الأربعاء، أبريل 08، 2009

مداخلة بول خياط في الندوة الثقافية عن مؤلفات أنطوني ولسن


في مكتبة كوبرغ العامة
بعد ظهر يوم الأحد في 22 آذار مارس 2009


أعزائي أهل القلم وأهل الفكر والكلمة،
أيها الأخوة والأخوات أيها الحضور الكريم أسعد الله أوقاتكم

يسعدني أن اتحدث في هذه الندوة الثقافية عن مؤلفات الكاتب والصحفي الزميل الأستاذ أنطوني ويلسون، الذي لم يتمكّن من حضور هذه الندوة المعقودة بإسمه، لأسباب صحّية فاتمنى له الصحة والعافية ودوام الإنتاج الأدبي والثقافي والصحفي.

لقد كان لي شرف التعريف بنتاج الصحفي الزميل أنطوني ولسون عندما قدّمت مداخلة خلال الإحتفال بتوقيع كتابه " الضياع " الذي جرى مساء يوم الأحد في 29 آب / أغسطس عام 1999 ، أي منذ ما يُقارب عشر سنوات، وكان الإحتفال آنذاك في قاعة Monash Hall في منطقة Oakleigh وكان ذّلك الإحتفال أيضا ، كما هو اليوم، بجهود مشكورة من الزميل ممدوح فانوس، وأظن أن الصديق الإعلامي فاروق ياسين الحاضر معنا اليوم، كان هو أيضا حاضرا في تلك الندوة، هذا إن لم تخني الذاكرة، التي آخذت تخونني في الآونة الأخيرة كثيرا... لربما هو التقدّم في العمر؟؟!!!

سوف أحصر مداخلتي في كتاب الزميل أنطوني ولسون الذي هو بعنوان : " زفّة العروس " و هذه التسمية " الزفّة " باتت معروفة وشائعة في البلدان العربية واللهجات العربية المتعددة، هي مقتبسة عن اللهجة المصرية المحبّبة التي يرجع الفضل الكبير في دخولها الى قلوب جميع المواطنين في الأقطار العربية الى السينما المصرية التي كانت في طليعة روّاد صناعة السينما أو " السيما " كما يفضّل إخوتنا المصريون تسميتها. على كلّ حال سوف أعود لاحقا الى موضوع اللهجة المصرية التي يعتمدها كاتبنا العزيز في معظم قصصه ورواياته ونتاجه الأدبي والثقافي وحتى الصحفي.

"زفّة العروس" كتاب يتضمّن ثلاث قصص مستقلة عن بعضها البعض هي :" زفّة العروس ، والسينما ، والفنانة " ، وهذ القصص تبدو لقارئها، ونظرا لطريقة سردها، وكأنها قصّة واقعية، من صميم الحياة في مجتمعنا الحالى المتعدّد الثقافات، مجتمعنا "المغترب" وهذه الكلمة هي عنوان لكتاب للزميل ويلسون، وفي الوقت ذاته عنوان زاوية صحفية له . أعود فأقول من صميم مجتمعنا المغترب، الذي رغم إغترابنا وبعد بلداننا الأم، في المقلب الثاني من الكرة الأرضية، يبدو وكأنه نسخة طبق الأصل عن مجتمعاتنا في بلداننا الأم، وربما ينقص هذه النسخة الطبق الأصل، تصديق السلطات الرسمية عليها لكي يطمئن الناظر إليها على أنها مستوردة مباشرة من بلداننا وهي من منشىء تلك البلاد حتى تظنّ وأنت تسير في بعض المناطق ذات الغالبية الإغترابية التي من بلادنا ، وكأنك تمرّ في أحياء ومناطق مشهورة في بلداننا الأم... ولكن ما يوقظك ويذكرك أنك في أستراليا وليس في أي بلد من بلداننا الأم، هو انك ترى بين الفينة والفينة وبين أكداس من الأرمات ( اللافتات ) المكتوبة بالعربية أرمة ( لافتة) واحدة أو آرمتين ( لافتتين) بلغة أجنبية إنكليزية وغير إنكليزية، تنبهك الى أنك لست سوى في بلد غير بلدك او بلد عربي آخر...

أجل تجد احداث القصّة وشخصياتها وأبطالها وكأنهم أبناء الأوطان الأم لكلّ واحد منا، وإذا تمعنت في طريقة تفكير هذه الشخصيات التي تدور حولها حبكة القصّة، لوجدت نفسك أمام اشخاص بلديين، أو كما يقول أخوتنا المصريون " بلدياتي " مخلقا ومنطقا وتفكيرا وتصرّفا وكأنك" لا إغتربت ولا رحت ولا جئت " وأضف الى ذلك أنك تسمع بين مشهد من القصة وآخر تعابير ومصطلحات شعبية مما يستعمله عامة الشعب في ألأحياء المصرية الشعبية ...

وفي معالجته لنفسية ابطال القصّة ، يعتمد الكاتب على التحليل الخلقي لتصرّفات شخصيات القصّة فيعالجها بأسلوب العارف بخفايا النفوس، لا لشيء، إلا لأنه هو أيضا من العجين الذي صنع منه بعض أبطال القصّة ونفسياتهم مكشوفة له فكأنه يقرأها في كتاب مفتوح. ولعل أجمل ما لفت إنتباهي في تحليله النفسي للمشاعر والتصرّفات قوله في الصفحة61 من الكتاب، حيث يقول على لسان إحدى بطلات القصّة في جوابها على سؤال كيف تعرفين هذا الرجل ( أي الرجل الذي ستجدينه أهلا لكي يكون زوجا لك ) دون مخالطة أو سابق معرفة؟ فتجيب، وكأن الكاتب عالم نفسي، فتقول: " ... يكفي هذا الشعور، عندما يأتي لخطبتي من أهلي، وعندما يضع يده في يدي مُصافحا وأشعر بهذا المسّ في يده... العيون كاذبة وتخدع. وقد تعلّم الرجال التلاعب بالعيون، بعدما كانت العين مرآة القلب. في عصرنا العين هي اللافتة التي يكتب عليها الرجال ما يريدون من كلمات الولع والهلع والحب والجنون. العيون لم تعد تلك البحيرة الصافية. بل صارت هذا المحيط الذي يبتلع في موجاته العاتية كلّ من لا يستطيع مقاومة أمواجه. لا صدق في العيون الآن...... عيون تجارية . "
إنه تحليل نفسي رائع ومعبّر، مع أنني لا أوافق الكاتب في تعميمه الوصف ليشمل كلّ الرجال، ومن ناحية ثانية ربما فقد تكون عيون بعض النساء تنطبق عليها هذه المواصفات التي خلاصتها أن العيون لم تعد تلك البحيرة الصافية فكمّ من عيون بعض النساء هي أيضا لافتات كتبت عليها ما تريده بعض النساء من كلمات الولع والهلع والحب والجنون ... وكم من ضحية لمثل هذه العيون الخادعة.... لا أقول هذا تحاملا على النساء ولكن لكي أكون منطقيا وواقعيا...

وينتقل كاتبنا الى تحليل نفسي آخر، فيصف " اليد " على لسان إحدى بطلات القصّة، بالطبع فالكلام هو للكاتب، حيث تقول: " أما اليد ، ( وهذه فلسفتها أيضا ، يعني البطلة ) ... فهي المدخل الى القلب... ومن هذا المدخل، يستطيع الإنسان معرفة نوعية هذا القلب ولن تكذب اليد... لأن صاحبها لم يُعدّ نفسه لهذا الإختبار . أيضا ( اليد ) ليس مثل العين هناك فاصل، ولا يمكن الإلتصاق والتماس مثل اليد . اليد تجري فيها الدماء المتدفقة من القلب، ويستطيع المرء أن يُميّز بين يد إنسان مُخادع أو إنسان صادق بسهولة. إنسان ناجح أو فاشل. إنسان أناني محبّ لذاته... أو مخلص متفان في حبّ الناس وبيته، وذلك عن طريق الإتصال. فهي ( أي اليد ) الوسيلة الأولى والباب الأول الذي يُمكن أن يتمّ عن طريقها الإلتصاق. لأنها الجزء الوحيد من الجسد الذي يُبيحُ الناس رؤيته ملتصقا بالطرف الآخر دون غمز أو كلام. ليست ( اليد ) مثل القبلة، ولا بالطبع مثل لغة العيون المخادعة التي صارت تجيد التمثيل، وتلعب جميع الأدوار التي تريد أن تلعبها أو أن تتظاهر بها أمام الناس. فلسفة؟؟ !! وإن كانت غريبة، لكنّ سلوى أو سالي مؤمنة بها. "

فهل هناك أكثر تعبيرا عن هذا التحليل النفسي والفيزيولوجي الدقيق الذي يرسم دور هذه الأعضاء البشرية في التعامل الإجتماعي بين الناس ؟؟

وفي وصفه للعادات الشعبية في أماكن عديدة في متن القصة، أذكر هنا ما جاء في الصفحة 46 حيث يقول: " بالنسبة لي، مجرّد سيري في الطريق العام مع إبنة الجيران، كان شيئا غير مألوف لديّ. لم أفكر أبدا في مصاحبة الفتيات والسير معهن أمام الناس. كان الإبتعاد عن الجنس الآخر في تلك الفترة من حياتي، شيئا مقدسا، أو قلّ : كان ضروريا لنجاحي في دراستي وتحيق أحلامي. لذا مجرد السير مع نادية، أثار عندي مشاعر ومخاوف جديدة. مشاعر لذيذة وجميلة، فلأول مرة أشعر برجوليتي، وأشعر أنني نضجت وكبرت، واصبحت رجلا تتهافت الفتيات ويسعين الى التعرّف إليه ولقائه.
أما المخاوف، فكانت من إحتمال أن يراني أحد أقاربي، أو أحد أصدقاء الأسرة، وأنا سائر جنبا الى جنب مع نادية إبنة حارتنا... والمصيبة ، إن رآنا أحد أقاربها، فلن أنجو عندئذ من " علقة محترمة " ، إرتجفت أوصالي لمجرّد هذا الخاطر....

إنه وصف دقيق لحالة العلاقات بين الشباب والشابات وبين أبناء الجيران وأبناء الحارة، في بلداننا الأم أقلّه عندما كنا شبابا!!! . وهو لا يزال وكأنه كابوس يضغط على هذه المشاعر والأحاسيس والعلاقات...

ولقد عالج الكاتب بأسلوب سردي مشوّق في احداث متعدّدة في القصة عن الصراع الدائم بين الخير والشر وهو صراع أزلي منذ بدء الخليقة، أذكر من هذه الأحداث قصّة الصراع بين الخير والشر الذي خيّم على أحداث القصة في بداية الكتاب ، عن إبن العمدة السارق و الحرامي الذي يرتكب سرقاته ويتلطّى بلصقها بالأبرياء لحجج طائفية ودينية مقيتة ، ظنا منه أن الناس سوف ينساقون لتصديق أكاذيبه وتلفيقاته تحت ستار الصراع الديني والمذهبي الأعمى ، ولقد أبدع الكاتب في تصوير موقف العمدة الشريف الذي لم يتأثر بالدعايات والأكاذيب وفضح ألاعيب إبنه ووحيده لأن ضميره حيّ ويقظ . ... وعندما تخطّى إبنه حدود اللياقة وكشف حقيقته وتصرفاته المخزية قال له والده: " إخرس ... لا فاجر غيرك أنت ..." ورفع يده وبكلّ قوته نزل بها على وجه إبنه قائلا له معنفا: " من أنت حتى تقول عليهم أنهم لا يعرفون الله أو أنهم كفرة ..."

كان العمدة في تصرفه شهما وعادلا فكافأ المتهم البريء وأدان إبنه الزائغ المنحرف عن الطريق القويم قائلا:
" ربنا لا يرضى بالظلم، ولا يرضى أن يُعاقب بريء والمتهم يرتع وسط الناس ويزداد إجراما وميزته أنه إبن العمدة والبريء عيبه أنه نصراني..."

صرخة هي صرخة العدل، ولا أقول أكثر من ذلك ، فما أحوج كثيرين من عُمدات بلادنا ( قادة وحكاّما وسياسيين ) الى أن يرفعوا مثل هذه الصرخة في وجوه المتزمتين...

أما الصراع الثاني بين الخير والشرّ في كتاب " زفّة العروس " ، فهو ما سرده الكاتب في نهاية قصّته عن تصرّفات السيدة" فضيلة" التي كانت تتظاهر بالطهر والعفاف وبطيبة القلب، وكانت في الواقع حيّة خبيثة تدسّ سمّ خداعها للتفريق بين الناس الذين كانت تسيطر عليها من خلال ألاعيبها الجهنمية ولكن لم يطل الزمن عليها حتى إنكشفت ألاعيبها وتهاوت جميع حبائلها الدئيئة عليها وبالا، لأن على الباغي تدور الدوائر في النهاية....

العبرة التي أظن أن الكاتب قصدها عمدا هي تسميته بطلة هذه الخداع والألاعيب الدنيئة بإسم " فضيلة ".. أنعم وأكرم ... فاسمها هو القناع الذي كانت تستتر به هذه المرأة الشريرة وقد فضحتها سلوى في خاتمة القصة إذا قالت لزوجها المخدوع بمظاهر هذه المرأة الشريرة، إن إسمها يجب أن يكون " رذيلة " وليس " فضيلة". ولعلّ الكاتب يدعو من خلال ذلك الى إسقاط الأقنعة عن وجوه المتلاعبين والغشاشين والسارقين والمنحطين الحقيرين الذي يلعبون زورا وبهتانا أدوارالصريحين و الصادقين والأمينين، والأشراف...
إنها دعوة الى الشفافية والصدق ... ولعل رسالة كاتبنا الصديق أنطوني ولسن تنحصر، من خلال كتاباته وقصصه ومقالاته الأسبوعية في زاوية المغترب وغيرها، في تركيزه على الأخلاق الحميدة والتمسّك بالمبادىء العليا السامية التي تجمع بني البشر كلّهم أخوة متساوين في الواجبات والحقوق... فهو يدافع عن المظلوم حتى تُبـَرأ ساحته، وعن المريض حتى يتعافى ويبرأ، وعن السجين ظلما حتى يُطلق سراحه، وعن المهدورة حقوقه حتى ينال هذه الحقوق... إنها رسالة يجب أن يمتشقها كلّ صاحب قلم للدفاع عن المظلومين ( قلم بمعنى ريشة ويراع وإن ما دعاني للتوضيح هو بسبب ما سأقوله لاحقا )....


وهنا أعود الى مفردات اللهجة المصرية التي يُحبّ كاتبنا أن يستعملها بعفوية صادقة لا تصنّع فيها ولا مغالاة ، وكذلك فهي بعيدة عن الحشر القسري للمفردات الذي يستعمله بعض الكتّاب في أسلوبهم، فيبدو إستعمالهم لهذه المفردات الشعبية وكأنه حشو غير مستحب، لكي لا أقول "حشو ممجوج" .. وجدته لدى بعض الكتّاب الذين يتلطّون بهذه المفردات لإضفاء مسحة شعبية على نتاجهم. ولقد لفتت إنتباهي في قصّة " زفّة العروس " كما في قصّة " الضياع" مفردات اللهجة المصرية العامية التي إستعملها الكاتب بطريقة عفوية فأستهوتني قراءتها لأنها ذكّرتني بفترة إقامتي في القاهرة والإسكندرية مدة أربعة أشهر، في أواخر عام 1976، الأمر الذي جعلني أتذكر وأنا أطالع القصتين، المفردات التي كنت أسمعها في مقاهي الموسكي، والعتبة الخضرا وقصر النيل والدقي وعابدين في القاهرة، ومقاهي الستانلي وسان ستيفانو وسيدي بو العباس في الإسكندرية، فأسترجعت من خلال هذه الألفاظ ذكريات تلك الإقامة بحلوّها ومرّها....

أسرد الآن بعض هذه المفردات لكي أعطي السادة الحاضرين عن ما عنيت بهذه التعابير الشعبية:
فراودة ، عتاولة ، برضو ، إيه هيا الدني سايبة، كوم لحم ( يعني ان الرجل لديه عدد كبير من الأبناء والبنات يقوم برعايتهم وإعاشتهم، الهانم ، يا خبر إسود ، علشان خاطري، بلاش اللي في دماغك، البمبه ( نوع من القماش الرقيق ) ، العزبة، إشمعنى ، صفعها بالقلم (صفحة 176) ( وهذا يعني باللهجة المصرية صفعها بالكف على الوجه حسب اللهجة اللبنانية ).
وبنظري المتواضع، فإن المفردات في لهجاتنا العامية المختلفة في الأقطار العربية كلّها هي " دمالج " لغوية صاغتها ثقافاتنا وحضاراتنا المحكية فباتت الحلى التي تتزيّن بها لغاتنا ولهجاتنا المحلية، ويا حبّذا لو أن معظم كتابنا وأدباءنا يستعملون هذه المفردات في قصصهم ومسرحياتهم ومقالاتهم ودراساتهم لكي نحتفظ بدمالجنا الثمينة حيّة ومحكية في لغاتنا لكي ننقلها الى أولادنا وأحفادنا، فأي شيء يمكن أن يؤمن حفظها في الذاكرة كمثل كتابتها في القصص والأدب والمقالات.


بوركت يداك أيها الزميل العزيز ومنّ الله عليك بالصحة والعافية ليظلّ قلمك ( باللبناني) حرا أبيا يكتب لنصرة الحقّ والعدل والمساواة، ويكون قلمك (بالمصرية) قلما يصفع وجوه المتزمتين والحاقدين وأصحاب النفوس والنوايا الشريرة التي ليست من تعاليم الكتب السماوية التي يؤمن بها أبناء أوطاننا الأم، لكي نحيا كلنا أبناء لخالق واحد ورب واحد لأننا كلنا في النهاية أبناء الله عزّ وجلّ، وكلّ واحد منا هو عزيز على قلبه وليس لأي مخلوق على وجه الأرض، كائنا من كان، الحق في أن يحلّل دم أي مخلوق آخر ويزهق روحه مهما كانت الأسباب والذرائع والحجج، أملنا أن نصل الى هذه الحال من الأخوة الإنسانية في العالم كلّه ، وخاصة في أوطاننا الأم مهبط الوحي والأديان ومهد الحضارات كلها.

آمل أن أكون قد وفيت بعض ما يستحقه كاتبنا واديبنا الزميل أنطوني ولسن

وشكرا لكم على حضورك وإصغائكم ودمتم سالمين

بول خيّاط

22 آذار 2009

ليست هناك تعليقات: