الاثنين، أبريل 27، 2009

إنها تحبُّ الخطَّ العربيَّ

د. عدنان الظاهر


( مقابلة تلفزيونية لا وجودَ لها ... )

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التدللِ

فإنْ كنتِ قد أزمعتِ قتلي فأمهلي

قالت ألله الله ! أهذا غزلٌ أم قتلٌ ؟ بل غزلٌ قاتلٌ يا جميلة الجميلات ، أجبتها . قالتْ ومَن القاتلُ ، أم غزلُك ؟ كلاهما يا جميلة الجميلات ، كلاهما يا سيدتي وسيدة الزهور في الدنيا والآخرة . ضحكت السيدةُ الجميلةُ بكلِّ ما في صدرها من هواءٍ ثم قالت : قد أفهمُ أنْ أكونَ سيدةَ الزهورِ في الدنيا فكيف أكونها في الآخرة ، من أين لك هذا الخيالُ الغريبُ ؟ ليس في الأمر غرابةٌ يا جميلتي الحلوة ومليكة المغرب والغروب . أليس في الآخرة ، بعد الحياة ، جناتٌ وعيونٌ وحورٌ عينٌ ؟ إذاً كيف لا تكون في هذه الجنات زهورٌ وورودٌ وخدودٌ حاملات أشهى وأرقى أنواع العطور . قالت محتجّةً ومن قال لك إنَّ نصيبي بعد حياتي هو الجنة وليس النار ؟ لا من مشكلة سيدتي ، سأقلبُ عندذاك ناركِ إلى جنّاتٍ وعيون ونخيلٍ وأعنابٍ وكرومٍ دانيةٍ قطوفها . لا ينفعُ سحرٌ هناك ، علّقتْ . بلى ، قلتُ ، سحري في حبّي فالحب أعظمُ ساحرٍ في الوجود . سأحوّلُ ناركِ بحبي إلى جنّة لا مثيلَ لها ، صدقيني . نظرتْ في عينيَّ بشكَّ وترددِ مَن لا يصدّقُ ما يسمعُ . وقفتُ لأقولَ ما قرأتُ ذاتَ يومٍ : يا نارُ كوني برداً وسلاماً على حبيبتي التي تشكّكُ في دعاويَّ . قالت عليك اللعنة ، كيف حوّرتَ كلامَ الله ؟ في الحبِّ تزولُ الفوارقُ بين المخلوق والخالق ، قلتُ ، يحلُّ أحدُهُما في الآخر ، فقدرة ذاك وخوارقه من قدرات وخوارق هذا . قالت بنفاد صبرٍ لكنَّ هذا من كلامِ المتصوِّفة . وأنا أحدهم حسب الوقت والمناسبة والمزاج . أفلمْ تقرأي :

أنا مِن يهوى ومِن يهوى أنا

نحنُ روحانِ أحلاّ بدنا

قالت أضجرني حديثك عن الصوفية والتصوف وما كنتُ فيهم أو منهم يوماً . ماذا تقترحُ إذاً جميلة جميلات جنات الخلود ؟ إقرأ لي شيئاً من الأشعار الخفيفة المحوّرة . سمعاً وطاعةً يا حلوتي :

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التعسّفِ

فإنْ كنتِ قد أزمعتِ قتلي فأنصفي

قالت مُحتجّةً وما أحلاها حين تغضبُ أو تحتجُّ : وهل في القتل إنصافٌ يا هذا ومتى كان القَتَلةُ منصفين ؟ بلغتُ ذروة سروري الباطني حين سمعتها تنطقُ بهذا القول ففيه حكمةٌ وفيه نضوجٌ سياسي ـ إجتماعي وفيه وفيه ... فصرتُ أردد كالمعتوه مع نفسي [[ متى كان القَتَلةُ منصفينَ ، متى متى متى ؟ ]] . هل صاغ ربَّكِ فمَكِ من زبرجدٍ وعقيق وماسٍ وذهب ؟ ليتني بل ليت أقداري تسمحُ يوماً لي بتقبيلِ هذا الثغر الملائكي وأنْ أَطيفَ مُحرِماً حاجّاً ومُعتَمِراً حوله ثم أرشق رأسي بسبع جَمَراتٍ لأنتهي قتيلاً ولأسفحَ ما تبقّى في عروقي من دمٍ أُضحيةً تتقرّبُ بها إلى خالقها الذي خلقها فسوّاها وعجزَ عن خلقِ أخرى سواها . تركتني أسيحُ على غير هُدىً ضارباً في براري وسفوح جبال نجدٍ ووديان ثقيف [ يا ريمُ وادي ثقيف ... ] أبحثُ عن آثار أقدام قيس بن الملوّح مجنون ليلى لعلّي أجد فيها بعضَ السلوى فقد برّحني الهوى وأضناني والعاشقُ للعاشق طبيبٌ وطبٌّ ورفيقٌ ومرهمٌ. حين عدتُ إليها وجدتها صامتةً مُغمَضةَ العينين فضاقت الدنيا في صدري وعيني وتذكّرتُ شعر أبي الطيّب المتنبي في رثاء جدته لأمه :

وما اسودّت الدنيا بعيني لضيقها

ولكنَّ طَرفاً لا أراكِ بهِ أعمى

إفتحي عينيك يا جناحَ حمامةٍ يخفقُ في صدري شهيقاً وزفيراً ، فَرَحاً وحزناً ، أملاً ويأساً

عودي ففي قلبي جناحٌ مُخفِقٌ

جريحٌ ، وفي الدنيا حبيبٌ مُحرِّمُ

إفتحي نوافذَ جفنيك لأرى نور شموس عينيك المنحوتتين من أكثر جذوع سيقان أشجار الجوز صلابةً وعنفواناً . هل رأيتِ إنعكاساتِ ألوان غابات الجوز في الظلال المحيطة بعينيك تستجدي الإذنَ بالدخول إلى عالمك الليليِّ الغامض فأبوابك ليست مُشرَعةً بل وأبوابُ أسراركِ موصدةٌ بأقفال من حديد عديم الصدأ . كانت وهي في شرودها وإغماضةِ عينيها تتابعُ ما أقول في سرّي لذا ما أنْ إنبلجَ فجرُ قيلولتها القصيرةِ حتى سألتني المزيدَ من الشعر المحوَّر فأنشدتها على الفور:

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التطرّفِ

فإنْ كنتِ قد أزمعتِ هجري فخففي

قالتْ وما زالتْ نصفَ نائمةٍ ـ نصفَ حالمةٍ أفلمْ تملَّ بعدُ من ذِكر القتل والهجر والتعسّف ؟ أهذا هوى أم هاوية ؟ معك حق يا أميرةَ الأميراتِ ويا جامحةَ اللهَفاتِ الناريّة فإني لم أقترح هذا اللقاء التلفزيوني المذاع على الهواء إلا لأفرحَ بك أمامَ العالمين وأفتخرَ وأتشرّفَ بمعرفتك بل وبصداقتك . قالت وهل إنتهى الوقتُ المخصّصُ لهذا " الإنترفيو " ؟ كلا يا ضيفتي وأميرتي ، لم ينتهِ الوقتُ المخصّصُ للقائكِ الأسطوريِّ هذا يا مليكةَ عرشِ الطاووس الشاهنشاهي والأطلسي والأوراس وما وراءهما وما فوقهما . لا أريد الوقتَ أنْ يمرَّ وأنتِ معي وأنا في حضرتك ركوعاً وسجوداً ، قعوداً وقياماً ، رقدةً وقيامةً ، صدّقيني .. لم ينتهِ وقتنا بعدُ وأمامي سؤالٌ من مشاهد عراقي في بغدادَ قال عن نفسه إنه شاعرٌ وصحافيٌّ وإنه على معرفة طفيفة بك . قالت ما اسمه ؟ إسمه خالد يا مولاتي .. قالت هاته فليسأل ما شاءَ فبغدادُ عليَّ عزيزةٌ مُذْ قرأتُ كتابَ ألف ليلةٍ وليلة وتعرّفتُ على شعر علي الجارم الذي إستهله بالبيت الشعري [[ بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ // ومنارةَ المجدِ التليدِ ]] . خلع قبّعته كاشفاً رأسه ثم حيّاها الشاعرُ خالد من مقرِّ إتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين في قلب بغداد تحيةَ الأميرات ثم سألها أصحيحٌ أنها تحبُّ الخطَّ العربيَّ ؟ قالت أجلْ ، وأمارِسُهُ أحياناً وقد تعرّفتُ حديثاً على فنان عراقي ـ أمريكي يمارس الخطَّ بأساليبه الخاصة وله كتابٌ كالأعجوبة نشره في الآونة الأخيرة وقرأتُ عنه في بعض المواقع لو إطّلعتَ على ما فيه من كنوز لأصابك الذهولُ وما هو أكبرُ من الذهول ! طلبَ منها إسمَ هذا الفنان العبقري فقالت إسالْ عنه هذا الرجل صاحب الإنترفيو فهو صديقُهُ وقد كتب عنه وعن كتاب خطوطه قبل فترةٍ وجيزةٍ . يا مُصدَّقُ الحبيبُ ! هل تودُّ التعرفَّ على هذه السيدة التُحفةِ النادرة المثال وهي تصلح نموذجاً ( موديلاً ) لبعض خطوطك فإنْ تعذّرَ عليك رسم وجهها الأسطوري بالخطوط فلا بأس من رسم إسمها كما فعلتَ مع ملهمتك السابقة البغدادية شهرزاد . أجابَ مُصدَّق الحبيبُ : أتشرّفُ بالتعرّفِ عليها وأنا بالفعل بحاجةٍ ماسّةٍ لوجوه نسائية تتميزُ بجمالٍ خاص وملامحَ متفرّدة أقرأُ فيها قوّة شخصية صاحبتها وما تُخفي في صدرها وتحت أديم بشرتها من خفايا وأسرار لايستطيعُ كشفها إلا شيطانٌ أو فنانٌ خبيرٌ بشؤونِ الوجوه . الرسّامُ طبيبٌ نفسانيٌّ وحكيمٌ روحانيٌّ ومسبارٌ عميقُ الأغوارِ . وهل سبقَ وأنْ رأيتَ هذا الوجه أو صاحبةَ هذا الوجه ؟ قال أراها الآنَ على شاشة التلفزيون في برنامجك أمامي وقد سبق وأنْ رأيتُ صورتها منشورةً في بعض المواقع سويةً مع بعض قصصها أو أشعارها فقلتُ صارخاً وجدتُها ... ها قد عثرتُ أخيراً على ضالتّي المنشودة . ألا تخشى الوقوع ، وأنت ترسمها وتخطُ ملامحها وتزخّرفُ إسمها ، ألا تخشى الوقوع في حبّها كما وقعت الطبيبةُ النفسانيةُ المغربية في حب مريضها الشاعر أو كما وقع إبن زيدون في هوى ولاّدة بنت المستكفي ؟ تنهدَّ الفنانُ ـ العالمُ ـ الخطّاطُ عميقاً وهو يشعلُ سيجاره الكوبيَّ الضخم ثم قال : ليتني بالفعل أستطيعُ أنْ أقعَ في غرامِ صاحبةِ هذا الوجه إذْ أني أجدُ فيه وفيها كلَّ ما تشتهي نفسي إنساناً ورجلاً ثم خطّاطاً فناناً . هي النموذجُ الأكملُ والأنقى والأقوى والقوةُ تُغريني وتقوّي وتطوّرُ قدراتي على خلق وإبتداع تشكيلاتِ خطيّة جديدة لم يسبقني إليها أحدٌ من مشاهير قدماء الخطاطين أمثال إبن مُقلة ثم المستعصمي العباسي . ثم قال بلهفة أين أجدها ؟ هذه هي أمامك يا مُصدَّق ، أمامك تراها بلحمها ودمها تتألقُ مالئةً فضاءَ شاشة التلفزيون بل والفضاء الممتد من بغداد حتى الدار البيضاء . تدخّلَ الشاعرُ البغداديُّ خالدُ قائلاً : فضاءُ بغدادَ مغلقٌ علينا وعلى كافة الشواعر المبدعات وهذه السيدة حصّتنا لا ينافسنا عليها أحدٌ في الدنيا وهي قسمتنا ونصيبنا فبأي حقٍّ يأتينا فنانٌ خطّاطٌ من أقصى بقاع الدنيا لينافسَنا نحن الفقراء المساكين المغلوبين على أمرنا ؟ ليتركَ ما لنا وليأخذ ما له ويعطينا عَرْضَ أكتافهِ . لم يعترضْ ولم يحتجَّ الفنانُ بل إعتذرَ وأعلن إنسحابه من حَلَبة النزاع بأدب وخُلقٍ عالٍ وهذه شيمةُ العلماء . ما رأيُكِ يا نجمةَ هذا الإنترفيو ؟ لم تفكّرْ طويلاً حين قالت أنا شاعرةٌ وصحافيةٌ حرّةٌ وقراري في يدي أصادقُ مَنْ أُصادقُ وأُفارقُ مَنْ أُفارقُ وكلُّ فضاء الكون مفتوحٌ أمامي وليس من حقِّ أحدٍ الإدعاءَ بغلق أو إنغلاق هذا الأفق أو ذاك . إختفت زهرة الآفاق والمدائن الخيالية بعد أنْ قالت ما قالت واختفى معها الفنانُ الخطّاطُ راكباً أول طائرةٍ متجهّةٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولم يتبقَ أمامي إلا الصحافيُّ المسكينُ الغيورُعلى ليلاه الممتنعة عنه والعصيّة عليه فرأيته غارقاً في دموعه حسرةً على التي غابت دون كلمة وداع وشفَقَةً على نفسه التي خابت ولم تحققْ في تلكم المقابلة أيَّ مكسبٍ .

إنتهى الوقتُ المُخصّصُ لهذا الإنترفيو فما رأي مشاهديه الكرام ؟

ما رأيكِ سيدتي التي غابت كما تغيبُ الأقمارُ وقد قال فيها إبن زُريق البغدادي في سالف الزمان :

أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً

بالكرخِ من فَلَكِ الأزرارِ مَطلَعُهُ

وما رأيُكَ أنت يا مُصدَّقُ الحبيبُ ؟ سأنتَظِرُها ، أجابَ ... أنتظرُ وصولها لي [ بلهفةٍ متأجّجةٍ ] ... أنتظر وصولَها فلقد وعدتْ وحدّدتْ يوماً بعينه لوصولها لمرسمي الذي أعددته وجهّزتُهُ خصيصاً لإستقبال موديلاتِ ملكاتِ الزمانِ من مثيلاتها . تركتُ معها الكارد الذي يحملُ إسمي وعنواني وأرقام تلفوناتي الأرضية والمحمولة .

أقفلتُ جهازَ تلفزيوني إذْ لم أجدْ أحداً في بيتي سوايَ !!

إنتهى الوقتُ المُخصّصُ لأحلام اليَقَظة وسياحات الخيال وهلوسات الأماني الراكظة خلف السراب !!

ليست هناك تعليقات: