الأربعاء، أبريل 15، 2009

صباحكم أجمل/ سنلتقي يا مصر



زياد جيوسي

مبنى تراثي في الدقي أحد أحياء القاهرة
بعدسة: زياد جيوسي


يوميات من القاهرة 5

ترى هل من السهل أن ينسى الإنسان مصر؟ سؤال كان يجول في خاطري وأنا أستعد للسفر من القاهرة بعد ستة عشر يوماً من زيارتها لأول مرة، فأستعيد ذكريات أيام القاهرة الأخيرة، حين كنت أشعر رغم الفرح والسعادة ببعض من الانقباض النفسي، فساعة الوداع والرحيل قد اقتربت، ورغم كل الفرح في أيامي الأخيرة إلا أن هذا الشعور لم يفارقني، فنـزلت دمعة ألم حين أقلعت الطائرة، كما نزلت دمعة فرح حين تنشقت هواء القاهرة المدينة الحلم، في أول لحظة من اللقاء معها.

أجلس في صومعتي في رام الله، أستعيد ذكرى الأيام الأخيرة هناك وجولاتي مع الصديقة الكاتبة بنت النيل، أستعيد جولة جميلة ورائعة في مركب النيل قرب الغروب، وجلسة على مقهى بجوار النيل حتى أن البرد تسلل بقوة لجسدي، وجولة في حديقة الصداقة التي تمتلئ بتماثيل نصفية لأبطال ورموز لشعوب شتى، قُدمت هدية من تلك الشعوب والدول لشعب مصر الرائع، وأستعيد شعور بالفرح وأنا أجول الحديقة التقط الصور وأكتب، فأرى تماثيل الشاعرين الكبيرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فأتذكر بعض من أشعارهم ومداعباتهم الشعرية مع بعض فأبتسم، وأشعر وكأن الابتسامة ترف على شفاه تصاويرهم المنحوتة، أستعيد جولة طويلة في مصر الجديدة وجولة امتدت ساعات على الأقدام، وعشاء جميل في شارع بغداد أصرت الرائعة بنت النيل عليه.

أستعيد ذكرى جولات في مدينة الرحاب الجميلة البعيدة، في زيارة الإبنة بيان وأهلها، أتذكر تجربة ركوب قاطرة "المترو" السريعة تحت الأرض، والتي أصابتني بالدوار حين رأيتها أول مرة، بتعداد عرباتها الكبير وسرعتها الهائلة، دقة انتظام وقتها كل خمسة دقائق ورخص بطاقة الركوب، فعلقت أمام من يرافقني: إن كان كل الناس هنا في حافلات المترو تحت الأرض، فمن أين يأتي هذا الازدحام الهائل في شوارع القاهرة؟ فضحكنا معاً، فالقاهرة مدينة ذات مساحة هائلة وتجمع سكاني كبير، أكبر من حجم سكان مجموعة من الدول العربية المتناثرة، أستعيد تجوال في إمبابة وفيصل ومدينة نصر وفي أحياء كثيرة، فالأحبة في القاهرة لم يقصروا أبداً، فكانوا أنموذجاً رائعاً من الطيبة والكرم وحسن الخلق.

لعل من أجمل لقاءاتي هناك، هي دعوتي لمبنى الإذاعة وبقائي ساعات امتدت من الواحدة ظهراً حتى السابعة مساءً، بتجوال مع صديقي الإعلامي والمذيع ومقدم البرامج يحي حسن، التقيت بها العشرات من كبار المذيعين والإعلاميين ومقدمي البرامج، وتجولت في العديد من استوديوهات التسجيل، وجلست وتحاورت مع أسماء عرفناها عبر الأثير، فكان لي الشرف أن التقيتهم مواجهة، وأذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر: الأساتذة مصطفى الحسيني مدير عام صوت فلسطين الذي استقبلني استقبال لا ينسى، غريب منصور المدير والإذاعي المعروف، نهلة مصطفى، إيمان الرزاز، زكريا شليل، صلاح حسنين، الفنانة مها عادل، وغيرهم الكثير، كانوا يمثلون صوت العرب وصوت فلسطين وصوت النيل وصوت القاهرة/ البرنامج العام، وسجلت كم كبير من أحاديث تحدثت فيها عن الثقافة والفن والأدب والقدس وفلسطين، فلم يترك أولئك الجهابذة المبدعين شيء لم يحاوروني فيه ويسجلوه، فشعرت أني أحمل معهم فلسطين في رحلتي هذه، فتركوا في روحي من أثار محبة ما لا يمكن أن يُنسى أبداً، ولم تتوقف التسجيلات والمقابلات معي عبر الأيام التالية حتى يوم سفري، تم تسجيل ثلاث لقاءات رغم ضيق الوقت والاستعداد للسفر، لننهي هذه اللقاءات الحميمة مع عشاء رائع في أعلى المبنى في الدور العاشر، في مطعم متميز برقيه وخدمته مطل على النيل كما المبنى الضخم كله، فتعشينا وتحاورت والعزيز يحي حسن، قبل أن يوصلني للقاء رائع آخر مع أصدقاء يسكنون الروح.

كانت أيام محدودة قد بقيت لي في القاهرة، وتمكنت القاهرة من أن تسحرني فلم أتمكن من الذهاب للإسكندرية للقاء أصدقائي الكُتاب هناك، أحمد شبلول وجمال شحاتة وحسام عبد القادر ومنير عتيبة والعديد من أصدقاء القلم، ولم أتمكن من السفر للشرقية ولقاء المبدع حسن حجازي، والعديد من المناطق والأصدقاء فيها، تاركاً ذلك للمستقبل وزيارة أخرى، فمن يشرب من نيل مصر لا بد أن يعود من جديد، وإن لم أتوقف في الأيام القليلة الباقية عن التجوال واستكشاف سحر القاهرة، فزرت المكتبات وخاصة مكتبة مدبولي ومكتبة الشروق والمعارف وغيرها كثير، ومقهى ريش الذي تغير عما كنت قد سمعت عنه، لقاء أصدقاء بعضهم ألتقي لأول مرة، فألتقي الرائعة الإعلامية فريدة فاروق والمعروفة باسم فريدة فراولة، في جلسة على النيل، وفريدة من أقدم من عرفت في مصر عبر الشبكة العنكبوتية، وتعاونا معاً في الماضي في مواقعها ومجموعاتها البريدية، حين أنشأت هي مواقع القلوب وأنشأت أنا منتدى رام الله للفنون، فوجدت فيها إنسانة في غاية الرقة والخلق والطيبة، وسهرت وصديقي يحي حسن وأصدقاء من الإعلاميين والمذيعين منهم نبيل مقصود من إذاعة النيل وطارق عبد الفتاح من الإذاعة التعليمية في آخر خميس لي هناك في جولة عبر شوارع القاهرة، والتي أضاعنا فيها الجميل المذيع جلال حسن من البرنامج العام، فأطلقنا على الليلة لقب ليلة جلال، أنهينا الجولة برفقة الأحبة بجلسة شعر مع الشاعر الجميل سيد حسن وأشعاره الجميلة، وحوار أدبي استمر حتى الثالثة صباحاً، وهو شاعر متميز ومذيع ومقدم برامج في صوت القاهرة، لأنهي زيارتي للقاهرة مساء الجمعة في حفل بدار الأوبرا حضرت فيه عرضين الأول: كارمينا بورانا، والثاني بوليدو، وتمتعت غاية التمتع وحلقت روحي بقوة، وذهلت بجمال وسعة وضخامة دار الأوبرا، لأكمل سهرة الوداع مع أصدقائي الإعلاميين يحي حسن وجمال صفطاوي وعشاء في مطعم جميل ومأكولات شعبية مصرية، وأكملنا السهرة والحوار في مقهى شعبي جميل لوقت متأخر من الليل، حيث ودعتهم وكتمت دمعات أرادت أن تسيل، فأغادر القاهرة مساء السبت متوجهاً للمطار مع أحبة أصروا أن يودعوني فيه، كان الصمت سيد الموقف في الطريق المزدحم، فأصعد للطائرة متوجها لعمّان، وأنا أهمس مع دمعة ألم تترقرق: أحبتي.. أصدقائي.. أغادر القاهرة وأترك قلبي فيها، فمن يمكنه أن يعيده لي؟ ولو كتبت كل يوم لما وفيت مصر وأحبتي فيها روعتهم والجمال.

صباح الخير يا رام الله ونشاطك الثقافي والفني الذي لم يتوقف منذ عدت، فأتيح لي مواكبة مسرحيات عُرضت في أيام المنارة المسرحية تراوحت في المستوى وفي جمال الأداء، أحتسي قهوتي وحروفي الخمسة لا تفارقني، طيفي يهمس لي: ألا من لقاء آخر مع أحبة القاهرة؟ شدو فيروز يرافقنا وفنجان قهوتنا، فأشدو معها للقاهرة: "يا من يحن إليك فؤادي، هل تذكرين عهود الوداد، هل تذكرين ليالي هوانا يوم التقينا وطاب لقانا، حين الوفا للأغاني دعانا، طاف الجمال على كل وادي، هل تذكرين غداة الورود حلت علينا وطابت عهود، كانت لنا في الغرام عهود، صارت حديث الربا والشوادي".

صباحكم أجمل.

ليست هناك تعليقات: