السبت، أبريل 25، 2009

الأقنعة في رواية: لحظات لاغير

د. وليد جاسم الزبيدي

العنوانُ هو ثريا النّص، كما يقول النقاد في الأدب، وعنوان الرواية، جاء ووُلدَ من حوارات، ومن بين سطور الرواية ومكامنها، في (ص: 126)، يقول بطل الرواية، وحيد الكامل:"تمتّعي باللحظة يا حبيبتي، لنا اللحظات لا غير.".، أمّا الإستهلال في الورقة الأولى:"تريّث قليلاً أيها الموت.. إنّي أكتب."، فلقد جاءت هذه العبارة وانتقتها الروائية في(ص:160)، من خلال حوار، "عندما يحس بتحسن يجلس الى المكتب قائلاً:"تريّث قليلاً أيها الموت..إني أكتب"..والرواية حينما تقرأها تظن للوهلة الأولى أنها مسرحية شعرية، لكثرة المقاطع والنصوص المكتوبة بصوت البطلين، وحيد الكامل والدكتورة أسماء.
القناع "MASQUE" –لغةً بالعربية –ما تتقنّع به المرأة من ثوب تغطّي رأسها ومحاسنها، ، وهو، في اصطلاح المسرحيّين، وجهٌ مستعار من ورق مقوّى أو نسيج أو جلد أو غيره، يُثبت على وجه الممثّل ليخفي ملامحه الأساسية، فيتّخذ نمطاً محدّداً وصفات ثابتة، أو هو الشخصية التي تُظهر غير ما تضمر ، وهو، تاريخياً، وسيلة درامية استّخدمت في رقص القبائل البدائية، ثمّ انتقلت إلى الاحتفالات الدينية، فالمسرح الإغريقي وسواه، ولا تزال تُستخدم حتى يومنا هذا.‏
والقناع في الشعر المعاصر وسيلة درامية للتخفيف من حدّة الغنائية والمباشرة، وهو تقانة جديدة في الشعر الغنائي لخلق موقف درامي أو رمز فنّي يُضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية من الشخصيات، يستعيرها الشاعر من التراث أو من الواقع، ليتحدّث من خلالها عن تجربة معاصرة بضمير المتكلم، إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يميّز تمييزاً جيّداً صوت الشاعر من صوت هذه الشخصية.
فالصوت مزيج من تفاعل صوتي الشاعر والشخصية، ولذلك يكون القناع وسيطاً دراميّاً بين النص والقارئ، وهو وسيط فيه من الشاعر مثلُ ما فيه من الشخصية التراثية التي يمثلها القناع، لأنّ التفاعل بين الطرفين يضفي على الرمز الفني وضعاً جديداً ودلالات جديدة، ولا سيّما أن صوت الماضي يندغم في صوت الحاضر، ويندغم صوت الحاضر في صوت الماضي للتعبير عن تجربة شعرية معاصرة.‏
وهكذا نجد أن القناع أستُخدمَ في الشعر أولاً، قبل الفنون الأدبية الأخرى،(مع علمنا باستخدامه أولاً في المسرح خصوصا في المسرح اليوناني)، بل يكاد البعض أن يقول ، القناع والشعر متلازمان ومتراكبان ومتوائمان’ ولا ينسجم القناع إلا مع الشعر، ووُضعت العديد من الدراسات والأطاريح بهذا الموضوع، وقد كان بحث التخرج الذي كتبته في كلية التربية-قسم اللغة العربية في جامعة بابل، بعنوان قصيدة القناع في شعر صلاح عبد الصبور، وقد كان لأستاذيّ الفاضلين د.عباس الدّرة ود. عبد العظيم رهيف الفضل في الإرشاد والتوجيه والتصويب.
كان القناع يظهرُ مرةً برمزيته التاريخية أو السياسية أو الأسطورية فيكون صوت القناع عالياً واضحاً، وتارةً أخرى يعلو صوت الشاعر على صوت القناع، فأفردتُ باباً لصوت القناع، وأخرى لصوت الشاعر مع نماذج من الشعر ودراسةٍ متواضعةً، كما وجاءت قصيدة القناع في شعر البياتي أولاً ثم تلاهُ معاصروه، السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ،وكذلك وجدتُ في إطروحة الدكتوراه المطبوعة للكاتب عبد الرحمن بسيسو، هذا المعنى الذي أسلفت.
وفي أول رواية تكتبها وتطبعها وتنشرها(فاتحة مرشيد)، تنقل تجربة الشعر الى الرواية، وتنقل كل تقنات الشعر لتروضها، وتشذّبها بما تتلائم مع عقدة الرواية ودروبها، فهي الروائية العربية الأولى التي اختطت لنفسها هذا المذهب ونقلته حياً وليس ميتاً واشتغلت عليه بمباضع الجراحة والنجميل لتزيل المترهل وتضيف الى النحيف، فكانت الرواية بنتاً من علاقة شرعية بين الشعر والنثر، تمكنت الروائية الشاعرة أن تزاوج بين روحين في عقلها وقلبها لتُنتجَ وليداً يرفرفُ بجناحين في عالم الأدب والمعرفة والثقافة، ولعل(فاتحة) تمتلك بطيناً للشعر وآخر للرواية، فلا تفرط بأحد، بل جعلت من هذا الإمتزاج الروحي نتاجاً جديداً معافىً.
وفي استخدامها للأقنعة في روايتها، فكان التاريخي ، والسياسي، والأسطوري، تركيبةٌ متنوعةٌ لا تحس أنها موضوعة أو ملصقة على عواهنها،أو إنها منزلقة،أو رُكّبت بصورة مقلوبة، لقد استخدمت الروائية الشاعرة تلك الأقنعة بكل مهنية واحتراف وفق تقنيات عالية كأنها تمنتجها بفيلم أو تعرضها كمسرحية، حيث وظّفت كل الفنون السمعية والبصرية ومنها الأغاني والتراث والأمثال في الكتابة. وقد اختارت أقنعة بصوت الحدث، وبصوت المشاعر والأحاسيس، وأحيانا أخرى بقوة الفعل، فكانت الأقنعة متلونة ومتباينة ولكنها متناغمة وتجري وتنساب وتتحرك كلها كأنها فرقة موسيقية كبيرة تعزف أجمل سيمفونية.ومن هذه الأقنعة:
1/ قناع سراييج: (ص: 9)،الشاعر البوسني(1930-2002م)وهو يهمس بمقطع في ديوانه (أحدٌ ما دقّ الجرس)، وفيه صورة وصوت الإنتحار، وكيف يظهر بجرأة.
2/قناع جورجي لويس بورخيس: (ص:14)، الشاعر الأرجنتيني، فيه صوت الإحساس وصوت المرأة المتناغم مع المشاعر المتأججة..
3/قناع رينيه شار: (ص: 49)،الشاعر الفرنسي(1907-1988م)، صوت الإنتحار وصورته، وعدم الأسف عليه، وصوت الحب المتفاعل مع المستقبل.
4/قناع مورياك: (ص:62)، الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك المولود في بوردو في 11 اكتوبر 1885 والذي توفي سنة 1970 في الأول من سبتمبر،قناع الفوضى واللامبالاة، وعدم الإستسلام للأمر الواقع.
5/قناع جان بول ايمارد سارتر: (ص: 69)،الفيلسوف والروائي والمؤلف المسرحي، الفرنسي، (1905-1980م)، وكانت مقولته الشهيرة في إحدى مسرحياته:" الجحيم هم الآخرون". فكان صوت الفلسفة والإطار الفلسفي لفلسفة الرواية.
6/قناع رامبو: (ص: 65)، الشاعر الفرنسي الشاب المتوفى سنة 1891 عن عمر يناهز 37 عاماً، فكان قناع الشباب والحياة، والمغادرة بوقت مبكر كما غادرها بطل المسرحية( وحيد الكامل)..
7/ قناع بوفوار: (ص: 70)،الكاتبة سيمون دي بوفوار(1908-1986م)، المعروفة بعلاقتها الحميمة مع سارتر، وفي النهاية دُفنت إلى جانب قبره، هكذا كانت أمنية بطلة الرواية، أن تكون هكذا كصورة الكاتبة، أن تكون مع حبيبها في الحياة الدنيا وفي الآخرة.فكان صوت الحب والحميمية الخالصة.
8/ قناع حمزاتوف: (ص: 101)،الشاعر الداغستاني(1923-2003م)، صوت الحرية، وصوت السياسي ، وصوت منْ يحب ويعشق أرضه وسماءه..وصوت الفضيلة.
9/قناع أوسكار: (ص: 118)، المؤلف المسرحي والروائي والشاعر ، أوسكار فينغال ، وهو أنجلو-آيرلندي ، ومن مقولاته الشهيرة:" الطريق المثلى للتعامل مع الإغراء هي أن نستسلم له.". وهكذا كانت صورة استسلام الدكتورة أسماء التي كانت تبحث عن مخرج لعقدة (أوديب) في ذات البطل،الذي أحب والدته وكره أباه.
10/ قناع نيتشة: (ص: 133)،الفيلسوف الشاعر قردريك فيلهيلم نيتشه (1845-1900م)، استخدمته قناعا لحل ألغاز مريضها الذي حاول تجريب الإنتحار، لكون (نيتشة) من أبرز الممهدين لعلم النفس ،فكان اللاوعي للدكتورة، والنظرة إلى الموت يشكل فلسفي.
11/ قناع مونطيرو: (ص: 136)،الشاعر الإسباني لويس غارثيا مونتيرو المولود في غرناطة عام 1958م، والحائز على جوائز مهمة، شاعر الحب والغياب، " ويسألني عن حكاية غيابك..".
12/قناع نزار قباني: (ص: 144)،الشاعر العربي، الشاعر الجميل الرقيق، الحاد، النسمة والعاصفة، المسكون في ذات الشاعرة والروائية، المتجلببة بجلاليبه، صوت الجمال وصوت القبلات، ورفيف الجسد، ورعشة الأنامل والشفاه.
13/ قناع محمود درويش ) : ص:150) الشاعر العربي، صوت القضية والأرض والأرواح التي عانقت السماء في سبيل الحرية.
14/قناع عبد المعطي حجازي: (ص:154) صوت الحداثة والوطن.
وهكذا تنوّعت وتعدّدتِ الأقنعةُ بين كاتب، وشاعر، وفيلسوف، وعالم نفسي، وسياسي، وبين شعر وحكمة، ونثر،وفلسفة، وأقوال في علم النفس، كلها تصب في مصب واحد، كل الخيوط تمسكها بأصابعها الذهبية لتنسج منها روايةً لم تُكتب في زماننا العربي. كما تقرأ وأنت في جو الشعر، المقاطع الشعرية التي جعلتها حواراً جميلاً ، فلو جمعت كل المقاطع لأتتك قصيدةً كاملةً كتبتها (مُرشيد) في نفسٍ وروحٍ وهاجس واحد، كما جمعها الدكتور عدنان الظاهر في مقالته عن الرواية، فكأنك تقرأ قصيدةً لـ(فاتحة) وتسمع صوتها دون قناع، أو أن البطلة(أسماء) ارتدت قناع (فاتحة) الشعري ليعلو صوت الشاعرة على صوت الروائية.
ومُزجت وتناسقت مع الأقنعة وأصواتها ، صوت الأغاني، هذه اللازمة الجميلة غير المملة أو المقحمة في ثنايا الحوار بل تأتي مكملة له، وهذه اللازمة نجدها في شعر فاتحة وفي روايتها الأخيرة(مخالب المتعة) أيضا، فنجد أغنية نجاة الصغيرة(ص: 137): ما أحلى الرجوع إليه.. من شعر نزار وموسيقى عبد الوهاب.. كما نجد أغنية بالفرنسية (ص: 162) لجاك بريل: (عندما لا نملك سوى الحب..)، وأغنية أخرى للموسيقار محمد عبد الوهاب(ص: 159): " جايين للدنيا مانعرف ليه.." وهي أغنية الفلسفة العربية وتناغمت مع فكرة وحوار البطلين. فكانت الأغاني قناعاً آخر توظّفهُ الروائية الشاعرة في الرواية.
أما القناع الآخر الذي وظّفته الكاتبة في الرواية ولأول مرة في الروايات العربية بصورة ذكية ومعبّرة هو: الرقص، فكانت الإشارة إلى رقصةٍ بعينها، (ص: 122)، فالرقص تعبير ولغة الجسد، وإيقاع معبّر ويرتبط بعادات وثقافة كل مجتمع واختيارها للرقص كونه المعبر عن الذات وعن المشاعر وتتماها مع الروح، بإيقاع ساحر وخيال. كما أنها إختارت رقصة (التانغو)كونها تعتمد على اثنين رجل وامرأة وهاهي أسماء مع وحيد، وهذه الرقصة يؤديها الراقصان بعيدان ثم يلتقيان كأن الرقصة تعبّر عن تلاقٍ ثم فراق،" بدأت رقصتنا كتانغو يهيم بين دنو وابتعاد.."، وهكذا هي الرواية. فلقد كان اختيارها لهذه الرقصة دقيقا ومعبراً فلم يأت اعتباطا أو جزافاً.
وما لنا إلا أن نقول في ختام قراءتنا المتواضعة وكما فهمتها( تريّث قليلاً أيها الموت..إنّي أكتبُ قراءةً في رواية فاتحة.. فأنظرني إلى يوم نشرها وتقرأها العقول قبل العيون..)..!!!

ليست هناك تعليقات: