الاثنين، أبريل 13، 2009

زنابقُ السنين.. ديوان شعر للأستاذ الدكتور بهجت علي عباس

د. عدنان الظاهر
أتحفني الصديق العزيز دكتور بهجت عبّاس بكتاب شعري جديد هو الأخير في مجموعة ما كتب وما نشر من كتب علمية وأدبية في مجالي الشعر الموضوع والمترجم . هكذا عرفته منصرفاً للشعر كإنصرافه للطب وعلوم الصيدلة فلا هذا يطغى مدّاً ولا ذاك ينحسرُ جَزْراً فهو قادرٌ على إقامة التوازن المطلوب ما بين علمه وأدبه . لِكَم تمنيتُ أنَّ أخي بهجت كان قد ضمّنَ كتابه هذا ترجماته الشعرية الرائعة إلى العربية من الإنكليزية والألمانية ... إذاً لكن سروري عظيماً ولكان مُثلَّث الزوايا والأضلاع والأركان . أقول هذا الكلام لأنَّ ما سيأتي بعده من كلام يحملُ رأياً فيه بعضُ قسوةٍ يتحملها مني عزيزي دكتور بهجت كما إخالُ وأحسبُ .. خلاصة رأيي أني أجد شعر الدكتور الموضوع منه والمترجم بأسلوب وشكل الشعر الحر هو أفضل من شعره الموزون المقفّى المسمى بشعر بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي أو شعر العمود العربي . وقد لا يعلمُ بهجت أني لا مع هذا ولا مع ذاك إنما قلبي ويدي مع قصيدة الشعر المنثور الحديثة وقد كرّستُ الكثير من وقتي لها ولنقدها طوال السنوات العشر المنصرمة . أجدُ الشاعرَ ، أيَّ شاعرٍ ، أكثر حركةً وأكثر حريةً في معالجة موضوعات شعره حين يعتمدُ شكل الشعر المنثور في حين أراه مقيّداً مُكبّل اليدين والفكر والذاكرة محدود الحركة قليل المناورة إذْ يكتب شعره على نمط العمود أو الشعر الحر الذي شاع بيننا وساد بعد الحرب العالمية الثانية بفضل جهود عدد من الشعراء العراقيين المعروفين الروّاد كالسياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري وكان الدمشقيُّ نزار قباني في صفهم كأنه يتبارى معهم . لذا أتمنى على أخي بهجت الشاعر أنْ يجرِّبَ كتابة الشعر المنثور رغم أني على قناعة شبه مُطلقة أنَّ من كتب وتربّى ونشأ على كتابة الشكلين الأولين للشعر يصعب عليه كتابة شعره شعراً منثوراً فقد تقولب وتصلّبَ حتى لم يعدْ دماغه يطاوعه إنْ حاولَ كتابة شعره بأساليب جديدة .

إستهلَّ الدكتور بهجت ديوانه الجديد بمقدمة توضيحية قصيرة بين فيها ظروف وأزمنة كتابته لقصائده التي ضمها الديوان لكني للأسف وجدت الكتاب مفتقراً إلى فهرست القصائد وأمكنتها في صفحات الديوان . وديدني أنْ لا أبدأ قراءة أي كتاب إلا بعد الرجوع إلى محتوياته فأختار منها وفق ما يوحي لي هذا العنوان أو ذاك . لذا تركني أخي بهجت محتاراً في أمري : من أين أبدأ وأية قصيدة سأقرأ ؟ أي إنه تركني لمحض الصدف العمياء أتخبط وأقلّب الصفحات بحثاً عن عنوان يُغريني أو يذكّرني بحادثة أو أمرٍ له علاقة بتأريخ حياتي فالإنسانُ يسعى دوماُ لإيجاد ما يشبهه أو يحاول أن يكتشف نظائرَ ومشابهاتٍ لتجاربه في الحياة بل وحتى لأوجاعه وأحزانه ومسرّاته . فماذا وجدتُ بعد شئٍ من الجهد خالٍ من مشقّة ؟ وجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع عدنان الظاهر ... فهل ثمّةُ مَنْ هو أكثر قرباً وشَبَها لهذا العدنان مني أنا كاتب هذه السطور ؟ وجدتُ قصيدتين كتبهما لي أخي بهجت فخجلتُ من نفسي حتى تعرّقتُ وقلتُ يا أرضُ غيضي وابتلعيني ! فبِمَ وكيف أجازي هذا الصديق النبيل الوفي الطاهر اليد والذيل واللسان ؟ لا أنسى فضله في الوقوف معي حين أساءَ لي بعضُ السُوقة وأولاد الشوارع من نفايات البشر وفضلات المجاري فقد رمى بكامل ثقله معي وورائي مدافعاً منافحاً بقلبه وقلمه ، بشعره ومشاعره . عنوانُ القصيدة الأولى ( سيدوري عدنان الظاهر ) وعنوان الثانية ( سلامات ) . كتب الأولى إثرَ قراءته لإحدى حوارياتي المنشورة التي حملت عنوان [ سيدوري في براغ ] ، وكتب الثانيةَ مشكوراً مُهنئاً بسلامتي بعد إجراء عمليتين جراحيتين لعينيَّ . أنا لم أخبره بموضوع العمليات الجراحية لكنه قرأ الخبر منشوراً في موقع الهدف الثقافي بمبادرة قام بها أخونا المشترك الأستاذ سعيد الوائلي، مؤسس ومدير الموقع . أقفل الدائرة الألمانية بصديق له مُقيم في ألمانيا وقد بدأها بالفيلسوف الألماني نيتشه إذْ كانت قصيدة " خطرات من وحي نيتشه " أولى قصائد الديوان. لقد ظلمني الصديق بهجت عباس حين قرر وضعي أمام الفيلسوف المتشائم وهو يعرف أني الضاحك المتفائل الساخر أحياناً ولستُ بالفيلسوف . ذكر شاعرُنا كتابَ فردريك نيتشه الشهير ( هكذا تكلّمَ زرادشت ) وإستلهم أفكار وأجواء قصيدته من أقل من ثلاثة أسطرٍ مما ورد في هذا الكتاب :

[[ أرسلتُ نظراتي إلى أعماق عينيكِ الساهدتين أيتها الحياة ، فوقفَ نبضانُ قلبي إذْ رأيتُ الذهبَ متوهّجاً فيهما ، ورأيتُ مركباً ذهبياً يشعُّ على بحر الظلام يُشدُّ بمهدٍ مُذهّبٍ مُشرفٍ على الغرق / الصفحة 5 ]] . هل كانت هذه نبوءة الشاب بهجت إذْ كتب ونشر قصيدته هذه عام 1953 حين كان طالباً في كلية الصيدلة في بغداد / سنة أولى ؟ هل تنبّأ وحدس أنَّ هذه الكلمات تعبّر عن رؤياه حول المقبل من حياته وقد جاهدَ وصبرَ وكافحَ وواصل دراساته العليا وعمل في كل من ألمانيا وبريطانيا حتى نال أعلى شهادات الإختصاص في الطب والصيدلة دون مساعدة من أحد ، لا من حكومة ولا حزبٍ ولا هيئة ولا منظّمة . وهجُ الذهب بين عينيه لكنَّ وطنه ، مهد طفولته وشبابه ، رآه مشرفاً على الغرق وهذا ما حلَّ بالعراق لقرابة خمسة عقودٍ من عمر الزمن إنتهى به الحال كما هو حال الكثيرين من العراقيين إلى التشرّد في شتى بقاع العالم فكانت كندا البعيدة محطّ رحاله وعائلته .

وماذا يجد القارئ بعد في هذا الديوان ؟

ليس فيه شئٌ من رومانس أو تهويمات الشباب والصبا ، كأنه مرَّ أو مرَّ به العمر متخطياً هذه المراحل كما كان حال { العريف جبر } . جُلُّ ما في الديوان من قصائد إنما هي من أشعار المناسبات والإجتماعيات والدعابات الساخرة ( قصيدة البريد والكتاب / الصفحة 57 ) وقصيدة ( شاعر وناشر / الصفحة 63 ) وقصيدة ( حليمة / الصفحة 18 ) ثم قصيدة فياغرا وهو الصيدلي الإختصاصي في علوم الصيدلة وحبوب الفياغرا وما أدراكَ ما الفياغرا( الصفحة 47 ) على سبيل المثال. لقد كتب هذه القصيدة على وزن وإيقاع قصيدة الجواهري السياسية الساخرة المعروفة [ أي طرطرا تطرطري ] فقال في مطلعها :

فياغَرا تبختري

وفجّري في السَحَرِ

شهوةَ شيخٍ شَبِقٍ

حياتهُ في السُرُرِ



ولكنْ لم تفتْهُ مناسبةُ مرور ستة أشهر على ثورة 14 تموز 1958 فنشر قصيدته ( ثورة الشعب / الصفحة 9 ) ثم ربط بين كارثتي فلسطين والعراق في قصيدة ( بطّةُ البحيرات / الصفحة 25 ) . أما باب الشعر الإخواني فللشاعر ميلٌ كبيرٌ لمزاولته فها هو يكتب قصيدة لصديقه الدكتور عبد الأله الصائغ مؤاسياً عنوانها ( يا نائحَ الطلحِ أشباهٌ عوادينا / الصفحة 59 ) وهذا الصدر لبيت لشعري لأحمد شوقي كما ذكر الشاعر . كما كتب لصديقه الرسّام أحمد قاسم النعمان قصيدةً يشكره فيها على إرساله له عَبْرَ الإنترنت صورة غجرية ( قصيدة الغجرية " الصورة " / الصفحة 32 ) . كذلك كتب قصيدة رثاء لصديقه الراحل مرتضى الشيخ حسين الذي وافته المنيّةُ غريباً في برلين ربما عام 2007 أو قبل ذلك . قال في هذه القصيدة مخاطباً صديقه الذي كان ما زال عام 1995 على قيد الحياة :

فلستُ كما تظنُّ مَلولَ عيشٍ

وليس الإشتياقُ إلى الرحيلِ

وليس لأنَّ شمسي في غروبٍ

وليس لأنَّ عودي في ذبولٍ

ولكنَّ الحقيقةَ في ضبابٍ

وأنَّ الوهمَ يُبعَثُ في العقولِ

أرى درباً يضيقُ بسالكيهِ

ودنياً تحت سيطرةِ المغولِ

ولكني سأطرقُ كلَّ شِعبٍ

وأجعلُ كلَّ كوكبةٍ دليلي

...

فهل للأمسِ عَودٌ ليتَ شِعري

فتخلو النفسُ من همٍّ ثقيلِ

فنمْ تحت الثرى برلينُ أحنى

من الوطنِ المُحطّمِ والعليلِ

{{ لا أحسبُ العربُ تقول أحنى ، إنما تقول : أكثر حنوّاً ، فكيف فاتته وهو الضليعُ من العربية الفطحّل بصرفها ونحوها وإعرابها ؟ }} .

لم يستسلم الشاعرُ بهجت عباس وما رأيته يوماً يائساً أو مستسلماً أو متشائماً حتى . فمن أية طينةٍ جبلته مدينة الكاظمية مهده ومسقط رأسه ؟

أفاد شاعرُنا قليلاً إذْ وظّفَ بضعة أبيات لبعض الشعراء تمهيداً او وزناً وقافيةً منهم أحمد شوقي والمتنبي ثم إبن الرومي . قال بهجت في قصيدة ( إبن الرومي والوطن وجريمة الجسر / الصفحة 61 ) : من وحي جريمة جسر الأئمة . الأبيات التي بين قوسين هي لإبن الرومي . وكان بالفعل مطلعُ هذه القصيدة بيتاً من إحدى قصائد الشاعر العبّاسي البغدادي إبن الرومي المعروفة (( ولي وطنٌ آليتُ ألاّ أبيعهُ // وألاّ أرى غيري له الدهرَ مالكا )) . وقد جارى بهجتُ قصيدةَ إبن الرومي في الوزن والقافية .

*هامش

زنابقُ السنين / ديوان شعر للدكتور بهجت عباس علي / الناشر : فيشون ميديا ، السويد . الطبعة الأولى 2009 .

Visionmedia Kronoberg HB

Sweden 2009


ليست هناك تعليقات: