السبت، أبريل 11، 2009

مخالب المتعة: رواية لفاتحة مرشيد

د. عدنان الظاهر

عرفتُ الطبيبة المغربية السيدة فاتحة مرشيد من خلال العديد مما نشرتْ من قصص وروايات وأشعار وكتبتُ عنها جميعاً بدون إستثناء ، بل وكتبت عن بعضها أكثر من مقال أو قراءة أو متابعة ونشرتُ ما كتبتُ في العديد من المواقع ونشرتْ هي بعضها في صحف ورقية مغربية وربما غير مغربية . وجدتها لا تكررُ نفسَها ولا موضوعاتها ولا مجمل أفكارها التي تطرحها أمام القرّاء فإنها دائمة التغيّر متعددة المستويات مُختَلفٌ ألوانها ومذاقات طعومها . وكانت في كل ما كتبت متمكّنة قديرة تقود سفينتها كأمهر ربّانٍ وتسيطر على ساحات جهادها وصراعاتها مع أفكارها وموضوعاتها كأقدر قائد ميدان . ثمَّ ، وجدتها قادرة على الكلام بمنطق ورغائب مُختَلفِ صنوف الناس والأعمار صغارهم وأواسطهم وكبارهم علماً أنها طبيبة أطفال . إنها تركيبة عجيبة جمعت فيها نفوس ونفسيات العديد من طبقات الناس ومستوياتهم العاطفية والفكرية . تبقى مسألة تفرّدها بفلسفة الحياة ونقاشاتها الطريفة للعديد من الأفكار الجديدة التي تضعها أمام قارئها ثم تناقشها بجدارة ومنطق لا يملك القارئ إلا أنْ يقتنع به ويستسلم له كأنه بديهة أو حقيقة . ما الذي يشغلُ بال فاتحة مرشيد ؟ تشغل بالها أمورٌ كثيرة على رأسها حرية الإنسان وقدره الأعمى ومصيره . وتعوِّلُ كثيراً على عمياء الصدف لكنها تضعها أو تميل لوضعها في خانة القدر الذي لا رادَّ له ، أو ـ حسب الفنان إدريس ـ إنه التراكم ثم الإنفجار [[ ... عندما إرتكبَ صديقٌ لي جريمةً ضد نفسه ، لزمتني سنوات طويلة حتى أفهم أنَّ قراراتٍ من هذا النوع تسقطُ كقدرٍ لا يملكُ بشرٌ مثلنا أنْ يغيّرَهُ . القرار أقوى من صاحبه ومنّا لأنه ليس وليد اللحظة ... هو تراكم يدخلُ فيه كلُّ معيشنا وعقدنا وجراحنا التي لم تلتئم ... هو فقط نقطة أفاضت الكأس . لا تقفْ عند النقطة يا صديقي فالكأسُ كانت مملوءةً قبلَ أنْ تصادفها / الصفحة 144 ]] . هذا المثال وأشباهه لمما يقضُّ مضاجع الطبيبة المفكِّرة ـ الأم ـ الإنسانة ـ فاتحة مرشيد . نظرية أو مقولة التراكم ليست لها بالطبع ولا أحسبها تدّعيها فهي تعفُّ عمّا ليس لها . إنها وبتفكيرها العلمي وعلمانيتها إذاً ضد القدر الأعمى وضد أحكام الصُدف العمياء . كل شئ محسوب وكل شئ يتدرج بدون ضجيج كأنما يتطور في سياقاته الصارمة في خفاء لا يحسه البشر مستهدفاً نهاية بعينها صنعتها وخططت لها بدايات قد نعرفها وربما لم نكترثْ لها في حينها.

تناقش فاتحة في رواية " مخالب المُتعة " أموراً وأفكاراً كثيرة متعددة تناولت فيها حياة وأقدار كلا الجنسين فهما وفق فلسفتها سواء نشوءاً وارتقاءً ومصيراً والحياةُ قِسمةٌ بينهما .

أبطال رواية مخالب المتعة

للرواية أبطال يتناوبون الأدوار يفترقون حيناً ويلتقون . لكنَّ البطلين الرئيسين هما البلاي بوي عزيز والشاب المثالي العاطل عن العمل " أمين " . عزيز مرفّه بفضل مهنته في إمتاع النساء الثريات جنسياً فهو بهذا مُصنَّفٌ بإعتباره ( جيكولو )

Gigolo

ولقد شاهدنا يوماً فيلماً مثّله ريتشارد كير بإسم

American Gigolo

أما أمين فكان نصيبه الفاقة والبطالة جرّاء عصمته ومثاليته وترفّعه عن الدنايا . إنهما الضدّان تماماً جمعتهما فاتحة ببراعة وإتقان كنموذجين متفاوتين من نتاج الحياة . ثم ربطت فيما بينهما بواسطة إمرأتين هما كذلك متضادتان فالأولى ( ليلى ) ، صديقة أو عشيقة عزيز الثرية ، لا تؤمن إلا بالجسد وإمتاع هذا الجسد وتتجنب مزالق الوقوع في الحب لأنها تخشى عواقبه لكأنها ذاقته مراراً وعانت ما عانت منه ومن خيباته و " مخالبه " . أما صديقتها

" بسمة " صاحبة أمين ، فمع الروح والحب الأفلاطوني لذا لم تسمح لأمين أنْ يمارسَ الجنسَ معها . كان الشابّان عازبين وكانت السيدتان متزوجتين . واحدة تخون زوجها وتُنفق بإسراف على مَن يوفّر لها حاجات جسدها ، أما الأخرى فلم تشأ خيانةَ زوجها ولم تمارس الجنس مع سواه : كانت ميّتة أو كالميّتة بعد أنْ فقدت ولدها ، مات الولد فماتت معه . إني أشعر بتحفظات كثيرة حيال ما رسمت فاتحة من صور لا أراها حقيقية أو تقع في بلاد المغرب في واقع الحياة الراهنة. فزوج ليلى ( رجلٌ مسنٌّ جداً يُعاني من شلل نصفي / الصفحة 145 ) على معرفة تامة بسلوكها وبذخها على مَن يمارس معها لها جسدها . تسافر من مدينة لأخرى مع عشاقها وتبيتُ معهم لياليها والزوج ( إنتَ ولا أنتَ هنا ! ) . لقد لخّصت هي ، ليلى ، فلسفتها في الحب والحياة والجنس بكلام دقيق بليغ الدلالة إذْ قالت [[ لم ننجبْ أطفالاً ولم أكنْ أرغب في ذلك لأنني لا أؤمن بقدسية الأمومة أو الأبوّة ... لا أؤمنُ بالحب . وحدها المتعة تحرّكني . مُتعة أشتريها ... متعة مع رجالٍ يصغرونني سنّاً . لا أتحمّلُ الجنسَ مع مَنْ همْ أكبر منّي ... أرى فيهم شبحَ زوج أمّي / الصفحة 86 ]] . هل يحدثُ بالفعل مثل هذا في مغرب اليوم؟ وقالت صديقتها بسمة عنها [[ لملمتْ هشيمَ روحها من تحت الأنقاض ورفعتْ رأساً مُثقلةً بوجع الذكرى ، وقررتْ بكل شجاعةٍ أنْ تعيشَ ، لم تكنْ تحيا ، لأنَّ الحياةَ تتطلبُ أنْ نستسلمَ للحب وهي حاربته بكل قواها كي لا تعرف لحظةَ ضعفٍ ... كي لا يستغلَّ أحدٌ عواطفها . إنغمستْ في مُتعٍ تستبدلُ جوعاً بآخرَ مُوهمةً نفسها أنها بهذا تمتلكُ مصيرها بيدها / الصفحة 152 ]] . لقد فرّقت فاتحة هنا بين أنْ تعيشَ المرأةُ وأنْ تحيا . ثم زادت [[ لأنَّ الحياةَ تتطلبُ أنْ نستسلمَ للحب وهي حاربته ... لكي لا يستغلَّ أحدٌ عواطفها ]] . لا تتكلّمُ فاتحة عن فراغ فالفراغ في الكون لا وجودَ له ، إنما تتكلمُ عن تجربة وحَنَكة وممارسة مع الكثير من الحكمة العميقة التي تستلهم الماضي وتستشرف المستقبل . وضعتْ الفعلين في تقابل وتضاد وتوازٍ : نعيش ـ نحيا ! فهل هذا التوازي والتضاد صحيح ؟ أشكُّ كثيراً في ذلك . فمن حيث اللغة لا أرى فرقاً جوهرياً بين هذين الفعلين فالذي يحيا يعيش ومَن يعيشُ يحيا حتى لو وضعنا أمامنا السؤال " كيف " ؟ كيف نعيش وكيف نحيا ؟ العيشُ هو الحياة . قالت مغنية روسية قديمة قبل فاتحة قولاً مشابهاً [[ العيشُ بدون حبٍّ أمرٌ ممكن ، ولكنْ كيف نحيا في هذا العالم بدون حب ؟ ]] . إستخدمتْ المغنيّةُ فعلين مختلفي الدلالة قريبين من بعضهما لإمكانية وقوع الحب من جهة وإستحالته من الجهة الأخرى . العيش العادي البسيط ممكن بدون حب ولكنْ ، كيف نواصل الحياة بدون حب ؟ ليست لديَّ للأسف الشديد حروف روسية وإلا لكنتُ طبعتها لتبيان الفرق بين فعلين قد يكونان بالضبط متفقين مع معنى يعيش ويحيا . فاتحة ، على أية حال ، واضحة في وقوفها مع ليلى ـ كما يتهيأُ لي ـ وقد تكونُ واضحةً أكثر في تبرير ممارستها الجنسَ الحرامَ مع العديد من العشاق وسيلةً وغايةً أخرى للتهرب من الحب وإستحقاقاته في الحياة .. إنها معها في أنْ لا تقع فريسة حبٍ قد يستعبدها مَنْ أحبّت ويذلّها ويبتزها . هذا هوحدسي وتحليلي وإستقرائي لمجمل ما كتبتْ فاتحةُ عن ليلى . تدافعُ عن فلسفتها ومواقفها لكنها ليست بالضرورة مثلها أو ظلها أو شبيهتها أو نسخة طبق الأصل منها . من جانبٍ آخرَ إني لا أرى أنَّ عواقبَ الحبِّ المحتملة أكثرُ خطورةً على ليلى من تداعيات الإسراف في الخيانة الزوجية وممارسة الجنس مع رجالٍ تؤجّرهم بمالها وتستهويهم بما تغدقُ عليهم من هدايا . الخوفُ من محذورٍ غيرِ أكيدٍ أهونُ على ليلى من هدر كرامتها الشخصية والتفريط بحُرُماتها كسيّدةِ مجتمع متزوجة ووضع كبريائها تحت أحذية شباب بعمر أولادها لو كانت قد أنجبت . أراها كذلك معادلة صعبة لا يمكن البتّ فيها بالسهولة والعجلة اللتين بتت بهما الدكتورة فاتحة مرشيد ، خاصةً والمعروف عنها أنها إمرأة فاضلة لها مثلها ومثالياتها ولها بيت وزوج وولد وإبنة وعيادة طب أطفال ناجحة . الطبيعة السويّةُ في المرأة السوية ترجّحُ السقوط في الحب مهما كانت نتائجه وعواقبه وتتأبّى وتمتنع وتستنكف من إتيان الأمر الثاني. إلا إذا افترضنا أنَّ كاتبةَ الرواية تعرضُ نموذجاً من النساء ، تعرضُه بحياديةِ وموضوعيةِ وتجرّدِ الباحثة كما يفعل العلماءُ والباحثون في مختبراتهم والمكتبات . كنتُ أواخر ستينيات القرن الماضي معاصرَ حدثٍ أو فضيحة هزّت المجتمع الأمريكي في ولاية كالفورنيا إذْ كشفت الشرطة عن وجود عصابة من النسوة الثريات يستدرجن الصبيان في سن المراهقة ليمارسوا الجنس معهنَّ مقابل مغرياتٍ شتى من بينها النقود السخية . إنها عملية إفساد للصبيان وتدريبهم على ممارسة نوع ذكوري من البغاء ، إذْ ما الفرقُ بين إمرأةٍ تمارس الجنس مع رجل في مقابل ما يدفعُ لها من نقود ورجلٍ يمارس الجنس مع إمرأة مقابل ما تدفعُ له من مال ؟ إنه رجلٌ مومَسٌ عاهرٌ داعرٌ كأي بغيٍّ . أما بسمة المرأة المتعففة الزاهدة بالجنس العاشقة للروح { لمحمد عبد الوهاب أغنية إسمها عاشق الروح أكيد تعرفها فاتحة لأنها معجبة بأغاني عبد الوهاب ثم ذكرت في هذه الرواية أغنيته : بفكّر في اللي ناسيني ، وبنسى اللي فاكرني / الصفحة 120 } ... أما بسمة هذه فهي نقيض ليلى. إنها المرأة الروحانية التي تحترم جسدها وتعرف كيف تضع حدّاً واضحاً بين ما هو للروح وما هو للجسد . وقد أفصحت هي بذلك لحبيبها أمين فقالت [[ الحياةُ لا تُعطي كلَّ شئ . لك الحبُّ يا أمين دون جنس كما لعزيز الجنسُ دون حب / الصفحة 67 ]] . وضعتْ فاتحة مرشيد أمامنا نموذجين للنساء المغربيات وليس من الضروري أنْ نفهمَ أو نستنتجَ أنها مع هذين النموذجين للنساء . لم أجد في كتابها ما يؤكّدُ أو يُشيرُ إلى ذلك . الآن ، هل لتأريخ ليلى المأساوي منذ طفولتها المُبكّرة علاقة بما آلت حياتها إليه فيما بعد ؟ أُغتصبها وهي في السادسة من العمر زوجُ أمها ، وظلَّ يغتصبها حتى بلغت سنَّ النضوج البايولوجي والعاطفي فتمرّدت وهددت بالإنتحار أو الهروب من البيت فزوّجها من رجلٍ أكبر منها بثلاثين عاماً أو ، الأصح ، باعها له ( الصفحة 86 ) . قد نتفق وقد نختلف حول هذه النقطة ومدى تأثيرها على حياة ليلى وقصتها المأساوية حيث سُرِقت طفولتها منها وأُغتصِب جسدها الطفل الغض ثم بيعت في سوق النخاسة لرجل مثل عمر أبيها . هل لهذه اللوحة السوداء علاقة بكافة مواقفها وقرارتها في اللاحق من أعوام عمرها التي رأيناها في كتاب

" مخالب المُتعة " ؟ وهل لنهايتها المأساوية قتيلةً بيد الشاب الذي عاشرت زمناً ومارسته جسداً مُؤجَّراً بأموال زوجها ومارسها هو لقاء ما يكسب من كراء طاقاته الجنسية الشابّة ، هل لنهايتها المأساوية هذه من علاقة بقرارها في أنْ لا تحب أحداً من الرجال لكي لا تقع تحت رحمة الحب وتداعياته التي تسلب حريتها منها وربما تهين ما تبقّى لها من كبرياء وكرامة ؟ هل قتلها كان جواباً منطقياً وعاقبة محتومة لموقفها الصارم من الحب الذي هربت منه ورفضته ؟ الثمنُ غالٍ ، جدَّ غالٍ يا ليلى. أم قد يراه البعضُ عقاباً لها ولكل إمرأةٍ تخونُ زوجها وتشذُّ عن الطريق السويِّ وتوظّفُ ما لديها من مال لإفساد الشباب وتزيين الإنحراف الجسدي والخُلقي لهم ، أي أنها تتعمد إفساد المجتمع وتخريب بعض منظوماته المعروفة والموروثة وبعض تقاليده الضاربة في العمق ؟ كل الإحتمالات جائزة ومفتوحة .

شخصيات رئيسة أخرى

إذا تركنا الرباعي المتضاد جانباً عزيز / ليلى و أمين / بسمة سنواجه ثلاثة أشخاص رئيسة أخرى هي : مصطفى ، صديق ثم خطيب فاطمة شقيقة أمين ، وهو أقلُّ الباقين شأناً في مجمل أحداث الرواية . وميمي نادلة الحانة وعشيقة الشاب اللاّهي عزيز . ثم الفنان الغريب الأطوار السيد إدريس .

الفنان إدريس

هل أقحمت الطبيبةُ فاتحةُ قصّةَ وشخصيةَ هذا الفنان المتوحِّد والمعتَزِل حشواً زائداً أو بَطراً أو تنويعاً لألوانِ وخاماتِ ما في رواية " مخالب المتعة " من نسيج ؟ لا أجدُ الأمرَ كذلك ، بل ولي تفسيري الخاص وقد أكونُ على خطأ . سأعرضُ وجهة نظري بعد التعرف على هذا الرجل والوقوف على بعض أسراره التي لم يكتمها عن أمين ولم يضنَّ بها عليه . سأدخلُ عالمَ هذا الرسّام المنطوي على نفسه من باب ربما لا يتوقعه قارئ الرواية : العراق ! يبدو لي أنَّ روائيتنا معجبة بالعراق شعباً وشعراً وغناءً ، فلقد سبق لها وأنْ إستعارت في بعض رواياتها الأولى أبياتاً شعريةً لإثنين من شعراء العراق . أما في كتابها الأخير فقد زادت فذكرت شعب العراق على لسان الفنان إدريس إذْ قال عنه [ ... أما شعبُ العراق فهو خُلِقَ للعشق ، للشجن ، للنجوى / الصفحة 110 ] . ثم زادت فأضافت إسماً عراقياً جميلاً تحمله سيدة عراقية هي بلقيس . ثم راحت أبعدَ من ذلك كثيراً إذْ قدّمت لنا وللعراق هذا الفنان المغربي المتقاعد ، إدريس ، محباً لبلقيس وعاشقاً أفلاطونياً حدَّ الإنطواء على النفس والهَوَس بعد أنْ غادرت وعائلتها بلاد المغرب عائدةً لبلدها العراق بعد إعدام صدام حسين . سأله أمين [ هل كانت تبادلكَ الحب ؟ أجاب : ما أحبّتني إمرأةٌ من قبلُ كما أحبّتني هي / الصفحة 110 ] . أموتن عليها ... كما يقولون باللهجة العراقية بكلمات فاتحة مرشيد ... وهي لا تدري أنَّ هذه هي لهجة سكان الريف العراقي وقراه البعيدة عن المدن ... وربما بعض أهالي مدن العمارة والبصرة وضواحي وحزام بغداد العريض . سَكَنة مدن العراق لا يقولون { أموتن } بل يقولون { أموت عليكِ أو عليها } . لقد زادت فاتحةُ قارئها قرباً من العراق وعرّفته ببعض خصوصيات أهله فلله درُّكِ يا فاتحة . لم ترتوِ فاتحتُنا من العراق وما فيه ومَن فيه فسلكت درباً آخر لتوريط القارئ في حب العراق ، درب الفن والغناء والطرب والغناء أقصرُ الطُرُق لإختراق النفوس وأبلغُها أثراً فاختارت واحداً من مطربي العراق المعروفين لتُسمعَنا صوتَه مغرِّداً في حانة إدريس المفُضَّلة ، حانة ميمي . قال أمين

[ عند اقترابي من باب الحانة إلتفتُّ خلفي وألقيتُ نظرةً على الأستاذ إدريس الرسّام الذي كان يبدو مُندمجاً مع الأغنية دون أنْ يُفرِّطَ بالرسم . كانت أغنيةً للمطرب العراقي ناظم الغزالي " أيَّ شئٍ في العيد أُهدي إليكِ يا ملاكي ..." ] . حانة ميمي الأثيرة للرسام العاشق الواله ، ورسوماته لوجه حبيبته العراقية الغائبة بلقيس التي لا من نهاية لها في هذه الحانة بالذات ، ثم صوت ناظم الغزالي . جوٌّ عراقيٌّ مكثّف حميمٌ صميمٌ جمعت فاتحةُ فيه أفلاطون الرسّام وبلقيس ملكة سبأ وسبايا ومسبيات العراق ثم فن الغناء . الحب العذري والأسطورة والموسيقى والطرب فماذا يريدُ محبّو العراق أكثر من ذلك ؟ شكراً فاتحة ، شكراً جزيلاً فأنا عراقي كما تعرفين وقد سألتيني مرةً لماذا أنا في ألمانيا وليس في العراق ؟ فأتاك الجوابُ لاحقاً من بلقيس / الصفحة 109 .

الآن ، عودة لسؤالي السابق الذي إفتتحتُ به قصة إدريس وهل وجوده في الرواية وجود مُفتعلٌ مُصطنعٌ أقحمته الروائيةُ إقحاماً لا مبررَ له ؟؟ قلتُ في جوابي عن هذا السؤال كلاّ ، فلي تفسيري الخاص وقد أكونُ مُخطئاً في تفسيري واجتهادي . أصوغُ تفسيري على شكل سؤال أضعه أمام الروائية المفكّرة عميقاً فاتحة مرشيد : هل كان قصدك من إفراد صفحاتٍ غير قليلة للكلام عن الفنان إدريس أنْ تُقيمي توازناً وتناظراً للمقارنة بين إثنين من ضحايا العشق الأفلاطوني المفتقر لأيّما أُفُق مرئيٍّ معقول ملموس وقد طالما أدّى هذا الصنف من الحب بأصحابه إلى الجنون وأمامنا قيس إبن الملوّح الأكثر شهرة بين العشاق المجانين ؟ وهل أنَّ الرسّام إدريس هو من أتباع مدرسة إبن المُلوَّح أو الملوَّع أو الذي لوّحته ودبغته الصحارى بالملح والرمل فزاد جنوناً ؟ هل نسألُ عنه وعن حاله عمّنا أحمد شوقي أو محمد عبد الوهاب ( أوبريت مجنون ليلى ) ؟ لا ، بل نسألُ عنه نظيرته السيدة " بسمة " عشيقة صاحبنا المثالي أمين الذي ظلَّ أميناً على حبّه لها حتى بعدَ أنْ تركته هرباً من حبه وهاجرت مع زوجها إلى كندا .. المعشوقات يهاجرنَّ لأسبابهنَّ الخاصة ، فبلقيس رجعت لوطنها العراق بعد زوال الكابوس وحكم الطاغوت ، أما بسمة فكابوسها وطاغوتها هو حب أمين لها الذي لم تحتمله ولا تتحمل عواقبه فهربت لا إلى وطنها ولكن إلى بلد غريب بعيد هو كندا . الهروب هو الهروب وإنْ تعددتْ أساليبه وأشكاله ودوافعه والمتروك هو المسكين المعاني من تبعات حب أفلاطوني ميؤوس منه في آخر المطاف . نَعَمْ ، هل قصدت فاتحةُ هذا الهدف فوضعت نُصبَ عينيها أنْ توازي وتقارن وتناظر بين حب إمرأةٍ ميؤوس منه وحب رجل كذلك ميؤوس منه ؟ هل أرادت أنْ تقولَ إنَّ الحب المثالي عملية سخيفة إنتحارية تُفضي بأصحابها غالباً للجنون ؟ وهذا الرسّام إدريس أمامنا مثال حيٌّ متحرك لا يملُّ من تخطيط ورسم صورة حبيبته الغائبة بلقيس ولكن ، ماذا عن العاشق الفلاطوني الآخر السيد أمين ؟ قال أمين بعد آخر لقاء له مع معشوقته الأفلاطونية بسمة [[ خرجتُ أجرُّ الخُطى لا أدري إلى أين... أحضنُ لوحةً أخلفتْ موعدها مع بسمة ... بجيبي رسالةُ وداعٍ ... وتوصيةٍ بعمل / الصفحة 155 ]] .

هل هدف الرواية الرئيس الأكبر هو المقارنة بين حب الروح وحب الجسد وأيهما الأقوى والأبقى ؟ قتلَ عزيزُ ليلى عاشقةَ الجسد ، وهربت بسمةُ عاشقةُ الروح من عاشقها وحبّها الأفلاطوني له ، فماذا تبقّى من هذين الصنفين من الحب وما كان مآلهما ومصير أبطالهما ؟ أهو ذات مصير جهد الرجل العجوز في قصة إرنست همنكواي " الشيخ والبحر " ؟ لعل من المناسب أنْ أذكرَ هنا أغنية عاشق الروح لمحمد عبد الوهاب ، صاحب فاتحة ، التي قال فيها {{ وعشق الروح مالوش آخر / لكنَّ عشق الجسد فاني / أوهْ يابا أوهْ يابا }} .

أشخاصٌ آخرون ورد ذكرهم في الرواية يستحق البعضُ منهم دراسة خاصة أتركها لغيري من قرّاء الرواية ، وليتني أستطيعُ العودة إليها لمساءلتها وإستجوابها وإستطلاع رأيها فيما حدث وما جرى لأبطال الرواية الآخرين . أذكر منهم : سائق التاكسي مصطفى ، صديق أمين وخطيب شقيقته فاطمة . نادلة الحانة ميمي . الرسامة الشابة التي قتلها حين زار معرض لوحاتها قول رجل يُقالُ عنه إنه ناقدٌ كبيرٌ (( يُنقصها العُمق )) !! . أحمد ، صديق إدريس ، عاشق الهند والأفلام الهندية حتى أنه وُجدَ ميّتاً في قاعة سينما " النور " التي كانت تعرضُ فيلماً هندياً ! هذا هو الحب : قتّال فتّاك لا سلام ولا أمان معه فحذارِ منه يا بشر .

أخيراً ... في الكتاب آراءٌ وأفكارٌ كثيرة طريفة جديرة بالدراسة والمناقشة وقد عرفتُ كاتبةَ الرواية إنسانةً مفكِّرةً مثقفة تعالجُ فيما تكتب الكثير من الرؤى والأفكار التي لا تخلو من الفلسفة . ثم وجدتها خبيرة في شؤون البشر المنوَّعة المتباينة وبارعة في طرحها ومناقشتها بجرأة ووضوح .

* هامش

رواية مخالب المتعة لفاتحة مرشيد . الناشر : المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ـ المغرب . الطبعة الأولى 2009 .

ليست هناك تعليقات: