولا تتنفسُ إلاّ ببطء شديد حتى خُيّلَ لي أحيانا أنها فارقت الحياة . فيلم ، فيلم حقيقي لكنه باللون الأسود مع بصيص نورٍ قَمَريٍّ خافتٍ يتخلل ثقوب خيمتنا التي لا عدَّ لها . كان وضعي من هذا الفيلم مضحكاً . كأني كنتُ المنتجَ والمُخرِجَ والمشاهد الوحيد فأي فيلمٍ هذا وما كانت قيمة كلفة إنتاجه في صحراء الرَبَذة ؟ سمعتُ وأنا غارقٌ في نشوة متابعة هذا الفيلم ، سمعتُ صهيلَ حصانٍ يقتربُ من خيمتنا وصوتَ رجلٍ جَهوريّاً يرتجزُ شعراً مألوفاً عندي منذُ سنيِّ الدراسة الإعدادية . أصختُ السمعَ ثم نهضتُ تاركاً حبيبتي مريمَ تغطُّ في سباتها وأزحتُ بعض أطراف خيمتنا لأستجلي الموقف كأني عسكريٌّ محترفٌ . دنا الفارسُ منّا مع خيوط الفجر الأولى ثم دنا ودنا وصوته يعلو ويعلو شاقّاً سكونَ البريّة . تبيّنته ! إنه عنترةُ الشدّادُ العبسيُّ بطل أبطال العرب ورمزُ مقاتليهم الميامين . يا للسماء السابعة ! كانت إبنةُ عمّه الآنسةُ عبلة جالسةً خلفه كأنها ملكةً على عرش الزمان . إذاً ... لم أكن الوحيد الذي نهب حبيبته وسرقها من أهلها وانتزعها من تربتها وجذورها . هذه عبلةُ تمتطي صهوة حصان عنترة الأدهم وعنترةٌ مدجّجٌ حتى أذنيه بالسلاح الأبيض . ترجّل الإثنان بزهوِّ الفرسان المنتصرين القاهرين أعداءهم وشرع عنترةُ العبسيُّ يقرأ بصوتٍ عالٍ بعضَ أشعاره هازّاً رمحه فخرجَ أبو ذرّ وحرمته ليساهما في الفرجة على هذا الفيلم الجديد الذي حمل إسم [[ عنتر وعبلةْ ]] :
هل غادرَ الشعراءُ من مُتَردَّمِ
أمْ هل عَرَفتَ الدارَ بعدَ توهّمِ
يا دارَ عبلةَ بالجِواءِ تكلّمي
وعَمي صباحاً دارَ عبلةَ واسلمي
دارٌ لآنسةٍ غضيضٍ طرفُها
طوعِ العناقِ لذيذةِ المُتُبَسَّمِ
إنْ كنتِ أزمعتِ الفِراقَ فإنّما
زُمّتْ رِكابكُمُ بليلٍ مُظلمِ
هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ
إنْ كنتِ جاهلةً بما لمْ تعلمي
يُخبِركِ مَنْ شهِدَ الوقيعةَ أنني
أغشى الوغى وأَعِفُّ عندَ المغْنَمِ
ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمَها
قيلُ الفوارسِ ويكَ عَنتَرَ أقدمي
يدعونَ عنترَ والرِماحُ كأنّها
أشطانُ بئرٍ في لَبَانِ الأدهمِ
...
كنّا جميعاً صامتين كأنَّ الطيرَ على رؤوسنا مأخوذين بقوة خطاب عنترة وبلاغة شعره حتى قالت حبيبتي مريم : ليتني كنتُ عبلة وليت هذا الفارسُ قال هذا الشعرَ فيَّ . دعاهما أبو ذرّ ليستريحا في ظل الخيمة الوحيدة في صحراء الرّبَذة وأشار إلى رفيقة عمره وبلواه أنْ تحلب عنزتهم ليشرب عنترةُ وحبيبته عبلة . شربا وشكرا صاحب الضيافة فاتجه عنترةُ ناحيتي عابساً يكبتُ غضباً لم أحدس أسبابه .
مسح شاربه الكث بظاهر كفّه مراراً ثم وجّه كلامه لي قائلاً : ما اسمكَ يا رجلُ وما الذي أتى بك إلى هنا ومن هي هذه الفتاة الظاهرة النعمة وكيف أتيتَ بها إلى هذه المفازة التي تسرح فيها الذئابُ وتمرحُ ؟ أحرجتني أسئلة عنترة بل ولم أكن أتوقعها بتاتاً . ماذا أقول له وقد غلبني خوفٌ حقيقيٌّ : نزهة سياحية في صحراء الربذة ؟ زيارة روتينية لشيخ الفضيلة والزهدِ والعدل والنزاهة ؟ مغامرة لأصطياد الغزلان والظباء ومصارعة الأسود على الطريقة الآشورية ؟ ماذا أقولُ له ؟ ليس معي من عُدّة الصيد شيءٌ . أما زيارة أبي ذرٍّ فإنَّ عنترة العبسي يعرفُ جيّداً كما أعرف أنا ويعرفُ كافة أهل العراق أنَّ مثلَ هذه الزيارة تتطلب موافقةَ خاصّة من القنصلية العامة في دمشقَ حيث معاوية ومن المركزِ في المدينة حيثُ عثمان خليفة المسلمين. ماذا أقول لهذا العنتر إذاً . شاورتُ صاحبتي وكنتُ ما زلتُ أرتجفُ خوفاً فقالت دَعْهُ لي ، أنا أعرفُ كيفَ أروّضُ الوحوشَ والفرسان حتى ينهاروا ويستسلموا لي صاغرين . كيف يا إبنةَ العم يا مريمُ ؟ قالت سأستخدمُ معه سلاحَ
{ دليلة } الذي قهرْت به الجبّارَ شمشون أو شمعون . سننام الليلة معاً تحت خيمة أبي ذرّ وسوف لا أنامُ . ما أنْ يبدأ شخيرُ عنترة بالصعود حتى أقص شاربيه وجدائل شعره الأشعث الأغبر الملئ بالحشرات فتموت فيه قوّتُهُ الجسديةُ ويغدو ومعزاة أبي ذرّ سواء . لكننا بحاجةٍ في صحراء الربذة لقوّته وما معه من أسلحة يا مريمُ . قالت بعد أنْ أُميتَ مصادر قوته ورجولته وفحولته نسرق أسلحته وحصانه ونولّي هاربين لا نلوي على شيء. تذكّرتُ قصّة المرأة السومرية سمحاء أو شمخاء التي أغوت الوحش أنكيدو وعلّمته ممارسة الجنس معها فتحوّلَ إلى بَشرٍ سويٍّ مُدّجّن فصادقته الملوكُ وعلى رأسهم كلكامش . قلت لمريم العذراء صاحبة النخلة والجذعِ والرطب الجنيِّ ... قلتُ لها هذه ليست مروءةً يا مريمُ وليست من الشهامة في شيء . قالت لا معنى للمروءة والشهامة في الصحراء . ثم نحن لسنا من البدو ولا نعرف عاداتهم وتقاليدهم وما علينا إلا واجب إنقاذ أنفسنا وإلاّ قتلتنا الصحراء وإذا لم تقتلنا الصحراءُ وما فيها من وحوش ضارية قتلنا صاحبُ دمشق أو أمرَ بقتلنا صاحبُ المدينة . نفّذتْ مريمُ خطتها الجريئة فجمعنا أسلحة بطل العرب وبني عبسٍ وأسرجنا حصانه ونهبنا به الصحراء نهبا مستهدين بنور النجم القطبيِّ حتى بلغنا قُبيل الفجرِ ميناء عدنٍ . بعنا سلاح عنترة وحصانه العربي الأصيل وابتعنا تذكرتي سفر إلى ألمانيا على الخطوط الجوية الألمانية لوفتهانزا . بتنا تلك الليلة في فندق شيراتون المطلِّ على خليج عدن وصخرة الفيل . تناولنا طعام الفطور وفي الساعة الثامنة كانت سيارة تاكسي في إنتظارنا أمام مدخل الفندق .
الثلاثاء، ديسمبر 22، 2009
موت شمشون في صحراء الرَبَذةْ
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق