قرأت مرّة قصة وأعجبت بمغزاها واسلوبها السهل فأرسلت إلى الكاتب، الذي لم أسمع باسمه من قبل، رسالة شكر أتمنى فيها أن أقرأ له باستمرار.
تفاجئت عندما جاءني الرد من السيد الكاتب الفلسطيني نبيل عودة يخبرني أنه هو الذي كتب القصة ونشرها باسم مستعار، ثمّ شرح لي السبب وراء ذلك.
تبادلت ونبيل بعض الرسائل، وأحسست من خلالها أنه بركان على وشك الإنفجار! أحسست به مظلوما ومقهورا وغير قادر على التعبير عن ظلمه وقهره لأسباب الكل يعرفها.
اقترحت عليه أن أغوص في حياته وقبل الإقتراح برحابة صدر.
لم تكن رحلتي سهلة، ولم يكن هو الآخر سهلا. كان متحفظا إلى حد يثير الإحباط، لكنني احترمت تحفظه وتجاهل (مشكورا) إحباطي....
احترمت تحفظه لأنني أحترم الحياة كقيمة، ولا أقبل إطلاقا أن أعرض حياة انسان لخطر، علما بأنني وضعت حياتي في كف عفريت يرقص فوق برميل من البارود! نبيل عودة رجل رصين، أكسبته الحياة حكمة معلم هندوسي مستنير!
أحببت فيه الرجل المخلص لموقفه، والصديق المخلص لأصدقائه، والزوج المخلص لزوجته، والأب المخلص لأبنائه، أحببت فيه الإنسان الذي يسعى لسعادة الإنسان أيا وأينما كان.
تعالوا نبحر معا في عالم نبيل، وأرجوكم أن لا تشعروا بالإحباط حيال تحفظه وأن تتحفظوا حيال إحباطي....
باسمكم جميعا أشكر السيد نبيل عودة الذي سمح لنا أن نشاطره فنجان قهوته الصباحي....
* هل بإمكان السيد نبيل عودة أن يعطينا فكرة عن العشر سنوات الأولى من عمره؟
إذا عدت إلى الوراء، ماهي الذكرى الأولى التي تستطيع أن تسترجعها؟
هل من حادثة تركت جرحا في قلبك خلال العشر سنوات الأولى من عمرك؟
هل من حادثة تركت إحساسا أبديا بالسعادة خلال العشر سنوات الأولى من عمرك؟
كيف تتذكر السيد والدك؟
كيف تتذكر السيدة والدتك؟
ولدت قبل نكبة شعبي الفلسطيني بعام (25-02-1947) في بيت ميسور نسبيا في مدينة الناصرة. كان والدي يملك محلا للنجارة قد ورثه عن والده.
كان بيتنا بيتا للعلم والمعرفة وكان معظم أفراد عائلتي يتكلمون لغات أجنبية كالإنكليزية والروسية، ولكن بسبب ظروف اجتماعية قاهرة هاجر معظمهم إلى القارتين الأمريكيتين، وبقي البعض الآخر ملتصقا بالوطن لإعتبارت وطنية محضة ورغم الظروف الصعبة التي حدثت بعد النكبة.
كان والدي من أوائل المنتسبين لعصبة التحرر الوطني الفلسيطيني ( الحزب الشيوعي العربي عمليا). وقد نشأت في أجواء ثقافية غلبت عليها أفكار الحزب الشيوعي، وكانت تلك الأفكار بمثابة غذاء روحي وأساسي لي. في بيتنا كان يلتقي العديد من القيادات وخاصة في ساعات الشدة لعقد اجتماعات ولمناقشة معارك الإنتخابات.
ساهم هذا الأمر في إرساء الطابع الفكري لدي، إلى جانب إنني كنت أحب القراءة وبرزت فيها منذ الصف الأول، أول ما قرأت كان جريدة "الإتحاد" وهي جريدة
الحزب الشيوعي آنذاك والتي لعبت دورا تاريخيا سياسيا وتثقيفيا هاما في بناء الشخصية القومية للأقلية العربية التي بقيت في وطنها، وكسرت تلك الجريدة سياسة التجهيل والإنغلاق الثقافي التي مارسها الإحتلال العسكري الإسرائيلي خلال العقدين الأولين بعد 1948، وخاصة العقد الأول.
كانت المناهج العربية تحت إشراف الإحتلال الإسرائيلي وكانت مملة وتافهة وليس من السهل قراءتها، ولكنها حافظت بشكل أو بآخر على إلمامي باللغة العربية رغم أن دراستي الثانوية كانت بالعبرية.
هذا بالإضافة إلى أن أساتذة اللغة العربية ( واستاذي خاصة )كانوا ضعيفين بتلك المادة وغير مؤهلين لتدريسها، إذ كان الإحتلال يعمد إلى طرد كل معلم وطني وصاحب ضمير لا يلتزم ببرنامج التدريس المقرر تحت إدارة الحكم العسكري الذي استمر حتى عام 1966 واُلغي بعد نضال مرير.
كانت المطبوعات يومها تحت رقابة عسكرية وكنا محرومين من الكتب العربية. إلى جانب جريدة الإتحاد، التي ذكرتها سابقا، كانت هناك مجلة "الجديد" التي لعبت دورا تثقيفيا بالنسبة للمثقفين الفلسطينيين الأوائل، ولقد رأس الشاعر محمود درويش تحريرها في نهاية الستينات من القرن الماضي.
في بداية شبابي المبكر انضممت لمنظمة الأشبال الشيوعية، وهناك لعبت المواد التثقيفية المتوفرة من خلال تلك المنظمة دورا في تشكيل وعيي المبكر، وأثرت لاحقا في قراراتي وخياراتي التي تعلقت بتحصيلي العلمي والإبداعي.
لم يكن والدي مثقفا كبيرا، لكنه كان بالفطرة واعيا وامتلك حسا مرهفا ساعده على البحث عن المعرفة والكتب التي تصدر رغم ندرتها.
في بداية الستينات حدثت حركة نشر جديدة وجيدة قامت بإعادة طباعة مؤلفات كتاب عرب (اوفست)، ولم يفوتني كتاب إلا واشتريته يومها من مصروفي الخاص، وكان والدي يساعدني أحيانا على شرائها بناء على نصائح السيد مدير المكتبة عيسى لوباني، وهو شاعر وروائي وناقد ممتاز، وكان قد طرد من التعليم بسبب مواقفه الوطنية المخلصة.
في ذلك الوقت بدأت تصل الينا مجلات سوفياتية، ثم بدأت منشورات الكتب السوفياتية ولم يكن والدي يتوانى عن الإشتراك في أي منها.
كنت في ذلك العمر أميل لتقليد كتاب القصة الكبار، فأقضي ساعات طويلة في صياغة القصص وكان ذلك الأمر يثير لدي سعادة غريبة. القراءة كانت تبعث السعادة في قلبي ولقد قرأت معظم رويات الكتاب المصريين البارزين يومها.
في العاشرة من عمري حدث ما أبعدني كليا عن الفكر الديني. كنت في المدرسة المعمدانية في الناصرة، حاول معلم الدين أن يقنعنا بأن لا نتغيب عن المدرسة بمناسبة اول أيار وطعن بطريقة، لم أعد أذكرها، بالشيوعيين وقال لنا بأنهم لا يؤمنون وبأن المسيح سيعاقبهم، فوقفت أدافع عنهم ضمن حدود إدراكي وأصرُ على أن المسيح لن يعاقبهم وهم مخلصون وطاهرون، ويبدو أنني استخدمت ألفاظا غير مقبولة من قبل معلم الدين فأدى الأمر إلى فصلي من المدرسة، فانتقلت إلى مدرسة حكومية.
لقد أحدث ذلك انقلابا كبيرا في حياتي الفكرية وأنا أنتقل من العقد الأولى من حياتي إلى الثاني.
لقد نمى الدين في نفسي الخوف واكتشفت فيما بعد أنني كنت مخدوعا. بالطبع حدث ذلك في إطار الأحاسيس غير الواعية. من وقتها رفضت حضور دروس الدين المسيحي ، وأثبتت للمعلم أن ما درسته في المعمدانية يتجاوز البدائيات التي يدرسونها في المدرسة الحكومية.
لم تكن حياتي في الطفولة سهلة، إذ مازلت أذكر كيف كنا نقف أمام مكاتب التصاريح لنحصل على اذن ليوم واحد بالسفر إلى شاطئ البحر في حيفا مثلا أو طبريا، وكان ينتابني خوف شديد من أن لا نحصل على ذلك التصريح.
ما زلت أذكر أيضا كيف كان العمال العرب يقفون في طوابير طويلة ليحصلوا على تصاريح تسمح لهم بالخروج من الناصرة بحثا عن لقمة خبز لعوائلهم.
كان وضع والدي المادي كافيا ليشتري لنا قوت يومنا، ولكنني سمعت حكايات كثيرة عن واقع معاشي سيء جدا لأعداد غفيرة من السكان. كان الحكم العسكري يتحكم بلقمة عيشها مما أجبر الكثيرين على التسلل خارج الناصرة خلسة ودون تصاريح.
ولقد القي القبض على بعضهم وتعرضوا للسجن ولدفع غرامات مالية كبيرة.
اهتم والدي بعائلته كثيرا ولم يقصر يوما في تلبية حاجاتنا، وكنا نملك قطعة أرض ونربي عليها الخنازير والأرانب والدجاج والحمام، ولذلك كان نصيبنا من اللحوم جيدا بالقياس إلى بقية الناس الذين كانوا يحصلون على اللحوم بالكوبونات.
والدي كان رجلا مستقيما ولقد ورثت عنه استقامته التي سببت لي الكثير من المشاكل في عالم يعتبر المستقيمين ضعاف الشخصية، مما أجبرني لاحقا على أن أكون شرسا في بعض المواقف.
أمي كانت ابنة خوري طائفتها في الناصرة، وهي تتكلم الإنكليزية وساعدتني على تعلم القراءة بالعربية خاصة ونمت لدي حب المطالعة.
مازلت أتذكر حبها للطبخ وإجادتها له، أقارن بين الحين والآخر، ومن باب الدعابة، بين طبيخها وطبيخ زوجتي مما يدفع زوجتي لأن تغضب بصمت حيال تلك المقارنة.
لا أعتقد بأنني عشت طفولتي كما يعيشها أحفادي اليوم، فمنذ بداية وعيي كنت منغمسا في قضايا الناس والمجتمع. انشغلت في سن مبكرة بالقراءة والكتابة وصرت أقدر على التعبير بالكتابة من التعبير شفهيا.
أولادي وأحفادي كانوا أكثر حظا مني من حيث السعادة وتوفر كافة الحاجات والدورات لتنمية مواهبهم.
ويبقى السؤال: هل سأكون شخصا آخر لو عدت اليوم طفلا، طبعا الإنسان هو ناتج واقع إجتماعي وناتج ظروفه الخاصة أيضا.
........................
* بالإعتماد على ماذكرته سابقا، هل بإمكاني أن أقول بأن التربية الدينية لك لم تلعب دورا في تشكيل نسيجك الفكري على الإطلاق؟
لقد أثرت التربية الدينية على نشأتي وعلى ثقافتي ولعبت دورا في اتساع عالمي الثقافي بالتأكيد.
أثناء دراستي للفلسفة اهتممت كثيرا بدراسة الديانات التوحيدية الثلاثة، وما زلت أهتم بالمواضيع الدينية والمقارنة بين الديانات. لقد لعبت التعاليم المسيحية دورا تمحورت حوله حياتي منذ صغري، وتميزت تلك التعاليم أساسا بالأخلاقيات وتكريس المحبة ومساعدة المحتاجين والتسامح. لقد تعلمنا تلك القيم من خلال دراساتنا لحياة المسيح ونضاله المرير ضد تجار الدين وضد فكر الإنتقام التوراتي، فلقد نقد بشدة مقولة "السن بالسن والعين بالعين"، وضد الوثنية المتمثلة بتقديس السبت وذلك من خلاله قوله الشهير "السبت لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمة السبت".
هذا من جهة ومن جهة أخرى، لا أستطيع أن أنكر بأن الثقافة الإسلامية قد لعبت هي الأخرى دورا في ثقافتي وتحصيلي المعرفي.
في بداية المرحلة الإعدادية، ورغم أنني كنت معفى من دروس الدين، كنت أحضر بعض دروس ادين الاسلامي والإستماع إلى ما يعطى خلالها، ومن يومها أكتشفت كيف يقوم الدين بإلغاء الفكر وتغييب الوعي عبر التلقين . ولا فرق هنا بين المسيحية والاسلام.
وقد تكون عملية طردي من مدرسة المعمدانية قد ساعتيني على أن أفكر بعمق وأنمي قدراتي الفكرية النقدية.
شكوكي كانت دائما تدفعني للبحث عن الحقيقة، ولم أكن أتنازل عنها حتى أصل إلى ما أبحث عنه. ودراستي للفلسفة عمقت تلك الشكوك وعززت سبل بحثي عن حقيقة ما أشك به.
*******************************
* لقد أشرت على أن التعاليم المسيحية التي تؤكد على المحبة والتسامح قد لعبت دورا في تشكيل هويتك الثقافية، وأشرت في الوقت نفسه إلى تأثير الثقافة الإسلامية وبأنك كنت تحضر دروس التربية الإسلامية؟
هل تستطيع أن تشرح ماهي التعاليم التي استقيتها من تلك الدروس، وما هي الأسئلة التي كانت تثيرها داخل عقلك الغض في ذلك الحين؟
هل كان هناك نوع من الصراع بين ما منحتك إياه التعاليم المسيحية وما منحتك إياه الدروس الإسلامية، أما إن التعاليم هي نفسها في أي دين؟!!
مع العلم بأن أمي كانت ابنة كاهن مسيحي، لكنني لا أذكر بأننا مارسنا في البيت أية طقوس دينية، حتى موضوع الصيام المسيحي ( الصوم عن الزفر) لم يكن يعني أي تغيير في نوع الطعام كالإمتناع عن اللحوم مثلا. لم أسمع بهذه الطقوس إلا في مرحلة بلوغي وما زال محيطنا العائلي بعيدا عن تلك الطقوس. من هنا أستطيع أن اؤكد من أن التريبة المفتوحة بدون فروض وقيود دينية قد كانت القاعدة الأساسية التي شكلت هويتي الثقافية. ولذلك حافظت على نفس النهج في تربية أولادي.
في فترة معينة خضت معركة فكرية صعبة مع ابني عندما ظهرت عليه ميول ايمانية بسبب حياة الفراغ وغياب مؤسسات شبابية ونوادي مناسبة، كما هو الحال معي عندما نشأت في أحضان منظمة الشبيبة الشيوعية، وبدا ابني مشدودا إلى مجموعة من اصدقائه تضم شبابا وشابات. كانوا يهتمون بدعم ومساعدة بعضهم البعض، وكان هذا هو جوهر العلاقة التي تربط كل منهم بالآخر. ولقد لاحظت بأن معركتي مع ابني ستفشل لأنه كان يجد في انتمائه لتلك المجموعة ذاته وهويته. ولكي أجنبه مغبة الإنخراط أكثر في الفكر الديني الغيبي أرسلته إلى روسيا لإستكمال دراسته.
اليوم أستطيع أن أقول بأنه لم يكتسب من التعاليم المسيحية إلا ماهو إنساني وأخلاقي.
لقد حضرت دروس الدين الإسلامي وشدتني القصص، وكانت قصصا إنسانية في مضمونها. لم أفهم الإختلاف بين الأديان إلا في مرحلة متقدمة من عمري. وأستطيع أن أقول بأن حصة الدين الإسلامي كانت اساسا درسا عن التراث العربي والقصص العربية التي تشيد بعظمة العرب وتساعد الطفل على أن يشعر بالفخر لإنتمائه إلى هوية قومية وتراث قومي وليس أكثر.
* قلت في جواب سابق من أن رجل الدين المسيحي كان يتكلم بطريقة غير مقبولة عن الماركسين ويصر على أن المسيح سيعاقبهم، هل حرضكم على قتلهم أو سوء معاملتهم ام أنه اكتفى بترك عقابهم للمسيح؟
اطلاقا لم يكن في تعليم الدين المسيحي او الاسلامي الذي استمعت اليه أي شيء يمكن أن يفسر كدعوة للعنف، كان تركيز معلمي الدين على الجوانب الانسانية.
من هذه الناحية نشأنا مسلمين ومسيحيين على فكر التآخي ولم أكن أعرف الإنتماء الديني لأقرب أصدقائي، إذ لم أسأل يوما عن ذلك ، ولم أفكر بهذا الموضوع.
كنا ابناء شعب واحد ونضال واحد وننتمي الى منظمة واحدة ومجتمع واحد، نأكل من نفس الصحن ونلعب في نفس الحارة ونسكن متجاورين وما زلنا كذلك حتى اليوم. جيراني حتى اليوم هم أقرب الناس لنا وهم عوائل لاجئة وصلت بعد النكبة من مجدل غزة، استأجروا منازلا في حينا وما زلنا أصدقاء كعائلة واحدة منذ 60 سنة، نحتفل بأعيادنا بشكل مشترك وتزوج أبناؤهم من مسيحيات وبعضهم تزوجوا في الكنائس من منطلق حريتهم في اختيار الهوية الدينية وتسهيل المصاهرة مع المسيحيين وليس من منطلق ايمان ديني، وزوجوا بناتهم أيضا لمسيحيين وفي الكنائس .
إن ظاهرة "الصحوة الدينية " هي غفوة وطنية وتفكك اجتماعي وانهيار للكثير من قيم المجتمع المدني.
لكل انسان مجموعة هويات، هوية اجتماعية، ثقافية ،دينية ،قومية وغيرها، ولكن للأسف صارت الهوية الدينية اليوم هي الجوهر.
ويبقى السؤال هل اكتسابنا للهوية الدينية كهوية اساسية ساهم في تقدمنا الاجتماعي والعلمي والحضاري أم أعادنا قرونا الى الخلف ؟!
لا اقول ذلك من منطلق رفضي للهوية الدينية ولكن شتان بين هوية دينية متسامحة لا ترفض المختلف وتعطي لكل انسان حقه في اقرار ما يؤمن به وما يرفضه وبين هوية دينية ترفض هوية الآخر الدينية.
يجب أن لا تكون الهوية الدينية حاجزا يعزل ابناء الشعب الواحد ويقوقعهم على ذاتهم ويبث فيهم الكراهية مهما كان نوع هويته الدينية.
* لقد تناول مدرس الدين المسيحيي موقفه أنذاك من الشيوعيين، هل كان يتطرق أثناء تلك الدروس للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؟
لم يكن المعلمون يتطرقون لأي موضوع سياسي خاصة في الفترة التي نتحدث عنها. كان اصرار المعلم الذي فصت بسببه ، والذي لم أفهم دوافعه حتى اليوم ، ان لا نشترك بمظاهرة أول ايار. لا أتذكر التبريرات التي قدمها المعلم بدقة. ولكنها جاءت في فترة سياسية سوداء من تاريخنا .
ان شرح واقعنا في السنوات الأولى لقيام دولة اسرائيل يحتاج الى مداخلات طويلة جدا. لقد لعب جيل الطليعة الشيوعي المثقف دورا بالغ الأهمية والخطورة في اعادة بناء الشخصية القومية والثقافية لمن بقي في وطنه. وخاض ذلك الجيل عن طريق محامي الحزب يومها معارك قضائية للحصول على هويات لمن عادوا الى وطنهم تسللا ولمنع قذفهم خارج حدود اسرائيل، وفي مقابلات سابقة تحدثت باتساع عن هذا الموضوع (http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=158834)
ولكن ، وفيما بعد، نُقي جهاز التعليم من العناصر الوطنية والشيوعية وفرض على المعلمين حالة ضغط دائم وخوف وارهاب من التطرق لمواضيع سياسية. أذكر حادثة وقعت بيني وبين مدير مدرسة ابتدائية في تلك السنوات التي نتحدث عنها والتي خيّم الرعب فيها على جهاز التعليم العربي.
طلب معلم اللغة ان نكتب موضوعيا إنشائيا بمناسبة ذكرى استقلال اسرائيل وكيف أثر ذلك على تقدم العرب في الدولة ، يختار أفضل انشاء للقراءة أثناء احتفال المدرسة بعيد الاستقلال. فكتبت موضوعي وملأته بالحقائق عن مصادرة الأراضي العربية وسلخ الهوية وتشريد شعبنا وهدم القرى العربية وتنفيذ عمليات تصفية جسدية في الكثير من البلدات العربية، بالطبع رجعت في مصادري إلى أدبيات الحزب الشيوعي وذاكرة والدي ووالدتي، وقلمي المتمرس في الكتابة أضفى على الموضوع قوة تفجيرية.
دخل المعلم الصف وصرخ بوجهي " اذهب إلى المدير "، ولم أفهم دواعي ذلك وخصوصا واني كنت طالبا مجتهدا ولا اشاغب . كانت للمدير شخصية ستالينية فصرخ بوجهي بقوة، وفهمت ان موضوع الانشاء هو السبب .
شعرت بالرعب وهو يذكر تفاصيل ما ساواجهه من عقاب، وبأن المدرسة لا تقبل طلابا من نوعي، ثمّ طردني لأعود مع والدي .
وصلت منجرة والدي والخوف يأكلني وبصعوبة شرحت له الموضوع. لم أكن أتوقع ردة فعله الأولى، لقد شتم المدير وجهاز الدولة الذي يريد تجهيلنا فانتعشت، وفورا توجه للمدرسة وانا برفقته وهو غاضب من تصرف المدير.
بدأ المدير يتحدث عن الخطر الذي سأواجهه في المستقبل نتيجة للأفكار الهدامة التي أحملها، وما ساواجهه من مشاكل مع الدولة بسبب "الكلام الفاضي" الذي أملئ به رأسي.
واجه والدي الأمر بكلمات بسيطة قائلا: "ما كتبه نبيل هو الحقيقة، وطز في مستقبله إذا كنتم تعلمونه تزوير الحقائق"، عندها صرخ المدير في وجهي: "نبيل عد إلى الصف"!
لا أعرف سوى أن والدي والمدير تجادلا لمدة ساعة، ولا أذكر إذا أعادوا لي دفتر الإنشاء، وكل ما أذكره أن ثقتي بنفسي ازاددت يومها إلى حد الغرور.
من خلال تجربتك مع ابنك هل تؤمن بأن المؤسسات الدينية سواء كانت مسيحية أم إسلامية تستطيع أن تملئ الفراغ الذي يعيشه الشباب اليوم، وتستطيع بالتالي تحسين وضعهم المهني والمعايشي دون أي احتمال للتطرف؟!
يتعلق الأمر بطبيعة تلك المؤسسات وفكر القائمين عليها. لقد زرت بالصدفة قبل فترة
مكانا حيث تمارس الطريقة الشاذلية في قرية ترشيحاـ قطاع الجليل في فلسطين (اسرائيل)
استقبلتنا فتاة وراحت تشرح لنا جذور الطريقة الشاذلية، والتي تسمح للمرأة أن ترتدي ملابسا عصرية بدون قيود الفكر الماضوي الذي يرى في المرأة قنبلة جنسية متحركة. كانت تلك الفتاة تتحدث مع الرجال بطلاقة وذكاء ودون أي إحراج، بينما كان والدها منهمكا في شغله بجوارنا.
قلت لها: لو كنت متدينا وشعرت بحاجتي لأتبنى دينا سأختار الطريقة الشاذلية! أحترم في جوهر الطريقة الشاذلية كونها تنشر فكر المحبة والتعاون وتحترم حرية الإنسان في اختيار ملبسة ومأكله.
.................
* هل تستطيع أن تعمم تجربتك مع ابنك، أم مازلت تؤمن بأن المؤسسات العلمانية أكثر قدرة على استيعاب الجيل الجديد وتحسين وضعه؟
لو كان ابني يعيش في بيت آخر لصادف مشكلة من نوع آخر، ولكن تفهمنا لخطورة التطرف الديني ساعدني على أن أنشله من إمكانية السقوط فيه.
لا شك ان المسيحية شهدت حركات تصحيحية حررتها إلى حد ما من سيطرة رجال الدين وربطتها بالثورة الصناعية والعلمية ( انا ارى مثلا بحركة مارتن لوتر - اللوثرية - مرحلة الراسمالية في المسيحية )، كلنا نعرف كيف اعترفت مؤخرا الكنيسة الكاثوليكية بنظرية دارون، وقبلها بصحة نظرية كوبرنيكس وغاليلو، بينما اليهودية تحافظ على انغلاقها رغم ان اليهود بأكثريتهم علمانيين.
بالطبع اؤمن بإن المؤسسات العلمانية أكثر قدرة على استيعاب الشباب وحمايتهم من الغلو الديني، ثم تسليحهم بالعلم والمعرفة لشق طريقهم في الحياة .
* لقد ذكرت شيئا عن الطريقة الشاذلية؟ هل تقصد طائفة دينية؟ أرجوك أن تعطيني فكرة موسعة عنها، إذ لم يسبق وسمعت بها وربما نستطيع أن نضيف تلك المعلومات إلى حصاد القارئ؟
لم أكن أعرف الشاذلية قبل زيارتي المذكورة. سمعت عنها كإحدى الطرق الصوفيّة في الإسلام. أسسها أبو الحسن الشاذلي (من تونس) وينسبون أتباعه أنفسهم لعلي بن أبي طالب، ومن أبرز شخصياتها والمروجين لها أبو العباس المرسي من الأندلس ويعد خليفة لأبي الحسن الشاذلي. له مقام كبير ومسجد باسمه في الإسكندرية ـ مصر. لكل الفرق الصوفية نفس الأفكار والمعتقدات وإن كانت تختلف في اسلوب تلقين الأتباع وتربيتهم. من أهم الأفكار في عقيدتهم هي التركيز على المحبة وهي في تعريفهم :"إبحار القلب من أجل البحث عن المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام ".
للحبّ درجات في العقيدة الشاذليّة، وأعلى درجاته ما وصفته رابعة العدوية بقولها: "أحبك حبيّن، حب الهوى وحبا لأنك أهلا لذاك". تهدف الشاذلية لأن ترتقي بالنفس البشرية وتدعو إلى تزكية القلب والمشاعر وإلى الزهد في الدنيا والتركيز على العمل الصالح. تتواجد الشاذلية في مصر ومناطق أخرى من البلاد العربية، وأهم أماكن تواجدها هي في سوريا والمغرب وليبيا والسودان، وفي بعض المدن الفلسطينية مثل مدينة عكا وترشيحا وقرى أخرى.
..........
* من خلال الأسئلة والأجوبة شعرت بأنك تتجنب الغوص في موضوع الدين، أحترم حقك في ذلك، وسؤالي: هل مشاعري في محلها؟!!
أجل هذا صحيح، أتجنب الخوض في هذا الموضوع ليس لجهلي به، وإنما نتيجة الواقع الذي لا يستوعب الرأي الآخر ويرى في أي رأي إهانة لعقائده، ولا يقبل السعي من أجل تطوير الرؤية وتخليصها من الشوائب. ويرفض أن يربط الدين بعجلة التطور الحضاري للمجتمع . لا أحد يستطيع أن يخوض في موضوع الدين في مجتمع بات يتميز بتراجعه المدني والفكري، ولو عبرت عن آرائي حيال ذلك بمطلق الحرية سيفهون ذلك للأسف على أن تهجم على عقيدتهم. والطامة الكبرى إن هذا الأمر يصبح أسوأ مع الزمن، فالذي كان جائزا الخوض به قبل عقدين من السنين يعتبر اليوم منطقة محظورة ومزروعة بالألغام . وبما أنني لا أملك وسائل لتفكيك تلك الألغام لذلك أتجنب مناطقها.
..................
* لقد فهمت من كلامك بأن الثقافة الشيوعية قد تقلصت ولم يعد هناك اهتمام من قبل جيل الشباب الحالي بها، ألا يوجد منظمة شيوعية في المنطقة التي تعيش فيها؟ ما الذي أدى إلى اندثار المنظمة الشيوعية التي كانت على أيامكم؟
الذين جعلوا من الشيوعية دينا ونصوصا مقدسة ارتكبوا بذلك جريمة بحق ماركس ونظرياته الفلسفية والاقتصادية والتاريخية .
لا شيء مقدس في الفكر. ماركس طرح رؤية مبنية على واقع عايشه، واختلاف ذلك الواقع مع الزمن يفرض علينا تطوير الفكر الماركسي. ولكن الذي حدث هو جمود فكري بل وتراجع عن المبادئ الماركسية الحقيقية واستبدالها بالستالينية وديكتاتورية الزمرة الحزبية.
تأثرت بالماركسية ورأيت فيها في شبابي المبكر طريقا للخلاص السياسي والاجتماعي. كما وإن انفتاحي على الفكر الفلسفي المختلف ، وخاصة بعد قراءتي لكتاب "المجتمع المنفتح وأعدائه" لكارل بوبر ومداخلات انطونيو غرامشي ومفكرين شيوعيين غربيين ، ساهم في تغيير الكثير من مفاهيمي . لم أعترف بقدسية الفكر الشيوعي منذ بداياتي، وهذا ما منحني الكثير من الحرية في تطوير شخصيتي الفكرية بشكل عقلاني مستقل، استفدت من خلاله من مختلف الطروحات والاجتهادات .
هناك انهيار تنظيمي وأزمة فكرية وأزمة قيادات في الحركة الشيوعية العربية بما فيها الشيوعية داخل اسرائيل.
لقد انتهي الدور التاريخي العظيم للحزب الشيوعي، في اسرائيل مثلا ، بصعود قيادات هشة فكريّا تجهل جوهر الماركسية، وانحصر نشاطها بما يتعلق بمصالحها الذاتية ، وراحت تتصارع مع بعضها البعض متجاهلة صراعها مع القوى الفكرية الأخرى.
اليوم أقرأ وأسمع مداخلات وأدبيات لبعض بقايا المثقفين الشيوعيين تبدو وكأنها من القرن التاسع عشر، ويبقى السؤال: كيف يمكن لجيل الشباب أن تشدة نظرية البروليتاريا مثلا وهو يعيش مرحلة تاريخية تجاوزت هذه النظرية ؟!
لقد ارتكب ماركس نفسه خطأ لأن لم يلاحظ ان البروليتاريا كانت ظاهرة اوروبية بشكل مطلق ، ترتبط بحقائق اجتماعية وقانونية معينة تتعلق باوروبا ، ولم تتطور في الولايات المتحدة مثلا ، وأين هي في بلاد الرمال العربية التي لم تتطور رأسماليا واقتصاديا حتى اليوم؟ أين هي الحركات الشيوعية العربية اليوم؟ وأين هي برامجها التثقيفية والتي تهدف لتوعية الجيل الجديد والإهتمام بالثقافة الماركسية؟ لماذا لم تنجح هذه الحركة التاريخية صاحبة التاريخ المجيد في فهم المتغيرات التاريخية؟ ولماذا لم تطرح شعارات جديدة تتلائم مع الواقع الجديد ؟!
كيف يمكننا أن نفهم أن هناك ماركسيين لينينيين، علمانيين، وملحدين تحت فكر ملالي ايران في لبنان وغير لبنان؟!! هل العداء لإسرائيل هو المبرر الوحيد؟! وماذا بعد اسرائيل؟ ما هو الفكر الاجتماعي للملالي ؟ ما هو موقفهم من المرأة ؟ ما هي مفهومهم لحرية الإختلاف في الرأي، ماهو مفهومهم للعلمانية والعلمية في المجتمع؟!!
وكيف يمكن تبرير سياسة المليشيات الحزبية المسلحة التي تفرض قانونها على الدولة والمجتمع؟!!
لم يبق من الماركسية إلا القشور، وتلك القشور لا تكفي لبناء فكر منظم، ولذلك نشهد تطور مقاهي الأرجيلة، ظهور العنف وانتشار الأصولية الدينية، الأمر الذي أدى إلى تفكك خطير في اسس المجتمع المدني، وتنامي هجرة الفئات الاجتماعية الليبرالية، والعودة الى العائلية السياسية والطائفية السياسية مع غياب الحركات السياسية ( الأحزاب ) كمنظمات للمجتمع المدني ، وتحولها الى مجرد قوائم انتخابية غايتها إيصال أعضاء إلى الكنيست ( برلمان اسرائيل )، حيث يستفيدون من منافع المنصب كراتب عالي، وسيارة وتلفون ومكتب وخدمات متنوعة ومساعدين ومنافع أخرى، ويسهل لهم الأمر التواصل مع الأنظمة العربية الفاسدة الأخرى.
...................
* عندما تتكلم عن الحركات الشيوعية في اسرائيل، هل تقصد الحركات الشيوعية العربية فقط؟ هل هناك حركات شيوعية اسرائيلية، أقصد يهودية؟
قبل النكبة كان يوجد في فلسطين حزبان شيوعيان، يهودي وعربي. أما، ومنذ 1948، فالحزب موحّد ويضم أعضاء يهود وعرب، ويرزح تحت سيطرة أعضائه العرب، فعدد الأعضاء اليهود يتقلص باستمرار ولا يحصلون من الشارع اليهودي على أصوات كافية لدرجة إنه يعتبر اليوم من قبل الأكثرية حزبا عربيا بحت، رغم أن الحزب في أصوله يقوم على نظرية الأممية، ولكن شتان ما بين النظرية والواقع.
هناك نائب شيوعي يهودي للحزب في الكنيست هو الدكتور دوف حنين وأعتقد انه أفضل الأعضاء من حيث مواقفه ونشاطه البرلماني والشعبي.
....................
* كلامك عن الماركسيين العرب داخل اسرائيل لا يختلف عمّا ينطبق على الماركسيين السوريين الذين ما إن استلموا منصبا في قيادة البعث حتى صاروا أسوأ من البعثيين أنفسهم، كيف تفسر ذلك؟!!
أتابع الواقع العربي بكل تفاصيله، ويهمني واقع سوريا بالطبع . أعتقد ان الشيوعي الحقيقي الذي يستحق الإنحناء احتراما له ولصلابته هو الرفيق رياض ترك. تسحرني مداخلاته وجرأته في نقد الواقع السوري، بينما حزب زوجة خالد بكداش تحول الى مرتع اشبه بحارة " كل مين ايدو الو ". تعرفت على السيد بكداش في موسكو بين 1968 – 1970 واستمعت منه لعدة محاضرات، ومن وقتها سقط ذلك الستاليني المتعجرف من حسابي. لقد وجهت له سؤالا بسيطا عن موقف الحركة الشيوعية العربية من القوى اليسارية والدمقراطية والشيوعية داخل اسرائيل، وإن كان بالإمكان تنسيق النشاط معها ضد الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية، فرد بشراسة لم أكن أتوقعها متهما إياي بالوقاحة والاستفزاز!
بنفس الفترة تعرفت على شيوعي آخر صار فيما بعد زعيما للشيوعي اللبناني هو المرحوم جورج حاوي، لقد سحرني بشخصيته وفهمه العميق للماركسية ، وليس سرا انه ترك قيادة الحزب ليقود المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الإحتلال الإسرائيلي. لكن للأسف قمع الاحتلال السوري للبنان هذه الحركة وعلى حسابها دعم حزب الله بعد ان زرع الشقاق بينه وبين حركة أمل، مستبدلا بذلك المقاومة الوطنية بالمقاومة الإسلامية!
..............
* هل ـ ورغم انهيار الإتحاد السوفياتي ـ مازلت تؤمن بأفكارك الشيوعية؟ ألم تثبت تلك الأفكار فشلها؟
إذا لم تستطع الأفكار أن تخلق إنسانا شريفا، ألا يعني هذا إنها فشلت؟ هل تتوقع أن تتحول الشيوعية إلى تحفة في متاحف التاريخ؟
أقدّم نفسي اليوم كوطني ديمقراطي ليبرالي ، ورغم أن الماركسية شكلت بالنسبة لي مدخلا لفهم الحياة وللتعمق في الفلسفة لا أستطيع ان أعتبر نفسي ماركسيا. لقد تأثرت بالكثير من طروحاتها خاصة فيما يتعلق بقضية الحرية والمساوة والعدالة الاجتماعية، وهو ما لم تطبقة الماركسية حيث وصلت للسلطة، ولكني ابتعدت عن مفهومها الفكري الطبقي الذي المبني على الصراع التناحري بين الطبقات، وابتعدت أكثر عن مفاهيم الحتمية التاريخية ونظرية البروليتاريا، وما زلت أرى بالديالكتيك الماركسي ونظرية المعرفة الماركسية، جوهر انجازات ماركس .
طبعا الموضوع طويل وقد يسبب اختصاره بعض الإشكاليات.
..................
* هل تعتبر فشل الشيوعية في تربية أجيال تفكر بحرية بعيدا عن التلقين الإجتراري قد ساهم في فشل المشروع الشيوعي عالميا ومحليا؟
سؤلت مرة: لماذا تركت الفكر الشيوعي رغم إيمانك الكبير بمنجزات الحركة الشيوعية؟ فأجبت بشكل عفوي وفوري: من الصعب أن لا يسحر الفكر الشيوعي المثقف في شبابه المبكر، ففي ذلك السن اليافع يكون الإنسان ثوريا يحلم بتغيير مجتمعه نحو الأفضل والقضاء على كل أنواع الإستغلال واحترام حقوق المرأة والحث على روح الإبداع. ولكن عندما يبلغ ذلك الشاب سن الأربعين ينظر وراءه فلا يرى شيئا مما حلم به قد تحقق، ويكتشف بأن الفكر الشيوعي لم يختلف كثيرا عن الفكر الديني في وعوده وفشله في تحقيق تلك الوعود.
لقد كان في مجمله فكرا يقدس النص ويمارس ديكتاتورية المقدس، ويقمع كل مبادرة إبداعية. لقد تحولت القيادات الشيوعية إلى طغيان بالمطلق، وراحت تدعي بأنها معصومة عن الخطأ وعلى الجميع أن يتعاملوا معها على هذا الأساس، كي يبرروا كل تجاوزاتهم الشخصية.
لقد حاولت تلك القيادات أن تخضع كل قطر لقرارات الإتحاد السوفياتي دون أن تأخذ بعين الإعتبار الظروف الإجتماعية والتاريخية لذلك القطر.
ما زلت أذكر كيف كنا نمزح بقولنا "إذا أمطرت في موسكو نفتح الشماسي في الناصرة". أما الحرية فلقد صارت ضربا من المستحيل تحت وطأة تلك القيادات، فالصحافة تخضع لرقابة صارمة وعلم الإدارة انحصر في المفهوم الحزبي المتزمت بعيدا عن مفهومه العلمي والمهني مما خلق بؤرا للفساد أدت إلى دمار الإقتصاد لاحقا. صار الإنتماء للحزب ينحصر في ولائك المطلق للمدير- الزعيم وقرارته الخارجة عن القانون. صارت الدولة هي الحزب، وصار الكل في خدمة الحزب، الأمر الذي لم يختلف كثيرا عن الفكر الكنسي الذي يشمل "المقدس ومنع نقده". فلقد تحول القائد في الحزب الشيوعي إلى بقرة مقدسة، والويل لم يعترض طريقها.
انتقدوا الستالينية وظلوا يطبقونها من خلال نهجهم. لقد انتقل فن عبادة الشخصية إلى العالم العربي. وظاهرة خالد بكداش هي مثل حي لذلك التطبيق، فلقد اعتبر نفسه إله الحزب وفوق كل قانون وعندما اعترضت عليه أكثرية أعضاء المكتب السياسي (تيار رياض الترك) لم يغير موقفه بل ازداد عنوة واصرارا، وعندما مات ورثت الحزب زوجته وابنه.
لقد فشل الحزب الشيوعي فشلا ذريعا في تحقيق الشعارات التي نادى بها. هناك أحزاب صهيونية أوصلت عضوتين عربيتين إلى الكنيست الإسرائيلي، بينما، ورغم كل شعارات الحزب الشيوعي الطنانة التي تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، امتنعوا عن تحقيق ذلك في توزيع المناصب القيادية وايصال امرأة عربية الى الكنيست .
والإنسان العاقل والناضج لا يمكن أن يتبع حزبا لا يلتزم بشعاراته ولا يسعى لتحقيق وعوده.
ومع هذا أعترف، بأنني ومن خلال معارك سياسية لإنتخابات بلدية الناصرة ، دعمت قائمة الحزب الشيوعي، وكان ذلك من منطلق رفضي لوصول وسيطرة الحركة الإسلامية على مدينتي ، وفي محاولة للحفاظ على مدينتي الناصرة مدينة حضارية ذات مجتمع مدني لا يؤمن بالقبلية والطائفية ولا يتبنى مبادئهما المدمرة.
..............
* دائما يتكلم المثقفون الماركسيون ويستخدمون تعابير مفترضين أن على الغير أن يفهم ما يقصدون، ماذا تقصد بالبروليتاريا؟ أرجوك أعط القارئ بعض التوضيح!
عندما تأسست عصبة الشيوعيين الأولى في العالم ( 1848 ) كتب مؤسسي الفكر الماركسي كارل ماركس وزميله فريدريك انجلز بيانا للعصبة اشتهر باسم (البيان الشيوعي)، جاء في مقدمته : ـهناك شبح يجول في اوروبا هو شبح الشيوعية، وقد اتحدت كل اوروبا العجوز في حلف غير مقدس لملاحقته والتضييق عليه ـ
ثمّ يقولان في مكان آخر : " إنّ الذي يميز عصرنا الحاضر،عصر البرجوازية، هو انه جعل التناحر الطبقي أكثر بساطة، فالمجتمع آخذ في الانقسام الى معسكرين متعارضين ، الهوة بينهما واسعة والعداء مباشر وشديد. هذان المعسكران هما البرجوازية والبروليتاريا"
اذن حسب المفهوم الماركسي الشيوعي : المجتمع البشري مشكل من الطبقة البرجوازية الراسمالية وطبقة البروليتاريا ، أي طبقة العمال والشغيلة التي تبيع قوة عملها . ثم يختمان بيانهما بالكلمات الثورية التالية :" فلترتعش الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعية ، فليس للبروليتاريا ما تخسره فيها سوى قيودها وأغلالها ، وستربح عندها عالما بأسره – ياعمال العالم اتحدوا "
من منطلق رؤيتي للأمور، أعتقد بان ماركس قد بالغ في رؤيته، وفاته ان ظاهرة البروليتاريا كانت في أصلها ظاهرة اوروبية بحتة، وذلك بسبب قوانين أقرتها الدول التي بدأت تتطور رأسماليا في اوروبا وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا ( فيما يتعلق بالأراضي جردت الفلاحين من المراعي والمزارع وحولتهم الى معدمين لا يملكون غير قوة عملهم) فلقد سيطرت تلك الدول على الأراضي بسبب حاجتها الملحة لقيام المصانع عليها ، الأمر الذي أدى لاحقا إلى تشكيل الطبقة العمالية – البروليتاريا .
هذه الظاهرة لم تنشأ مثلا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تظهر في بلاد الرمال العربية وفي الدول الأفريقية وغيرها من الدول النامية حيث الزراعة والصناعة متخلفتان ايضا !
السبب وراء تلك الظاهرة ليس الفقر فقط ، انما العزل الاجتماعي لمجموعات سكانية تشكل ظاهرة اجتماعية طبقية، وتشكل الصناعة قوة ناهضة. اليوم القوانين لا تسمح لأحد بمصادرة الأرض وتشريد ملايين المواطنين وتحويلهم الى مسحوقين، كما وإن الصناعة تختلف بوسائلها واحتياجاتها البشرية عما كانت عليه في السابق ، اليوم تحتاج الى مهندسين وتكنوقراطيين وخبراء كومبيوتر وتكنلوجيات عالية الدقة ، فهل يمكن وضع هذه الفئات ضمن مفهوم البروليتايا أو حتى الطبقة العاملة، فهل يستطيع أحد أن يتوقع بأنهم سيشكلون قوة صدامية انتحارية ضد البرجوازية؟!!
على اساس الفكرة الطبقية القديمة نشأت الأحزاب كمدافع عن مصالح تلك الطبقات، ولذلك نستطيع أن نقول بأن فكر الأحزاب يواجه انحسارا كبيرا مقابل انتشار فكر المجتمع المدني، ولكنه موضوع آخر !!
........................
لنعد إلى حياتك الشخصية:
* من أنت ببضع كلمات؟
ـ مجموعة من التناقضات والصراعات التي لا تنتهي، متزن في تفكيري وحاد في قلمي.
............
* كيف تستطيع أن تجمع بين تلك المتناقضات وتظل متزنا؟
التناقضات لا تدل بالضرورة على أن الإنسان متشتت في تفكيره أو منقسم على ذاته، بل أعتقد بأن العكس هو الصحيح، فكلما شكل الانسان رؤية لموضوع ما عليه أن يستمر في بحثه عما ق ينقض تلك الرؤية الأمر الذي يجعله في تجدد مستمر مواكبا حركة التغيير المستمرة.
لا أتمسك برأي ثابت بل أظل منفتحا لتغيير ذلك الرأي عندما يثبت الواقع ما ينفيه ، وهذا ما كتبته في مقدمة كتاب لي "بين نقد الفكر ونقد النقد".
عندما يستطيع الإنسان أن يجدد رأيه وموقفه من الحياة يثبت بأنه يتميز بالمرونة اللازمة من أجل حياة متطورة.
لقد اتهمني بعض صغار العقول بأنني أتذبذب في مواقفي دون أن يأخذوا بعين الإعتبار الفجوة التاريخية التي تفصل بين الأزمنة التي اتخذت بها مواقف معينة . في الأمس كنت شوعيا، واليوم لا أنتمي لذلك الفكر. هل هذا يدل على أنني متناقض في مواقفي؟ طبعا لا! فالمتغير هو الثابت والحياة في تحول مستمر، فقط الميت لا تتغير حاله .
.........
* يبدو أنك ليبرالي ومتحرر من كافة القيود التي فرضها الدين، على ضوء فهمنا هذا، كيف تعرفت على زوجتك؟ وما هي الصفات التي لفتت جذبتك إليها؟
ـ تعرفت على زوجتي في عرس في الناصرة، لفتت انتباهي بحيويتها وكان الأمر نظرة فابتسامة فسلام فكلام. هي من مدينة الرملة التي تبعد 130 كيلومتر عن مدينتي. لغتها الأم العبرانية، فمدارس الرملة العربية متدنية المستوى وهذه مشكلة يعاني منها العرب في اللد والرملة ويافا. ولذلك ثقافتها عبرية ومستواها ممتاز. حتى اليوم لا تقرأ أعمالي فكل قراءاتها تتم باللغة العبرية.
* يقال أن الرجل يبحث في زوجته عن أمه، هل هناك أوجه شبه بين السيدة زوجتك والسيدة أمك؟!
ـ لا يوجد شبه إطلاقا، زوجتي وأمي ينتميان إلى عالمين مختلفين.
.....
* هل هذا يفسر لماذا أنت، وعلى حد قولك، رجل متناقضات؟
يجب فهم هذا القول بناء على معناه الفلسفي وليس اللغوي. عندما يتطور الإنسان من خلال تجاربه يواجه تناقضات كثيرة بين القديم والجديد...بين الثابت والمتغير، ولا يوجد جانب بدون الآخر إلا في الفكر الديني الذي يؤمن بـ "الحقائق المطلقة".
هذا الموضوع شائك وطويل ولا أستطيع أن أفيه حقه في مقابلة. إن صراع المتناقضات هو جذر التطور على الصعيد الشخصي والإجتماعي والإنساني العام. كذلك فالعلوم لا تتطور إلا عبر نقدها ونقضها، وكما يقول هيغل: "اللقاء بين علمين يولد علما جديدا".
في بحث كنت قد كتبته حول "جوهر حرية الرأي"، رأيت أن المجتمع الاوروبي ومنذ عصر النهضة قد رفع من مكانة الإنسان على حساب مفهوم "الفكر المقدس"، خاصة في مجال الآداب والفنون والموسيقى مما أحدث تطورا ثوريا حطم كل المسلمات القديمة التي بدأت تتناقض مع النهضة الإجتماعية والإقتصادية والعلمية.
لقد تميزت تلك المرحلة بالعقلانية، بينما ظلت المجتمعات المنغلقة تعتبر الإنسان أداة لخدمة "المقدس"، بدءا من عبادة الفرد في الأنظمة الديكتاتورية والفاشية ووصولا إلى الطاعة العمياء في المجتمعات الدينية
...................
* هل تتحدث إلى زوجتك في مواضيع سياسية تهمك، هل هناك حوار دائم بينك وبينها بمعدل يومي؟
ـ بالطبع، نحن نعيش في مجتمع مسيس، والسياسة هي خبزه اليومي. نناقش ما نقرأه ولذلك ترجح الكفة لصالح زوجتي فهي تقرأ بالعبرية واسرائيل تطبع من الكتب الرائعة باللغةالعبرية أكثر بكثير مما يطبعه العالم العربي باللغة العربية.
أطلع على ماجاء في تلك الكتب من خلال قراءة زوجتي لها، اضرب مثلا كتاب الإيرانية آذار نفيسي (لنقرأ لوليتا في طهران) ورواية الأفغاني خالد حسين (مطارد الطائرات الورقية) ورواية ارتور غولدن (مذكرات غيشة) وغيرها. هذا بالإضافة إلى تناولنا لقضايانا اليومية الشخصية بما فيها قضايا الأولاد والأحفاد.
........
* أجبني بصدق، ولا أتوقع غير ذلك، هل تقول لزوجتك بين الحين والآخر "أحبك"، هل تمسك يدها، هل تقبلها؟!
ـ بعد أربعة عقود من الزواج لا أستطيع أن أرى نفسي في تلك الحالة.
..............
* مادفعني إلى هذا السؤال هو رؤيتي للرجل الأمريكي وبعد عقود من الزواج يمسك بيده زوجته العجوز وينظر في عينيها كعاشق ولهان. هل تقول أن السبب هو أختلاف ثقافي؟
من الصعب أن أفهم عقلية لم أعشها. يمكن التعبير عن الحب بطرق عديدة، ربما تأثير هوليود السنمائي بات يفرض أخلاقيات سينمائية لا أستطيع فهمها وما يختبئ ورائها. فالأخلاق تكون حسب الواقع الإجتماعي المعاش وهي ليست نصوص مقدسة صالحة من المهد إلى اللحد.
.............
* هذا صحيح، ولكن عبارات الإطراء تغذي الروح وتسمو بها والإنسان امرأة أم رجلا بحاجةاليها بين الحين والآخر، فلماذا لا نتعلم ذلك في العالم العربي؟
بلا شك، فمجتمعنا الشرقي يبالغ في شوفينيته الرجولية، وعندما نغير العقلية السائدة سنساهم في تطوير الوعي العام وبالتالي تحديث كلي للمجتمع.
...............
* هل مازلت ترى فيها معالم الجمال التي شدتك إليها عندما رأيتها للمرة الأولى؟
هناك ما يتبلور أكثر ويصبح مع الزمن أكثر أهمية. ما كان هاما في البداية يصبح عاديا فيما بعد. لقد تشاركنا في تربية الأولاد، ولم يكن سيحدث ذلك لو لم نكن متفاهمين ومتفقين. وأعتقد أن هذا ما يميز العلاقة بين الزوجين.
* قلت لي في جواب سابق بأن والدك قد رباك لتكون مستقيما في مجتمع لا يحترم المستقيمين، لو يرجع الزمن إلى الوراء وتستطيع أن تنصح السيد والدك هل ستنصحه بأن يزودك بصفات تنجع أكثر مع مجتمع كهذا؟
هذا يقع في باب "لو". أنا غير نادم على الطريقة التي نشأت عليها وعلى الرعاية الثقافية التي اُحطت بها في عمر صغير نسبيا. لا أستطيع أن أتخيل نفسي شخصا آخر يحمل ثقافة تختلف وفكرا سياسيا يختلف. بالطبع لا أعتقد بأنني حققت كل طموحاتي، وهذا لا يعود إلى الطريقة التي رباني بها والدي، وإنما لواقع اجتماعي وسياسي فرض نفسه على أبناء جيلي. فلقد كان عليهم أن يكبروا قبل أوانهم ويكونوا رجالا وهم أطفال. لقد شاركت بأول انتفاضة داخل اسرائيل في يوم أول أيار 1958 عندما هاجمت الشرطة الإسرائيلية مظاهرة اول أيار واشتبكت مع المتظاهرين العرب لمدة يوم كامل م أسفر عن اعتقال 400 شخص. كنت وأقراني في ذلك العمر نقلع الأحجار التي رصفت بعض شوارع الناصرة من أيام الإحتلال العثماني ونقدمها للشباب كي يرجموا بها عناصر الشرطة. لا شك أن مفاهيمي التربوية قد تطورت من خلال تجاربي الشخصية وساهمت في تشكيل شخصيتي اليوم.
.........
* هل ترددت يوما في أن تربي أولادك لأن يكونوا مستقيمين؟
أعتقد إن الإنسان يكتسب تربيته ليس فقط من جوه العائلي وإنما أيضا من المدرسة والشارع. لا أعتقد بأن التربية يجب أن تتم بشكل ديكتاتوري يفرض نفسه. فلقد فشلت كل الأساليب التربوية التي اتبعتها المنظومة الشيوعية والتي عُرفت باسم "الأخلاق الشيوعية". فلقد كانت تلك التربية عبارة عن عملية غسيل دماغ للإنسان بحيث يصبح كالببغاء يكرر فقط ما يسمع بدون فهم أو استيعاب، تماما كما يتم تلقين الفكر الديني.
..........
* يقال أن الرجل يشعر بتقدمه في السن عندما ينظر في المرآة ويرى والده، هل بدأت ترى السيد والدك عندما تنظر في المرآة، أم إن العمر بالنسبة لك مجرد عدد سنوات؟
ـ ممارستي للنشاط الفكري بلا توقف تساعدني على أن أشعر دوما بأنني ممتلئ بالحيوية ومازلت شابا. لا أشعر إطلاقا بأنني أتقدم في السن، خاصة وإن صحتي جيدة ولا أعاني من مشاكل صحية باستثناء إصابة عمل في كتفي ورقبتي لا تسبب أية إعاقة ولا تحدد حركتي ونشاطي. لقد تعرضت لتلك الإصابة عندما كنت أعمل مديرا للإنتاج في إحدى الشركات في مجال الصناعة المعدنية والتي تقاعدت منها في عام 2000 وتفرغت للعمل الصحافي الذي كان حلمي منذ بداياتي. يتفاجئ المقربون مني عندما أقول كنت حدادا ومديرا لأنهم يعرفونني كاتبا وصحفيا. في عام 1973 أختلفت مع قيادة الحزب الشيوعي فقدمت استقالتي من الاحتراف الحزبي ، واتجهت إلى العمل المهني، وكنت يومها منفتح الذهن وقابلا للتطور وهذا ما ساعدني على أن أرتقي إلى مناصب إدارية بسرعة غير عادية.
............
* ما هي الحكمة التي اكتسبتها مع العمر وتتمنى لو كنت تدركها في سنوات شبابك؟
ـ تفكير الإنسان يتطور مع أختلاف تجاربه، أنا غير نادم على مسيرة حياتي إلا لأمر واحد وهو إنني لم أتمم دراسة الهندسة الميكانيكية التي بدأتها في المعهد التكنولوجي في حيفا فلقد تركتها وتوجهت لدراسة الفلسفة والإقتصاد السياسي في موسكو. لو فعلت ذلك لضمنت مستقبلا أفضل من الناحية المادية.
...........
* كان لدينا في سوريا شبه قناعة بأن خريحي الإتحاد السوفياتي ومنظومته يومها هم أناس فاشلون ولم يكتسبوا تحصيلا علميا على الإطلاق، بل منحوا شهادات مزورة وليست حقيقية مقابل رشاوي كانت تدفع للجامعات هناك؟
إلى أي مدى تؤمن بتلك القناعة؟ هل كان حاملو هذه الشهادات داخل اسرائيل يخضون لإمتحانات أخرى ليعاد تقييمهم؟
ضمن مسؤوليتي الحزبية أرسلت عشرات الطلاب للدول الإشتراكية، وأعرف المئات الذين درسوا هناك، وأكثريتهم يتبوأوا اليوم مراكز مهمة، وخاصة في مجال الطب.
يتعلق الأمر بالقدرة الشخصية على التحصيل والمستوى العلمي للبلد الذي جاء منه الطالب، فمثلا جامعة باتريس لومومبا للصداقة بين الشعوب كانت قد خصصت مقاعد دراسية للبلاد النامية ضعيفة التطور بما فيمها العالم العربي، بينما هناك طلاب درسوا في جامعات معروفة في لينينغراد (بطرسبورغ اليوم) وخاركوف وغيرها.
إذن يتوقف الأمر على الجامعة، ولا أنفي وجود فساد في بعض الجامعات.
نعم في اسرائيل يتعرض هؤلاء الطلاب لفحوصات قبل السماح لهم بممارسة مهنهم وللتأكد من مستوى تحصيلهم العلمي.
في اسرائيل كل شيء يخضع لمراقبة صارمة بما فيها الدولة نفسها. لقد نشرت، وفي صحيفة كنت أحررها، مقالا لكاتب سوري في المنفى يتحدث فيه عن الفساد في التعليم الجامعي وانحطاط مستواه العلمي وبأن لكل استاذ جامعي تسعيرة خاصة به كي يمنح النجاح لطلابه، هذا مخيف ويساهم في دمار أي بلد.
ولذلك مازالت الفجوة كبيرة بين الواقع داخل اسرائيل وبين أي بلد عربي آخر، والسبب يعود في مجمله إلى انحدار مستوى التعليم في العالم العربي.
لقد بلغت التكنولوجيا الدقيقة ( الهايتك ) 80% من صادرات اسرائيل بينما يكتفي العالم العربي بهرطقات زغلول النجار "العلمية".
* هل تعتبر نفسك زوجا سعيدا؟ هل تعتبر نفسك والدا ناجحا؟
ـ نعم لقد نجحت بإيصال أولادي الأربعة (ثلاث بنات وولد) إلى المستوى الجامعي. ابنتي أنهت المعهد الموسيقى في القدس كعازفة بيانو، ومازالت تتابع تحصيلها العالي في علم الموسيقى. الثانية أنهت دراستها في معهد للفنون والأزياء وحصلت على الدرجة العلمية الأولى. الثالثة ونظرا لمواهبها كان يمكن أن تكون مغنية أوبرا، ولكنها اتجهت لدراسة التعليم الخاص، وتواصل للدرجة العلمية الثانية للإختصاص في مجال العلاج بالموسيقى والمسرح. بناتي الثلاث متزوجات ولهن أولاد. أما ابني فلقد اختص في مجال "التأهيل الطبي" ويشمل فيزوترابيا ومساجات من مختلف الأنواع، متزوج من روسية ولي منه حفيد واحد. ساعده إختصاصه وزواجه على الإبتعاد عن التأثيرات الدينية.
أعتقد بأن أي أب ينجز ما أنجزته من خلال تربيتي لأولادي لا بد وأن يشعر بسعادة نفسية كبيرة.
..........
* ما سرّ أن ينجح الرجل في زواجه، وكيف ينجج في ابوته؟
ـ الإخلاص للبيت ومعاملة الزوجة كشريكة كاملة الحقوق ومتساوية مع الرجل في اتخاذ القرار يساعد على النجاح. على الوالد، ولكي ينجح في دوره، أن لا يحرم أولاده من أية فرصة تساعد على تقدمهم في الحياة ولو كان الأمر على حساب راحته ورغباته الشخصية، حتى ولو أدى إلى حرمانه من إنجاز مشاريعه الخاصة. حتى تاريخ اليوم، أعطي لإحتياجات أولادي وأحفادي الأسبقية.
............
* لنفرض جدلا أن أحد أولادك قد اختار شريكا لم يعجبك على الإطلاق، كيف تتصرف؟!
ـ لا بد وأن تترك التربية المنزلية التي تؤمن بالحوار الحر تأثيرها على قرارات الأولاد في المستقبل.
عندما يتربى الأولاد على أن يتحملوا مسؤولية قراراتهم، سيتخذون تلك القرارات بتأن كبير.
ابنتي الكبيرة عاشت خمس سنوات في القدس أثناء دراستها لوحدها وبعيدا عن عائلتها. لم أرسل معها شرطيا كي يراقب كيف تتنفس، لقد وضعت ثقتي بها وأثبتت فيما بعد أنها أهلا لتلك الثقة. لقد اختارت شريك حياتها، وهو اليوم محام ناجح جدا، بمحض ارادتها، ولا أظن أنه كان بإمكانها أن تختار أفضل منه.
لم يختلف الأمر مع أولادي الآخرين فابني اختار زوجته وهي سيدة روسيّة رائعة وحاصلة على شهادة الدكتوراه في الإقتصاد الدولي، وتعاني اليوم من مشكلة التجنيس في الدولة العبرية.
..........
* مرحلة السن التي أنت فيها الآن ما يميزها نفسيا، وبناء على علم النفس، إن الإنسان فيها ينظر إلى الوراء ويقيم حياته وإنجازاته، هل تفعل ذلك وهل أنت سعيد بما أنجزته خلال تلك السنين؟
ـ يقلقني التقدم في السن، الإستمرار في العطاء الثقافي يشعرني بالراحة. أنا اشعر أنني مازلت في أوج عطائي الثقافي وقادر على الإستمرار حتى إشعار آخر. لقد أنتجت خمس وعشرين قصة ذات مدلول فلسفي في أقل من اسبوعين. للأسف معظم القراء تناولوا الجانب الجنسي مما نشرته منها متجاهلين المغزى الإجتماعي والفلسفي. طبعا أنظر إلى الوراء وأقيم إنجازاتي، وأنا سعيد جدا بتلك الإنجازات على الصعيد المهني والثقافي.
.........
* لقد سمعت بأنك تنشر بأسماء مستعارة، هل هذا صحيح ولماذا تفعل ذلك؟
نعم أنشر بأسماء مستعارة، وأنا مضطر لفعل ذلك طالما أعيش في مجتمع تحكمه العائلية والطائفية.. مجتمع يعتبر التطرق إلى معظم المواضيع من المحرمات الأمر الذي قد يكلف الكاتب حياته.
.
نعم أنشر باسماء مستعارة عندما أخوض في بعض المواضيع المحرمة، وقد أنقذني هذا من الكثير من المشاكل. لقد لجأت إلى ذلك بعد أن تلقيت الكثير من رسائل التهديد ولم تستطع الشرطة أن تحميني، حتى الحزب الشيوعي الذي قضيت معظم حياتي مدافعا عنه لم يكلف المسؤولون عنه أنفسهم بالإتصال بي والإطمئنان علي. والنكتة أنني نشرت شعرا باسم مستعار وأنا لا ألم بقواعد الشعر ولا حتى أهتم كثيرا بقواعد اللغة العربية. أعتمد على سمعي للغة ونشرت "القصائد " كي أمتحن المستوى الثقافي للمحررين والناشرين.
* ماهو الشيء الذي فعلته وتندم على فعله؟ وما هو الشيء الذي لم تفعله وتندم لأنك لم تفعل ذلك؟
لم أفعل ما أندم عليه، ربما لأنني استخدمت عقلي ولم أعتمد على مشاعري. أندم على أمر واحد، وهو أنني لم أهاجر إلى الولايات الأمريكية أو دولة أوروبية قبل 20ـ30 سنة، وكان الأمر بمنتهى السهولة يومها. فواقع مجتمعاتنا العربية ينحدر يوما بعد يوم ولا أستطيع أن أرى ضوءا في نهاية النفق. لقد اشتد الظلام حلكة والإعتداءات على المسيحيين العرب داخل اسرائيل أيضا أمرأ لم يعد يطاق رغم حماية القانون لنا. أتطلع إلى مجتمع يحمي أفراده بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية ويلفظ الشواذ، وهذا لا يمكن تحقيقه هنا لا في المدى المنظور ولا في المدى البعيد.
........
* هل يفكر أولادك اليوم بالهجرة؟
دائما الفكرة موجودة ومطروحة للبحث. ولم أعد متزمتا للوقوف ضد تلك الفكرة كما كنت في شبابي.
إن واقع المسيحيين في الشرق بات مقلقا. ولا داعي للإستعراض هنا فلقد نشرت مقالات كثيرة عن ذلك الواقع.
يزداد عدد المهاجرين من المسيحيين عاما بعد عام، وهذا يدل على غياب المجتمع المدني الحضاري من المجتمعات العربية. لا أحد يستطيع أن ينكر دور المسيحيين الثقافي والحضاري في العالم العربي، فالأدباء المسيحيين هم من حمى اللغة العربية وأنقذوها من "التتريك"، وأدباء الهجر المسيحيين حافظوا على لغتهم العربية من الإندثار في الغربة. لقد سبق وحذر الكاتب محمد حسنين هيكل من مخطط تهجير المسيحيين من الشرق الأوسط، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارتهم كقوة اقتصادية وثقافية تلعب دورا في تحسين المجتممع. ألا يعطينا واقع المسيحيين في مصر والعراق فكرة عن مدى الظلم الذي يلاقونه؟ فتصليح كنيسة في مصر يحتاج إلى قرار من رئاسة الجمهورية، ناهيك عن بناء كنيسة. عدم حماية المسيحيين والتنكيل بهم يعتبر جريمة من الدولة وليس من الأشخاص فقط. والأمر هنا لا ينطبق على المسيحيين فقط وإنما على جميع الأقليات الدينية والإثنية، كالشيعة في مصر والسعودية والسنة في إيران، والصراع السني ـ الشيعي في العراق، ومشكلة الأكراد في سوريا وتركيا والعراق وايران، والأمازيغ في المغرب العربي، والبهائيين والصائبة وغيرهم.
داخل اسرائيل حدثت اعتداءات على المسيحيين، بعد أن امتدت نار الطائفية من الأقطار العربية إلى فلسطين، وبعد فقدان الأحزاب لدورها الأساسي كمنظمات تحمي المجتمع المدني.
وقع اعتداء على مسيحي الناصرة، وفي الرامة وفي ابوسنان وكفرياسيف والمغار وأخيرا كان اعتداء في شفاعمرو، ولا أعتقد بأنه سيكون الأخير.
السلطة لا تعلب دورا في ضبط الأمر، وما يقلقني غياب دور المثقفين، أو وصفهم لما يحدث بمجرد "طوشة" متجاهلين أن هذه الطوشة قد أدت إلى حرق بيوت ومحلات ونهبها وحرق سيارات وتعريض حياة الكثيرين إلى الخطر، ودائما يحاولون أن يحلوا الأمر عن طريق رؤساء العشائر في محاولة للتحضير لإعتداء آخر.
ولو كان الإعتداء من شخص عربي على يهودي لقامت الدنيا ولم تقعد ولرأينا الحكومة والشرطة في حملة غير عادية لقمع العرب.
فلماذا يصمتون حيال اعتداء منظمة على أقلية؟ ولماذا تصاب الأحزاب والجمعيات الأهلية العربية بالخرس والطرش والعمى وتكتفي بتبريرات مخجلة لأي انسان صاحب عقل. نحتاج إلى طرح تلك القضايا والتحذير من خطورتها على مجتمعاتها بلا خوف، فالفكر الوهابي الأصولي يزحف على العالم العربي برمته وليس فقط على العرب داخل اسرائيل.
لا بد وأن نخاف على أجيالنا القادمة من الحياة في مجتمع كهذا لا يحترم إنسانه ولا يبالي بأقلياته
...............
* بعد عمر طويل، ماذا تريد أن يكتب الناس على شاهدة قبرك لو اضطروا أن يكتبوا عبارة ما؟
ـ " لا تصدقوا أني ميت "!
.........
أجمل جواب قرأته في حياتي......
* هل أفهم من كلامك بأن إنتاجك الثقافي سيبقى حيا؟
هذا ما آمل به، ولذلك أحاول أن أنقد بلا مواربة وأن أبحث عن الحقيقة بلا خوف، وأن أظل مرتبطا بالواقع الذي أعيشه والذي هو في تغير مستمر.
.............
* هل تحب الشعر العربي، ماهو أجمل بيت شعرتحفظه؟
من الطبيعي ان يشكل الشعر العربي قاعدة ثقافية لكل مثقف عربي ، اذ بدون الموروث الشعري نفتقد عنصرا أساسيا للثقافة العربية .
لم يشدني الشعر إليه وأنا في سن صغيربمقدار ما شدني النثر الذي عشقته ووجدت فيه نفسي.
لقد اهتم العالم العربي بالشعر الفلسطيني داخل اسرائيل إلى حدّ الهوس، وهو ما عُرف بـ "شعر المقاومة".
لقد انتبه الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى ذلك الجنون، وأطلق عندها صرخته المشهورة عام 1970 وعبر افتتاحية مجلة "الجديد"الحيفاوية التي كان يحررها بنفسه، فقال: انقذونا من هذا الحب القاسي!
لكن صرخته لم تُسمع، واليوم ولكي أصف حالتنا الشعرية أعتمد على قول ماركس: "تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام".
هناك الكثير من الشعر الكلاسيكي والحديث الذي اُطرب له، ولكنني أبدو مغرما بقصيدة للشاعر سالم جبران وأرددها دائما،تقول:
كما تحب الأم
طفلها المشوه.....
أحبها
حبيبتي بلادي........
لم ألمس في حياتي حبا أصفى وأصدق من ذلك الحب الذي عبر عنه سالم جبران!
* إذا تسنى لك أن تقوم برحلة إلى بلد ما لمدة اسبوع، أي بلد تختار ولماذا؟
بالطبع لن أتجه نحو الشرق!
يهمني أن أتعرف على اسلوب حياة المجتمعات المتحررة من قيود الكبت الجنسي واضطهاد المرأة وحجبها عن المجتمع . أتمنى أن أتعرف على هؤلاء المستمتعين بالجنة علىالأرض والخاسرين لجنة السماء!
* ماذا تحب في جارك الذي يسكن في البيت المجاور لبيتك؟
احترامه لخصوصياتي!
* هل عندك صديق يهودي؟
أكثر من واحد.....!
...............
تحدث عن رجل يهودي يعجبك وهو معروف في اسرائيل؟
ابراهام بورغ رئيس الكنيست السابق. هوانسان مستقيم ولا يتردد في نشر الغسيل الوسخ للسلطة في اسرائيل، ولا يتردد في قول الحقيقة.
في محاضرة له أمام جمهور من اليهود في مسجاف ـ الجليل، قال: تهيمن على اسرائيل العنصرية والفاشية القومية، وهذا ينفي عنها صفة الديمقراطية، وقال أيضا: لا بأس من نشر غسيلنا الوسخ فبدون ذلك لا ينظف الغسيل، وسنتعرض لحالة نتنة ورائحة كريهة، ثم تابع يقول: الطائرة المقاتلة ليست بديلا عن الإعتراف بالآخر!
وكان قد أصدر كتابا مثيرا حمل عنوان"لننتصر على هتلر"، كتبت عنه ملخصا لاقى اهتماما كبيرا، ويستطيع القارئ أن يطلع عليه بالنقر على هذا اللينيك:(http://www.bettna.com/articals2/showArticlen.ASP?aid=471 )
هذا نموذج لشخصية يهودية ليبرالية انسانية لم تفقد حسها الانساني ورفضت التمييز ضد الأقلية العربية ، وسياسةالحرب والاحتلال.
* باعتبارك تعيش داخل اسرائيل ومعرفتك باليهود ليست ضحلة، إلى ماذا
ترجع أسباب نجاحهم كشعب؟
لقد نجحوا في بناء دولة من مهاجرين ينتمون إلى ثقافات مخلتفة. والسبب ـ حسب رأي ـ هو أن الحركة الصهيونية المسيطرة في اسرائيل هي حركة اوروبية علمانية بجذورها. لجأت قبل قيام اسرائيل إلى التخطيط والعمل المنظم وأقامت دولة على أنقاض الشعب الفلسطيني. اتبعت سياسة التطويرالاقتصادي والعلمي، وتبنت الأبحاث الجامعية في مختلف المجالات.
إن بناء اقتصاد قوي وتطوير التعليم واعتماد العلوم والابحاث في شتى المجالات هي العناصر الأساسية لقيام شعب ودولة.
من الواضح ان العلمانية الأوروبية سيطرت وفرضت ثقافتها على معظم فئات المجتمع الاسرائيلي، ولو تحكم اليهود الشرقيين لكانت اسرائيل دولة عربية أخرى من حيث التخلف.
اسرائيل اليوم تتمتع بمستوى اقتصادي راق جدا، فالتأمينات الإجتماعية والصحية للمواطنين تعتبر من أفضل التأمينات في العالم .
تكرس اسرائيل للأبحاث العلمية ميزانية ضخمة تبلغ 4.5% من ناتجها القومي الاجمالي ( يقدر هذه السنة ب 210 مليار دولار ) وتتجاوز ميزانية العالم العربي ب : 15 مرة على الأقل.
أعطي مثلا على ذلك، معهد وايزمان الذي تبلغ ميزانيته المخصصة للإبحاث العلمية ملياري دولار سنويا.
كل الجامعات العربية لا توظف 800 مليون دولار. اسرائيل تطبع من الكتب أكثر من مجموع ما يطبعه العالم العربي ،تترجم وتطبع 100 كتاب لكل مليون مواطن والعالم العربي 3 كتب فقط .
قد يصل مبيعات بعض الكتب إلى أكثر من 200الف نسخة، فكتاب "آيات شيطانية" ـ على سبيل المثال ـ قد صدر للمرة السادسة في نفس السنة، ويقال أن أكثر من 200 الف نسخة قد بيعت.
ليس سرّا أن اسرائيل قد دخلت عالم الفضاء بأقمارها الصناعية للتجسس ولبيع خدمات اتصال، هذا بالإضافة إلى أن اسرائيل دولة نووية منذ أواخر الستينات .
يعتقد بأنها تملك أكثر من 80 رأس نووي،والبعض يقول: بل 600، وهذا مبالغ فيه.
الدخل القومي السنوي الاجمالي يبلغ 25الف دولار للفرد الواحد، فكم هو في سوريا مثلا? وهو دخل أكبر من دخل مجموع الدول العربية سوية والفجوة تزداد باستمرار .
وبحساب بسيط نرى إن انتاج اسرائيل القومي الاجمالي يتجاوز انتاج كل الدول العربية المحيطة بها بمرة ونصف المرة، ولولا طفرة النفط لكانت اوضاع العالم العربي المالية في الحضيض.
نظام اسرائيل ديمقرطي ليبرالي مع وجود أجهزة مراقبة على السلطة لا تتردد في محاسبة رئيس الدولة .
بالطبع هناك تمييز قومي ضد الأقلية العربية، فمثلا حصة العرب من ميزانية التعليم 7% رغم ان نسبة المواطنين العرب في الدولة 20 % . لقد تمت مصادرة معظم الأراضي العربية، وما تبقى بأيدي العرب لايتجاوز 3.5% بنوا حتى الآن 600 بلدة يهودية ولم يبنوا أي بلدة عربية .
متوسط الدخل في اسرائيل لعائلة من 4أفراد يبلغ 8000 شيكل شهريا ( 2000 دولار ) بينما في الوسط العربي يبلغ 6000 شيكل ( 1500 دولار) .
اذن سرّ نجاحهم يكمن في الاقتصاد والرقي التكنولوجي والعلمي. وواقع العرب في اسرائيل، رغم كل المساوئ، لا يقارن مع الواقع المؤلم للمواطنين في العالم العربي.
لقد استاء بعض المثقفين العرب من صراحتي وأحدهم كتب لي " لتتمتع باسرائيل". فهل تعتبرين صراحتي مدحا لاسرائيل أم بكاءا علىالواقع العربي ؟
* لو اُتيح لك أن تهرب من جور "التمييز العنصري في اسرائيل" إلى أية دولة عربية أخرى، هل تفعل؟
هل جننت لأهرب من تحت الدلف إلى تحت المزراب؟
كمسيحي سأواجه اضطهادا يلغي انسانيتي، وكمثقف علماني سأواجه محاكم التفتيش التي تواصل نشاطها في القرون العربية الوسطى.
وكمواطن عربي في تلك الدولة سأعاني من الفقر والأمية وفقدان التعددية الثقافية والفكرية والدينية وغياب الضمانات الإجتماعية والصحية وفرصالعمل ومستوى خدمات بلدية راقية، والويل لي إذا كتبت ولم أتغنى بمدح
الزعيم واعتباره هبة إلهية يجب ذكرها في صلواتي بصوت مرتفع حتىيسمعني كل الجواسيس الذين يبلغ عددهم جاسوسا لكل 50 مواطن.!!
ثم وأحمد الله إنني لست امرأة وإلا سيكون الوضع أسوأ بكثير.
........
* لو أتيح للمواطن السوري أو المصري أن يهرب من بلده إلى جور "التمييز العنصري في اسرائيل"، ماذا تتوقع أن يفعل؟ وما هي النسبة من المواطنين التي ستفعلها؟
ليس سرا إن ما يقارب من 20 ألف مصري على الأقل يعيشون في اسرائيل وهم متمسكون بحقهم في البقاء والعمل. لا أعتقد بأنهم مستعدون لفقدان دخلهم الذي يساوي عشرة اضعاف دخلهم في مصر، هذا إذا تمكنوا من إيجاد عمل.
لا مجال للمقارنة بين مستوى الحياة في اسرائيل والدول العربية، ولا بين مساحة الديمقراطية ـ رغم كل نواقصها بسبب سياسية التمييز ـ !
فالقضاء الإسرائيلي متمثلا بالمحكمة العليا أصدر قرارات هامة حول حق المواطنين بالمساواة بغض النظر عن الإختلاف في الإنتماء الديني او الإثني أو اللون.
واضح أن التمييز يبرز في مجالات هامة كثيرة وهذا يحتاج إلى مداخلة طويلة. يظهر التمييز جليا في تخصيص الأرض وإقامة المناطق الصناعية وتوسيع مسطحات البلدات العربية وميزانيات التعليم والتطوير الإقتصادي. ولكن في الخدمات الأساسية مثل الصحة وتأمينات ضد البطالة ومستوى الدخل لا يمكن المقارنة مع العالم العربي لأن الفرق شاسع جدا، وهو أشبة بالفرق بين أية دولة عربية ودولة اوروبية كالفرق بين السودان وبريطانيا مثلا .
إن صراحتي ستثير غضب الكثيرين من المنافقين الذين لا يريدون أن يسمعوا الحقيقة المرّة، ولكنني سعيد بصراحتي!
* وأنا سعيدة بها، وأشكرك أخي نبيل على مساهمتك تلك والتي ستغني بلا شك موقعي!
http://www.dawrytv.org موقع وفاء سلطان :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق