الخميس، أبريل 30، 2009

في الدين والأخلاق

محمد محمد على جنيدي

في معاونة الظالم
للظَّالمِ نارٌ قدْ قامتْ
والظًّالمُ قدْ عادَى الخالقْ
إيَّاكَ معاونةَ الظَّالمْ
فتخاصم ربَّكَ في فاسقْ

---
في ضيافة البخيل
إنْ تَرْضَ رَحِيلَكَ مَسْمُوماً
وَتَمُتْ مِنْ تَوِّكَ مَبْطُوناً
فَلْتَأْكُلْ مِنْ يَدِّ بَخِيلٍ
يُعْطِيكَ وَقَلْبُه مَحْزُوناً

---

في الدين والأخلاق
أخْلاقُ النَّاسِ بلا دِينٍ
كَوُرُودٍ في عَصْفِ الرِّيحِ
إنْ تَحْفَظْ مَوْلاكَ فَذاكَ
الحافِظُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ

---

نعمتا المنصب والمال
يا ابْنَ الأهْواءِ كَفَى تَلْعَبْ
ولْتَحْذَرْ ، رَبُّكَ قَدْ يَغْضَبْ
إنْ تَعْصِ بِمَالٍ أو مَنْصبْ
فَالنَّاسُ كَمَا تَأتي تَذْهَبْ
---

في مكر الله

يا مَنْ أخلدتَ إلى الأرضِ
ورُزِقْتَ القُوَّةَ والعمرَ
لا تأمنْ ربَّكَ في شأنٍ
لا تدري قد يصنعُ أمرا

اختيار من ديواني / واحة من الحب

سيمون عيلوطي: قراءة في البوح والفوح

د. فاروق مواسي

شعر العامية أو المحكية يفرض نفسه في دنيا العرب، له قراؤه ومحبوه ومجددوه، وله كتّابه ومريدوه.
فهو يرد في لهجة الأم مقابل لغة الأمة. لهجة الأم ( أو لغتها في الألسنيات الحديثة) هي رقراقة أنيسة، فبها نروي النكتة، ونحكي الحكاية، ونضرب المثل، ونطرب، ونغضب، وإلا فإننا نكون في تعبيرنا التلقائي متنطعين متكلفين.
سيمون كتب في زمانه شعرًا فصيحًا مليحًا حتى كان لشعره هوية سيمونية، لكنه آثر التعابير اليومية ليشحنها بالطاقة الشعرية، بالشعر الحقيقي – على رأي المرحوم محمود أمين العالم، وهو يتحدث عن شعر الدارجة.
لنقرأ الدواوين الأربعة التي أصدرها، ولننظر كيف يكون تعريف الشعر في صوره، وكما يعبر عنه:
في الديوان الأول برقوق الجرمق- 1990 (ص7) يقول سيمون:

قالت لي خلي الشاعريه
برقّةِ وْراق الورد
وبلون حبات الندى
تقطر نعومة كلمتك
خليها تتدفق بحب وأمل
مثل النهر
خليها تسري بالبدن
تشكِّل بقلبو عصافير وشجر
خلي الشعر
منسوج بخيوط الفجر
رقراقه تيجو موجــتو
مثل السِّحر
(يسحرنا هَيكو حملتو ) تسحرنا هيكي جملتو
توخدنا ع حدود النجم
تحكينا بشفاف الحلم
وتطول فينا رحلتو
في بهجتو
أما في الديوان الثاني قريب من سما البروه - 1994 ( ص 7 )، فيقول:

افرد جناحك يا شعر
كر بسمانا مثل كرّات الكنار
وانشر عطر

زرِّ الزهر
نسّم علينا
كُون في العتمه نهار
خُدنا ورا حدود السحر
فوق النجم
خلف البحار
نوِّرْنا في نور الفكر
جدِّدْنا وابقى يا شعر
وحدك فنار

وهكذا في الديوان الثاني يكون الشعر فنارًا بضوء الفكر، الأمر الذي لم نجده في الرؤية الأولى حيث "الشعر الشعر"- أو كما سماه بعض النقاد الإنجليز Pure Poetry.

في الديوان الثالث حريق في بحر القصيدة- (1997) نراه أيضا يفتتح الديون بقصيدة " ملاك الشعر" فتتحول الجبيبة إلى شعر ، فنسمعه (ص 5) يقول:
إنتي الشِّعِر لو تِعْرفي كيف الصور
بِتْشع لما تْخَرِّفي ..
نجوم وْقمر ..
ثم تتبدى صورة الشعر عبر قصائد وعن الوطن، وعن الشعراء، وعن التراث- هي الحياة كلها بانفعالاتها وتفاعلاتها.
فإذا عدنا إلى ترتيب مجموعات القصائد في هذا الديوان سنجدها بعد قصيدتين – هما افتتاحية، وموقف- كما يلي:
جنون القصيدة، فرس القصيدة، شهقات القصيدة، صور..، غليان..، ميدان...، حديث...، هموم...، عجايب..، حب...، هدايا...، بداية القصيدة، وفي كل مرة يكون المضاف إليه لفظ "القصيدة". وبالطبع فالمتابع يلاحظ أنها رحلة فارس، ختام مسيرته بداية. وبالتالي فهناك جواهر في العقد منتظمة في السلك الدائري يشكل بِنية العقد، خاتمته بدايته، والحلقة ممتلئة.
وكما كانت القصائد متدرجة منسابة منساقة في نظام، هكذا كانت القصيدة الواحدة سردًا متدرجًا في سياق تصاعدي مشوّق. إنه يحبك الحادثة بحيث تتصل بحياة الناس واهتماماتهم - اتصالاً وثيقًا. لنقرأ:

فرفحت لوجوه ورتاحو العيون
هالطير بلّش
يلعب بعب الزتون
والياسمين زهورو هيك تشوشو تْنَشْوَشو
ع الحيطان
غصونو بديو يعربشو
قلبي صافن
فز تارك مطرحو
ما عاد يعرف ليش
هني بفرحو
(حريق...، ص 42)
ملاحظة أخرى أذكرها هنا، أننا نجد القصة تستمد عناصرها من عناصر الطبيعة، فمن القصيدة التي ذكرتها لاحظتم الطير والزيتون والياسمين والزهور والغصون، ومثل ذلك ما نجده وهو يخاطب شاعرًا (ص 106):

وعندك قصايد حالمه
حلم القرنفل للهوا
وعندك معاني هايمه
هيام الصبية بالغوى
وعندك الكلمة ناعمه
همسات أنعم مِالهوى
زرار الورد يحرقصو
ويحاورو قطر الندى
فكل بيت أو أي سطر تقريبًا لا يخلو من هذه الطبيعة التي دعت الشاعر إلى محرابها. ونموذج آخر نجده وهو يخاطب كاتب هذه الكلمات – واعذروني في ذكر ذلك -، بدءًا من المطلع:

بنعومة النسمه العليله
ورقة الحان القصب

يِسْري في بْحورو الطِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّليقه
يْمَرْجِح بْليلو القمر
وْتَنُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّو يِعْرف شو الحقيقه
أبْدَع بْشِعْرو صور..
هالشاعر المثل الفراشه
من عطره زهر وكَتب
موجات تِتْناغَم دِرايِه
قِصَّّّّّّّّّه، أشعار، وْنَقِد..
أحلام ما إلها نِهايِه
كِلْمِه بِتْفَرْفِح وَرِد
في روضْنا وْبِتْظَل رايِه
إلْنا إبْداعو وَهَب.
(ص 122)

أرأيتم كيف تتغلغل الطبيعة في وجدانه، وكيف أن صميمه يتعلق ويتألق بالطبيعة. أصدقكم أنني أشعر أنه أول من أتحف، وأول من أنصف.
أما الحوار الداخلي ( المونولوج ) فما أكثره، فهو ينثال أسئلة تثير التعجب والانفعال، على نحو:
كيف أخلص حالي من خوفي (ص 82)
وأي سحر عمّال تعطيها (ص 111)
ليش المعاصي ع النفوس معربشه ( ص 114)
وقس على ذلك! أسئلة بعضها بلاغي، وبعضها محاورة ذاتية يقصد الشاعر من ورائها الإثارة أو تمثيل واقعه هو.
القصائد عامة تبدو نابضة بالحياة لها نكهة. هي عصارة أو نسغ يسري في ساق حياتنا كما كتب الأستاذ حنا أبو حنا على غلاف ديوانه الأول.
ورغم أنني طربت وتغنيت بالديوانين الأولين أكثر لرشاقتهما إلا أنني أحسست أكثرت في الديوانين الثالث والرابع بكهرباء الشعرية، ففي الديوان الرابع فيض العطر- 2003 يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة (رقِّ الشعر)، إذ يقول :

مشتاق سمّعْها ولو بيتين
من شعِر
عن وجناتها الحلوه،
كنت أكتب بالهوا أشعار
بالكلمه أتحسَّس
مدى المشوار
لما جيتي برعمت أزهار
في شعري..
واندلّيت طريقي منين

نلاحظ في هذه الأبيات عن الشعر أنه الهدي والدليل، ونواكب هنا تدفق الحياة إلى مسالك الجمال. فالشعر يغدو لديه تيارًا نابضًا في الجسد. القصيدة أضحت كائنًا حيًا يقف على قدميه ليستحق الحياة لذاته، فهو جِدي أكثر:

إحنا من هالبقعه
من تراب الشرق
...
منلوكها بتلوكنا ما في فرق

إذن هو الانتماء الذي يطرح رشاقة الصورة الرومانتية بعيدًا، ويتشبث بالبقاء. من هنا وجدنا في الديوان الثالث قصائد عن أريحا وعن القضية الفلسطينية، بتوترهاالذي يوتّرنا. ولعل ما يشفع لذكر هذه الأمكنة أنها أعطت وهجًا وإضاءة في القصيدة، فالشاعر يذكر الناصرة وأريحا وأماكن أخرى ( حريق...ص، 11، 14)
وكذلك القدس العتيقة " ( برقوق الجرمق..ص،146)
ثم نراه يغازل الجرمق (برقوق الجرمق..ص،151) حيث يقول :

لما نوار الوَعِد فتح هوانا
وشافو دمعات الفرح
تكرج على خدودي من عيونَك
من عيوني على خدودَك
شنو الموت
حصر مره
شنق مره
صلب مره
حصد مره
كل نقطِة دم تطلع سنبُله زهره
نعنعه خضرا
تزرع بهالموت روح
تحي عَ خدودك صَبر
نجمِه ... عِطر...
وابقى أنا شمعه .. عشِق
خُصلِة حبق
غنوه ..
دليل ..
ونظل أنا وإنتَ جليل .

بمعنى أنه يقدم ملامح، يضفي هوية، وما أحوجنا إلى ذلك في شعرنا عامة! فهكذا فعل الشاعر الجاهلي إذ قدم الأطلال وذكر الأماكن، حتى أتى السياب ليعرّج على جيكور والخليج وبويب، حتى أتى سيمون في رقته ليحدثنا عن حارات الناصرة بلغة يفهما أبناؤها كلهم. يذكرها لمامًا، ولو بشكل عابر، إلا أن مجرد ذكرها له وقع ونكهة.

وهكذا قبست من نار حريق سيمون، وخضت في لجة واحدة من بحر قصيدته، فغمرني فيض عطره.
وبهذا جمعت بين النار والماء، وهنا فقط نستأذن المتنبي لنقول له: تيسر الأمر يا أبا الطيب، فلماذا تشكو من عدم إمكانية الجمع بين الجّد والفهم؟ أظنك فعلت وجمعت، حتى ولو أنكرت.

الأربعاء، أبريل 29، 2009

لمسات

الهام ناصر

.......

كيف لو تذوّقتَ لمساتي!
كيف لو ضغطتُ بكل شوقي فوق شفتيك!
كيفَ لو حزمتُ أصابعي في باقة حنان، ووضعتها فوقَ صدرك!
وتركتُ شَعري يخيّم فوق وجهك!

كيف لو منحتُكَ ما حرّمتُهُ على غيرك!
وما خبأته لمن يفهمُ لغة جسدي!
وما أودعته من صرخاتٍ تحت لساني!
كيف لو تركتُ القيادة المتهوّرة لرغبتي !

كيف لو غشيتُك على مهلٍ!
وهمسات عشقي تداعب أذنك !
وتركتُ أصابعي تسترسلُ في اكتشافك!

كيفَ لو قرّرتُ ولادتُكَ من جديد!
واعتنقتُ دينَ الخَلقِ والتكوين..
وشكّلتُك بطينِ لزجٍ من بعضِ انصهاري!
حينها..
كم ستشبهُ جنوني
وكم سيتلذذ طفلي الرجل من خمري
من ولدتُهُ من هوسٍ تسعى اليهِ، واحتاجه.

من عبق (كأعمى تقودني قصبة النّأي) للشّاعر محمّد حلمي الرّيشة



زيّاد جيّوسي

ولأنّك الحُبّ الّذي يسكنني منذ عصور "أيتّها القصيدة الأبجديّة" ولأنّك طيفي الّذي يرافقني كظلّي، كنت دومًا "فاتني الأبقى، وشعري الباقي، راحلاً بينهما فيهما"، أشتاق إليك في بعادك الّذي طال عصورًا فأناديك: "أيّتها القصيدة.. لا تتركي الشّاعر يكوّنك ثمرة على شجرة دون قطاف"، ولأنّك الأجمل وأنت أسطورة الأنثى "تظلّين تنتظرين يدًا عارفة مذاق عينها الثّالثة"، ومهما غبت وابتعدتِ في شطحات الجنون تبقين الأجمل "لأنّك تعودين الشّاعر، كلّ مرّة، بيضاء من غير سوء.. يحاولك حبره من جديد"، فأنت وليس غيرك من "تجعلين الشّاعر، أوّلاً، ورقة خضراء، ثمّ صفراء"، وفي لحظات التّفجّر تجعلين دموعه تسيل "ثمّ متنًا بين دفّتيّ سِفرٍ، ثم لا يجد أناه حتّى في هوامشه".

هو السّؤال الّذي أسائله دومًا منذ عرفتك: "كيف يسافر الشّاعر فيك، ولا يصلك أبدًا؟"، ولأنّك أنت برعم الياسمين الّذي نما في الغياب، "يدع الشّاعر كلّ شيء لأجلك إلاّك"، فأبتسم لأنّك "ذكيّة أنت في اجتذاب لا وعيه نحوك طائعًا، لانخطافه/ منصتًا لأوار صمتك يضجّ في خلاياه"، فلا تبتعدي وتحمِلك أجنحة الغياب، فكفاك غياب امتدّ ألف عام، ولن أحتمل غيابًا يمتدّ ألف عام آخر، فتعالي فأنت "تشبهين الحبّ جيّدًا؛ قلق القلب.. توتّر الرّوح.. رجفة الجسد.. خوف الغياب.. سهر الظّنّ.. هزّة الشّكّ.. نظرة الغيرة.."، وأنت كنت وما زلت مصدر إلهامي وسهري، "ألستِ من علم الشّاعر- أوّل الكائنات الجميلة- هذا المعجم؟"، فلا تؤلمي العاشق في الغياب "رغم أنّه يقتنع بوردة الفرح".

في الليل، وفي ظل ثورة البركان والجنون، تهمسين من البعيد: أحبّك "تغيّرين كلّيّة الشّاعر بقسوة حنوّك"، فيهدأ البركان، وتعود الحمم المشتعلة إلى داخله، ويصرخ بألم: أحبّك فتعالي، وفي حبّك "يقامر الشّاعر حتّى على خسارة الحياة"، وفي الغياب الّذي طال كان "لك هبّة غامضة تذيب وعي الشّاعر في غيبوبة المجهول"، فيستعيد الذّكرى والذّاكرة، ولا تغيب عن ذهنه تفاصيلك الصّغيرة، فأنت من "تهبين الشّاعر ذاتك بألفة وحشيّة"، فأهمس لنفسي: "كم أنت بهذا باذخة الوجع".

في ذلك الصّباح المشرق، وقفت أنظر إليك كما نظر الإنسان البدائيّ بدهشة إلى النّار الّتي يراها لأوّل مرّة، حين رأيتك على شرفة القمر بملابس نومك في ذلك الصّباح المبكر، همست لك في داخلي: أحبّك.. ومنذ تلك اللحظة صرت أعرف أنّ "السّيف للشّرّ.. الطّيف للشّعر"، فصرتِ قصيدتي الّتي لن تنتهي، وفي لحظات شطحات الجنون أعرف أنّ "كلّ ذاك الرّكام الجاف ليس أنت"، وأنّك تشتاقين لمن فجّر براكينك وأحبّك أكثر لأنّك "لن تكوني بدون عاطفة الشّاعر اللغويّة"، فمن غيرك لي؟ ومن يجعل روحي تحلّق وتكتب غيرك؟ وأنا أدرك وأعترف أنّك "أنت الطّعم الّذي يهبط ويعلو، أمام بصيرة الشّاعر في عميق قلبه"، وأصرخ من البعيد "كوني جمال كلّ شيء.. لا يكون الشّاعر خارج هذا التّألّق أيّ شيء".

حين أخفاك الّذي هو أقرب إلى النّفس من النّفس خلف ستارة التّناسي ماذا استفاد؟ "فلا هو يصطاد، ولا أنت تشبعينه". تركني أجول أعالي البحار أبحث عن مرفأ قد أجدك فيه، وهو يعلم أين المرفأ، فأفتّش المرافئ والواحات ورقة ورقة بأمل اللقاء ولا أعثر عليك، فأنادي عليك وأنت في البعاد المجهول: "استمرّي في جموحك.. لن يعتلي صهوة قوسك النّاريّ، إلاّ الشّاعر السّهم"، ووحده "يعرف الشّاعر أن ينزل مجراك، ولا يعرف أين مرساك.. هكذا تمضين في ماء جمالك إلى أبديّته"، وفي القرب والبعد "لا تكفّي عن فتنة الشّاعر"، فأهمس لنفسي من جديد: "أمدّ جناحي.. أحرّك هوائي.. لم تعد الأرض تشبهني".

"إنّه الليل، سحابة تمطر عتمًا على جفاف النّظر"، والمطر والرّيح والزوابع والبرد.. أفتقد الدّفء.. أشتاق إلى الياسمين "في عتمة الخريف، تكفي زهرة ياسمين، كي تضيئه حديقة".. وحدي "لا صوت.. لا صدى"، فتنزل من عيني دمعة شوق ومن الأخرى دمعة ألم، "لو أيّ شيء.. لو كلّ شيء، لن يجفّف دمعة الوردة، الّتي سالت من عينيّ"، وأحلم باللقاء وأكتب "كلّ يوم أربعاء، ما أعذب رزنامة الحلم، في تأويل يقظة العاشق"، وتبقين أنت "غيمة تمطر لأعلى، ما زلت أشهقني، كلّما لمست زنبقة الذّاكرة".

حين قبّلتك تحت القنطرة، كان شعرك المنسدل "كقيثارة تشعل أصابعي"، فانسكب الدّمع من عينيك "سائلاً.. مائعًا.. ذاهلاً، مشفقًا عليّ، يساقط الحنين بدوي يراعة"، فأرتشف الدّمع فثمّة "يد تكثف الرّيح، يد تعلي شراعًا، يد ثالثة للعاصفة"، فأهمس اللحظة مع الرّيح الغربيّة: تعالي من جديد لنعتلي القمة الّتي كانت تضمّنا في غفلة من الزّمان، تداعبنا النّسمات الغربيّة، فأضمك ونذوب حتّى ننصهر عبق ياسمين ونصبح "ميلان ماء الشّمس، على وجه زهرة الياسمين، نقش أبدٍ، في رخام الإياب"، فأنتظرك وأنا أعلم أنّك لست من "تنـزل لي سياج حقلها.. وتشرّدني"، فأنت طيفي الّذي حلمت.. أنت حروفي الخمسة الّتي أنتظرها منذ عصور.. أنت الّتي أحبّ.
* كلّ ما هو بين أقواس التّنصيص للشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، من مجموعته الشّعريّة الأخيرة "كأعمى تقودني قصبة النّأي"، 2008م.

الثلاثاء، أبريل 28، 2009

محطة قطار: قصة قصيرة للدكتور نجم السرّاجي وقراءة تحليلية لها

د. عدنان الظاهر

نص : عنق الزجاجة ينتظر ... !

تقف مبهورا أمامك
تتمسك بثوب عريك
فارق بين الصعود إلى الأفق والصعود إلى الهاوية !
شاعر أنت !
رقة مشاعرك تقودك إلى عمق لاوعيك ، تلامسه ، تتحسسه ، تتفاعل معه ، تكشف خفاياه ... فرويْد الإنسان الذي حلل النفس البشرية وتعامل معها بإفراط ودراية ترك لك هذه المهمة فقط لأنك شاعر مرهف الحس !
***
سلكت دربهم ...
تُوجِس خِيفة على نفسك،
ذاتك التي عريتها من قيمك وفكرك لازالت تبحث عن طريق ، تتعقب الأنوار الخافتة ، أصوات الفجر المهزومة ، دقات أجراس الكلمات المتوعدة بالعقاب والثواب
لتقف مبهورا أنت على صدر مدينتك التي رفضت مضاجعة حكامها / كسرتها معهم /
تتسارع / تتباطأ / خطاك وأنت تسلك درب القصائد التي لا تخطئ هدفها والتي تعرف طريقها وهي في رحم الأفكار وبعد ولادتها ، هي في مأمن من الأخطار ،لا تخيف صاحبها ولا ترعب المكان ! يشذ بعضها / المعاند / عن طريقها المرسوم لها :
تطرق الأبواب
/ موصدة الأبواب /
تتابع خطاها
/ تطردها الطرقات/
تنزوي في أي ركن تصادفه
/ ترتبك الأركان/
الأبواب و الطرقات والأركان لها حق الخوف منها / تقيأت فكرها المتمرد المشبوه / هي تعلم عقوبة إيواء المخالفين والمعارضين/ الموت ارحم عقوبة /


***
بين الوفاء والخيانة وبين الخوف والثبات خيوط اليقين أو الوهم ،

أراك في شك يؤرقك التفكير ،

ولأنك / تهاب المواجه لتعود إليك / تمسك ذاتك تجلدها ، تغوص في تيهها ثم تترنح ، تتقلب، ترائي، تداهن فتنتفخ أوداج رقبتك/ المعرضة للقطع / وتتسع مسامات جلدك ...
رائحة خوفك تسعدهم / أرعبوك / ربما نصائحها شلت يمينك !
امرأة... تسلل إليك ليلا من تحت فراش الزوجية عطرها ،

طرق بابك ،

فتحت ،

قبلتها بحرارة المحروم وعدد المرات التي كررت فيها كلمة " الثورة "،

تكورت بين فخديها تلعق عرق الشهوة والخيانة

آويتها في روحك كما كنت تأوي تلك القصائد المتمردة وتكورها في قلبك !
كنت تسمع عن الثورات وتقرأ وتكتب عنها :
حين كتبت عن ثورة الحسين سجنوك بتهمة الرجعية وحين كتبت عن ثورة جيفارا سجنوك بتهمة الشيوعية وحين رسمتها عارية قالوا : فاجر عربيد ... ازداد رصيدك فيها من حصة التصفيق...
وكما كنت لا تهاب السجون ! ربما لخلوها آنذاك من ذلك الضابط ومن قنينة الجعة الفارغة!
لكن عنق الزجاجة أخاف مؤخرتك الثقيلة / فَضح أمرك /
لولاه لأصبحت قائدا مناضلا يقسم برأسك الثوار !


***
في السجون الانفرادية أعناق الزجاج تشتهي الذكور، لكل عنق إستٌ يفتضُّ بكارته ويحظى بدفء أحشائه ثم يُُرّقم ويـُحفـَظ / ضابط الأمن الجديد يحب الأرْشـَفـَة /
لكلمة الضابط وقع على مسمعك تتحسس منها / ترهبك /
راودتك فكرة بلهاء ، ساءلت نفسك :
ـ هل يملك " ضابط الإيقاع " أيضا قنينة جعة فارغة ينتظر عنقها إست عازف أو مستمع وربما مستطرق يدفئه ؟!
توالت الأسئلة والتبريرات
وانتهيت إلى أن أعناق القناني تنتظرك في كل مكان!
حسمت أمرك ...
غشيك الليل واتخذته جَمَلا ! حاملا رحالك باتجاههم / لست أول من ينزلق /
انزلق قبلك الكثير من "المناضلين" و"الثوريين"


***
هل عددت فضائحك ، نزواتك ، وكم مرة تعريت وكم سرقت ؟
نزواتك هي تفسير لساديـَّتك / ولأنك تخاف / عليك أن تعادل خوفك بالإحساس بالقوة من خلال الرغبة بالسيادة .
كتبت يوما عن " عيد الحب الفالانتاين " قدمت لك وردة حمراء دليل الحب وطلبت أن تصفح عنها / هم أخذوها عنوة إلى بيت زوجها / رفضت تسليم نفسها له لأنها تحبك أنت وتعشق أفكارك ، صارحَته بحبها لك ، كان بإمكانه ان يفتضُّ بكارتها انتقاما ويعيدها مكسورة / حسب العرف / إلى أهلها ، لكنه لم يفعل ، احترم صراحتها وأعادها إليك زنبقة بكرا / رفضتها / قلت انك لا تشم وردة مرت على انف غيرك / مقولة سبقك إليها " الحجاج "
وحين أعلنت تمردك وكتبت قصائدك بأفكارها المجنونة قلت :
ـ الجنون هو قمة الفلسفة
ولكي تسلك دروب الجنون والفلسفة آثرت درب التصوف ، تغنيت بالكأس والعشق الإلهي ... وأنت في طريقك إلى دروب "العرفان " فضحك عريك وأنت تسرق حضنها ، جارتك الحبلى ، تعريتَ أمامها ، ضاجعتها على سريره / كان صديقك / هي ليست المرة الأولى التي تتعرى فيها !
تشدقت بعدها بولائك إلى منظـِّري " الثورة الجنسية " وطالبت بتغيير جذري في العلاقات بين الجنسين كما هو الحال في العالم الغربي المتحضر ، فضحتك فطـْرتك وحركة يدك اللاإرادية التي حاولت أن تغطي بها عورتك التي كشفها الطبيب في عيادته وهو يفحص جهازك التناسلي المصاب بمرض "السيلان " من تلك الفاتنة التي فرضت عليك ربع مرتبك لليلة بين فخذيها .


***
ستسبت كما العظايا في وحشة أيامك / حصار ذاتك / وربما تقرر الاستغناء عن راسك أو حرقه كما حرقت كتب قادة الثوار! أو ركنه في قبو الدار مع ما ركنت من أشياء لتخرج بدونه لا تفكر بأمر ولا تشغل فكرك الأبله بقضية الثورات ! لكن كيف يمكنك الاستغناء عن الثورات وأنت بحاجة إلى ثورة داخلية وانقلاب على ذاتك تغسل به ما تبقى من أفكارك الثورية وتطرد سفسفات الإنسانية والمستضعفين من ذهنك ؟!
***
أيامك لا تشبه البحر ، هي لا تكتم الأسرار مثله ، وأسرارك كثيرة.بعدد وجوهك التي تراها كل يوم في مرآتك الجديدة / البيت الجديد يحتاج إلى مرآة جديدة ويحتاج إلى أكثر من فاتنة وأكثر من سيلان وأكثر من امرأة حبلى تتلذذ بعريك وفحولتك / وجوه تخرج بها يناسب كل منها نوع ولون ربطة العنق وحجم المسؤول.
لم تعد تخشى الأسرار
معصمك لم يعد يخشى القيود
مؤخرتك لم تعد تخشى عنق الزجاجة
نقطة حياء جبهتك أسقطتها الأيام ورائحة المكان
حين تذكرتها وزرتها في بيتها الذي ولدتك فيه رفضَتِ النظرَ في وجهك ، ذهبت إلى غرفتك القديمة نظرت في مرآتك القديمة رأيت وجهك القديم / أفزعك / عدت إليها طفلا خائفا كما كنت تفعل سابقا ترتمي في أحضانها ... / لم تجدها /
أسرعت إلى مرآتك الجديدة تتأبط ثوب عريك وعاد يتأبط جرحه ونزفه
فارق كبير بينك وبينه

انتهت
**
محطة قطار

( قصة قصيرة للدكتور نجم السرّاجي )

قلبُ القصة وعمودها الفقري هو موضوع الثورات وإنتكاساتها وخيانات بعض رجالها سواءً أكانوا في القاعدة أو في مراكز القيادة ... والذي لم يخنها كفرَ أو تنكّرَ لمبادئها التي آمنَ بها يوماً وناضلَ ثم ضحّى من أجلها وعانى ما عانى . ذكرَ القاصُّ ثورة الحسين بن علي ومقتله في طفِّ كربلاء وفشل ثورة جيفارا كلاً في زمانها ولأسبابها الخاصة التي لم يتطرقْ إليها القاص لأنَّ للقصة همومها وقضاياها الأخرى الخاصة لكنه المح إلى هاتين الثورتين كنموذجين للثورات الفاشلة بسبب خيانة بعض رجالها الذين تنصّلوا عن قادتها بل وأسلموهما لأعدائهما كما نعرف من تخلّي قبائل الكوفة عن الحسين بعد أنْ أغروه بالمجئ إلى العراق من الحجاز ليقودَ ثورتهم ضد يزيدَ بن معاوية بإعتباره الخليفة الشرعي للمسلمين . كذلك سرّبَ بعض فقراء فلاحي بوليفيا معلوماتٍ دقيقةً عن نشاطات وتحركات جيفارا في غابات وجبال هذا البلد .... سرّبوها لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي ترصّدته حتى أفلحت في قتله . ضرب دكتور نجم من قوّاد الثورات مثلين يمثلُ الأول منهما أقصى اليمين ( الدين الإسلامي / الحُسين بن علي ) في حين مثّلَ جيفارا أقصى اليسار ( الثورة الماركسية المسلّحة ) . كيف نسيَ ثورة عبيد روما بقيادة الشجاع الثائر سبارتاكوس التي فشلت ولم تحقق النصر المأمول ؟ لم يكن فيها خيانة كما أتذكر تفاصيلَ أحداثها كما رأيتها في فيلم سينمائي قبل عقود .

سأتناولُ بعضَ مفاصل القصة الهامة من وجهة نظري وأسلسلها بالأرقام :

1ـ (( سلكتَ دربهم ... تُوجِسُ خِيفةً على نفسك ))

هكذا دشّنَ القاصُّ طريقه الصعب المعقد الجديد وكان صادقاً مع نفسه وعززً موقفه هذا ببعض معطيات التحليل الطبي النفساني التي إبتدعها الدكتور نجم السرّاجي أو إستعارها مما توصل إليه الطبيب وعالم النفس الشهير سيكموند فرويد ونصها (( رقّةُ مشاعركَ تقودُ إلى عمق لا وعيك )) . يتهيأُ لي أنَّ بطل القصّ هذا قد قال مقولته الأولى وفي رأسه مسلسل قصص وصورة موسى منذ أنْ قتل رجلاً مصرياً ثم زواجه من إحدى بنات شُعيب حتى وصوله صحراءَ سيناءَ وصعوده جبل حوريبَ في سيناء تاركاً قومه هناك أربعين يوماً حسب ميقات ربّه [[ وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعَشرٍ فتمَّ ميقاتُ ربّه أربعينَ ليلةً .... / سورة الأعراف / الأية 142 ]] . المهم في أمر ذِكر موسى هو " الخيانة " ، خيانة بني إسرائيل لنبيّهم الذي ثارَ بهم ولهم مرتين : علّمهم عبادة ربٍّ واحد لا يرونه بدل العكوف على عبادة الأصنام . ثم إنقاذهم من ظلم وعبودية فرعون مصر . ما أنْ تركهم لفترة قصيرة من الزمن حتى تنكّروا لربّه وربّهم وعادوا يعبدون الأصنامَ إذْ إتخذوا من عجلِ ذهبٍ إلهاً لهم عكفوا على عبادته [[ واتخذَّ قومُ موسى من بعده من حُليّهمْ عجلاً جسداً له خُوارٌ ... / سورة الأعراف / الآية 148 ]] . البشرُ يخونون مبادءَهم وأديانهم وأنبياءَهم ويخونون حتى ربّهم !! فليس كثيرٌ عليهم الإنسحاب من أحزابهم وخيانة تنظيماتها السريّة والكفر بما آمنوا من مبادئ وعقائد . ما الذي دعاني إلى هذا الإستطراد الذي قد يبدو نشازاً أو ثرثرةً لا لزومَ لها ؟ جملة " تُوجسُ خيفةً " ، أجلْ ، توجِسُ خيفةً التي قرآناها وقرأها جيداً الدكتور السرّاجي والتي قيلت في صاحبنا موسى إياه الثائر الذي خانه قومه وأتباعه [[ فأوجسَ في نفسهِ خيفةً موسى / سورة طه / الآية 67 ]] . قيل هذا الكلام في موقف خطير إذْ تلاقى طرفا قضية مصيرية يتنازعان أمرهما فيها: موسى ودينه وتحرير قومه وعصاه المتقلبّة مقابل فرعون وجنده وجبروته . حزب القاص ومبدأه الذي إختاره وسيلةً للثورة الإجتماعية والتحرر والديمقراطية مقابل سلطات غاشمة فاشية لا تؤمن بالدمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا بالإشتراكية . جبهتان هما في كل أمر على طرفي نقيض . لذا فحين قرر بطل القصِّ الدخول في معامع السياسة كان خائفاً وَجِلاً [[ٌ سَلكتَ دربهم .. تُوجِسُ خيفةً على نفسك ]] .

2ـ [[ تقفُ مبهوراً أنتَ على صدر مدينتكَ التي رفضتْ مُضاجعةَ حكّامها ]] .

وما كانت مدينة هذا الثائر الحائر في أمر زمانه وما قد إلتزم من مبدأ وحزب ؟ البصرة ، نعمْ ، إنها بصرة الثورات والنخيل والثقافة . في ضواحيها دارت معركة الجمل التي خاضها مُضطراً الإمامُ عليٌّ ضد الذين إنشقوا عليه وخانوا ما كانوا قد بايعوا تقودهم عائشة ، قرينة إبن عمه وصهره النبي محمد. ثم كانت هناك ثورة الزُط وثورة الزنج بقيادة علي بن محمد التي إندلعت زمنَ الخليفة العباسي المُعتَمِد على الله وأخيه الموَّفق وإستمرّت طوال الأعوام ( 255 ـ 270 هجرية ) *. ثمَّ ، نعمْ ، ثمَّ .... في البصرة إندلعت شرارة ثورة شعبان عام 1991 ضد صدام حسين ونظام حكمه البعثيّ التي ساهمت فيها 14 محافظة عراقية من أصل 18 . هذه هي بصرةُ القاص التي يفخرُ بها بحقٍّ رمزاً وأمّاً للثورات ولأنها مدينة ثورية فقد أنجبت كبار المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء والنحويين والمثقفين ولا من غرابة ، فالثقافة لا تنشأ ولا تنمو ولا تترعرع في أجواء الذل والخنوع أبداً . رفضت البصرةُ مُضاجعةَ حكامها ، أحسنتَ يا دكتور نجم ، لم تقلٍ هنا إلا الحقيقة ولكنْ ، لِمَ يتنازل بعضُ ثوّارها من العقائديين والحزبيين عن إلتزاماتهم ومبادئهم ويخونون رفاقهم ويُفشون أسرار حزبهم ؟ التعذيب ! نعم ، إنه التعذيب الجسدي والنفسي . التعذيب الوحشي غير المسبوق ، ربما . فلقد درجَتْ عناصرُ مخابرات وأمن البعث الحاكم في العراق على إستخدام وسائل تعذيبٍ غايةً في السادية والدموية واللا أخلاقية منها ـ كما يذكرُ القاص ـ إدخال رؤوس قناني البيرة في مؤخّرات السجناء السياسيين . هنا محنة السجين الكبرى إذْ يضعه جلاّدوهُ بين خيارين لا ثالثَ لهما : المهانة وإذلال الكرامة والجسد وهتك قدسية حرمته أو التعاون مع هؤلاء الوحوش والإعتراف على الرفاق في التنظيم السرّي للحزب الثوري . هنا العقدة الكبرى والمحنة الأعظم التي يعاني منها بطل القصة فهل يضحّي بشرفه الشخصي ثم العائلي أو يُضحّي ويخون مبدأه وحزبه ؟؟ إنه الخيارُ الأصعبُ في حياة الرجال ( والنساء المناضلات طبعاً ) . إنها محنة وجود هذه النُخبة من الناس الطييبين الذين ما خانوا وطنهم ولا آذوا أحداً ولا رفعواً يداً ضدَ أحدٍ ... ما سرقوا ولا زنوا ولا شهدوا في المحاكم زوراً فهل أجرموا أنهم إختاروا لهم ما ينسجمُ مع طبائعهم وثقافتهم من عقيدة سياسية وحزب يمثلها ؟ ذكر القاص وهو بهذا الصدد والمنعطف الأكثر خطورة ... ذكر شنائع الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي حكم العراق زمن خلافة الأمويين بكل قسوة حتى أنه قتل الناس { على الظُنّة } وعلى ما يضمرون في صدورهم لا على ما يفعلون . ووضعَ السجيناتِ من نساء الخوارج عارياتٍ في سجونٍ مكشوفة تحت الشمس والمطر . فهل تعلّم صدامُ حسين وجلاوزة سجونه وشرطة أمنه ومخابراته ... هل أخذوا أساليب جلاّد العراقيين الحجّاج الثقفي في تعذيب ومعاملة خصوم دولته وزادوا عليها ما قد تطوّرَ من أساليب ووسائل وتقنيات عصرية حديثة في فنون التعذيب ؟ السادية وباءٌ مُعدٍ فحذارِ منه يا بشرٌ أسوياء !

3ـ [[ ولكي تسلكَ دربَ الجنون والفلسفة آثرتَ دربَ التصوّف ]].

لماذا عرّجُ القاص ُّـ الثوريُّ السابق ـ المندحرُ لاحقاً ... ما أسباب عروجه على مثلث الجنون ـ الفلسفة ـ الصوفية وهل هي ثلاثية متكافئة تماماً بحيث يستحيل الفصلُ بين زوايا وأضلاع هذا المثلث وهل هو متساوي الزوايا والأضلاع بلغة الهندسة المستوية ؟ الجنونُ فنونُ كما يُقالُ عادةً والشعراءُ مجانين والأنبياءُ أُتهموا بالجنون والسحر والكهانة فهل الفلسفة كذلك جنون وماذا عن التصوّف ؟ ليس كل الشعراء مجانين ولا كلُّ الأنبياءِ ولا كافّةُ المتصوِّفة . فيهم المجنون وفيهم العاقل وفيهم نصف العاقل ـ نصف المجنون وهذه حالة وسطٌ وخيرُ الأمور أواسطها . هل أراد صاحبُ النصِّ أنْ يقولَ لنا إنَّ دخولَ الحزب الشيوعي أو أيِّ حزبٍ سواهُ ثوريٍّ أو غير ثوريٍّ ... هو الجنون بعينه ؟ قد يكونُ ، تحت ظروفٍ معينة ، في دخولِ حزبٍ ثوريٍّ مخاطرة أو شبه مخاطرة ولكنَّ ذلك ليس قدراً لازماً ولا شرطاً مفروضاً متوقعاً بالمُطلَق من الإحتمالات. التصوّف هو الإنكفاء على الذات والإرتداد إلى داخل سراديب النفس البشرية المجهولة الهوية . لا تصوّف بدون دين بينما الثوريُّ رجلٌ علميٌّ علمانيٌّ لا دينَ له فكيف يجتمع هذان المتناقضان الدينُ والإلحادُ ؟ التصوّفُ كما يرى القاصُّ هو سبيل بلوغ درجة الجنون ومع الجنون تأتي الفلسفة . جملة فيها الكثير من الغموض وفيها شَبهٌ من بعض أقوال الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة . إلا إذا أرادنا أنْ نفهمها على أنَّ الحزبيَّ الذي ضعف وأندحرَ فخانَ لا من سبيلٍ أمامه إلا بإنتهاج طريق التصوف والإنكماش والعزلة والزهد بالحياة يأساً وتكفيراً وتطهيراً للضمير مما كان قد إقترف بحق حزبه ورفاقه . ومما يؤيدُ إجتهادي أو كهانتي هذه قوله [[ ستسبتُ كما العظايا في وحشة أيامك / حصارُ ذاتكَ / وربما تُقررُ الإستغناءَ عن رأسكَ أو حرقهِ كما حرقتَ كتبَ قادةِ الثورةِ ]] . لم تكفهِ عزلة المتصوّف وزهده بالحياة إنما وضع أمامه إحتمالَ قتلِ نفسه بقطع رأسهِ أو حرقهِ . ما الفرقُ بين حرق الرأس الثوري السابق وحرق كتب الثورة ؟ كلنا أحرقنا وأتلفنا كتباً ماركسيةً أو ثوريةً أو يساريةً منعتها دوائر الشرطة والأمن من التداول والبيع في مكتبات العراق في عهود مختلفة لكننا لم نفكّر بقطع أو حرق رؤوسنا التي حملت أفكار وعقائد ما وجدنا في تلك الكتب . ألهذه الدرجة بلغ يأسُ بطل قصتنا وحقده على ماضيه فلم يجد حلاً توافقياً يتوازن خلاله بين حياته بعد الإندحار وحياته أيام ما كان محسوباً على الثورةِ والثائرين ؟ لا مهربَ أمامه من أشباح وكوابيس خيانته كما يتهيأُ لي إلا بالإنسحاب من الحياة طوعاً وبمحض إرادته خلاصاً من شدة وطأة معاناته .

فات البطلُ الحائرُ أنَّ بين الثوري العلماني المُلحد والمتصوف فروقاً كبيرة على رأسها أنَّ هذا لا يتنازل عن صوفيته ولا يخون ولا يكفرُ بما آمنَ به من مبدأ الحلول بالذات الألهية وقد لخّصه الحُسين بن منصور الحلاّج ببيت شعري شهير قال فيه :

أنا مَنْ يهوى ومَنْ يهوى أنا

نحنُ روحان حللنا بَدَنا

وقال أشياءَ أخرى مشابهة لهذا القول ودفع رأسه ثمناً لما قال ** . أما الثوّارُ فقد خانَ بعضهم في ظروف قاهرة أو انحرفَ أو جَبُنَ وأفشى أسراراً خطيرةً . ليس لدى المتصوّف أسرارٌ خطيرة يُخفيها عن السلاطين والحكام ولا هو عضو في حزب ثوري سرّي وفي هذا قوةٌ له ليست عليه . لذا أرى أنَّ التصوّفَ لا ينفع مندحراً منكفئاً إلى داخله على نفسه ولا يصلحُ له علاجاً لأزمته النفسية ومحنته في وجوده بعدَ أنَّ جرّده الحكّامُ من إعتداده بنفسه وما يحمل من عقيدة وأسقطوه جيفةً تتعفنُّ تحت جُنح الظلام يوماً وتحت الشمس أياما .

4ـ لقد أرفّقَ بنفسه قليلاً بعد أنْ أمهلها فوجد حلاًّ لا يرفضه بادئ الأمر، لكنه حلٌّ فيه من الضرر المعاكس بقدر ما فيه من فوائد . لنستمع إلى ما قال وهو في الذروة من حالات الصراع مع الذات حتى وصلت حرارة تفكيره درجة الغليان فاختلطت عليه الأمورُ [[ لا تَفكِّرْ بأمرٍ ولا تشغلْ فكرك الأبله بقضايا الثورات ! لكنْ كيف يُمكنكَ الإستغناء عن الثوراتِ وأنتَ بحاجةٍ إلى ثورةٍ داخليةٍ وإنقلابٍ على ذاتك تغسلُ به ما تبقّى من أفكاركَ الثورية وتطردُ سفسفاتِ الإنسانية والمستضعفين من ذهنك ]]. ماذا نجد هنا من عناصر متصارعة إلى الحد الأقصى وجميعها في حالة غليان شديدة ؟ [[ كيف يمكنك الإستغناء عن الثورات وأنتَ بحاجةٍ إلى ثورةٍ داخليةٍ وإنقلابٍ على ذاتكَ تغسلُ به ما تبقّى من أفكاركَ الثورية ... ]] . الثورةُ مستمرةٌ إذاً حسب فلسفة البطل الحائر الذي كان يوماً ثائراً. وللثورة وجهان أو طوران متداخلان : ثورة خارجية على العدو الطبقي أو المحتل أو المستعمِر ، وثورة داخلية هي الثورة ضد الثورة ... وهذه حسب فلسفة صاحبنا ثورة تطهير النفس مما حملت من أفكار وعقائد ثورية مُصمَّمة في الأساس لتحرير الفقراء والمستضعفين في الأرض .. كفرَ البطلُ السلبيُّ بالجميع وتنصّلَ عن الجميع ولم يعدْ إلا شخصاً كارهاً لنفسه حاقداً على ماضيه بَرِماً بحاضره الشديد الوطأة بما يحملُ من أوزارٍ ثقيلة لا يستطيعُ أنْ يتحملَ عبئها . فثمّةُ ثورة ضارّة كما يرى بطلنا وأخرى نافعة وهما وجهان لعملة أو ظاهرة واحدة لا ينفصلان . الثورةُ الضارّةُ تُحوِجُ الإنسانَ لثورة مضادة نافعة فلا من سبيلٍ إذاً للخلاص من الأولى وهذه إحدى تناقضات الفكر الإنساني التي لم تزلْ دون دراسة أو حلٍ معروف مقبول . كيف يتخلّصُ الإنسانُ من حاجةٍ لا بُدَّ منها ولا تتامُّ وتكتملُ حياته إلا بها ؟ أإذا تخلّى عن الثورة والثورات وإيديولوجيات الدفاع عن الفقراء وتحريرهم من وطأة النير الطبقي ( أسماها كاتب القصة سفسفات الإنسانية والمستضعفين والأفضلُ سفاسف بدلَ سفسفات ) عجز عن مواجهة نفسه ومستلزمات التخلص من الأفكار الثورية أو الثوروية أي إنه مشلول الإرادة يعجزُ عن الحركة نحو الأهداف وقد جرّد نفسه من الوسائل وإمكانيات إنجاز ذلك .. ربَّ ضارةٍ نافعة كما قال حكماء العرب أو كما قال المتنبي

ومن العداوةِ ما ينالُكَ نفعُهُ

ومن الصداقةِ ما يضرُّ ويؤلمُ

5ـ [[ حينَ تذكّرتَها وزُرتَها في بيتها الذي ولدتكَ فيه رفضتَ النظرَ في وجهك ، ذهبتَ إلى غرفتكَ القديمة نظرتَ في مرآتكَ القديمة رأيتَ وجهكَ القديمَ / أفزعكَ / عُدتَ إليها طفلاً خائفاً كما كنتَ تفعلُ سابقاً ترتمي في أحضانها ... / لم تجدها / ... أسرعتَ إلى مرآتكَ الجديدةِ تتأبّطُ ثوبَ عُريكَ وعادَ متأبطاً جُرحَهُ ونزفَهُ . فارقٌ كبيرٌ بينكَ وبينه ]] .

هنا بلغ كاتبُنا ذروةَ تجلّيه في إبداع الكتابة والفكر الإنساني . هنا وضع المندحرُ نفسه في مواجهة نفسه عارياً صريحاً واضحاً أمام مرآتين مختلفتين تماماً واحدةٌ قديمةٌ يرى فيها وجهه الثوريَّ السابق الناصع ومرآة ثانية جديدة يرى فيها وجهه الجديد بعد إندحاره وسقوطه المدوّي . يرمزُ الكاتبُ في هذا المقطع إلى مقر الحزب الشيوعي ، كما إخالُ ، إذْ قال [[ حين تذكّرتها وزرتها في بيتها الذي ولدتكَ فيه ]] أي إنه رجع بذاكرته القهقرى إلى أيام فتوّته وفورة ثوريته وصباه حيث إنتمى ونشأ في أحضان حزبه الثوري . هنا يرى وجهه السابق النقي الناصع المفعم بالحماس وما في المُثل من سحرٍ وقوة المثال . أفزعه مرآى ماضيه الناصع السابق على السقوط فحاول الإلتجاء أو الإحتماء بالحزب الذي خانه لكنه لم يجده ! الحزب الثوري لا يٌسعفَ مَن يخونه ! وحين لم يمددْ له حزبه يدَ العون ولم يسعفه أو يغفر خطيئته له وجدَ نفسه في مواجهة نفسه الحالية الراهنة في مرحلة بعد الإنهيار والسقوط . لا بدَّ له من ملجأ يحتمي به وجدارٍ يتكئ عليه لإراحة نفسه من العبء الثقيل الذي يحمله فوق ظهره . إذا كانت هذه القراءة ، كقراءة ، صحيحة فإنها غير حقيقية النتائج فالواقع الراهن في العراق ـ كما نسمع ونقرأ ـ يدحضُ مضمون هذه القراءة ... أعني أنَّ الحزبَ الشيوعي قد فتح أبوابه وأحضانه لكافة الشيوعيين السابقين ممن تخلوا عنه بالتبرؤ منه أو خانوه بإفشاء أسراره وكشف تنظيماته أو إصطفوا مع الأعداء عناصرَ أمنٍ ومخابراتٍ وكتبةَ تقارير . هذه هي سياسة الحزب الحالية وهي موضع جدل ساخن داخل وخارج العراق .

هل هذه هي بالضبط قصة تجربة الدكتور نجم السرّاجي نفسه مع الحزب الشيوعي العراقي ؟ بقيت فترة حصولها غير واضحة فهل وقعت بعد إنقلاب شباط 1963 الدموي الفاشي أم بعد عام 1978 عام إنهيار الجبهة الوطنية مع حزب البعث ، أم الكلام فيها عن الإنشقاق الكبير الذي تزعمه السيد عزيز الحاج وفشلَ كما هو معروف ؟! حصلت الإنهيارات في هذه الأحداث الجسام جميعاً التي مرَّ بها الحزب الشيوعي

هوامش

*ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد / المؤلف : أحمد علبي / الناشر دار الفارابي ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الجديدة 1991 .

**

في محاورة طريفة وقعت بين الحلاّج والمتصوف البغدادي والزاهد الكبير الجُنيد قال الجُنيد وقد سمع طرقاً على باب بيته :

ـ مَنْ الطارقُ ؟

أجاب الحلاّجُ : أنا الحقُّ

قال له الجنيد : بل أنتَ بالحق

أجاب الحلاّجُ : كلاّ ، أنا الحقُّ . سأحررُ أُمتي وأحققُ خلودي باللهِ من خلودي فيها. فقال له الجُنيد [[ ستَخلُدُ في نارِ لعنتها . أنتَ مُتجبِّرٌ طمّاعٌ ، مُغامر طيّاش، ستُحدِثُ في الإسلامِ ثُغرةً لا يسدُّها إلا رأسُك ! .

من كتاب { الحلاّجُ أو وضوء الدم } ، الصفحة 104. المؤلف : ميشال فريد غريب / الناشر : منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت ، الطبعة الأولى بدون تأريخ !

الاثنين، أبريل 27، 2009

من شباب الاقباط إلى : كل قبطى غيور

عادل عطية

ماذا ننتظر بعد حوادث القتل والنهب والخطف والاغتصاب ؟!
ماذا بعد الاسلمة بالاكراه ، وبالتزوير فى المستدات وفى الهويات ؟!
ماذا ننتظر بعد صدور كتاب محمد عمارة وتصريحه بانقراض المسيحيين فى مصر فى خلال اقل من مئة عام ؟!
ألا يذكرنا هذا بتصريح الرئيس السادات بأن الاقباط سيصبحون خلال سنوات معدودة ماسحى احذية ؟!
ان الموضوع ليس امنيات ولا تنبوءات ولا احلام ، انها تدل على ان هناك اجندة موضوعة باحكام وهى تنفذ على مراحل للقضاء على المسيحية فى مصر وفى العالم .
لذلك نعرض على كل قبطى غيور ، وعلى كل الهيئات والمنظمات القبطية ، اقتراح بمشروع تأسيس ما نسميه بـ : " المجلس الوطنى للأقباط " ، وليكن مقره مؤقتاً فى احدى بلاد المهجر ، وبمباركة وتعزيز حكومات العالم الحر يتكون من خيرة رجال ونساء وشباب الاقباط الفاعلين وذوى المكانة والنفوذ فى المجتمع المحلى والدولى مجلس علمانى بعيدا عن الكنيسة كسلطة دينية لها رسالتها الخاصة
ينبثق عن هذا المجلس مجموعة من الدوائر الشبيهة بالوزارت فى النظم الدولية ، على سبيل المثال :
دائرة الإعلام القبطى : ومهمتها ، اطلاق فضائية وليكن اسمها : " الأقباط اليوم " ، لفضح اساليب القهر والعدوان والقتل والخطف والاغتصاب وغيرها من فنون الاضطهاد امام الرأى العام العالمى ، والرد على الاعلام الوهابى الهدام
دائرة الإسكان : ومهمتها بناء وحدات سكنية للذين لا يجدون سكنا لضيق ذات اليد وفى مجتمع يرفض تسكين المسيحيين كما يساعد المقبلين على الزواج فى ايجاد سكن لهم بسعر فى متناول يدهم وبالتقسيط
دائرة التعليم : ومهمتها بناء المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة ،والتى تخضع لنظم التعليم الدولى ، والتى تتيح لاولادنا تبوأ اسمى المناصب فى عالمنا وكفانا تعليما منحازا ومتعصبا
دائرة حقوق الاقباط : دائرة قانونية مهمتها حماية الاقباط ، وعرض قضاياهم على المحاكم المصرية والدولية وملاحقة الخاطفين والمغتصبين لبناتنا ، والذين يقتلوننا بدم بارد
دائرة الغذاء : ومهمتها انشاء شركات لاستيراد القمح ، وانشاء مخابز على مستوى نموذجى ، ليأكل القبطى خبزا آدميا ، بالاضافة الى استيراد مواد غذائية ، بعيدا عن الشركات التى تستورد لنا الاردأ والاسوأ والمحملة بالامراض القاتلة
نريد أن نعتمد على انفسنا ، ونحيا حياة كريمة داخل منظومة الوطن الام
فهل أنتم فاعلون ؟!

( إله السماء يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبنى ) نحميا 2 : 20

حَبِيبِي طال حِرْمانِي

محمد محمد على جنيدي

حَبِيبِي طال حِرْمانِي
وَرَبُّ الْكَوْنِ يَشْهَدُنِي
بِعَادِي عَنْكَ يَقْتِلُنِي
مَتَى يَرْتاحُ وجْدانِي

حَبِيبِي طال حِرْمانِي
أهَذَا النَّجْمُ أدْرِكُهُ
وهَذَا الْلَيْلُ أحْمِلُهُ
عَلَى قَلْبِي وَتَنْسانِي

حَبِيبِي طال حِرْمانِي
أُحِبُّكُ أنْتَ هَلْ تَدْرِي
أُحِبُّكَ كَالَّذِي يَمْشِي
عَلَى نَارٍ بِلا حَانِ

حَبِيبِي طال حِرْمانِي
أمَانِي الْقَلْبِ تَرْفَعُهُ
وماضِي الْوَصْلِ يُغْرِقُهُ
بلا قاعٍ وشُطَّآنِ

حَبِيبِي طال حِرْمانِي
سِهَامُ الْبُعْدِ تَخْتَرِقُ
فَلا مَوْتٌ وَلا عِتْقٌ
وَلا صَبْرٌ بِإمْكانِي

حَبِيبِي طال حِرْمانِي
مَتَى تَدْنُو إلى عَيْنِي
مَتَى ألْقَاكَ يَا عُمْرِي
أُعَانِقُ فِيكَ أوْطانِي


ديوان / واحة من الحب

إنها تحبُّ الخطَّ العربيَّ

د. عدنان الظاهر


( مقابلة تلفزيونية لا وجودَ لها ... )

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التدللِ

فإنْ كنتِ قد أزمعتِ قتلي فأمهلي

قالت ألله الله ! أهذا غزلٌ أم قتلٌ ؟ بل غزلٌ قاتلٌ يا جميلة الجميلات ، أجبتها . قالتْ ومَن القاتلُ ، أم غزلُك ؟ كلاهما يا جميلة الجميلات ، كلاهما يا سيدتي وسيدة الزهور في الدنيا والآخرة . ضحكت السيدةُ الجميلةُ بكلِّ ما في صدرها من هواءٍ ثم قالت : قد أفهمُ أنْ أكونَ سيدةَ الزهورِ في الدنيا فكيف أكونها في الآخرة ، من أين لك هذا الخيالُ الغريبُ ؟ ليس في الأمر غرابةٌ يا جميلتي الحلوة ومليكة المغرب والغروب . أليس في الآخرة ، بعد الحياة ، جناتٌ وعيونٌ وحورٌ عينٌ ؟ إذاً كيف لا تكون في هذه الجنات زهورٌ وورودٌ وخدودٌ حاملات أشهى وأرقى أنواع العطور . قالت محتجّةً ومن قال لك إنَّ نصيبي بعد حياتي هو الجنة وليس النار ؟ لا من مشكلة سيدتي ، سأقلبُ عندذاك ناركِ إلى جنّاتٍ وعيون ونخيلٍ وأعنابٍ وكرومٍ دانيةٍ قطوفها . لا ينفعُ سحرٌ هناك ، علّقتْ . بلى ، قلتُ ، سحري في حبّي فالحب أعظمُ ساحرٍ في الوجود . سأحوّلُ ناركِ بحبي إلى جنّة لا مثيلَ لها ، صدقيني . نظرتْ في عينيَّ بشكَّ وترددِ مَن لا يصدّقُ ما يسمعُ . وقفتُ لأقولَ ما قرأتُ ذاتَ يومٍ : يا نارُ كوني برداً وسلاماً على حبيبتي التي تشكّكُ في دعاويَّ . قالت عليك اللعنة ، كيف حوّرتَ كلامَ الله ؟ في الحبِّ تزولُ الفوارقُ بين المخلوق والخالق ، قلتُ ، يحلُّ أحدُهُما في الآخر ، فقدرة ذاك وخوارقه من قدرات وخوارق هذا . قالت بنفاد صبرٍ لكنَّ هذا من كلامِ المتصوِّفة . وأنا أحدهم حسب الوقت والمناسبة والمزاج . أفلمْ تقرأي :

أنا مِن يهوى ومِن يهوى أنا

نحنُ روحانِ أحلاّ بدنا

قالت أضجرني حديثك عن الصوفية والتصوف وما كنتُ فيهم أو منهم يوماً . ماذا تقترحُ إذاً جميلة جميلات جنات الخلود ؟ إقرأ لي شيئاً من الأشعار الخفيفة المحوّرة . سمعاً وطاعةً يا حلوتي :

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التعسّفِ

فإنْ كنتِ قد أزمعتِ قتلي فأنصفي

قالت مُحتجّةً وما أحلاها حين تغضبُ أو تحتجُّ : وهل في القتل إنصافٌ يا هذا ومتى كان القَتَلةُ منصفين ؟ بلغتُ ذروة سروري الباطني حين سمعتها تنطقُ بهذا القول ففيه حكمةٌ وفيه نضوجٌ سياسي ـ إجتماعي وفيه وفيه ... فصرتُ أردد كالمعتوه مع نفسي [[ متى كان القَتَلةُ منصفينَ ، متى متى متى ؟ ]] . هل صاغ ربَّكِ فمَكِ من زبرجدٍ وعقيق وماسٍ وذهب ؟ ليتني بل ليت أقداري تسمحُ يوماً لي بتقبيلِ هذا الثغر الملائكي وأنْ أَطيفَ مُحرِماً حاجّاً ومُعتَمِراً حوله ثم أرشق رأسي بسبع جَمَراتٍ لأنتهي قتيلاً ولأسفحَ ما تبقّى في عروقي من دمٍ أُضحيةً تتقرّبُ بها إلى خالقها الذي خلقها فسوّاها وعجزَ عن خلقِ أخرى سواها . تركتني أسيحُ على غير هُدىً ضارباً في براري وسفوح جبال نجدٍ ووديان ثقيف [ يا ريمُ وادي ثقيف ... ] أبحثُ عن آثار أقدام قيس بن الملوّح مجنون ليلى لعلّي أجد فيها بعضَ السلوى فقد برّحني الهوى وأضناني والعاشقُ للعاشق طبيبٌ وطبٌّ ورفيقٌ ومرهمٌ. حين عدتُ إليها وجدتها صامتةً مُغمَضةَ العينين فضاقت الدنيا في صدري وعيني وتذكّرتُ شعر أبي الطيّب المتنبي في رثاء جدته لأمه :

وما اسودّت الدنيا بعيني لضيقها

ولكنَّ طَرفاً لا أراكِ بهِ أعمى

إفتحي عينيك يا جناحَ حمامةٍ يخفقُ في صدري شهيقاً وزفيراً ، فَرَحاً وحزناً ، أملاً ويأساً

عودي ففي قلبي جناحٌ مُخفِقٌ

جريحٌ ، وفي الدنيا حبيبٌ مُحرِّمُ

إفتحي نوافذَ جفنيك لأرى نور شموس عينيك المنحوتتين من أكثر جذوع سيقان أشجار الجوز صلابةً وعنفواناً . هل رأيتِ إنعكاساتِ ألوان غابات الجوز في الظلال المحيطة بعينيك تستجدي الإذنَ بالدخول إلى عالمك الليليِّ الغامض فأبوابك ليست مُشرَعةً بل وأبوابُ أسراركِ موصدةٌ بأقفال من حديد عديم الصدأ . كانت وهي في شرودها وإغماضةِ عينيها تتابعُ ما أقول في سرّي لذا ما أنْ إنبلجَ فجرُ قيلولتها القصيرةِ حتى سألتني المزيدَ من الشعر المحوَّر فأنشدتها على الفور:

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التطرّفِ

فإنْ كنتِ قد أزمعتِ هجري فخففي

قالتْ وما زالتْ نصفَ نائمةٍ ـ نصفَ حالمةٍ أفلمْ تملَّ بعدُ من ذِكر القتل والهجر والتعسّف ؟ أهذا هوى أم هاوية ؟ معك حق يا أميرةَ الأميراتِ ويا جامحةَ اللهَفاتِ الناريّة فإني لم أقترح هذا اللقاء التلفزيوني المذاع على الهواء إلا لأفرحَ بك أمامَ العالمين وأفتخرَ وأتشرّفَ بمعرفتك بل وبصداقتك . قالت وهل إنتهى الوقتُ المخصّصُ لهذا " الإنترفيو " ؟ كلا يا ضيفتي وأميرتي ، لم ينتهِ الوقتُ المخصّصُ للقائكِ الأسطوريِّ هذا يا مليكةَ عرشِ الطاووس الشاهنشاهي والأطلسي والأوراس وما وراءهما وما فوقهما . لا أريد الوقتَ أنْ يمرَّ وأنتِ معي وأنا في حضرتك ركوعاً وسجوداً ، قعوداً وقياماً ، رقدةً وقيامةً ، صدّقيني .. لم ينتهِ وقتنا بعدُ وأمامي سؤالٌ من مشاهد عراقي في بغدادَ قال عن نفسه إنه شاعرٌ وصحافيٌّ وإنه على معرفة طفيفة بك . قالت ما اسمه ؟ إسمه خالد يا مولاتي .. قالت هاته فليسأل ما شاءَ فبغدادُ عليَّ عزيزةٌ مُذْ قرأتُ كتابَ ألف ليلةٍ وليلة وتعرّفتُ على شعر علي الجارم الذي إستهله بالبيت الشعري [[ بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ // ومنارةَ المجدِ التليدِ ]] . خلع قبّعته كاشفاً رأسه ثم حيّاها الشاعرُ خالد من مقرِّ إتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين في قلب بغداد تحيةَ الأميرات ثم سألها أصحيحٌ أنها تحبُّ الخطَّ العربيَّ ؟ قالت أجلْ ، وأمارِسُهُ أحياناً وقد تعرّفتُ حديثاً على فنان عراقي ـ أمريكي يمارس الخطَّ بأساليبه الخاصة وله كتابٌ كالأعجوبة نشره في الآونة الأخيرة وقرأتُ عنه في بعض المواقع لو إطّلعتَ على ما فيه من كنوز لأصابك الذهولُ وما هو أكبرُ من الذهول ! طلبَ منها إسمَ هذا الفنان العبقري فقالت إسالْ عنه هذا الرجل صاحب الإنترفيو فهو صديقُهُ وقد كتب عنه وعن كتاب خطوطه قبل فترةٍ وجيزةٍ . يا مُصدَّقُ الحبيبُ ! هل تودُّ التعرفَّ على هذه السيدة التُحفةِ النادرة المثال وهي تصلح نموذجاً ( موديلاً ) لبعض خطوطك فإنْ تعذّرَ عليك رسم وجهها الأسطوري بالخطوط فلا بأس من رسم إسمها كما فعلتَ مع ملهمتك السابقة البغدادية شهرزاد . أجابَ مُصدَّق الحبيبُ : أتشرّفُ بالتعرّفِ عليها وأنا بالفعل بحاجةٍ ماسّةٍ لوجوه نسائية تتميزُ بجمالٍ خاص وملامحَ متفرّدة أقرأُ فيها قوّة شخصية صاحبتها وما تُخفي في صدرها وتحت أديم بشرتها من خفايا وأسرار لايستطيعُ كشفها إلا شيطانٌ أو فنانٌ خبيرٌ بشؤونِ الوجوه . الرسّامُ طبيبٌ نفسانيٌّ وحكيمٌ روحانيٌّ ومسبارٌ عميقُ الأغوارِ . وهل سبقَ وأنْ رأيتَ هذا الوجه أو صاحبةَ هذا الوجه ؟ قال أراها الآنَ على شاشة التلفزيون في برنامجك أمامي وقد سبق وأنْ رأيتُ صورتها منشورةً في بعض المواقع سويةً مع بعض قصصها أو أشعارها فقلتُ صارخاً وجدتُها ... ها قد عثرتُ أخيراً على ضالتّي المنشودة . ألا تخشى الوقوع ، وأنت ترسمها وتخطُ ملامحها وتزخّرفُ إسمها ، ألا تخشى الوقوع في حبّها كما وقعت الطبيبةُ النفسانيةُ المغربية في حب مريضها الشاعر أو كما وقع إبن زيدون في هوى ولاّدة بنت المستكفي ؟ تنهدَّ الفنانُ ـ العالمُ ـ الخطّاطُ عميقاً وهو يشعلُ سيجاره الكوبيَّ الضخم ثم قال : ليتني بالفعل أستطيعُ أنْ أقعَ في غرامِ صاحبةِ هذا الوجه إذْ أني أجدُ فيه وفيها كلَّ ما تشتهي نفسي إنساناً ورجلاً ثم خطّاطاً فناناً . هي النموذجُ الأكملُ والأنقى والأقوى والقوةُ تُغريني وتقوّي وتطوّرُ قدراتي على خلق وإبتداع تشكيلاتِ خطيّة جديدة لم يسبقني إليها أحدٌ من مشاهير قدماء الخطاطين أمثال إبن مُقلة ثم المستعصمي العباسي . ثم قال بلهفة أين أجدها ؟ هذه هي أمامك يا مُصدَّق ، أمامك تراها بلحمها ودمها تتألقُ مالئةً فضاءَ شاشة التلفزيون بل والفضاء الممتد من بغداد حتى الدار البيضاء . تدخّلَ الشاعرُ البغداديُّ خالدُ قائلاً : فضاءُ بغدادَ مغلقٌ علينا وعلى كافة الشواعر المبدعات وهذه السيدة حصّتنا لا ينافسنا عليها أحدٌ في الدنيا وهي قسمتنا ونصيبنا فبأي حقٍّ يأتينا فنانٌ خطّاطٌ من أقصى بقاع الدنيا لينافسَنا نحن الفقراء المساكين المغلوبين على أمرنا ؟ ليتركَ ما لنا وليأخذ ما له ويعطينا عَرْضَ أكتافهِ . لم يعترضْ ولم يحتجَّ الفنانُ بل إعتذرَ وأعلن إنسحابه من حَلَبة النزاع بأدب وخُلقٍ عالٍ وهذه شيمةُ العلماء . ما رأيُكِ يا نجمةَ هذا الإنترفيو ؟ لم تفكّرْ طويلاً حين قالت أنا شاعرةٌ وصحافيةٌ حرّةٌ وقراري في يدي أصادقُ مَنْ أُصادقُ وأُفارقُ مَنْ أُفارقُ وكلُّ فضاء الكون مفتوحٌ أمامي وليس من حقِّ أحدٍ الإدعاءَ بغلق أو إنغلاق هذا الأفق أو ذاك . إختفت زهرة الآفاق والمدائن الخيالية بعد أنْ قالت ما قالت واختفى معها الفنانُ الخطّاطُ راكباً أول طائرةٍ متجهّةٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولم يتبقَ أمامي إلا الصحافيُّ المسكينُ الغيورُعلى ليلاه الممتنعة عنه والعصيّة عليه فرأيته غارقاً في دموعه حسرةً على التي غابت دون كلمة وداع وشفَقَةً على نفسه التي خابت ولم تحققْ في تلكم المقابلة أيَّ مكسبٍ .

إنتهى الوقتُ المُخصّصُ لهذا الإنترفيو فما رأي مشاهديه الكرام ؟

ما رأيكِ سيدتي التي غابت كما تغيبُ الأقمارُ وقد قال فيها إبن زُريق البغدادي في سالف الزمان :

أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً

بالكرخِ من فَلَكِ الأزرارِ مَطلَعُهُ

وما رأيُكَ أنت يا مُصدَّقُ الحبيبُ ؟ سأنتَظِرُها ، أجابَ ... أنتظرُ وصولها لي [ بلهفةٍ متأجّجةٍ ] ... أنتظر وصولَها فلقد وعدتْ وحدّدتْ يوماً بعينه لوصولها لمرسمي الذي أعددته وجهّزتُهُ خصيصاً لإستقبال موديلاتِ ملكاتِ الزمانِ من مثيلاتها . تركتُ معها الكارد الذي يحملُ إسمي وعنواني وأرقام تلفوناتي الأرضية والمحمولة .

أقفلتُ جهازَ تلفزيوني إذْ لم أجدْ أحداً في بيتي سوايَ !!

إنتهى الوقتُ المُخصّصُ لأحلام اليَقَظة وسياحات الخيال وهلوسات الأماني الراكظة خلف السراب !!

الأحد، أبريل 26، 2009

من سن القلم: الاسم المرفوع من الترجمة

عادل عطية

" يجرحني الواقع المدبب ، ينزف المداد ، يتحول ألمي إلى ألم مقدس ، يثير ألم الآخر ، ولكن بسن القلم ! "
**
ابن الابالسة
تعودنا أن نطلق على الطفل الذكى النابغة ، اسم : عفريت ، أو شيطان من تحت الارض !
فاذا شب هذا الطفل عن الطوق ، وصار رجلا مسئولا ، مسنونا ، مسنودا ، صرخنا فى وجهه : " فين الانسانية ؟!" ، " ما عندكش ضمير ؟! " ، " ما فيش رحمة ؟!" 000
وربما يسأل نفسه بعد أن نتركه ، قائلا :
" يعنى ايه : انسانية ، وضمير ، ورحمة ؟! "

**

الأرض أم السماء ؟!...

يطالعنا شيوخ الفضائيات بتنبؤات حالمة : بإقتراب أمتلاك المسلمين لكل الأقطار والأمصار !
وتخيّل أحدهم فى كتابه : بأن الأقباط سوف ينقروض من مصر خلال مائة عام !
ولأن الأرضيات للأرضيين ، والسماويات للسمائيين
فهنيئاً لهم الأرض ، وهنيئاً لنا السماء !

**
الاسم المرفوع من الترجمة

فى الحلقات ، والافلام الاجنبية ، التى تعرض على الشاشة الصغيرة ،
يكثر تعبير : OH , MY GOD
وتعبير : JESUS CHRIST
فى المواقف التى تنم عن الاندهاش والتأثر
التعبير الأول ، لا يمثل مشكلة لدى المترجم ، فتظهر ترجمته : يا الهى!
أما التعبير الأخير : يسوع المسيح ، فان معامل الترجمة بدمشق ، تظهره : ياالهى - أيضا - على اعتبار المفهوم من التعبير لدى المسيحيين
وفى الآونة الاخيرة ، ولأنه يبدو أن التعبير الاخير صار يرد أكثر من اللازم ، فلم يعد هذا التعبير يترجم ويتم تجاهله وكأنه لم ينطق به
مع أن هذا الاسم ، يسوع المسيح
هو أيضا : المسيح عيسى بن مريم ، المكرم جزيلا فى القرآن !

**
مساكين !!

البحر لدى كثيرين ، أشبه بهدب الثوب الذى متى لمسوه عادوا أصحاء !
انهم يأتون اليه من كل فج عميق ،
يئنون من أمراض اليابسة :
الزحام ، المداخن ، جحيم الانسان المطلق
لذلك خلق الله البحر باهرا فى عمقه ، واتساعه ، ومداه ، ورحابه
ليجد كل انسان صدرا رحيبا شافيا
حيث حرية الانطلاق بين سمائين : سماء البحر ، وسماء الأفق البعيد !
يحلم بالحياة بعيدا عن جاذبية الارض
جاذبية الوحل والشوك والصخور
ولكن من كثرة ما أرتمينا فى احضان البحر ، صار البحر مريضا فى أحضاننا !
مسكين البحر ، الذى تلوث بنا
ومسكين الانسان ، الذى صنع التلوث ، لنفسه ، وللكون !!

**
كعك المدارس وكعك العيد

لا أدرى لماذا تعودنا أن نطلق لفظة : " كحكة " على تلك العلامة الدائرية الملونة بالمداد الأحمر حول الدرجات الضعيفة جدا المعطاة فى شهادة الطلاب الخائبين ؟!
مع أن الدائرة ترمز الى اللا أمل والى الدوخة بعيد عنكم
ألسنا نقول : هذا الشخص يلف حول نفسه !
اننى لم أجد علاقة بين الفاشلين فى المدرسة وحلاوة وطعامة " كحكة " العيد اللهم الا الدائرة التى تكوّن الدبلة التى يحملها المتزوجون ، ويحمّلونها فشل حياتهم الزوجية !

**

طباشير وتباشير

أمر أحد المعلمين باحدى المدارس ، طلاب صفه ، بأن يشترى كل واحد منهم علبة طباشير ، ومقابل ذلك يضيف لمن يحضر العلبة : " عشر درجات " فى دفتر أعمال السنة !
وتصورت آلاف الطلاب ، وهم يضعون كتبهم المدرسية على الرف ، فلا مذاكرة ولا "وجع دماغ" ولا قلق من رسوب !
وتصورت أيضاً: لو عمّمت المصالح الحكومية هذا النهج ، فيحصل الموظفون على درجاتهم الوظيفية بنفس الاسلوب أو بغيره ، فلا رسوب وظيفى ولا تأخر فى الترقيات !
ومع احترامى لهذا المدرس ، الذى اكتسب خبرة قهوجية فى التعامل ، فهناك بالتأكيد فروق كبيرة بين القهوجى الذى يقدم الطلبات لبعض الزبائن على الطباشيرة – أى على الحساب- وأن يعطى المعلم علامات ايجابية لغير مستحقيها بالطباشيرة
فالقهوجى ، سيتعلم الصبر والانتظار الجميل حتى يحصل على فلوسه!
أما المدرس هذا ، فسيعلم تلاميذه كيف يكونوا من الرشاة والمرتشين !

هل هو حلم؟

نبيل عودة

عام 1990 دعيت من قبل الجمعية الروسية الفلسطينية لزيارة الاتحاد السوفياتي سابقا. وفعلا لبيت الدعوة وسافرت الى هناك وحللت ضيفا على الجمعية في مدينتين لهما تاريخ عظيم واثر كبير هما: موسكو ولينغراد. اولا حللت ضيفا على الجمعية في مدينة لينغراد, وكاي زائر اجنبي يزور بلادا لاول مرة, طلبت من المضيفين زيارة الاماكن الاثرية والسياحية في المدينة, وكما هو معروف للجميع لينغراد اليوم سانت بطرسبورغ عاصمة من عواصم الادب والفكر والفن والتاريخ. اثناء تنقلي بين عظمة الهيرميتاج وروعة المتاحف والقصور الاخرى, اقترح عليّ مرافقي ان نزور سوية مقصف او قهوة الادباء, ودهشت حين سمعت الاسم وتساءلت وهل للادباء مقصف هنا؟ وماذا يعني مرافقي بذلك؟ هل هي حقيقة ما يقول؟ شدني حب الاستطلاع المقرون بالدهشة لزيارة المكان, ورحت استعجل الساعات الى هناك. دخلنا المكان واذا به واسع ضخم يتكون من طابقين, في الاول قاعة كبيرة تصطف فيها طاولات مستديرة يتحلق حولها جمع كبير ومن زاوية معتمة فيها انبعثت موسيقى هادئة جميلة كان يعزفها عازفان ماهران الاول على البيانو والثاني على الكمان. وكان جمهور الحاضرين يثرثر بصوت هادىء لا تسمع منه سوى الاحرف الصفيرية- كما يقول البحتري- وكانت تنبعث من هنا وهناك بعض الضحكات والاهات. استفسرت فقال مرافقي انهم جمهور الادباء في لينغراد ياتون في المساء الى بيتهم ليلتقوا بعضهم وليتداولوا ويتباحثوا في القضايا التي تهمهم. هذه هي قاعتهم, وهذا هو مقصفهم فيه يجلسون ويتبادلون اطراف الحديث ويستمعون الى الموسيقى وياكلون ويشربون كل حسب هواه, اما القاعة العليا فهي قاعة للندوات والمحاضرات, حيث تعقد فيها- وفق برنامج شهري ينشر على الناس سلفا- في كل اسبوع ندوة او تقام محاضرة حول كتاب ما او موضوع معين, وهذه الندوات والمحاضرات مفتوحة للجمهور, ولكن من يدخل يدفع بعض الرسوم المادية وذلك لتشجيع الادب والادباء. ما اعظم هذه الفكرة! وما اكبر مغزاها! وما اروع رسالتها! قلت في نفسي وكتمت الامر على مضض وانا اعلك افكاري متسائلا بيني وبين نفسي اين نحن من كل هذا؟! ورغم الدهشة المقرونة بالاعجاب التي اصابتني في حينه حاولت ان اتناسى الامر وذلك لسببين: الاول لانني لم اكن متفائلا لدرجة تجعلني اجرؤ على طرح الفكرة على ادبائنا ومؤسساتنا وذلك لعلمي الاكيد بالحالة المادية التي نعيشها, والثاني: لأن الايام التي مرّت تجعل الحماس لفكرة ما يفتر. ولكن الاشياء او الافكار الجميلة على ما يبدو ترفض التكتم وتابى السكون مهما حاولنا ذلك, فهي في الواقع تتفجر فينا ثانية حين تجد الفرصة المناسبة وتعود لتحتل مكان الصدارة. وهذا فعلا ما حدث لي قبل ايام قلائل اثناء وجودي في مدينة ادنبرة في اسكتلندة, حيث زرت هناك ايضا بيت الكتاب كما يسمونه, ووجدت شيئا مشابها للينغراد, مع اضافة اخرى هي ان هذا البيت على كونه ملتقى للادباء يضم في داخله متحفا صغيرا يروي تاريخ الادباء الذين رحلوا او الذين كانت لهم بصمات على تطور الادب الانجليزي وخاصة الاسكتلندي. مرة اخرى هزني هذا البيت وارتفع سؤال كبير حاولت الا اتيح له الانفلات سنوات ست. الا يحق لكتابنا وادبائنا مثل هذا الاحترام؟ ومثل هذه العناية؟ الا يليق بهم وهم مهندسو الارواح البشرية, الذين وقفوا وما زالوا الى جانب قضايا شعبهم مدافعين عنه وراسمين له الحلم الاخضر مثل هذا البيت؟ اما حان الوقت بعد لنكرمهم مثل هذا التكريم؟ كم منهم ضحى حتى بلقمة اطفاله من اجل قصيدة! كم منهم سجن وعذّب! كم منهم دفع مستقبله ضريبة من اجل مجموعة شعرية او قصصية وكم منهم تنازل عن اغراءات كثيرة من اجل مبدا التزمه! انهم يستحقون مثل هذا الاحترام والتقدير بل اكثر والمسالة ليست صعبة كما يتصورها البعض.
هل اكون في حلم او هذيان! اذا تصورت ادباءنا في المستقبل القريب يضمهم بيت دافىء يلتقون فيه ولو مرة في الاسبوع ليتداولوا وليتناقشوا وليتبادلوا الاراء والتجارب! وهل هناك طريقة تثري عالمهم الادبي احسن من ذلك! اعتقد انه بهذه الطريقة فقط يمكن ان ننشط حركتنا الادبية التي باتت تشكو من الترهل وان ننتشلها من الركود, وهكذا نشجع جمهورنا ونحتم عليه احترامنا واحترام ادبنا وكما اعتقد ان الوقت قد حان لتنفيذ هذه الفكرة خاصة وان ادباءنا لا يقلون قدرا ومعرفة وفنا عن غيرهم من ادباء الشعوب الاخرى. انظروا الى الادباء اليهود والى بيت الاديب في تل ابيب اليس هو الاخر يشبه البيتين السابقين؟ الايحق لادبائنا ان يكونوا مثل اخوانهم اليهود؟ صحيح ان الفكرة متاخرة ولكن تاخرها لا يعني عدم تنفيذها, بل في رايي ان الوقت مناسب الان لاعادة النظر في كل ذلك من جديد.
في الماضي تفرق ادباؤنا بين اتحاد للكتاب ورابطة, اما اليوم يجمعهم اكثر بكثير من الذي يفرقهم. لننتهز الفرصة اذا ولنعمل سوية على اخراج هذه الفكرة الى حيز التنفيذ وكما ذكرت انفا ان تنفيذها ليس صعبا بل هو سهل وما يلزم هو فقط بعض التشجيع المادي من قبل مؤسساتنا ومتمولينا والتشجيع المعنوي من جمهورنا, ولن يبخلوا جميعهم بذلك. وربما سائل يسال والمكان؟ ماذا مع المكان؟ الاجابة عن ذلك بسيطة, اذ ان المكان متوفر. فها هو بيت الكاتب في الناصرة الذي افتتح قبل سنتين في الانتظار, وهو عندي مكان مناسب, اذ انه واسع وفيه قاعات متعددة تتسع لندواتنا ومحاضراتنا, كما انه يحتوي على مقصف متواضع يمكن تطويره, وفيه ايضا كل ما يلزم من الامكانيات والوسائل, وهو مفتوح يوميا وتحت تصرف الادباء, وليس الحديث هنا عن ادباء الناصرة فقط, بل الحديث عن ادبائنا جميعهم في الجليل والمثلث وسائر المدن والقرى الاخرى.
وبيت الكاتب كما هو معروف للبعض تابع للطائفة العربية الاورثوذكسية في الناصرة وتموله دائرة الثقافة العربية, وقد اقيم خصيصا ليكون ملتقى للادباء ليخدم مصالحهم.
فهل لي ان احلم وان ارى ادباءنا يؤمون هذا البيت ويقيمون فيه الندوات الادبية للجمهور الواسع؟ هل لي ان احلم وان ارى هذا البيت وقد اصبح فعلا ملتقى للادباء وللجمهور, اذ ما يلزم لتنفيذ الفكرة؟ في رايي لا شيء سوى اخذها على محمل الجد من قبل الادباء. فالبيت موجود باثاثه وغرفه ووسائله ومقصفه ولا يبقى سوى ان نؤثثه بالادباء. وانا على يقين من ان مجلس الطائفة العربية الاورثوذكسية سيرحب بهذه الفكرة وسيكون سعيدا اذا حولنا هذا البيت البارد الى بؤرة نشاط واشعاع دافئة. والشيء الوحيد الذي يظل ناقصا هو تحويل البيت ايضا الى متحف يروي تاريخ ادبائنا الفلسطينيين كي تتعرف الاجيال عليهم وعلى تراثهم, ولكن حتى هذا الامر ليس بصعب المنال, اذ اننا قادرون على تقفي اثار ادبائنا بدءا بكشاجم الرملي والقاضي الفاضل, والصفدي, والمقدسي, والعسقلاني, والكرملي, ومرورا بابراهيم طوقان وعبد الرحمن محمود وبابي سلمى, وبمطلق عبد الخالق, وبالبيتجالي, وبنجيب نصار, ويالسكاكيني, وبالنشاشيي, وانتهاءا بجبرا ابراهيم جبرا وتوفيق زياد والقائمة طويلة. نحن قادرون على احياء اسمائهم وتراثهم من جديد ليكون مفتوحا لاجيالنا القادمة.
هل هو حلم؟ ربما, ولكنني لا اعتقد ذلك طالما ان الامر قابل للتنفيذ بسهولة. فهيا ننطلق جميعا الان, لان الفكرة لا تحتمل التاجيل اكثر, فقد طال بنا عهد الفرقة والتفرق والتشتت وصار من الضروري ان نتجمع, خاصة وانا ارى الارهاصات الاولى لهذا التجمع, حيث ان البذور قد بدات تتململ, فقد سمعت مؤخرا ان لفيفا من الادباء قد بدا يحس بهذه الحاجة.
فهل لي ان اتصور نفسي في القريب العاجل جالسا في بيت الكاتب مع الاخرين من الزملاء نصغي الى الموسيقى ونتجاذب اطراف الحديث مع فنجان من القهوة حول قضايانا الادبية والثقافية؟!
هل لي ان اتصور نفسي جالسا في احدى قاعات هذا البيت استمع او اشارك في ندوة اسبوعية تتناول ادبنا وانتاجنا؟!
هل انا احلم؟!
انني ادعو الجميع الى ذلك واهيب بمؤسساتنا وبادبائنا وبمدير بيت الكاتب ان يسرعوا جميعا في تنفيذ هذه الفكرة. فنحن فعلا بحاجة ماسة اليها.
فهل من يستجيب؟!

السبت، أبريل 25، 2009

الأقنعة في رواية: لحظات لاغير

د. وليد جاسم الزبيدي

العنوانُ هو ثريا النّص، كما يقول النقاد في الأدب، وعنوان الرواية، جاء ووُلدَ من حوارات، ومن بين سطور الرواية ومكامنها، في (ص: 126)، يقول بطل الرواية، وحيد الكامل:"تمتّعي باللحظة يا حبيبتي، لنا اللحظات لا غير.".، أمّا الإستهلال في الورقة الأولى:"تريّث قليلاً أيها الموت.. إنّي أكتب."، فلقد جاءت هذه العبارة وانتقتها الروائية في(ص:160)، من خلال حوار، "عندما يحس بتحسن يجلس الى المكتب قائلاً:"تريّث قليلاً أيها الموت..إني أكتب"..والرواية حينما تقرأها تظن للوهلة الأولى أنها مسرحية شعرية، لكثرة المقاطع والنصوص المكتوبة بصوت البطلين، وحيد الكامل والدكتورة أسماء.
القناع "MASQUE" –لغةً بالعربية –ما تتقنّع به المرأة من ثوب تغطّي رأسها ومحاسنها، ، وهو، في اصطلاح المسرحيّين، وجهٌ مستعار من ورق مقوّى أو نسيج أو جلد أو غيره، يُثبت على وجه الممثّل ليخفي ملامحه الأساسية، فيتّخذ نمطاً محدّداً وصفات ثابتة، أو هو الشخصية التي تُظهر غير ما تضمر ، وهو، تاريخياً، وسيلة درامية استّخدمت في رقص القبائل البدائية، ثمّ انتقلت إلى الاحتفالات الدينية، فالمسرح الإغريقي وسواه، ولا تزال تُستخدم حتى يومنا هذا.‏
والقناع في الشعر المعاصر وسيلة درامية للتخفيف من حدّة الغنائية والمباشرة، وهو تقانة جديدة في الشعر الغنائي لخلق موقف درامي أو رمز فنّي يُضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية من الشخصيات، يستعيرها الشاعر من التراث أو من الواقع، ليتحدّث من خلالها عن تجربة معاصرة بضمير المتكلم، إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يميّز تمييزاً جيّداً صوت الشاعر من صوت هذه الشخصية.
فالصوت مزيج من تفاعل صوتي الشاعر والشخصية، ولذلك يكون القناع وسيطاً دراميّاً بين النص والقارئ، وهو وسيط فيه من الشاعر مثلُ ما فيه من الشخصية التراثية التي يمثلها القناع، لأنّ التفاعل بين الطرفين يضفي على الرمز الفني وضعاً جديداً ودلالات جديدة، ولا سيّما أن صوت الماضي يندغم في صوت الحاضر، ويندغم صوت الحاضر في صوت الماضي للتعبير عن تجربة شعرية معاصرة.‏
وهكذا نجد أن القناع أستُخدمَ في الشعر أولاً، قبل الفنون الأدبية الأخرى،(مع علمنا باستخدامه أولاً في المسرح خصوصا في المسرح اليوناني)، بل يكاد البعض أن يقول ، القناع والشعر متلازمان ومتراكبان ومتوائمان’ ولا ينسجم القناع إلا مع الشعر، ووُضعت العديد من الدراسات والأطاريح بهذا الموضوع، وقد كان بحث التخرج الذي كتبته في كلية التربية-قسم اللغة العربية في جامعة بابل، بعنوان قصيدة القناع في شعر صلاح عبد الصبور، وقد كان لأستاذيّ الفاضلين د.عباس الدّرة ود. عبد العظيم رهيف الفضل في الإرشاد والتوجيه والتصويب.
كان القناع يظهرُ مرةً برمزيته التاريخية أو السياسية أو الأسطورية فيكون صوت القناع عالياً واضحاً، وتارةً أخرى يعلو صوت الشاعر على صوت القناع، فأفردتُ باباً لصوت القناع، وأخرى لصوت الشاعر مع نماذج من الشعر ودراسةٍ متواضعةً، كما وجاءت قصيدة القناع في شعر البياتي أولاً ثم تلاهُ معاصروه، السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ،وكذلك وجدتُ في إطروحة الدكتوراه المطبوعة للكاتب عبد الرحمن بسيسو، هذا المعنى الذي أسلفت.
وفي أول رواية تكتبها وتطبعها وتنشرها(فاتحة مرشيد)، تنقل تجربة الشعر الى الرواية، وتنقل كل تقنات الشعر لتروضها، وتشذّبها بما تتلائم مع عقدة الرواية ودروبها، فهي الروائية العربية الأولى التي اختطت لنفسها هذا المذهب ونقلته حياً وليس ميتاً واشتغلت عليه بمباضع الجراحة والنجميل لتزيل المترهل وتضيف الى النحيف، فكانت الرواية بنتاً من علاقة شرعية بين الشعر والنثر، تمكنت الروائية الشاعرة أن تزاوج بين روحين في عقلها وقلبها لتُنتجَ وليداً يرفرفُ بجناحين في عالم الأدب والمعرفة والثقافة، ولعل(فاتحة) تمتلك بطيناً للشعر وآخر للرواية، فلا تفرط بأحد، بل جعلت من هذا الإمتزاج الروحي نتاجاً جديداً معافىً.
وفي استخدامها للأقنعة في روايتها، فكان التاريخي ، والسياسي، والأسطوري، تركيبةٌ متنوعةٌ لا تحس أنها موضوعة أو ملصقة على عواهنها،أو إنها منزلقة،أو رُكّبت بصورة مقلوبة، لقد استخدمت الروائية الشاعرة تلك الأقنعة بكل مهنية واحتراف وفق تقنيات عالية كأنها تمنتجها بفيلم أو تعرضها كمسرحية، حيث وظّفت كل الفنون السمعية والبصرية ومنها الأغاني والتراث والأمثال في الكتابة. وقد اختارت أقنعة بصوت الحدث، وبصوت المشاعر والأحاسيس، وأحيانا أخرى بقوة الفعل، فكانت الأقنعة متلونة ومتباينة ولكنها متناغمة وتجري وتنساب وتتحرك كلها كأنها فرقة موسيقية كبيرة تعزف أجمل سيمفونية.ومن هذه الأقنعة:
1/ قناع سراييج: (ص: 9)،الشاعر البوسني(1930-2002م)وهو يهمس بمقطع في ديوانه (أحدٌ ما دقّ الجرس)، وفيه صورة وصوت الإنتحار، وكيف يظهر بجرأة.
2/قناع جورجي لويس بورخيس: (ص:14)، الشاعر الأرجنتيني، فيه صوت الإحساس وصوت المرأة المتناغم مع المشاعر المتأججة..
3/قناع رينيه شار: (ص: 49)،الشاعر الفرنسي(1907-1988م)، صوت الإنتحار وصورته، وعدم الأسف عليه، وصوت الحب المتفاعل مع المستقبل.
4/قناع مورياك: (ص:62)، الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك المولود في بوردو في 11 اكتوبر 1885 والذي توفي سنة 1970 في الأول من سبتمبر،قناع الفوضى واللامبالاة، وعدم الإستسلام للأمر الواقع.
5/قناع جان بول ايمارد سارتر: (ص: 69)،الفيلسوف والروائي والمؤلف المسرحي، الفرنسي، (1905-1980م)، وكانت مقولته الشهيرة في إحدى مسرحياته:" الجحيم هم الآخرون". فكان صوت الفلسفة والإطار الفلسفي لفلسفة الرواية.
6/قناع رامبو: (ص: 65)، الشاعر الفرنسي الشاب المتوفى سنة 1891 عن عمر يناهز 37 عاماً، فكان قناع الشباب والحياة، والمغادرة بوقت مبكر كما غادرها بطل المسرحية( وحيد الكامل)..
7/ قناع بوفوار: (ص: 70)،الكاتبة سيمون دي بوفوار(1908-1986م)، المعروفة بعلاقتها الحميمة مع سارتر، وفي النهاية دُفنت إلى جانب قبره، هكذا كانت أمنية بطلة الرواية، أن تكون هكذا كصورة الكاتبة، أن تكون مع حبيبها في الحياة الدنيا وفي الآخرة.فكان صوت الحب والحميمية الخالصة.
8/ قناع حمزاتوف: (ص: 101)،الشاعر الداغستاني(1923-2003م)، صوت الحرية، وصوت السياسي ، وصوت منْ يحب ويعشق أرضه وسماءه..وصوت الفضيلة.
9/قناع أوسكار: (ص: 118)، المؤلف المسرحي والروائي والشاعر ، أوسكار فينغال ، وهو أنجلو-آيرلندي ، ومن مقولاته الشهيرة:" الطريق المثلى للتعامل مع الإغراء هي أن نستسلم له.". وهكذا كانت صورة استسلام الدكتورة أسماء التي كانت تبحث عن مخرج لعقدة (أوديب) في ذات البطل،الذي أحب والدته وكره أباه.
10/ قناع نيتشة: (ص: 133)،الفيلسوف الشاعر قردريك فيلهيلم نيتشه (1845-1900م)، استخدمته قناعا لحل ألغاز مريضها الذي حاول تجريب الإنتحار، لكون (نيتشة) من أبرز الممهدين لعلم النفس ،فكان اللاوعي للدكتورة، والنظرة إلى الموت يشكل فلسفي.
11/ قناع مونطيرو: (ص: 136)،الشاعر الإسباني لويس غارثيا مونتيرو المولود في غرناطة عام 1958م، والحائز على جوائز مهمة، شاعر الحب والغياب، " ويسألني عن حكاية غيابك..".
12/قناع نزار قباني: (ص: 144)،الشاعر العربي، الشاعر الجميل الرقيق، الحاد، النسمة والعاصفة، المسكون في ذات الشاعرة والروائية، المتجلببة بجلاليبه، صوت الجمال وصوت القبلات، ورفيف الجسد، ورعشة الأنامل والشفاه.
13/ قناع محمود درويش ) : ص:150) الشاعر العربي، صوت القضية والأرض والأرواح التي عانقت السماء في سبيل الحرية.
14/قناع عبد المعطي حجازي: (ص:154) صوت الحداثة والوطن.
وهكذا تنوّعت وتعدّدتِ الأقنعةُ بين كاتب، وشاعر، وفيلسوف، وعالم نفسي، وسياسي، وبين شعر وحكمة، ونثر،وفلسفة، وأقوال في علم النفس، كلها تصب في مصب واحد، كل الخيوط تمسكها بأصابعها الذهبية لتنسج منها روايةً لم تُكتب في زماننا العربي. كما تقرأ وأنت في جو الشعر، المقاطع الشعرية التي جعلتها حواراً جميلاً ، فلو جمعت كل المقاطع لأتتك قصيدةً كاملةً كتبتها (مُرشيد) في نفسٍ وروحٍ وهاجس واحد، كما جمعها الدكتور عدنان الظاهر في مقالته عن الرواية، فكأنك تقرأ قصيدةً لـ(فاتحة) وتسمع صوتها دون قناع، أو أن البطلة(أسماء) ارتدت قناع (فاتحة) الشعري ليعلو صوت الشاعرة على صوت الروائية.
ومُزجت وتناسقت مع الأقنعة وأصواتها ، صوت الأغاني، هذه اللازمة الجميلة غير المملة أو المقحمة في ثنايا الحوار بل تأتي مكملة له، وهذه اللازمة نجدها في شعر فاتحة وفي روايتها الأخيرة(مخالب المتعة) أيضا، فنجد أغنية نجاة الصغيرة(ص: 137): ما أحلى الرجوع إليه.. من شعر نزار وموسيقى عبد الوهاب.. كما نجد أغنية بالفرنسية (ص: 162) لجاك بريل: (عندما لا نملك سوى الحب..)، وأغنية أخرى للموسيقار محمد عبد الوهاب(ص: 159): " جايين للدنيا مانعرف ليه.." وهي أغنية الفلسفة العربية وتناغمت مع فكرة وحوار البطلين. فكانت الأغاني قناعاً آخر توظّفهُ الروائية الشاعرة في الرواية.
أما القناع الآخر الذي وظّفته الكاتبة في الرواية ولأول مرة في الروايات العربية بصورة ذكية ومعبّرة هو: الرقص، فكانت الإشارة إلى رقصةٍ بعينها، (ص: 122)، فالرقص تعبير ولغة الجسد، وإيقاع معبّر ويرتبط بعادات وثقافة كل مجتمع واختيارها للرقص كونه المعبر عن الذات وعن المشاعر وتتماها مع الروح، بإيقاع ساحر وخيال. كما أنها إختارت رقصة (التانغو)كونها تعتمد على اثنين رجل وامرأة وهاهي أسماء مع وحيد، وهذه الرقصة يؤديها الراقصان بعيدان ثم يلتقيان كأن الرقصة تعبّر عن تلاقٍ ثم فراق،" بدأت رقصتنا كتانغو يهيم بين دنو وابتعاد.."، وهكذا هي الرواية. فلقد كان اختيارها لهذه الرقصة دقيقا ومعبراً فلم يأت اعتباطا أو جزافاً.
وما لنا إلا أن نقول في ختام قراءتنا المتواضعة وكما فهمتها( تريّث قليلاً أيها الموت..إنّي أكتبُ قراءةً في رواية فاتحة.. فأنظرني إلى يوم نشرها وتقرأها العقول قبل العيون..)..!!!

فتشوا كل ما كتب

روبيـر الفـارس
Elfares_robier@yahoo.com

قرأت رسالة أخي في الفكر والقلم ، الأستاذ عادل عطية ، قرأتها بمشاعر قلبية دامعة ، بسبب ماتناهى إليه عني من أكاذيب بلغت أقساها بإتهامي باعتناق اليهوذية !
إنني أقدر وأثمن محبة رفيقي على درب الفكر والقلم ، وأنه لا يسقط بسهولة فى حفرة الأفك البغيض ، فيقول فى رسالته : " قل أنك لا تزال هذا الذي أنا تمنيته أن تكون " ..
نعم ، يا أستاذ عادل ، أقولها لك ، وأؤكد : أنك لم تخطئ في إيمانك بإيماني ، ومحبتي لكنيستي القبطية الأرثوذكسية ، فلا أحد ينسى معاركي ضد محمد عمارة ، وضد زغلول النجار ، وغيرهم ، ولترجع إلى آخر ما نشر لي يوم السبت قبل الماضي ، وفيه دافعت عن الأرثوذكسية المتهمة ظلماً بعبادة الأصنام !
ولكن أصوات الشر والوقيعة ، والتي لم يحاول أصحابها ـ وهذا دأبهم ـ أن يفتشوا فى كل ماكتبت ، بل استخدموا أسلوب الأنتقاء الشيطانى ، والذى يخدم ارادتهم الشريرة على طريقة : " ولا تقربوا الصلاة " !
فكل ما هنالك ، إنني كتبت مقالاً خيالياً ، ينطوي على سيناريو خلافة قداسة البابا شنودة الثالث ، من خلال وقائع أفكار ستة من الاساقفة منهم الأنبا بيشوى . ولكن يبدو أن البعض يحتفي بك عندما تنتقد المجتمع بعيداً عنهم ، وعندما تنتقدهم ، فأنت يهوذا !
والحمد لله ، لأن خمسة من الاساقفة الذين ذكرتهم ، لم يغضبوا مني ، بينما قام النائب العام بحفظ البلاغ ، الذي قدمه ضدي أحد أتباع الأنبا بيشوي ، الذي أراد ـ للاسف الشديد ـ اعادة احياء محاكم التفتيش ، والتمثل بالحسبة !
إن الذين ينكرون المحبة المسيحية ، التي تتأنى وترفق ، ولا تحتد ، ولا تظن السوء ، هم : اليهوذيون الحقيقيون ، وأقول لهم : " لا تدينوا لكي لا تدانوا" !...

رسالة إلى : روبير الفارس

عـادل عطيـة
adelattiaeg@yahoo.com

في رحاب القيامة المجيدة ، التي هي فوق الزمن ،
قمنا ـ أنا وأنت ـ من تحت رغام شجرة الموت !
وسنقوم يومياً من تحت ركام كل تجربة !
وسنقوم معاً من صدمتنا في الحياة ، وفي الناس !
لا أحد يستطيع أن يرى وجه مصر المبتلى بالكوارث المتنوعة ،
ـ في زمن الإخفاء والتضليل ـ ..
إلا الذى يراها من خارجها .
وبعد أن يكون قد عبر إلى ضفة أخرى بعيدة !
من هناك يفرح قليلاً ، ويبكي غزيزاَ !
وهناك ، عندما ذكرت اسم : " روزاليوسف " ..
كانت المشاعر السلبية ، تنطلق ؛ لتخنق أي حوار مفترض !
واستطعت أن أتفهّم تلكم المشاعر ،
فمجلة روزاليوسف ،
لم تعد الآن ، كما أوجدتها باعتزاز وفرح :
فاطمة اليوسف .
وقبل أن تكون لها حفيدة تحمل نفس الاسم ،
وتلوث سيرتها الصحفية .
فقد اصبحت بوقاً نشازاً في رحاب الوطن ،
والوطنية .
يدعو إلى الصلاة على المسيحية الميتة في نظرها الضعيف !
أما أن يصفوك ـ كمحرر بها ـ ، بأنك واحد من معتنقي اليهوذية ،
فهذا ما لم أكن اتوقعه من شخص طالما كتب ، فأبدع :
يهوذياته ..
من اخوة واخوات ...
لا ليكون واحدا منهم .
بل ليخرج ، هو ، من جحيمها المستعر : كل المختارين !
أنا لا أعرف الحقيقة بعد .
ولكن الذي أعرفه ـ عن قرب ـ ،
أنك ذلك الشاب الطموح ،
الذي احترم جهاده الصحفي المتميّز ،
وابداعاته القلمية المتنامية .
أحبه ،
لأنني أجد فيه نفسي ،
التي تعشق الفكر ،
وأحتضان القلم بحميمية مطلقة !
وملهماً ،
لما يجب أن أحققه بقلمى الصغير فى عالمى المتضاءل أمام الإنسانية !
لا يمكن أن يكون روبير الفارس ـ فارس الفكروالقلم ـ ،
عضواً بارزاً فى طائفة اليهوذية .
ـ هكذا اعترضت ـ .
وهكذا قلت :
قد تتحول جريدة : " وطنى " إلى : " وطنهم " .
وتتحول الاقلام فيها إلى آلام فى القلب .
ـ كما تحولت روزاليوسف إلى سيف الشيطان المسلول !
ولكن يبقى روبير .. ،
القادر على رمي مالهم السليب ،
في عقر هيلكم الشيطاني المتنكّر بالصلاح ..
ثم لا يتوب ، ولا يؤوب ، ولا يرجع إليهم أبداً !
قل لي انني لم اخطئ في إيماني : بإيمانك .
فتستمر صداقتنا الروحية ،
التي تصل بيننا رغم تباعد المسافات .
وأريدها أن تستمر كشعلة أبدية ،
تماما ًكأبدية الفكر والقلم .
قل أنك لا تزال هذا الذي أنا تمنيته أن تكون !...

الخميس، أبريل 23، 2009

حروفٌ من نور: خطوط عربية بقصبة مصدّق الحبيب



د. عدنان الظاهر

هذا هو عنوان المتحف ـ الكاليري الفني الرائع لمؤلفه البروفسور الدكتور مصدّق الحبيب الذي جمع العلم والأدب والفلسفةَ والفن جمعاً قلَّ نظيره . تدخلُ مُنجزه الأخير هذا فتحارُ وتتساءل كيف تسنّى لهذا الرجل أن يخلقَ ويُبدعَ كل هذا الجمال الساحر من ألوان وتشكيلات فريدة رسمها بخطوط عربية أصيلة ستة هي خط الثُلث والكوفي والديواني والطليق والنسخ والرقعة . إتخذَ من بعض آيات القرآن والحِكم والأقوال المأثورة نماذجَ يمارس ويوقّع فيها وعليها تشكيلاته الآخاذة خطّاطاً ورساما بارعاً نفّذها بسمتٍ ذوقيٍّ جماليٍّ عالي المستوى . مع تنويع الخطوط غيّرّ في التراكيب الهندسية لفضاءات لوحاته فتراوحت بين الدوائر والمربعات والمستطيلات والأشكال البيضاوية مع قدرات فائقة في إختيار الألوان المناسبة لكل نوع من أنواع الخطوط الستة .

الحبيبُ وخط الثُلث

لقد أولى البروفسور الحبيب آيةَ [ ولا تزرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى ] * * إهتماماً واضحاً حيث رسمها ثلاث مراتٍ بخط الثُلث فأجاد في تنويعاته وفي إختيار ألوان خلفيات لوحاته خاصةً وهو يميلُ ـ كما أحسب ـ للمستطيل والمربع أُطُراً للوحاته وقد وجدتها بالفعل أكثرَ إمتاعاً للبصر من الأطر الدائرية والبيضاوية والمعينية وغيرها مما يصعب عليَّ وصفها . ربما يختلف معي أخي مصدّق حول هذه النقطة ولا غرابة ، فالبشر يختلفون في إختيارهم للأشكال الهندسية التي يُفضّلون.

الطريف في أمري مع لوحات آية الوِزر أني تخيلتُ الحبيبَ مُحتاراً يحوم حول أمرٍ ما بشأن هذه الآية وما إختار لها من تشكيلات وتراكيب هندسية كأنه حاول أمراً ولم يستطعْ في نهاية المطاف إدراكه . وهذه هي طبيعة المبدعين الخلاّقين الذين يسعون للكمال المثالي ولا يرضون عن أنفسهم مهما أبدعوا وأجادوا فإنهم يرون في أعمالهم نقصاً لا يراه غيرُهم ولا يُحِسُ به أحدٌ سواهم . إنهم نقّادُ أنفسهم وإنهم نقّادٌ كبارٌ قساةٌ مع أنفسهم يظلون في هاجس كونهم مقصّرين وأنَّ شيئاً ما فاتهم . هذه ظاهرة معروفة بالنسبة للفنانين الكبار والشعراء الكبار والروائيين الكبار ولكل المبدعين والمبدعات طبعاً في شتى حقول المعرفة علماً وأدباً وفناً وشعراً وغير ذلك الكثير من شتى المجالات .

وقفتُ طويلاً وبفضول كبير أمام لوحة كذلك بخط الثُلث يقول محتواها [ مَن صبرَ ظفرَ ] . أضحكُ طويلاً كلما قلّبت صفحات الكاليري العجيب لأجدَ نفسي أمام هذه اللوحة بالذات . كيف يفكّر دكتور مصدّق الحبيب قبل وأثناء تنفيذ لوحاته ومتى يستقرُ على موديل معين فينهمكُ فيه مندمجاً معه روحاً ومعنىً وخطاً ولوناً وإبداعاتٍ منوَّعةً في فن الرسم . نعم ، أرهقتني فكرة وأسلوب تصميم هذه اللوحة، لوحة [ مَن صبرَ ظفرَ ] فلقد وجدتُ فيها ، فضلاً عن جمال الخطوط وإلتباساتها وتشابكاتها ببعضها ، وجدتُ فيها رأس إنسانٍ كأنه أحد رؤوس أبطال قصص ألف ليلة وليلة بعينين وأنف وشاربين وقلنسوة فوق رأسه . هذه الصورة أضحكتني حقاً وأدخلت البهجة إلى نفسي وسطَ التوترات التي تفرضها على الرائي تداخلات الخطوط مع بعضها والتواءاتها وتعرّجاتها صعوداً ونزولاً ، إنحناءً وإستقامةً ، فضلاً عن حركات تزبير الحروف وبعض الزخارف اللونية التي تملآ الفراغات الفضائية في اللوحات . فضّلَ الفنان مصدّق أنْ يُعطي هذه اللوحة البغدادية الأجواء شكل قارورة أو { بستوكة } كما نسميها في العراق الأمر الذي زاد من إعجابي بها وشغفي بمدلولاتها وما توحي لي أنا العراقي الذي قرأ كتاب الف ليلة وليلة كثيراً . ذكّرتني قارورة مصدّق بقوارير المرحومة والدتي التي كانت تتركها تحت الشمس على سطح دارنا فهذه قوارير الطرشي ( شلغم وخيار وباذنجان ولهّانة ) وتلك للخل وثالثة للدبس وأخرى لمربى المشمش القيسيِّ مع صينية واسعة لمعجون الطماطة ويا ما كنتُ في طفولتي أسطو سرّاً على قوارير الوالدة وحين تكتشف النقص فيها تقول : لا يجرؤ على هذا العمل إلا هذا اللعين سوّدَ اللهُ وجهه في الدنيا والآخرة .

خصصَ الحبيب مصدّق لوحةً أخرى لمقولة أو حكمة ( مَنْ صبرَ ظفرَ ) فصممها على شكل قبة إسلامية من قباب الأئمة والأولياء الصالحين والجوامع والمساجد وهو في الأصل من جنوب العراق ولديه كما أحسب وازعٌ دينيٌّ قوي فالإسلامُ شديد الوضوح فيما قد إختار من نماذج لمخطوطاته لذا ، نجح الفنان الإنسانُ مصدّق في دمج نفسه إدماجاً عضوياً وجودياً صوفياً في كل من الخط العربي والدين الإسلامي والإسلامُ دين العرب كما نعرف . لم يندمج ويحل في هذين المكونين حلولاً سلبياً كما هو شأن من نعرف من متصوفة الإسلام ولكنه إندمج فيهما وحلَّ حلولاً إيجابياً أي قام بعد الإندماج والذوبان الحلولي ليعبِّرَ عن نفسه بعد التجربة وليصفَ لنا ما كان وما رأى فجاءت لوحاتُه آياتٍ بيّناتٍ فلله درُّكَ يا مُصدَّقُ ويا حبيبُ .

الحبيب والخط الكوفي

مع الخط الكوفي يتبدل مزاج الفنان فيأخذ مداه الأقصى في الإنشراح والإحساس بالثقة والنصر بل وأنَّ طبيعة حروف الخط الكوفي نفسها تمنحه المزيد من الشعور بالقدرة على السيطرة على ما بين يديه من نصوص وتشكيلات . ثمةُ ملاحظة أخرى وهي أنَّ الفنان وظّفَ النباتات في لوحاته هذه الأمر الذي لم أرهُ في لوحات خط الثلث . وبالطبع في خضرة النبات وحركاته اللولبية في فضاء اللوحة فضلاً عن ألوان ما قد يُضيفُ من ورود وزهور لبعض هذه اللوحات ... في هذه كلها أجواء متفتحة ليست منقبضة ولا متوترة خلقها الفنان عن قصد وتصميم مُفيداً من طبيعة الخط الكوفي وما يعطي للخطاط من مزاج منبسط منشرح غير معقد فأغلب الحروف عمودية مستقيمة الجذوع أو متقاطعة عمودياً وأفقياً . ثم شدَّ إنتباهي تركيز الفنان على ما في تراثه الديني حيث وظّفَ أجزاءَ كثيرة مما يعرفُ من آيات القرآن وبيتين من قصيدة شعرية قالها علي الجارم في بغداد [[ بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ / ومنارةَ المجدِ التليد ]] وهي مما أخذنا من شعر زمان الدراسة في المدارس المتوسطة في العراق آواخرَ أربعينيات القرن الماضي .

إفتتحَ الفنان سِفر الخط الكوفي بلوحة [ لا إلهَ إلا اللهُ ] فكانت مثالاً لقوة الإيمان ونقاء السريرة فحروف الألف واللآم مستقيمة بثقة عالية مٌستمدة من ثقة الفنان بمضمون هذا الكلام لكأنه يتحدى بها خصوم دينه وغير المؤمنين به لذا أفرط في رسمها متينةً جبّارةً ملتفّة السيقان كأنها أعمدة مرمر البازلت المعروفة من زمان الإغريق والرومان وقد جاء الإسلام على أنقاض الروم وإمبراطوريتهم كما نعرف . لا أوافق أخي مصدّق في ترجمته إلى الإنكليزية إحدى آيات القرآن التي مفادها [[ إنْ ينصركم اللهُ فلا غالبَ لكم ]] حيث قالها باللغة الأخرى ما يُفيدُ [[ إذا كان اللهُ في قلبك فسوف لن تُغلب ]] . الفروق كبيرة بين النص الأصل وترجمته .

تكلم النص بصيغة الجمع ولا مكانَ فيه للقلب أبداً . بينما تحول هذا النصُّ في اللغة الإنكليزية إلى صيغة المفرد وبدل المقطع " إنْ ينصركم الله " أصبح في الترجمة " إذا كان اللهُ في قلبك " !! ليس لديَّ تفسيرٌ لهذا التفاوت الكبير وغير المقبول فإنه تحريفٌ للقرآن .

<< في مكالمة تلفونية وبضعة رسائل ألكترونية أخبرني أخي الفنان العالم أنّه أخذ ترجمات الآيات من عبد الله يوسف علي / مترجم القرآن المعروف . لا أعتبرُ هذا المترجم الهندي المسلم حجّةً في ترجماته فلي عليه الكثير من التحفظات مما سأبين في نهاية مقالي هذا >>.

أما لوحةُ [ الحمدُ للهِ ] فقد وضع الفنانُ هذه الجملة القصيرة المُركّزة البليغة المعنى والدلالة في أربعة مربعات يحيط بها مربع آخر كبير محصور بين أضلاع مربع آخر أكبر منه بحيث تلتقي أضلاع هذا مع رؤوس المربع السابق الأصغر ، الأمر الذي يوحي أنْ لا مفرَّ للإنسان إلا أنْ يحمدَ ربه ففي هذا الحمد خلاصه في الدنيا ونجاته في الآخرة . أينما يممَ الإنسانُ وجهه فثمّةُ وجه ربّه . أعمار البشر محدودة وأعوامهم معدودة . كرر الحبيبُ جملة الحمدُ لله في ثلاث لوحات من الخط الكوفي كأنه أراد أنْ يعادلَ اللوحات الثلاث التي سبق ذكرها التي نفّذها بخط الثلث لكنه هنا لم يشأ أنْ يبدّلَ في أسس لوحاته الثلاث هذه حيث رسمها جميعاً بشكل مربّعاتٍ أربعةٍ تشغلُ جملة " الحمدُ لله " هذه المربعات التي أحاط بها مربع كبيرٌ آخرُ ولا غيره . فضاءات لكنها محدودة بصرامة وإحكام . أما الألوان فمتقاربة أو لا تختلفُ كثيراً عن بعضها .

لوحتان جميلتان جداً محتوى الأولى يقول [ بسم الله الرحمن الرحيم ] ومحتوى الثانية يقول [ لا إلهَ إلا اللهُ ] . تتخلل الخطوط المتداخلة تشكيلات تضع الأوراد وأغصان الشجر أمام أعين الناظرين .

الحبيب والخط الديواني

إفتتحَ الفنانُ هذا الفصل بلوحة شخصية تحمل إسمه الأول ولقب عائلته رسمهما بشكل جناحين يحيطان بقلب فارغ الفضاء إلا من كلمة " الخطّاط " . لإعتزازه بهذا الفن الساحر فضّله حتى على إسمه ولقبه فاختصه بموضع القلب من الجسد تحت حماية ذراعين منتشرين قويين .

حافظ هنا مُصدَّق على ذات النهج الذي رأينا مع بقية الخطوط في إختيار موضوعات لوحاته المخطوطة من القرآن ، ما عدا إستثنائين إثنين خصَّ بهما إحدى بطلات ألف ليلة وليلة الشهيرات : السيدة شهرزاد صاحبة شهريار الملك الجبّار القاتل . هل يكنُّ الفنان لهذه المرأة الذكية الشجاعة حباً خاصاً أو إعجاباً عميقاً بحيث خصص لها صفحتين كاملتين في مُتحف سِفرهِ الجميل هذا ؟ على أية حال ، إنه تأثير تراثه عليه وتأثره بأجواء ألف ليلة وليلة لكني لم أكتشف بعدُ أيَ أثر لرسومات أبي حيان التوحيدي وغيره من رسامي بغداد القدامى المعروفين . إنه رسّام كما أنه خطاط والفنان هذان ، الرسمُ والخطُّ ، كلاهما فيه لا ينفصلان فهما له وفيه الروحُ والجسدُ. ثم إنه ترك لوحتين بدون عناوين وشروحات ( الصفحات 58 و 61 ).

الحبيبُ وخط الرِقعة

إذا أحبَّ الفنانُ مُصدَّق أو وقع في غرام شهرزاد فقد خصّها بلوحتين فقط ، فما عسانا سنقولُ لو رأيناه يكرِّسُّ خمسَ لوحاتٍ ، من مجموع ست ، في فصل خطَّ الرقعة للشاعر البصري العراقي الراحل بدر شاكر السيّاب ؟ إنه لا شكَّ معجبٌ بهذا الشاعر إعجاباً كبيراً فإنْ لم يكتب عنه مقالاتٍ فقد خصّه بلوحات تحملُ مقاطع من بعض قصائده المعروفة من قبيل : مدينة السندباد / غريبٌ على الخليج / كلمات شاعر ميت / وقصيدة إلى العراق الحر التي قالها السياب بعد إنقلاب شباط 1963 الفاشي الدموي المعروف . لقد ترك حبيبنا اللوحة الأخيرة بدون عنوان مجهولة الهوية إجلالاً ـ ربما ـ لذكرى الشاعر السياب فما أرادَ أنْ ينافسَه أو يضاهيه أحدٌ أو موضوعٌ .

هوامش

*حروفٌ من نور / المؤلف : بروفسور دكتور مصدَّق الحبيب . الناشر

Printed In Canada by Art Bookbindery 2008

**ولا تزرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى ... هي جزء من الآية رقم 15 في سورة الإسراء التي يسميها مترجم القرآن السيد عبد الله يوسف علي بثلاثة أسماء : الإسراء ، وبني إسرائيل ثم أطفال إسرائيل

Children of Israel

وهذا أمرٌ أراه غريباً ومُنكَراً . إسمُ هذه السورة في قرآننا هو الإسراء ، فما سببُ إصرار يوسف علي على تسميتها ببني إسرائيل ؟ فإنْ كان معتمداً في ذلك على بعض الروايات فما عساه يقول بشأن التسمية الثالثة الأكثر من غريبة ومرفوضة : أطفال إسرائيل ! من أين أتى هذا المترجم الهندي المسلم بهذا العنوان ؟ بنو إسرائيل هم ذرية وعقب يعقوب بن إسحاق الذي يُدعى إسرائيل فكيف ينقلب الأبناء إلى أطفال ؟ أعتب على أخينا مصدق الحبيب أنه لم يُراعِ هذه النقطة أو لم يولها ما تستحق من إهتمام إذ من المفروض بل والمطلوب منه أنْ يعتمدَ القرآنَ مصدراً لا سواه طالما أخذ منه أجزاء صغيرة من بعض آياته . وكيف لم ينتبه الأخ مصدق إلى التحريف الكبير في ترجمة يوسف علي للآية [ إنْ ينصركم اللهُ فلا غالبَ لكم ] إذ قلبها بغباء واضح إلى [ إذا كان اللهُ في قلبكَ فسوف لن تُقهر ]

If God is in your heart, you would never be defeated

وحوّلها من مخاطبة الجمع إلى مخاطبة مفرد .

تبدأ سورة الإسراء بالآية الشهيرة [[ سُبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا من حوله لنُريَهُ من آياتنا إنه هو السميعُ البصيرُ / 1 ]] ... وقصة الإسراء والمِعراج معروفة التفاصيل فكيف سمحَ عبد الله يوسف علي لنفسه أنْ يُطلِقَ على هذه السورة إسم [ بنو إسرائيل أو أطفال إسرائيل ] ؟ مَن الأحقُّ بشرف إفتتاحية السورة وعنوانها : بنو إسرائيلُ أم محمدٌ نبيُّ الإسلام ؟

ملاحظات أخيرة :

1ـ إستهلَّ المؤلف كتابه القيّم بمقدمة كتبها هو ثم ألحقها ب (( لمحة تأريخية عن نشأة وتطوّر الخط العربي )) أفدتُ منها كثيراً على تركيزها فقد جاءت جامعة غنية بما فيها من معلومات تأريخية وأسماء مشاهير الخطاطين العرب والمسلمين . لكني لاحظتُ أنّ الأخ مصدق لم يُدرِجْ شكرَه في المقدمة العربية لسيدتين واحدة من بريطانيا والأخرى من كندا ساعدتاه في قراءة النصوص أو في تنفيذ صورة الغلاف ... كما فعل في المقدمة باللغة الإنكليزية . كان المفروض أن يترجم ذلك وينشره في المقدمة العربية وهذا رأيي .

2ـ كذلك لم يذكر إسم عبد الله يوسف علي مترجم القرآن وقد أخذ منه ترجمات الآيات إلى الإنكليزية .

3ـ أهدى الفنان الخطّاط والعالم والأستاذ الجامعي دكتور مُصدَّق الحبيب ... أهدى كتابه القيّم إلى الخطاط البغدادي المرحوم هاشم الخطّاط وفاءً منه له ولما قدّمَ من إنجازات في فنون الخط العربي . قال مصدق في كلمة الإهداء [[ إلى روح الخطّاط المبدع هاشم محمد البغدادي ( 1921 ـ 1973 ) آخر عمالقة المدرسة البغدادية المعاصرة في الخط العربي الكلاسيكي ]] .

الأربعاء، أبريل 22، 2009

تفاصيل




زياد جيوسي

لوحة فوتغرافية للفنان هاني حوراني
حين كان يتاح لي أن أحضر معرضاً للصور الفوتوغرافية في أوقات مختلفة، كنت أقول في نفسي: إن الروح هي التي تلتقط الصورة وليست العدسة، ومن هنا كنت أميز دوماً بين روح الفنان في ممارسته التصوير الفوتوغرافي، وبين عدسة المصور التي تلتقط ما تراه بدون روح، وفارق كبير بين روح الفنان وبين العدسة بدون روح.

حين توجهت لمركز رؤى للفنون في مدينة عمّان عائداً من القاهرة قبل توجهي لرام الله، لحضور معرض "تفاصيل" للفنان هاني حوراني، لم أتوقع أنني سأعيش حالة وجدانية كبيرة، حالة أقرب للتحليق الصوفي من مجرد رؤية لوحات فوتوغرافية، كانت لوحات وليست صور، وكانت روح هاني تحلق فيها بجمال وإبداع.

"تفاصيل" كانت رحلة حملتني وأنا عاشق الأمكنة، رحلة امتدت من البتراء والسلط في الأردن إلى الدار البيضاء، فتونس فالرباط، ومن القاهرة إلى الدوحة، ومن دبي إلى دمشق، ومن وادي النسناس في حيفا إلى مراكش مروراً بسيدي أبو سعيد في تونس، وحلقت بنا الروح في مناطق أوربية مثل مرسيليا ومالطا وأمستردام، فكانت رحلة الروح مع عدسة الفنان، مع إبداعه، مع تفاصيله الصغيرة.

لم يعتمد هاني حوراني الصورة الفوتوغرافية الشاملة للمشهد، فقد تركزت روحه بالتقاط التفاصيل الصغيرة، ومن تجميع الصور للتفاصيل، خرج لنا بمجموعة رائعة ومميزة من اللوحات، وكل تفصيل صغير فيها كان يشكل لوحة، وكل مجموعة مركبة مع بعضها كانت تشكل لوحة أخرى إجمالية، تشد المشاهد وتجعله يحلق بين التفاصيل وبين الشمولية.

مازج الفنان بين روحه كفنان تشكيلي وبين روحه كفنان فوتوغرافي، فتمكن من مزج الروحين معاً، وهذا ظهر في العديد من اللوحات الفوتوغرافية، ولعله تمكن في بعض منها من زيادة كمية اللون أو تخفيفه، فأصبح المشهد أقرب للوحة تشكيلية مرسومة بألوان الزيت من مجرد صورة فوتوغرافية، ولجأ في الصور الشمولية وفي كل لوحات المعرض تقريبا إلى تقسيم اللوحات إلى مربعات جرى نزع كل قسم لوحده، وشكلت المربعات اللوحة الشمولية، تاركا فراغاً محدوداً في تعليق اللوحات بين اللوحة والأخرى، فكان يعرض أسلوباً مختلفاً ومتميزاً وجديداً، وحقيقة بالنسبة لي كنت أول مرة أشاهد هذا الأسلوب بالعرض والتركيب.

ففي جدارية "السلط" الضخمة تمكن من خلال عدة صور، وتقسيمها إلى مربعات ومزجها مع بعضها البعض، من إبداع جدارية غاية في الجمال تصدرت لوحات المعرض. كانت بانوراما تمثل السلط بتاريخها وجمالها وإبداع مبانيها عبر القديم وصولا للحديث الذي لم يخلو من روح التراث، بينما تمكن من التقاط إبداع الطبيعة من خلال مجموعة لصور لصخور البتراء المدينة الوردية، تركها بدون تدخل بألوانها الطبيعية، جمع الصور في ثمانية عشرة صورة، شكلت معا لوحة "تفاصيل من البتراء"، فكان كل تفصيل لوحة، ومجموع التفاصيل لوحة شاملة أخرى تضم التفاصيل كلها، فتبرز إبداع الخالق في الجمال الطبيعي المميز.

تكرر هذا الأسلوب باستخدام تفاصيل متعددة بالعديد من اللوحات الغاية بالجمال، فمن جزيئات و "تفاصيل لمبنى مهجور في مالطا" على البحر، جمعها معاً بدون ترتيب كما الواقع، خرجت لنا التفاصيل الصغيرة بلوحة تجريدية رائعة من ثمانية عشرة قطعة، شكلت بالمجموع لوحة وفي التفاصيل لوحات، ونرى هذا الأسلوب مجدداً في لوحة "دراويش" والتي اعتمدت على مشهد الدرويش في رقصة صوفية لكن بتحليقات مختلفة مثلت جدارية من ثمانية عشر لوحة مميزة.

هاني حوراني كان يعتمد التفاصيل الصغيرة في لوحاته، فهو لا يعنيه تصوير القارب ككل، فنراه يركز في عدسته على تفاصيل صغيرة من القارب، الألوان المتداخلة عبر الزمن، مقدمة القارب أو جزء آخر منه، ما يطفو على الماء من بقايا نباتات أو أوراق شجر، فيمازج محيط المشهد بالجزء الذي تلتقطه عيناه، وقد برز الإبداع في التقاط الجزئيات والتفاصيل في لوحة "فسيفساء من الرمال" والتي جمعت خمسة وأربعون تفصيلاً للرمال بأوقات وأمكنة مختلفة، تمازج فيها جمال تفاصيل جزيئات صغيرة ذات مساحات محدودة، بتأثير الطبيعة على حركة هذه الرمال، بين مطر وجفاف، فأعاد تركيبها من خلال جمع هذا العدد بلوحة متميزة حملت في منتصفها صورة لشجرة منفردة، فكانت الشجرة في وسط هذا الكم من لوحات الرمال التي مثلت لوحة فسيفسائية أشبه بالواحة في قلب الصحراء، فأعطت للوحة جمال آخر متميز، يجعل الروح تحلق في واحات الصحاري حيث السكينة والهدوء والجمال رغم قسوة الطبيعة المحيطة. ونرى هذه الفسيفساء مرة أخرى بلوحة "انعكاسات حمراء على الماء" المكونة من ستة عشرة قطعة، فينقلنا من جفاف الصحراء إلى حياة الماء وجمالية الانعكاس. ونراه أيضا بلوحات من الخط العربي الجميل تمازجت التفاصيل من مناطق مختلفة لتشكل لوحات جمالية متصلة روحها وجمالها من جمال الخط العربي وإبداعه.

ومن إبداع في الأسلوب إلى إبداع آخر يتنقل بنا هاني حوراني بعدسته وروحه، فمن التفاصيل الصغيرة المركبة بلوحات مميزة، إلى اللوحات المنفردة من جمالية التقطتها عيناه كما في لوحات "النافذة الزرقاء" في تونس ولوحة "القبة" في الرباط وغيرها الكثير، لينتقل فينا إلى أسلوب آخر يبتعد عن التفاصيل الصغيرة وتقسيمها، فيأخذنا إلى مشاهد شمولية غريبة بنظرة مختلفة، فيحملنا إلى انعكاسات الصور على صفحات الماء كما هي في الطبيعة بدون تدخل، فنرى مشاهد أخرى للجمال من خلال هذا الانعكاس البديع متماوجاً مع حركة سطح الماء الناعمة، فيكون تحليق وإبداع من شكل آخر للفن، لكنه لنفس الروح الجميلة والمحلقة للفنان.

ليس من السهل الحديث عن كل لوحات "تفاصيل"، فالمعرض بلوحاته التي تجاوزت الأربعين لوحة بين الجدارية والصغيرة، يحتاج إلى رحلة طويلة من البحث والتأمل، فهاني حوراني تمكن بروح إبداعية من مزج فنه التشكيلي مع رؤيا روحه الفوتوغرافية، فتمازج التشكيلي مع الفوتوغرافي، تمكن من تجميع التفاصيل التي حملت اسم المعرض، إلى الشمولية ببراعة، مازج بين القدرة على تغيير وتحريك اللون، إلى ترك الطبيعة تعبر عن ألوانها بدون تدخل، وتمكن من جمع التفاصيل الصغيرة لتصبح حكاية ورواية متصلة بدون تقاطع. وكان المعرض بساط ريح حملنا بين القديم والحديث، بين الطبيعة وجهد الإنسان، رسمها وصورها هاني حوراني بروح جميلة ومحلقة، فشددت على يده في نهاية حضوري المعرض بحميمية قائلاً له: أبدعت روحك يا هاني، كنت أخشى قبل حضوري أن تعبث السياسة التي سرقتك من الفن بروحك، لكني وجدت روحك الجميلة كما هي، محلقة ومبدعة، فشكرا لروحك هذا الإبداع.

الثلاثاء، أبريل 21، 2009

الْبَحْثُ عَنْ بَقايا إنْسان

محمد محمد على جنيدي

في بُحُورِ الدُّجَى
غارِقٌ في أقْصَى الألَمْ
في بِلادِ النُّهَى
باحثٌ عَنْ أهْلِ الْحِكَمْ !
يا أخِي .. لا
لا تَحْتَرِقْ
هَلْ نَسَيْتَ بأنِّي وَأنتَ
كُنَّا يَوْماً إخْوَةً ؟!
يا أخِي .. لا
لا تَعْتَقِلْ
أنْفاساً لِعُمْرِي
فأنا لَمْ أجْنِ ذَنْباً
لَمْ آتِ جُرمْ
ما كَفَى
تَزْرَعُ الْخَوْفَ!
فَقَلْبِي كَمْ رَواه الألَمْ
ما كَفَى
تُرْهِبُ الدَّمْعَ الْجارِي
في سَقَمْ !!
يا لِقَهْرِ الأرْضِ
الَّتِي تُعْطِينا النِّعَمْ !
يا لِهَذا الْوَهْمِ
الَّذِي يُحْيِينا عَدَمْ
يا أخي هَلْ تَرْضَوْنَ
بِهَمِّي أحْيا!
أبْنِي قَبْرَ الصَّمْتِ
وَأرْضَى !
أرْفَعُ يَأْسِي عَلَماً أسْوَدْ
ثُمَّ أعِيشُ..
بِأحْلامِي صَنَمْ !!
أمْ أحْبَبْتُمْ أنْزِفُ ضَعْفاً
أنْعَقُ مِلْءَ حَياةِ الْقَلْبِ
نِفاقاً لا يَنْكَتِمْ !
فأُدارِي ضَوْءَ السَّما
عَنْ حُقُوقٍ لَنا
ثُمَّ أُعانِقُ ظُلْمَ الظَّالِمِ
حَتَّى يُصْبِحَ عِنْدِي
رَمْزاً .. كَعْبَةً .. سَيِّداً !
أوْ إلَهً لِكُلِّ الأُمَمْ !!
أمْ هُوَ حُلْمٌ مِنْ أحْلامِكَ
يُسْكِتُ هَمِّي نَبْضَ لِسانِي
أوْ أغْدُو يَوْماً فَتَرانِي
مَحْرُوقَ الْقَلَمْ !
أمْ يُرْضِيكَ أعِيشُ حَياتِي
مَكْسُورَ الْقَدَمْ !
قُلْ أخِي .. قُلْ بِحَقٍّ
هَلْ سِوَى البُغْضِ صاحَبْنا!
ما تَرَى الشَّرَّ بِأنْفُسٍ يَحْتَدِم!!
ما تَرَى..ثَوْرَةً عاتِيَةً
في بُرْكانِ النِّقَمْ !
قُلْ بِحَقٍّ ..
هَلْ ضاقَتْ بِنا أرْضُنا
أمْ هُوَ الطَّمَعُ الْجامِحُ الْقادِمُ
مِنْ جَحِيمِ التُّهَمْ!
مَنْ أنا .. أنْتَ مَنْ !
هَلْ تَرَى فِينا ..
شَيْئاً مِنْ رُوحِ القِيَمْ ؟!
ما كَفَى ثَأْرٌ بَيْنَنا
ما كَفَانا سَفْكُ دَمْ ؟!
قُمْ فَتِّشْ داخِلِي !
فتِّشْ داخِلَكْ !
قَدْ نَرَى ..
شَيْئاً مِنْ رُكَامٍ لَنا !
أوْ بَقَايا
مِنْ إنْسَانِ القِدَمْ !!

مختارة من ديواني / واحة من الحب

عشرون سنة على إصدار مجلة "الحوار" في واشنطن

يدرك من تابع "الحوار" حين صدور اعدادها الأولى في ربيع العام 1989 كمجلة شهرية، كيف ان مزيج موضوعاتها كان نوعية نادرة آنذاك. فرغم أهمية واشنطن السياسية والاعلامية، ورغم وجود المراكز الرئيسة للجمعيات العربية الأميركية وللبعثات الدبلوماسية العربية، إضافة للعديد من الأكاديميين والمهنيين ورجال الأعمال العرب.. رغم هذا الوجود العربي النوعي، فأن العاصمة الأميركية كانت خالية من أي نشاط اعلامي عربي مستقل، بل كانت الجمعيات العربية الأميركية تكتفي بإصدار نشرات فصلية محدودة الصفحات والمواضيع، ومن أجل الاعلان عن نشاطاتها فقط.

حينما صدرت مجلة "الحوار" في شهر نيسان/ابريل من العام 1989، لم يكن متيسراً ما نراه الآن أو نسمعه أو نقرأه (عبر الفضائيات أو الأنترنت) من محطات إذاعية أو تلفزيونية عربية أو سهولة الوصول إلى مطبوعات أخرى..

وما خرجت به "الحوار" آنذاك من شكل متواضع – وما زال كذلك- كان مهماً جداً في مضمونه، كما هي أيضاً عليه "الحوار" الآن. فلقد تميزت "الحوار" منذ عددها الأول بالصدور باللغتين العربية والانكليزية، فكانت "الحوار" مجلتين في مجلة واحدة لمخاطبة العرب، والعرب الأميركيين معاً، وما حولهم من مؤسسات وشخصيات اميركية مهتمة بالمنطقة العربية.

كانت "الحوار" – ومازالت- تحرص على التركيز على البعدين العروبي والحضاري في الشأن الفكري وعلى أهمية تعزيز الهوية الثقافية والحضارية للإنسان العربي أينما كان. فقد حملت "الحوار" منذ تأسيسها دعوة عربية توحيدية تدعو للتكامل بين العرب بدلاً من التفرق، وإلى صون التراث الحضاري والاعتزاز بالانتماء العروبي بدلاً من الفراغ والضياع الثقافي والحضاري.. وهذه الدعوة أحدثت على مر السنوات الماضية تأثيراً ايجابياً واضحاً في أكثر من مجال ومع أكثر من شخص ومؤسسة.

يكفي مجلة "الحوار" أنها استطاعت - رغم ضعف امكانياتها المالية - أن تواصل الصدور والانتشار وتوسيع دائرة المشتركين من عدة ولايات وبلدان.

يكفي مجلة "الحوار" انها اوجدت مناخاً حوارياً عربياً في واشنطن يخاطب العقل لا العواطف، ويحث العرب في كل مكان على نبذ العنف وعلى اعتماد اسلوب الحوار لحسم خلافاتهم، وإلى تفهم الرأي الآخر (وليس بالضرورة التفاهم معه) عوضاً عن تخوينه وادانته لمجرد انه رأي آخر!

يكفي مجلة "الحوار" أنها بعد خمس سنوات على تأسيسها (أي في العام 1994) بادرت بالدعوة لتأسيس "مركز الحوار العربي" الذي ينشط الآن، ومنذ أكثر من 14 سنة، بشكل ندوات أسبوعية هامة تجاوز عددها رقم 740 ندوة حتى الآن، إضافة لموقع إلكتروني فعال ونشرات دورية على شبكة الأنترنت.

فما كان يحصل من حوار "نظري" على صفحات "الحوار".. أصبح أيضاً حواراً عملياً داخل ندوات "مركز الحوار العربي".

ولعل في هذا الجمع "الحواري" بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق، ما تحتاجه مجلة "الحوار" ايضاً من القراء والمتفاعلين معها بأن يكون الجميع مع "الحوار” قولاً وفعلاً، للمحافظة على بناء فكري وثقافي فيه فائدة لكل العرب.

وكل عام وأنتم ومجلة "الحوار" بألف خير..

الاثنين، أبريل 20، 2009

ضوء آخر



شوقي مسلماني


1 ـ دمٌ منزلق :

بخفّةِ سمكة
ينزلق في الشارع
وبأبّهةٍ
يطيّر النظرات
إنّه دمُ الليلة الفائتة.


2 ـ عنزةُ البقاء :

شجرة درّاق تسرق درّاقتي
عنزةُ البقاء عند قمّة جبل
كي يبذغ الفجرُ مطمئنّاً
تشمخ .. كتمثال.


3 ـ كنزُ حياتي :

على مسافة مئات ملايين الأميال
كنزُ حياتي يصطاد
بيدٍ من قصب الضوء
تنهيدةً .. في نهرٍ يابس.


4 ـ مشعل :

النظرة!
الموسيقى
الإبتسامة!
الوردة
الجوهرة!
الشمس المشرقة
هذه .. قبضتك.


5 ـ الليل :

ليس سؤالاً
صديقٌ، نسمة
أُصغي للعشب، للصمت
للندى
بتفتّح
زهرة.


6 ـ لغة :

أسمع لأراك
أرى لأسمعك.


7 ـ حبّ :

عند خطّ الإستواء
الخطّ الأقرب إلى الشمس
القلبُ مفعمٌ بالحبّ
وفي ذروة الذروة.


8 ـ ضوء آخر:

حتى في الأعماق السحيقة
حيث العتمة
عيون
وضوء آخر
ينبض.

الأحد، أبريل 19، 2009

إلى القاهرة فى عيدها العاشر

عـادل عطيـة
adelattiah@yahoo.com

وإذ تستقبل جريدة القاهرة عامها العاشر ، أجدنى اضيئ بفرح أحرف كلمات التهنئة ، على تورتة مفترضة فى قلبى !
قد يكون عمرها صغيراً على الورق ، ولكن قامتها الفكرية اكبر بكثير من السنوات القليلة التى مضت على إصدارها !
ينتمى اسمها إلى اسم عاصمتنا ، تيمناً ؛ لتصبح عاصمة الصحف الثقافية ؛ ولتصبح قاهرة لاهداف الظلاميين ، وحقدهم المتعجرف على منابر الكراهية ، وادعاء الحقيقة المطلقة .
وكمسيحى ، انحنى احتراماً وتقديراً لكل الذين وراءها ، ويدفعونها إلى العظمة .
إن انفتاحها الصادق والمطلق على التجربة الدينية للآخر ، وتاريخه ، وثقافته ، ومناسباته واعياده ، تقودنا من المعرفة إلى التسامح والاجلال والمحبة !
ودأبها على تفكيك ثقافة الخوف من الاسئلة ، يعضد واجبنا جميعاً بعدم الوقوع سجناء لسلاح المعتقد ، والتأكيد على أنه فى اختلافنا لا يجب أن ننسى إنسانيتنا !
من حكمة الخالق ، أن تتجدد خلايا الانسان كل سبع سنوات ، بينما تبقى روحه وملامحه الرئيسية ، وهى حكمة ملهمة لجريدة القاهرة التى تبقى على روحها وملامحها ، بينما تتجدد كل اسبوع !
القاهرة ، هى عالمى الثقافى الجميل ، وككل شئ جميل ، يمكن أن تشوبه نقطة صغيرة من خارج جماله ، وملفتة للانتباه ، وهذه النقطة تشير إلى زاوية استاذنا الكبير محمد عمارة ، التى يطلق عليها : " هذا إسلامنا " ، فهذا الاسم ، نجد فيه تجسيداً للدعويّة ، والتمييز الدينى ، ويبدو كمتناقض وغريب ويقفز على بادرة الجريدة الشجاعة على التشديد على روح المواطنة والمحايدة ، ويغلّف كثيراً من الهجوم الذى يؤكد على عدم الاحترام الخبيث للآخر ، مما يخيّب الآمال ، فقد كنا نأمل أن تكون روح الحروب الصليبية قد دفنت ، لكن يظهر أن بعض الكتّاب والمؤلفين مصممون على احيائها فى قلوب قرائهم !
وبعاطفة كبيرة فى كرم وزير التعليم العالى ، اقترح أن تشترى الوزارة نسخاً من جريدة القاهرة ، وإضافتها إلى المكتبات الجامعية ، ولا اطمع فى توزيعها على الطلبة ، كإضافة إلى رسالتها التعليمية ، وكثمرة : " قرار حكيم " !
ولتسمح لى جريدتى ، أن أبوح لها بما أردده فى داخلى من نحوها : " بعض الأحلام يكون الصحو منها مزعجاً جداً تماماً كالإنتهاء من قراءة كل عدد اسبوعى من جريدة القاهرة " !

حمّام ريم الشعبي للنساء

د. عدنان الظاهر

[[ من حكايات ألف ليلةٍ وليلة ]]

( دعتني هندُ للذهاب معها إلى الحمّام الشعبي الوحيد ، حيثُ تتكدّسُ الأجسادُ الملتهبةُ والجائعة على الدوام / التوقيع : ريم العباسيّة البغدادية )*.

هل نذهب معكما يا جميلتان لا لنستحمَّ ولكن لنتسمعَ لما يجري هناك من أحاديث ونرى ما تعرّى من أجساد أنثوية لا يراها عادةً إلا الأزواجُ ؟ تحفّظت هندُ الأرملةُ لكنَّ ريمَ لم تعترضْ . عاشقة الحرية لم تعترض ولم تمتعض أصلاً من السؤال كما كان شأن صاحبتها هند . ما سبب إمتعاضكِ واعتراضكِ يا هندُ ؟ قالت لو كنتم نساءً مثلنا لما اعترضتُ . قال لها صاحبي ليس في الأمر من مشكلة ، سنحلقُ شواربنا ولحانا ونتخفى في أزياء نساء وندخل معكما كما تدخلُ الحمّامَ باقي النساء . علّقت ريمُ قائلةً والبهجة الطافحةُ على قسمات وجهها الفتي الجميل : فكرة جيدة صائبة ، تعالوا معنا وسأساهم في عملية التمويه وأشتت عنكما عيون الفضوليات المتسائلة والمشككة في أمركما . قطّبتْ هندُ حاجبيها مستنكرةً قول ريم . قلتُ يا هندُ ، ساعدينا في مهمتنا وقولي للمستحّمات الباقيات هؤلاء نسوة صحافيات جئنَّ لكتابة تقرير عن أحوال حماماتنا الشعبية ولقد منعتهنَّ صاحبةُ الحمّام من إدخال أجهزة التصوير التلفزيوني معهنَّ ولسوف يكتفين بما يشاهدنَ ويكتبن من ثم بما يسجلن من معلومات في ذاكرتهنَّ . قالت هندُ قد أوافق على الفكرة ولكن ، كيف ستُخفيان طبيعتكما الذكورية ؟ هل ستقصّان ... بعد حلق شاربيكما واللحى ؟ ضحكنا ، ضحكنا طويلاً فحجتها منطقية معقولة . ماذا سنفعل ببلاوينا المخفية عادةً والتي لا يمكنُ إخفاءَها في الحمّامات ؟ هل نؤجّلُ البتَّ في الموضوع العويص كيما نفكر في حل مقبول لمشكلتنا ؟ قالت ريمُ لا من داعٍ لتأجيل تنفيذ المشروع ، فلقد وجدتُ حلاً .. ما هو يا ريمُ الفيافي والبوادي والحمامات ؟ إشرأبَّ صاحبي بعنقه عجلانَ يسالها عن الحل . قالت لديَّ لبسان داخلية فرنسية من نسيج مطاط خاص يضغط بقوة فيُخفي ما تحته من أعضاء بشرية مهما كان حجمها وإنتفاخها . تبسّمت هندُ الأرملةُ علامة القبول بالفكرة والرضا عنها بينما نهض صاحبي ليصافحَ ريمَ الشابّةَ المطلقة مهنئاً وشاكراً لباقتها وحسن تدبيرها للأمور الشائكة . هاتِ الملابس الداخلية يا ريمُ يا بنت الصحارى والرمال الثابتة والمتحركة .... هاتِ اللبسان المطاطية فصبري ها قد نفد ، قال صاحبي المتعجّلُ أمورَه أبداً [ عبّاس المستعجل ... كما كانت تسميه المرحومةُ والدته ] . قالت هند وقد قبلت فكرة المشروع بعد تعديله سنلتقي هنا غداً الساعةَ العاشرة صباحاً فهيّئا نفسيكما يا شبابُ وتخلّصا مما في وجوهكما الصبوحة من قذارة اللحى والشنبات واتركا الباقي علينا فالملابس النسائية جاهزة لديَّ تماماً وفق مقاساتكما . أما الملابس الداخلية فلدى حبيبتي الصغيرة ريم جلبتها معها من باريس في زيارتها الأخيرة لها لكأنها علاّمةُ الغيوب تتوقع مثل هذه الأحداث الطارئة فأعدّتْ مُسبَقاً لكل حادثٍ حديثا . تدرّبوا على تمثيل الدور جيداً فأمامكما ليلة كاملة . هل يسكتُ عبّاسُ المُستَعجِل وليس في طبعه السكوت ؟ كلا . قال هاتِ الملابس الداخلية يا ريم لكي نتدرب عليها جيداً وننجح في الإختبار الصعب فأعضائي كبيرة بشكل غير طبيعي وسلاحي سلاح حمار طولاً وعرضاً . طربتْ هندُ وقد سمعت خطبة عباس المستعجل أو الأصح المستمطي والمستحمر ما دام سلاحُه سلاحَ حمارٍ أو مطيٍّ بالعراقية الدارجة . تذكّرتُ بعضَ أحداثِ أعوام الدراسة والشباب حين كان نفرٌ من الطلبة السوريين يحرّفون كلماتِ إحدى أغنيات المطرب السوري الدُرزي فهد بلاّن فيقلبونها إلى { تحت التُفاحا / راواني سلاحا } . ما كنت أفهم يومذاك معنى هذا التحوير وتحريف الكلم عن مواضعه لكني أجدُ نفسي اليومَ ممتنٌّاً للصديق عباس المستمطي . مرّت الليلة على أفضل حال فقد نجحت التجارب والتمرينات الشاقة المعقدة وتمَّ ضبطَ كل شئ والتحسب لأيما إحتمال مفاجئ . حلقنا لحانا والشوارب ونجحنا في إخفاء ما يتعسرُّ في الأحوال الطبيعية إخفاءه عن أعين النساء خاصةً . وماذا عن شعر الصدر والساقين يا صديقُ ؟ الذي يحلق شاربه يهون عليه حلق شعر صدره وساقيه ... أجاب عبّاس المستعجل والمستمطي . إلتقينا حسب الموعد في بيت هند فوجدنا الملابس النسائيةَ جاهزةً أعدتها هندٌ لنا . خلعنا ما علينا من ملابس الرجال ولبسنا الأخرى بمساعدة هند وريم التي سألتْ عمّا وهبتْ من ملابس داخلية فطمأناها أننا جئنا فيها . لم تصدّق دعوانا فطلبت منا أن نكشف عما أخفينا عنها وعن هند فسارع صاحبي ليكشفَ عن عورته المخبّأة تحت لباس المطاط . صفّقتْ ريمُ وضحكت هند من كل أعماقها ... نجحت أخيراً فكرة ريم فشكراً لما وهبت من لبسان داخلية تُخفي المحظورات . تمعّنتْ في وجهينا طويلاً هندُ . مدّت أناملها تتلمس خدينا متفحصةً جودة الحلاقة وتمام الصنعة . هزّت رأسها معجبةً بما وجدتْ . كل شئ تمام وعلى ما يرام . الكل جاهزون لزيارة حمام نساء القرية البعيدة عن المدينة والمدنية وشرورهما . ما سيكون إسمك يا عباس ؟ قال إسمي في حمام النساء

[ هناء ] . وأنت الآخرُ ما سيكون إسمك ؟ [ شفاء ] ... قال الآخر الذي هو أنا المُبتلى بعباس من جهة وبلبسان المطّاط من الجهة الأخرى . لقد إكتشفتُ بعد فوات الأوان أني لست بحاجةِ لها ، ذاك أنَّ أمري معها غير أمر عباس المستمطي أو المُستَحمِر ! قادتنا هندُ إلى إحدى زاويا الحمّام القصيّة شبه المعتمة يُزيدها البخارُ الكثيفُ عتمةً وظلاما . وكان هذا المكانُ مثالياً يُتيحُ لنا رؤية النساء المستحمّات عارياتٍ ربّي كما خلقتني دون أنْ ينتبهنَّ إلى مَن نكونُ نحنُ . ثم كنَّ منشغلاتٍ بأمور لا تخطرُ على بال إنسانٍ عاديٍّ لا خبرةَ له في شؤون النساء وحمامات النساء وما أدراكَ ما حمّامات النساء . أصابني وصاحبي عباس المستعجل ذهولٌ مضاعف إذْ إكتشفنا أنَّ صاحبتنا وقائدةَ حملتنا الأرملة هندُ إمرأةً ( مِثلية ) واقعةً في غرام الشابّة ريم. ما كانت ريمُ تتمنّعُ وتتعفّف عمّا كانت تطلبُ هندٌ منها علانيةً . وما كان ما نرى منهنَّ غريباً في ذلكم الحمّام فما فعلتا إلا ما كانت تفعله باقي المستحِمّات . سمعنا هنداً تقولُ لريم (( جسدُك جميلٌ يا ريمُ فتردُّ عليها وجسمك أجمل . أتريدين أنْ أُدلّكَ جسمكِ ؟ مسكت هندٌ يدَ ريمَ ودخلت بها إلى غرفةٍ منزويةٍ في آخر القاعة وأغلقت الباب وبصمت مشتركٍ بدأت تدلّكُ ظهرها ثم راحت تقبّلها بطريقة مدروسةٍ حالمة . داعبتْ حلمتها مقتربةً من جرحها البين فخذيها تفتّشُ عن سره الغائر . إستسلمت ريمُ لعاشقتها هند كما لو كانت مُخدرة وهي تبالغُ في مداعبتها وتتأوّه وتطلبُ منها أنْ تفعلَ معها الأمرَ نفسه . ثم رأينا إمرأةً تركبُ أخرى في زاوية مظلمة وسمعناها تقولُ لها إفتحي رجليكِ أكثر ... والثانيةُ تحتها تتأوّهُ ))* لم نستطعْ المكوثَ طويلاً فالوضع لا يُطاق . غادرنا حمّامَ النساءِ صامتين أنا وصاحبي عباس المستعجل على أنْ تلتحق صاحبتانا بنا بعد ساعتين . إلتقينا في بيت هند كما إتفقنا وكانت ريمُ بادية الإمتعاض شاحبةَ الوجه مكسورة الخاطر على عكس ما كانت عليه هندُ . ما بكِ يا ريمُ ؟ قالت رأيتُ ما رأيتم من عجائب وغرائب وكان آخرها (( أنَّ صاحبةَ الحمّام دنتْ مني ثم سالتني أمتزوجة أنا أم لا ؟ حين أجبتُ بنعم سألتني هل أريدُ رجلاً أو إمراةً ؟ بادرتها منزعجةً بالقول : هل هذا حمامٌ أو بيت دعارة ؟ )) *

جهّزتْ لنا هندُ الشايَ وأتت ببعض الحلوى وكانت متورّدةَ الخدين يطفحُ وجهُها بالبِشْرِ والرضا عن أمر زاولته بمحض وكل رغبتها . قدّمنا لها الشكر الجزيلَ على حسن ما فعلت معنا وما قدّمت من تسهيلات لتيسير المشاهدات الحية الضرورية لكتابة تقريرنا الصحافي عمّا رأينا في ذلك الحمّام النسوي من غرائب وعجائب ما كنا لِنُصدّقَها لولا أنْ رأيناها بعيوننا . قالت ضاحكةً أتودان تكرير المشاهدة في الأسبوع القادم ؟ لمعت عينا صاحبي تفضحان رغبته الأكيدة في زيارة هذا الحمام الأسطوري . لم يجرؤ على أنْ يُفصحَ عن رغبته لكنَّ هند الخبيرة بشؤون الرجال والنساء قالت له ستأتي الأسبوعَ المقبل إلى الحمام معي وسنمارس معاً ما رأيتما من عجائب كأنك صاحبتي وستكونُ أنتَ الراكبُ وأنا المركوبة ففي الظلام يتساوى الجنسان الذكرُ والأنثى . راقت الفكرة لصاحبي لكنه تضامناً معي تساءل وماذا عن صاحبي الوفي هذا وصاحبتك الوفية ريم ؟ لا من مشكلة معهما ، سيبقيان وحيدين في بيتي ليفعلا ما يشاءان بعيداً عن المثلية وما يُسمّى بالشذوذ الجنسي ، ردّت هندُ . موافقة يا ريم ؟ أجابت على الفور بكل سرور . وأنت يا وفي ؟ سألني صاحبي. سأذهب للحمام مع هند الأسبوع الذي يلي أسبوعك ، قلتُ له . قال أحسنتَ أحسنتَ لِنتَ فوافقتَ أخيراً وجاملتَ إبليسَ الشيطان الأكبر ، أحسنتَ أحسنتَ الآن أراك على طريق الصواب ماشياً متأبِّطاً ذراعَ المعصية وخلفك الشيطانُ الأكبرُ . أخيراً تركتَ مثالياتك وتنازلتَ عن عصمتك والدنيا كما تعلمُ فانية لا تدومُ ولا تبقى لأحد .

ذهبَ صديقي عباس إلى حمام النساء ثانيةً برفقة السيدة هند كما سبقَ وأنْ إتفقا قبل أسبوع . أما أنا فلقد بقيتُ في بيت هند مع الشابة المسكنية ريم . لم أشأ أنْ أمسسها أبداً أبداً .. وجدتها أنبلَ وأكبرَ من أنْ يمسّها بسوءٍ رجلٌ . وجدتها نبيّةً أساء الرجالُ فهمها وشوّهوا طبعها وأسرفوا في إستغلالها بعد أنْ جهلوا وتنكّروا لطبيعتها فما عرفوا منها وفيها إلا جسدها الجميل الفتي المتفجّر فتنةً وأنوثةً وشباباً . طلبتُ منها أنْ تقصًّ عليَّ بعضاً من محنتها مع الرجال فوافقت واستجابتْ بشجاعةٍ عزَّ نظيرُها . قالت محنتي في جسدي قبل أنْ تكون مع الرجال ولكنْ ، لا بأسَ من الكلام أولاً عن محنتي مع الرجال : [[ ربّاني عمّي يتيمةً وما أنْ تفجّرتْ فيَّ أُنوثتي حتى إغتصبني عمّي فهربتُ منه ومن بيته لأجدَ نفسي وأنا في الثالثة عشرة عاهرةً من عواهر الشوارع . هل تصدّقُ أني ما زلتُ أغزلُ من أُنوثتي أسئلةً للحزن وما زلتُ أبحثُ عن طفولةٍ مسروقة مني وعن وطنٍ بحجم ذاكرتي ليس بأكبرَ من وجه أمي التي لم أرَها . إشتغلتُ مُترجمةً في مؤسسة عسكرية وكنتُ أنامُ مع رئيسي لأنالَ فارقاً مادياً لا بأسَ به ... تغرّبتُ وكنتُ في غربتي وحزني بحاجةٍ إلى سماع فيروز . غنّت لي فيروزُ ودموعي الثكلى تعيدني إلى طفولة ضبابية الصورة وأنا أحلمُ بالمستحيل ]] **. أطرقتْ ريمُ إطراقة عميقة طويلة وكنتُ معها في إطراقتها بل كنتُ مُجمَّداً مُسمَّراً في مكاني لا أقوى حتى على تحريك عضلة لساني . وجدتُ نفسي أمام محنةٍ إنسانيةٍ حقيقية لا قِبَلَ لي بها . أهكذا تقسو الحياةُ على بعضنا وعلى الأجمل ما ومَنْ فينا ؟ كيف يغتصبُ رجلُ إبنةَ أخيه اليتيمة وكيف يهونُ عليه تشرُّدُها في الشوارع بغيّا ؟ وماذا قلتِ يا ريمُ عن الجسد ؟ ماذا قلتُ عن الجسد ؟ قلتُ [[ جسدي يبحثُ فيه عني أنا المشرّدة في عَتمته . منذُ الخليقةِ وأنا أبحثُ فيه عن شكلي الذي أُحبُّ وعن لذةٍ تأخذني إلى عالم السحر ]] .

جاءت هندُ من الحمام وجاء عباسُ معها متأبطاً ذراعها منتفخي الأوداج سروراً وبهجةً وإمتلاءً . ما أنْ أراحا نفسيهما على الأريكة الطويلة حتى شعّت عيناهما بسؤالٍ قديمٍ معروفٍ معهودٍ يقول : هل أنجزتما المهمات الملقاة على عاتقيكما إذْ تركناكما في البيت وحيدين ؟ واصلتُ وريم الصمتَ فالمحنةُ لا تحتملُ الكلامَ تاركين تقديرَ الموقف لهما وليظّنا ما شاءا ما دام مَنْ يمارسُ الجنسَ في حمّامات النساءِ ومَنْ لا يمارسهُ في البيوت سواء !

هامش وتوضيح

*تفصيلات ما كان يجري في حمّام النساء منقول حرفياً تقريباً من قصة " غواية نهد " في كتاب [[ كأس بيرة / للسيدة سُهيلة بورزق / سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2009 ]] .

**مقتطفات من عدد من قصص الكتاب سالف الذكر / كأس بيرة لسهيلة بورزق .