الخميس، أبريل 30، 2009

سيمون عيلوطي: قراءة في البوح والفوح

د. فاروق مواسي

شعر العامية أو المحكية يفرض نفسه في دنيا العرب، له قراؤه ومحبوه ومجددوه، وله كتّابه ومريدوه.
فهو يرد في لهجة الأم مقابل لغة الأمة. لهجة الأم ( أو لغتها في الألسنيات الحديثة) هي رقراقة أنيسة، فبها نروي النكتة، ونحكي الحكاية، ونضرب المثل، ونطرب، ونغضب، وإلا فإننا نكون في تعبيرنا التلقائي متنطعين متكلفين.
سيمون كتب في زمانه شعرًا فصيحًا مليحًا حتى كان لشعره هوية سيمونية، لكنه آثر التعابير اليومية ليشحنها بالطاقة الشعرية، بالشعر الحقيقي – على رأي المرحوم محمود أمين العالم، وهو يتحدث عن شعر الدارجة.
لنقرأ الدواوين الأربعة التي أصدرها، ولننظر كيف يكون تعريف الشعر في صوره، وكما يعبر عنه:
في الديوان الأول برقوق الجرمق- 1990 (ص7) يقول سيمون:

قالت لي خلي الشاعريه
برقّةِ وْراق الورد
وبلون حبات الندى
تقطر نعومة كلمتك
خليها تتدفق بحب وأمل
مثل النهر
خليها تسري بالبدن
تشكِّل بقلبو عصافير وشجر
خلي الشعر
منسوج بخيوط الفجر
رقراقه تيجو موجــتو
مثل السِّحر
(يسحرنا هَيكو حملتو ) تسحرنا هيكي جملتو
توخدنا ع حدود النجم
تحكينا بشفاف الحلم
وتطول فينا رحلتو
في بهجتو
أما في الديوان الثاني قريب من سما البروه - 1994 ( ص 7 )، فيقول:

افرد جناحك يا شعر
كر بسمانا مثل كرّات الكنار
وانشر عطر

زرِّ الزهر
نسّم علينا
كُون في العتمه نهار
خُدنا ورا حدود السحر
فوق النجم
خلف البحار
نوِّرْنا في نور الفكر
جدِّدْنا وابقى يا شعر
وحدك فنار

وهكذا في الديوان الثاني يكون الشعر فنارًا بضوء الفكر، الأمر الذي لم نجده في الرؤية الأولى حيث "الشعر الشعر"- أو كما سماه بعض النقاد الإنجليز Pure Poetry.

في الديوان الثالث حريق في بحر القصيدة- (1997) نراه أيضا يفتتح الديون بقصيدة " ملاك الشعر" فتتحول الجبيبة إلى شعر ، فنسمعه (ص 5) يقول:
إنتي الشِّعِر لو تِعْرفي كيف الصور
بِتْشع لما تْخَرِّفي ..
نجوم وْقمر ..
ثم تتبدى صورة الشعر عبر قصائد وعن الوطن، وعن الشعراء، وعن التراث- هي الحياة كلها بانفعالاتها وتفاعلاتها.
فإذا عدنا إلى ترتيب مجموعات القصائد في هذا الديوان سنجدها بعد قصيدتين – هما افتتاحية، وموقف- كما يلي:
جنون القصيدة، فرس القصيدة، شهقات القصيدة، صور..، غليان..، ميدان...، حديث...، هموم...، عجايب..، حب...، هدايا...، بداية القصيدة، وفي كل مرة يكون المضاف إليه لفظ "القصيدة". وبالطبع فالمتابع يلاحظ أنها رحلة فارس، ختام مسيرته بداية. وبالتالي فهناك جواهر في العقد منتظمة في السلك الدائري يشكل بِنية العقد، خاتمته بدايته، والحلقة ممتلئة.
وكما كانت القصائد متدرجة منسابة منساقة في نظام، هكذا كانت القصيدة الواحدة سردًا متدرجًا في سياق تصاعدي مشوّق. إنه يحبك الحادثة بحيث تتصل بحياة الناس واهتماماتهم - اتصالاً وثيقًا. لنقرأ:

فرفحت لوجوه ورتاحو العيون
هالطير بلّش
يلعب بعب الزتون
والياسمين زهورو هيك تشوشو تْنَشْوَشو
ع الحيطان
غصونو بديو يعربشو
قلبي صافن
فز تارك مطرحو
ما عاد يعرف ليش
هني بفرحو
(حريق...، ص 42)
ملاحظة أخرى أذكرها هنا، أننا نجد القصة تستمد عناصرها من عناصر الطبيعة، فمن القصيدة التي ذكرتها لاحظتم الطير والزيتون والياسمين والزهور والغصون، ومثل ذلك ما نجده وهو يخاطب شاعرًا (ص 106):

وعندك قصايد حالمه
حلم القرنفل للهوا
وعندك معاني هايمه
هيام الصبية بالغوى
وعندك الكلمة ناعمه
همسات أنعم مِالهوى
زرار الورد يحرقصو
ويحاورو قطر الندى
فكل بيت أو أي سطر تقريبًا لا يخلو من هذه الطبيعة التي دعت الشاعر إلى محرابها. ونموذج آخر نجده وهو يخاطب كاتب هذه الكلمات – واعذروني في ذكر ذلك -، بدءًا من المطلع:

بنعومة النسمه العليله
ورقة الحان القصب

يِسْري في بْحورو الطِّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّليقه
يْمَرْجِح بْليلو القمر
وْتَنُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّو يِعْرف شو الحقيقه
أبْدَع بْشِعْرو صور..
هالشاعر المثل الفراشه
من عطره زهر وكَتب
موجات تِتْناغَم دِرايِه
قِصَّّّّّّّّّه، أشعار، وْنَقِد..
أحلام ما إلها نِهايِه
كِلْمِه بِتْفَرْفِح وَرِد
في روضْنا وْبِتْظَل رايِه
إلْنا إبْداعو وَهَب.
(ص 122)

أرأيتم كيف تتغلغل الطبيعة في وجدانه، وكيف أن صميمه يتعلق ويتألق بالطبيعة. أصدقكم أنني أشعر أنه أول من أتحف، وأول من أنصف.
أما الحوار الداخلي ( المونولوج ) فما أكثره، فهو ينثال أسئلة تثير التعجب والانفعال، على نحو:
كيف أخلص حالي من خوفي (ص 82)
وأي سحر عمّال تعطيها (ص 111)
ليش المعاصي ع النفوس معربشه ( ص 114)
وقس على ذلك! أسئلة بعضها بلاغي، وبعضها محاورة ذاتية يقصد الشاعر من ورائها الإثارة أو تمثيل واقعه هو.
القصائد عامة تبدو نابضة بالحياة لها نكهة. هي عصارة أو نسغ يسري في ساق حياتنا كما كتب الأستاذ حنا أبو حنا على غلاف ديوانه الأول.
ورغم أنني طربت وتغنيت بالديوانين الأولين أكثر لرشاقتهما إلا أنني أحسست أكثرت في الديوانين الثالث والرابع بكهرباء الشعرية، ففي الديوان الرابع فيض العطر- 2003 يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة (رقِّ الشعر)، إذ يقول :

مشتاق سمّعْها ولو بيتين
من شعِر
عن وجناتها الحلوه،
كنت أكتب بالهوا أشعار
بالكلمه أتحسَّس
مدى المشوار
لما جيتي برعمت أزهار
في شعري..
واندلّيت طريقي منين

نلاحظ في هذه الأبيات عن الشعر أنه الهدي والدليل، ونواكب هنا تدفق الحياة إلى مسالك الجمال. فالشعر يغدو لديه تيارًا نابضًا في الجسد. القصيدة أضحت كائنًا حيًا يقف على قدميه ليستحق الحياة لذاته، فهو جِدي أكثر:

إحنا من هالبقعه
من تراب الشرق
...
منلوكها بتلوكنا ما في فرق

إذن هو الانتماء الذي يطرح رشاقة الصورة الرومانتية بعيدًا، ويتشبث بالبقاء. من هنا وجدنا في الديوان الثالث قصائد عن أريحا وعن القضية الفلسطينية، بتوترهاالذي يوتّرنا. ولعل ما يشفع لذكر هذه الأمكنة أنها أعطت وهجًا وإضاءة في القصيدة، فالشاعر يذكر الناصرة وأريحا وأماكن أخرى ( حريق...ص، 11، 14)
وكذلك القدس العتيقة " ( برقوق الجرمق..ص،146)
ثم نراه يغازل الجرمق (برقوق الجرمق..ص،151) حيث يقول :

لما نوار الوَعِد فتح هوانا
وشافو دمعات الفرح
تكرج على خدودي من عيونَك
من عيوني على خدودَك
شنو الموت
حصر مره
شنق مره
صلب مره
حصد مره
كل نقطِة دم تطلع سنبُله زهره
نعنعه خضرا
تزرع بهالموت روح
تحي عَ خدودك صَبر
نجمِه ... عِطر...
وابقى أنا شمعه .. عشِق
خُصلِة حبق
غنوه ..
دليل ..
ونظل أنا وإنتَ جليل .

بمعنى أنه يقدم ملامح، يضفي هوية، وما أحوجنا إلى ذلك في شعرنا عامة! فهكذا فعل الشاعر الجاهلي إذ قدم الأطلال وذكر الأماكن، حتى أتى السياب ليعرّج على جيكور والخليج وبويب، حتى أتى سيمون في رقته ليحدثنا عن حارات الناصرة بلغة يفهما أبناؤها كلهم. يذكرها لمامًا، ولو بشكل عابر، إلا أن مجرد ذكرها له وقع ونكهة.

وهكذا قبست من نار حريق سيمون، وخضت في لجة واحدة من بحر قصيدته، فغمرني فيض عطره.
وبهذا جمعت بين النار والماء، وهنا فقط نستأذن المتنبي لنقول له: تيسر الأمر يا أبا الطيب، فلماذا تشكو من عدم إمكانية الجمع بين الجّد والفهم؟ أظنك فعلت وجمعت، حتى ولو أنكرت.

ليست هناك تعليقات: