الاثنين، أبريل 13، 2009

مخالب المتعة وجيوش البطالة





قراءة: د. وليد جاسم الزبيدي

(إلى الصديق الدكتور وليد جاسم الزبيدي مع خالص التقدير والمحبة..فاتحة /الدار البيضاء 20/3/2009)

هكذا طرّزت النسخة التي بعثتها لي الدكتورة فاتحة مرشيد من المغرب الشقيق -
حينما تكتبُ عن الدكتورة المبدعة (فاتحة مُرشيد)، فأنكَ تدخلُ متاهةً في داخلك أولاً مع النفس، ثم على السطور الزرقاء التي سرعان ماتنقلبُ حمراء بفعل جمرة المعنى. هكذا أجدُ كتاباتها وإبداعاتها تكسرُ طوق المألوف العربي لتسلّط الضوءَ على أمراضنا وخبايانا وانتفاخنا الكاذب. رواية(مخالب المتعة)، هي الرواية الثانية للروائية الشاعرة فاتحة، بعد روايتها الأولى (لحظات لاغبر)،مخالب المتعة الطبعة الأولى في أوائل عام 2009م، عدد الصفحات 160 صفحة، القياس 14 :21Xالناشر المركز الثقافي العربي الدار البيضاء-المغرب، صدّرت الروائية روايتها بعبارة لسقراط" السعادة هي المتعة من غير ندم".عند قراءتي للرواية وجدتُ فيها عدة مستويات سنستظل تحتها في هذه السطور:
-المستوى الأول: السياسي: القلق السياسي، والإرهاب السياسي، يجعل الكثير من المغيبين يعيشون في الظلام وخلف الكواليس، ووجوه الساسة أمام الكاميرات كوجوه الممثلين ونجوم هوليود. الرواية في شقها الأول رواية البطالة العربية ، جيوش البطالة التي تمتد من المحيط الى الخليج، البطالةُ بكل أنواعها وعناوينها ومسمياتها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. هؤلاء العاطلون عن العمل، هم عاطلون عن الحب، عن الحياة والتعايش السلمي مع المجتمع، يمارسون طقوسهم الأزلية وهي: قراءة الصحف اليومية وصفحات فرص العمل، يتصدّرون الإعتصامات أما البنايات الحكومية، يشتركون في الإضراب عن الطعام، كلها ممارسات ميئوسة ليصرخوا: نحن هنا..!!.. ثم تفتحُ الروائية الشاعرة بجملها الشعرية وكأنك تقرأ ديواناً شعرياً، تفتحُ نافذةً سياسيةً أخرى ، نافذة العراق بكل جراحه وتعقيداته، قبل أحداث عام 2003م وبعد التغيير، قصّة الرّسام (إدريس) والفتاة العراقية (بلقيس) التي تحيلنا الى زوج الشاعر نزار قباني( بلقيس الراوي)، حيث استخدمت ووظّفت هذا الإسم العراقي المعروف في روايتها، ووصفت الحال في العراق وما جرى فيه من ظلم وتعذيب وقهر قبل 2003 هذه الأحداث التي جعلت(بلقيس) تهاجر مثل أسراب الطيور العراقية المهاجرة للمنفى، ثم كيف رجعت الى العراق بعد التغيير السياسي لتساهم مع زوجها في البناء الجديد..
-المستوى الثاني: الجنس: لقد انمازت الإبداعات العربية قديماً ومجملها حديثاً إلا القليل، بابتعادها عن خطين محرّمين، تضعها السلطة ودور النشر، هما(النظام السياسي العربي)و (الجنس)، كأن النظام السياسي العربي والجنس توأمان ، منْ تحرّشَ بالجنس تهجّم على السلطة.. فقد تصدّت الروائية العربية (فاتحة)، لهذين الخطين المتوازيين، فكسرتهما مع كسر التوقع بقلمٍ جريء وفكرٍ ووعي. تعاملت مع الجنس بمنظور مثقف، ومنظور طبي، لا إسفاف ولا ابتذال، وتجد ذلك بقراءة الرواية من الغلاف الى الغلاف، فتجد حوارات واضحة في الصفحات( 49) خصوصاً في وصف نقطة(ج) وما تعنيه جنسياً، وهي الموضة الجديدة التي تمارسها النساء اللائي يبلغن سن اليأس وهي جراحة تجميل لتنشيط الرغبة لدى المرأة وتعيدها كأنها فتاة في العشرين. وتجد حوارات مماثلة في الصفحات(17، 18، 38...)، ...
-المستوى الثالث: الأغاني العربية وربطها مع الحدث: من الأساليب الذي تستخدمه (فاتحة) في دواوينها الشعرية ورواياتها، وكأنه نهج أو منهجٌ إختطته لنفسها، هو توظيف الأغنية في القصيدة وفي الرواية . فقد تنوّعت الأغاني من حيث المذهب والمغنّي والبلد، حسب جو وايحاءات المشهد والحوار، حيث تلملمُ الصور والشخوص، وتضع الأغنية كأنها(فلاش باك) تنطقُ بما هو مسكوت عنه. ومن الأغاني المستخدمة في الرواية:
1-أغنية السيدة أم كلثوم: "جددت حبك ليه.. ليه، بعد الفؤاد ماارتاح..حرام عليك، حرام عليك، خليه غافل عن اللي راح.." تقرأها في (ص: 37) وطريقة كتابة الأغنية كأنك تسمعها فهي تردّد وتكرر الكلمات كما هي في اللحن فالموسيقي يقرأها كأنها النوتة الموسيقية والشاعر يتحسسها ويفهم معاني التكرار. فجاءت هذه الأغنية ليست في فراغ أو أنها لترميم موقف، أو تعبر عن كون هذه الأغنية تعشقها صاحبة الرواية، لا، أن هذه الأغنية تعبّر عن حدث قديم تناغم مع حوار بين شخوص الرواية(عزيز وميمي) بعد عودة عزيز للحانة ، وبعد فراق طويل، تكاد أن تكون (ميمي) قد نسته نتيجة لسفر منْ تُحب، لفترات طويلة ، عاد وعادت معه جراحات الماضي. وكأن الأغنية هي لسان حال (ميمي) في أذن غريمها(عزيز).
2-أغنية السيدة أم كلثوم أيضا: " وعايزنا نرجع زي زمان، قل للزمان إرجع يازمان.."..تقرأها في (ص: 69)، وهي جاءت مثلاً على لسان (أمين) في حديثه مع (بسمة)، وهي تحدّثه عن علاقتها مع زوجها كيف ساءت وتكسّرت كالزجاج، بعد وفاة ولدها، وكانت هذه الأغنية خير تعبير عن الحال الذي لا يصلح..وهكذا اختصرت الروائية العديد من الحوارات والإحلات باستخدامها هذا الإسلوب الذي وظّفته بشكل مدروس ودقيق.
3-أغنية المطرب العراقي ناظم الغزالي: "أيّ شيءٍ في العيدِ أهدي اليكِ ياملاكي..".تقرأها في (ص:92)،يسمعها الرسّام (ادريس) في ركنه المعهود في الحانة وفي يده القلم يخطط على ورقة وجه بلقيس وكأن الغناء العراقي وهذه الأغنية هي جدارية بلقيس وتصبح الأغنية صوت الرسّام المتحرق شوقا والمتصبب ولهاً.. ومع صوت الغزالي ترتعش خطوطه فيستقيم الحب في القلب..الحب عراقي والأغنية عراقية ، والرسم هدية لوجه الحبيبة، فأي شيء يهديه؟؟
4- أغنية من الفلكلور المغربي: "حكمت عليها الظروف/ تشرب لكاس وترضي الخواطر/مسكينة من الفقر والخوف/تخلق السعادة وتبقى هي بلا خاطر/وراه كاينا ظروف/وراه كاينا ظروف/.." هذه الأغنية في الحانة وهي تؤرشف قصة حياتها، ترضي أذواق الناس وخواطرهم وتسعدهم في الحانة ولكن لا أحد يسعدها ويشعر بأحاسيسها، وفي (ص: 101) تجد هذه الأغنية وهي تختصر كل الحوارات والمسافات والزمن.
5- أغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب: "بفكر في اللي ناسيني/وبنسى اللي فاكرني/وبهرب مللي شاريني/ودوّر عاللي بايعني/عاللي بايعني.." جاءت هذه الأغنية لتصوّر حالة (ميمي) التي تبحث عن عشقها (عزيز) الذي هو بدوره يبحث عن فتاة أحلامه(ليلى)، والأغنية صورة واقعية وتجسيد للمشاعر والأفعال والحوارات بين (ميمي) و(عزيز)..
-المستوى الرابع: التراث الشعبي في الرواية: لقد استخدمت الروائية العربية(فاتحة)جهداً مكثفاً وشغلاً واضحاً في توظيف التراث لخدمة الرواية وبنائها ، فنجد الكلام العامّي، أو اللهجة الدارجة في المغرب، والمثل الشعبي، والأكلات الشعبية والمسمّيات المحلية ولكنها ليست بالغامضة فأنت تفهمها أيها العربي لكون التراث يكاد يكون واحدا والتقاليد واحدة، فأنت تقرأ:
1-في (ص: 7)قول والدة أمين(تحركوا تُرزقوا)، وهي كالمثل الذي يردده العراقيون(في الحركة بركة).
2-في ذكر الطعام والأكلات الشعبية(ص: 12): (طبق الكسكس أو طاستين من الحريرة)،الأكلة التي تقدمها صاحبة الدار(النزل) للمستأجرين (عزيز وأمين).
3-العبارة العراقية التي تكررها(بلقيس) وحفظها (أمين الرسام) فاستهوته وأخذ يرددها: (أموتن عليها) و
( أموتن عليك).. وهي عبارة عراقية قح لما تحمل من دلالات محبة صادقة (ص: 109).
4-في (ص: 117)، وصف للعرس المغاربي وليلة الزفاف وجوقات الطرب، في البادية، وهي تقاليد وتشبه الى حد بعيد العرس في القرية العراقية، حيث العروس تستبدل ثيابها عدة مرات، في (ص:113) حيث أصدقاء العريس يختلون به ليدعموه معنويا ويشرحون له الطقوس، وفي الفجر كيف يترقبون سروال العروس الملطخ بالدم لتستقبله النسوة بالزغاريد، هكذا كما في العراق، الحال واحد والتقاليد واحدة على الأقل في الريف إن غابت منذ وقت مبكر في المدينة.
5- الكلام العامي في اللهجة المغربية: على لسان أم أمين( دعي معاه أمي البتول يفك الله عقدته)،في (ص: 71)، وقول البتول( هذا ثقاف مديور ليك ياوليدي) في (ص: 71) .. وهكذا الكلام العامي في (ص: 104، 105)...
6-وهو من حوار بين ألزبون ومصطفى (مول الطاكسي)،حيث يقول الزبون الثرثار: قال أسيادُنا الأولون: (الدنيا بحال لمرة الى بغاتك حلاّت حُزامها وعُطاتك).. أي حال الدنيا حال المرأة إذا أقبلت عليك أعطت بدون حساب .
وبعد عرض مستويات القراءة للرواية، فإنّ العاطلين عن العمل هو همّ شعبي محلي وإقليمي ودولي، لم تعط بعض الدول مستحقاته الى الآن، فقد عرضت الروائية هذه الهموم في شرائح مختلفة ونماذج متباعدة ، متقاربة، في الذكاء والفطنة والتحصيل العلمي والقوة والشباب. معظم أبطال وشخوص الرواية هم عاطلون وحتى النساء، وأخص بالذات نساء الطبقة البرجوازية المترفة التي لم يكن همها العمل أو التحصيل الدراسي بقدر شراء المتعة بفلوسها بل شراء كل شيء حسب فكرها، بالفلوس.. وتجد اختيار الروائية للأمثلة من العاطلين، من أصحاب الشهادات العليا، وكذلك من تخصصات إنسانية، مثل التاريخ والجغرافية، هذه التخصصات المحرومة من التعيين، وكأن التاريخ والجغرافية عُطّلت ، فوجهة نظر (أمين) في التاريخ والجغرافيا تقول: (إيماني بأن لا مستقبل بدون تاريخ، ومصير الشعوب تحدده الجغرافية..) في حين يوجه (عزيز) التاريخ والجغرافية وجهة أخرى حسب مفهومه ومصلحته: (مثلاً أن توجهها نحو تاريخ النساء وجغرافيتهن.. ياسلام على جغرافية النساء: هضاب ووديان وجبال وسفوح ومغارات..)..
وهكذا كان العاطل (عزيز) يمثل تأجج الرغبة والمتعة في علاقاته مع النساء، في حين كان (أمين) أكبر وأرق أذن عرفها التاريخ فقد كان بستمتع بعلاقته الإفلاطونية، مع (بسمة)، فكان أمين الأسرار،.. وهكذا نجد كل عاطل يمثل نمطاً وهاجساً وثقافةً وشريحة، فكل شخصية تلبس قناع البطالة بنوع وبشكل وبنمط مختلف، وللمحسوبية والواسطة الأثر الواضح في ختام الرواية حيث يحصل (أمين) على رسالة توصية بالتعيين من (بسمة) وهي هديتها له بعد هجرتها الى كندا لكي يعمل موظفا بعد أن كان يعمل عندها سميراً وأنيساً وحافظاً لأسرارها..
روايةٌ تصرخُ بالهموم والأشجان، فهي لم تدرس أو تسلط الضوء على البطالة فقط بل جاءت فسيفساء تحمل التراث، والشعر، والأغاني، وعالجت أكثر من موضوع في الطبقة الأرستقراطية والطبقة الفقيرة أو المعدمة، وكيف تسخّر العوائل البرجوازية كل الناس البسطاء على مختلف ثقافاتهم لخدمة متعتها ونزواتها، هكذا عهدنا (فاتحة مُرشيد ) في كل عام وكل موسم ثقافي تتحفنا بالجديد شكلاً ومضموناً، وهاهي روائيةٌ فذّةٌ كما عهدناها شاعرةً فذّةً...!!!

ليست هناك تعليقات: