شوقي مسلماني
لم أصدِّقْ أنّ هذه الصورة هي للشاعر العراقي سركون بولص. إنّه متهدِّم كمَن بلغَ مِنَ العمْرِ عتيّا، وعهدي به، ومِنْ خِلال صوَر له في مواقع ألكترونيّة وصحف، ممتلئاً، عفيّاً. وأمعنتُ النظرَ بالصورة، ولأنّي لم أعرفْ مِنْ مواليد أي سنة هو سركون خمّنتُ أنّه تجاوزَ المئة حولاً، وأنّي بهذه الصورة قد ضبطتُه. ثمّ بعدَ فترة رأيتُ صورة أخرى له، والأصحّ أنْ أقول: شبحه. ثمّ علِمتُ أنّه في حرَج صحِّي. إذاً حقّاً لم يغشّني سركون بولص. ولأنّي على غير دراية بما يلمّ به، ألحقّ أقول، لم أجزمْ أنّ موعِدَ غيبتِه قد أزفّ. وقبلَ يومين مِنْ يومِ المفاجأة أخبرني الصديق الشاعر وديع سعادة أنّه سيتّصِل بسركون في ألمانيا. واتّصلَ، وحضر سركون. كان صوتُه عريض، إنّما منخور بالتعب. وردّاً على سؤال ما كان يجب أن يوجّه له قال: "لا أريد صلة بأي نظام عربي". وقصدَ السلطة في بلده على رأس قائمة القطيعة. والحقّ أقول، ورغم وجومي، لم يخطر ببالي أنِّي بعدَ يومين سأتذكر أنّها كانت المرّة الأولى أسمع فيها صوت صاحب "الوصول إلى مدينة أين" وما مِنْ أمل بسماعِه مرّة ثانية بعدَ أنْ بلغَ أخيراً مدينة "أين" ذاتها. وقلتُ للصديق وديع وقد صمتَ "الخطّ" بين أستراليا وألمانيا: "علينا البدء بالتحضير للقاء على إسم سركون وشِعرِه". لم أقلْ شيئاً آخَر. أوّل مرّة سمعتُ باسم سركون بولص كان مِنَ الشاعِر صاحب "واحِد مِنْ هؤلاء" جاد الحاج.
**
أوراقُكَ مِنْ كتاب
يأتي الأطفالُ إليه
مِنْ كلِّ أطرافِ مدينة "أين".
**
ومِنْ مسافة إلى مسافة
منذ وعيتَ أيُّها المسكوب مِنْ ضوعِ الفجر
وفي كلّ مسافة تتعلّم زهرةً وتَغرس وردة
والطريق صعود بلا نهاية
وتحتَ سماء لا ترحم
أخيراً توقّفَ الجسم
عن اللِّحاق تماماً.
**
وهذا هو البحر
وهذه هي الطيور
وهذا هو الذي يجب أنْ يعيش.
**
لا حاجة لهذه الجراح
ولا لهذه الفوضى الدامية.
**
الخرافة كثيفة
إلى حدود انعدام الرؤية
وتمزيق شبكةِ الأمان.
**
أُخِذَ القرار
كلّ هذا الموت الرهيب
وقبلَ أنْ تعي هذه التي تُحاك.
**
الأنبل أللاّ تكون حدود
الأنبل الفضاءاتُ الواحدة الأرواح الواحدة
أمم العالم الواحد.
**
لا بدّ أيُّها الجمرة تحصي
وتحمل جبلاً على ظهرك.
**
المحلّ رفيع
يستحقّ الوفاء.
**
يحلّق عالياً
يحلِّقَ عالياً
دائماً.
**
لا شكّ أنّ قلباً ينبض
لا شيء يستطيع
أنْ يمنعَ صوتاً
يُريد.
السبت، يناير 23، 2010
تعلّمَ زهرةً وغرسَ وردة: إلى الشاعر الراحل سركون بولص
الجمعة، يناير 08، 2010
السكّان الأصليّون لمسافات شوقي مسلماني
سامح كعوش
»لكل مسافة سكّان أصليون« عنوان المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر اللبناني شوقي مسلماني (دار الغاوون)، بعد مجموعاته: »أوراق العزلة« (1995)، »حيث الذئب« (2002)، و»من نزع وجه الوردة؟(2007) «. ولكل سكّان أصليين مستعمرٌ تتأصّل في ذاكرته مجازر القتل الجماعية حتى تقتله، بينما يقف الشاهدُ الشهيد وحيداً باكياً لكنه ينتصر، بدمعه، وبذاكرة لا تنسى، ينتصر السكان الأصليون لأنهم ببساطة »أصليون«، سكنوا الأرض كجذر شجرة، وللشاعر شجرة الكلام فلا ينسى. هذا الشاعر الذي يقع في »التقرير« منذ العنوان، ينحاز إلى الساكن الأصلي ليستحضر في واحد حكاية الكلّ، ويقرأ في كتاب تاريخ مفتوح منذ أول فتح أو غزو، أو فلنسمّه اكتشافاً للعوالم الجديدة، والشاعر يهزأ بنا في اكتشافه أن الاكتشاف لم يكن يوماً إلا تسمية ملتوية خوف الكشف عن إنجازٍ بشريٍّ دشّن عالماً جديداً بالقتل لهنوده الحمر الأصليين، وعالماً جديداً شبيهاً يشهد الواقعة نفسها في مسافة لها سكانها الأصليون الجدد. واللغة الشعرية تقع في عجز العبارة عند اتساع الرؤى، أو عند عجز خشبة القلب عن احتمال الريح، الألم، الموت، والقتل، عند وقع خبر الفاجعة الموت كما وقع الدويّ الصارخ في قلب عصفور، عندما يستحضر الشاعر ذاكرة القتل متسلحاً بالسوريالية التي تشكّل الصور بكل جنونها وعبثيتها أحياناً وبكائها المضحك أحياناً أخرى، كما ترتئيها لا كما تراها، بشهادة شاهد عيان يقول في نصّ: »أمضيتُ سنوات الحرب العالمية الثانية كلّها أعمل طبيباً في الجيش البريطاني، يوماً لم أرَ مثل ما رأيته في 9 نيسان 1948، أوقفوا النساء والأطفال والشيوخ قرب جدران ودَرَزُوهم بالرصاص. قتلوا طفلَ أمٍّ شابةٍ بطلقة في الرأس، أُغمي على الأم وقُتلت بطلقة في الرأس وهي مغمى عليها. حُبلى بقروا بطنها بساطور. رجل كان يرتدي ملابس أمّه ولم يشفع منظره الذي أضحكهم. رشقوه بالرصاص، وأضرموا فيه النيران بحضور الصحافة«.
يتوزّع همُّ مسلماني على خطوط مستقيمة متوازية تلتقي في خفاء اللغة، لتصل إلى نتيجة مفادها الشعرية بامتياز، شعرية الصورة التي تقول بأن يكون للشعراء قلوب، وأن تحتلّ العصافير الكون بدلاً من الطائرات المقاتلة، بأن يكون هناك من يقول كفى للقتل، من يزرع البنفسج في جدران المدينة الفولاذية، ليتبرعم الأمل وتتفتّح زهرة الشعر، يقول مسلماني: »يترتّب أن تكون قلوبٌ/ أن تكون عصافير/ أن يكون من يقول: كفى/ أيها السادة/ لي فيكم بنفسج«.
هي خطوط شوقي مسلماني المستقيمة في اللغة، والتي لا تنتظر نقطة مَيْلٍ أو تحوُّلٍ في مسيرتها كي تقول في ثلاثة، هم الصديق الحاضر الغائب في النص الشعري، والأنا الذائبة في المشهد الشعري، والجماعة »هم«، متنقّلين من موقع عداء إلى موقع صداقة، وبينهما وقوع الأنا في التردّد ثم الكفر بما قالته الكتب وما بشّر به أنبياء المذهب. ويرسم مسلماني مشهد المجزرة التي ارتكبها الإنسان الحالي بعبقرية فذّة، تقسم العالم عالمَين؛ عالماً للمستعمرين المحتلين الفاتحين برعب قنابل نووية وأخرى ذكية وثالثة لا يكشف سترها غير الشاعر برؤاه الشفيفة حدّ النزف في علاقة تماثل بين قديمَين متجدَّدَين دوماً »بخارى - هيروشيما وجنكيزخان - ترومان«، وتعيد صياغة صورة لاشعرية بامتياز، لكنها أقرب إلى منطق الشعرية في استحالة السكوت عن الخلل في أكذوبة التسلسلية في القتل لا في سواه لدى بشرية معاصرة كشفت منذ زمنٍ عن وجهها القبيح، والشاعر »أول من رأى«.
هي حالة دفق النزف الوجداني الإنساني في أوردة اللغة التي تشبه الشعر كثيراً تكتب نص مسلماني ولا تقع فيه كثيراً، أو هي ردّةُ المعتقِد عن عقيدته في الانحياز ليبدأ الانزياح إلى ما هو أبعد، كي يتمكّن الرائي في الشيء من رؤية محايدة على الأقلّ؛ أقلّ القتل وعصبية الأعمى، أقلّ الجنون الذي يخنق الشاعر بلحم يتقاتل، ولا يسهر عضوٌ على عضو بالسهر والحمّى، كأن للشاعر هذه الريشة السحرية التي تُعيد ترتيب الكون بفوضى الاحتجاج ورؤى الناظر في الغيب، يقرأ في كفّ الرمل هذه الصورة التي يرى فيها أخاً يقتل أخاه منذ أوّل البشرية، ولا يسلم الأحدُ الفردُ من القتل أو أن يقع في أسر دوّامته، يقول الشاعر: »لحمٌ يمزّقُ لحماً/ حجرٌ يطارد حجراً/ تعومُ آمناً/ بين فكَّي القرش؟«.
إذاً هو الخطأ المرتكب قبلاً والآن ولاحقاً، في بنية وجودية تقارب البنية الشعرية، إشارةً وإفصاحاً، لا تلميحاً فحسب، فكل الجهات تشبه جهات أخرى يقيمها الإنسانُ، خرائب لوجود يحطّمه بيدَيه كطفل لا يُصاحب دميةً إلا ليحطّمها، مقيماً الخرائب للراغب في مزيد منها، وكاشفاً عن مدن من ذهب أقامتها حضارات الأزتك والأنكا والمايا فأثارت جشع المستعمر الإسباني، في أعلى السفح الذي يشبه كثيراً سفحاً وصفه محمود درويش في »لماذا تركت الحصان وحيداً«؛ سفحاً أتاح للمسافة أن تسكنه، وأن تُحيي فيه سكانها الأصليين الذين كما »حشائش نيسان التي قضمت قلعة نابليون على التلّ«، يقول مسلماني: »الخطأ يتأكّد يومياً/ كلُّ جهةٍ/ هي جهة خرائب«.
هذه الجهات تتقابل وتتضادّ، بعضها ينفي بعضها، لأن للضدّ حكايةً أخرى في وجه قاتله أو مقتوله، وكلاهما في القتل سواء، لأن واحداً منهما كان الضدّ الذي يقتل لمجرّد القتل، أما الثاني فكانت الصدفةُ قاتله، أو هي منطقية حالة القتل المستمرّة منذ الأزل، والباقية حتى الأبد، ضدّان هما الواحد الإنساني في طقوس الجدلية التي تربط بين الحياة الموت في وجوده، وهذا الضدّ يشبه ضدّه في أسبابه الخاصة، في الاستعارة النكرة لضدٍّ لا يقبل أل التعريف، بل ألف ألف سبب لقتلٍ واحدٍ في النهاية؛ نهاية الحكاية التي يسردها مسلماني في مجموعته هذه: »ضدٌّ يقتلك لأنك ضدّه/ ضدٌّ يقتلك لأنك على يساره/ ضدٌّ يقتلك لأن كلبه لم يستطع أن يعضّك/ ضدٌّ يقتلك لأن ملّته طلبت/ ضدٌّ يقتلك لأنك شجرة«. وبين الحكايات ذلك التسلسل السردي الذي يحكي، ليتّخذ الشاعر موقفه الراوي للأحداث، في مشهدية بانورامية تحكي تراجيدية هذا الوجود منذ الخطأ الأول في حالة إعجاب جنوني بقتل الشاعر في اللغة التي تفرض عليه ثوباً آخر هو ثوب الراوية، ربما لثواب الرواية في أسباب الخلق وتفسير الخطأ، بما يعنيه ذلك من غواية فلسفية أصلاً، وإغراء بدور الشاعر الفيلسوف والمفكّر، وإن حاول لغةً تشير إلى التجريد لكنها تُبقي على المنطق نصاً وروحاً، أو أحال سبب كل الخطأ على أمر غريب غير غواية الأنثى، وإنما غواية القتل، مقترباً بمحتوى المجموعة من البوح التلقائي لنفسٍ حانقة على التاريخ الحافل بالأخطاء: »آدم وحوّاء/ لا يزال الفشلُ قائماً منطقاً، تجريداً/ من مدن الطين إلى عُمد الفولاذ«.
يعرّج مسلماني على مسافة لسكان أصليين أقرب إلى كونه وعالمه لا مجازاً بل حقيقة، مسافةِ سكان أصليين هم الأهل، والأصدقاء، والأقرباء، ربما حدّ التوحد بذات الشاعر، ربما حدّ الإشارة باللون إلى الحزب والجماعة والطائفة التي تقتل الطائفة الأخرى ويُبارز بطلها بطل الطائفة الأخرى، في معارك دامية على طول جبهات الخطأ الذي سرده الشاعر منذ نصف تفّاحة يشبه نصف قنبلة انتصفت فتفجّرت ذراتها وانقسمت نواتها فصار الانشطار الثاني الكبير بعد الانشطار الأول، وكانت غواية القتل بعد غواية الأنثى: »الداء ليس في الحرب/ إنها فرع/ الداء في حياة عاشت وماتت/ وكثيرون يصرّون أن تظلّ محمولة على الأكتاف«.
عن صحيفة »الغاوون«، العدد 22، 1 كانون الأول 2009
الأربعاء، ديسمبر 16، 2009
كتاب: "التسامح ومنابع اللاتسامح" لماجد الغرباوي .. يدُ الأول أعــلى
شوقي مسلماني
تفكيك خطاب سوء الفهم، هو ما يطمح إليه ماجد الغرباوي في كتابه "التسامح واللاتسامح ـ فرص التعايش بين الأديان والثقافات" الذي صدر أخيرا في بغداد عن معهد الأبحاث والتنمية
الحضارية بالإشتراك مع المعارف للمطبوعات الحضارية، وكان قد صدر سابقا في طبعته الاولى عن: مركز دراسات فلسفة الدين / بغداد ضمن سلسلة "ثقافة التسامح" .
يتعمق الكاتب في مفهوم التسامح مقِرّاً بأنه يفترض يداً أعلى من يد لكنه في آن واحد مقيّد بالفهم المعاصر لناحية قبول الآخر كما هو، وعلى ما هو، ومن يكون، وأينما يكون، وعدم الإنقطاع في الحوار من مدخل التكامل وليس من مدخل الهداية التي تفترض أن الواقف على الضفة الثانية هو كافر، وليس إذا اهتدى فله، وإذا لم يخلع عنه الضلال فليس هو على ما لم يخلع، وحسابه هو في العالم الآخر كما جوهر الكتاب، بل يجب أن يستعد لحرب ضروس تسيل فيها النفوس.
يطل الكاتب على مفهوم المواطنة الذي يليق بالوطن الحق حيث الناس كأسنان المشط في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أي هوية أخرى بالوراثة أو بالإختيار، أي على عكس القبيلة مثالاً لا حصراً، التي لا تقيم وزناً للكفاءة وتُقدّم اعتبارات لا سلطان فيها لكي يتصدر المتصدرون، ومنها اللون والعرق أو الدم أو النسب.
يقف الكاتب من حديث "الفرقة الناجية" موقفاً، فهو لا يراه إلا موضوعاً ولا سوية فيه ويؤسس لاحتراب ظالم لا نهائي، وهو الحديث الذي لم يرد لا في خزنة صحيح الإمام البخاري ولا في خزنة صحيح الإمام مسلم، ويتطير منه العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله الذي يقول في معرض التطرق إليه: "لم يثبت عندنا صحة هذا الحديث من جهة السند فلا مجال للإعتماد عليه كما أن دلالته قد تخلق بعض المشكلات المعقدة باعتبار كل فرقة ذاتها بأنها الإسلام وغيرها الكفر أو أنها الهدى فيما الآخرون هم الضلال".
زبدة كتاب "التسامح واللاتسامح" هي نبذ العنف بكل أشكاله، وأخصّه الدموي. والحق أن الكاتب راسخ في ثقافته الإسلامية التسامحية حتى أبعد آفاقها ولا يخشى معها ومع الإسلام الحضاري ومع الله تعالى لومة لائم، ويقارب موضوعه بجلاء من أكثر من ناحية ولا تعوزه كفاءة الإستشهادات من الكتاب الكريم والسنّة النبوية الشريفة والصحابة رضي الله عنهم والتاريخ والوقائع ومنطق العقل المعاصر. إنما تبقى ركائز: هل النزاع هو حول النص المقدس أم في ما يمكن أن توضع اليد عليه؟ هل هو في التفسير والتأويل أم في تضاد المصالح؟ ما هو دور الإحتلال في تأجيج الفتن وانقلاب الحال إلى أسوأ منقلَب؟ وأسئلة أخرى يكون الجهد معها أيضاً في المحل العالي.
الأحد، سبتمبر 20، 2009
تسعون دقيقة مع الشاعر رفيق خوري
الحوار هو مع رئيس تحرير جريدة الأنوار الأستاذ رفيق خوري. والمحاوِرة وجهها مألوف وصوتها مألوف. لم أعرف إلاّ في آخر الحلقة التلفزيونيّة أنّها الإعلاميّة المخضرمة سعاد قاروط العشّي. وأنا بدوري تركتُ لبنان منذ ثلاثة عقود. ومياه كثيرة عبرت تحت الجسر، حتى قيل أنّي إذا رجعتُ إلى لبنان لن أعرف محلّة فيه، هذا في العمران، أمّا في الإنسان فحدّث ولا حرج.

الصديق والخصم معاً يستمعان وبالإستعداد ذاته لأي حوار سياسي يكون مع رفيق خوري، وليس هنا مجال الشرح، ولكنّي سمعتُ السيّدة سعاد تقول أنّنا سنقضي تسعين دقيقة مع رفيق خوري، وليس مع رفيق خوري الصحافي والسياسي، بل مع رفيق خوري الشاعر. و"نزْلة البرد" متمكّنة منّي. وأتنفّس من فمي. وعندي "كتابة" مستعجلة يجب أن أنجزها، ومحتار: هل أُنجِز عملي الكتابي أم أنام وأرتاح؟. والسيّدة سعاد منعتْ عنّي حيرتي. وصرّحتْ بما صرّحتْ. وقلتُ لذاتي: "نحن مدعوّان يا ذاتي إلى حلقة سيكون لها نكهة، المعلومة هي أنّ رفيق خوري شاعر وله باع في الشعر وسبق وغنّت له السيّدة فيروز".
وأنا عموماً مثلما أجد طرافة في أن يتحدّث الشاعر بالسياسة أجد طرافة في أن يتحدّث السياسي بالشعر. وقلتُ لذاتي: "لقد قرّرت ألاّ أكتب وألاّ أنام وأن أحتمل "نزلة البرد" وأن ألبّي الدعوة". وتململتْ ذاتي وقالت: "قرارك يعني أنّك ستحتاج إلى التركيز". وعاجلتُها بالمقاطعة وقلتُ لها: "شأني! وأنتِ ارتاحي".
ورجع التاريخ إلى الخمسينات والستينات من القرن الفائت أكثر ما رجع وحضر الأخوَان رحباني عاصي ومنصور وهذا يبدع في نغمة وذاك يُبدع في كلمة، والعكس صحيح. ويشهد رفيق خوري الذي كان صديقاً لهما أنّ حركيّة عاصي كبيرة، مع التأكيد في آن أنّه يرفض إجراء تفاضل بين الأخوين، فهما كلاهما ذروة. وتسطع أضواء في مسرح التاريخ على سعيد فريحة ومجالسه الليليّة التي لا شأن لها بالنهارات ومتاعبها وهمومها ومشاقّها وعنتها، ويحضر هذه المجالس كلّ من محمّد عبد الوهاب وفريد الأطرش الذي يُبدي الأستاذ خوري عاطفةً خاصّةً نحوه ووديع الصافي وأمّ كلثوم. وأعرف ولأوّل مرّة أيضاً أنّ سعيد فريحة الكاتب لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة، وأنّه تعلّمهما بعد شقاء. وتحضر جريدة النهار ومعها الأستاذ غسّان تويني. وتحضر نزاعات مجلّة شعر، التي كانت منفتحة، وخلافاتها مع مجلّة الآداب التي كانت ملتزمة. ويحضر أدونيس وسهيل إدريس وخليل حاوي.
وتسأل السيّدة سعاد عن حقيقة سبب إنتحار الشاعر خليل حاوي؟. وأصختُ. فالصديق الشاعر شفيق عطايا، وهو إبن عمّة الشاعر حاوي، سبق وحدّثني في لقاء عن الساعات الأخيرة في حياة حاوي، فهل سيتطابق جواب رفيق خوري في رحيل خليل حاوي الشاعر المثقّف كاتب دراسة قيّمة عن جبران خليل جبران وخرّيج جامعة كامبريدج مع ما سمعته من شفيق عطايا الذي قال أنّ سقوط بيروت في اجتياح 82 في قبضة الإسرائيلي لم يقبله عقل خليل حاوي؟. ورفيق خوري أضاف بالتساؤل: هل الأزمة العاطفيّة التي كان يمرّ بها خليل حاوي لها حصّة في انتحاره؟ وهل شعور حاوي، الذي كان يدعو الله أن يلهمه الصمت في الوقت المناسب بأنّه أعطى وليس عنده بعدُ له حصّة في انتحاره؟. ويعود خوري إلى الحديث عن اجتياح 1982 بإشارة ذات دلالة على رجحان في كفّة الإنتحار.
وتقول السيّدة سعاد أنّ رفيق خوري الشاعر الذي كتب عنه مرّتين الشاعر سعيد عقل وأصدر ثلاث مجموعات شعريّة منها "الزنبق والدم" و"غابة الحجارة" لم يستمرّ في رحلته الشعريّة الواعدة، وبالتالي فإنّه قصّر دون أمل سعيد عقل به. ويعترف خوري بشفافيّةٍ لوّنتْ كلَّ حلقة "من تاريخهم" ويسرد الأقدار التي شكّلت حياته ورمته إلى السياسة من طريق عالم الصحافة. ويذكر كيف كان يعمل سبعة أيّام في الأسبوع، ويوميّاً إلى الخامسة فجراً، وكم كان حجم المسؤوليّة، مثالاً لا حصراً، في نهار غسّان تويني. ويروي كيف في البدء كان يُطعّم مقالته السياسيّة بروحه الأدبيّة، مع تأكيد وبعد سؤال أنّ الصحافي عندما يكتب مقالة لا بدّ أن ينحاز، وهو يفعل ذلك ولكن بعلميّة لا بعصبيّة. ويرجع خوري ليقول أنّه نادم لجعلِ السياسي فيه ينفي الشاعر فيه، لذلك فإنّ آخر إصدار شعري له كان في أوائل الستينات من القرن الفائت، وينصح الآن الشعراء الشباب بألاّ يكرّروا خطأه. ولم تسأله السيّدة سعاد تفسيراً، وهو بدوره لم يتوسّع، ولم نسمع ماذا يعني السياسي وماذا يعني الشاعر؟ ولماذا بين السياسي والشاعر يقع إختيار خوري على الشاعر؟. وطبعاً ليس كلّ شيء يكون في حوار واحد. وتسأله السيّدة سعاد إذا كان الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل إليه في أحايين؟. ويبتسم رفيق خوري ويقرّر أنّ الشاعر المنفي فيه كان يتسلّل مرّات وهو سجّلَ تلك المرّات على مدى العقود الأربعة الفائتة وسيصدرها في كتاب قريباً.
وتحضر الثقافة من خلال الإقرار أن الآخر موجود والتفاعل هو في الأقداس. وتحضر المدينة في الدول النامية أو دول العالم الثالث وكيف أنّها ليست مدينة بل هي ريف، وكيف أنّ المدينةَ الإنسانُ فيها هو ذاته، وبالتالي هو مواطن تربطه بالآخر رابطة المواطنة، فيما الريف الرابط فيه الدينُ أو المذهب أو العائلة، والمختلف هو في الطرف الآخر، مع كلّ ما يعنيه أن يكون المرء في الطرف الآخر. ويجزم رفيق خوري أن المدينة العربيّة فاقدة للجوهر. وبالتفاتة فيها نظر ومؤثّرة في آن يقول رفيق خوري بعد أن يستعرض أسماء في الخلق الإبداعي لها مكانتها أنّ لبنان منظور إليه من الأحداث الجسام التي تلاطمت فيه منذ القرن التاسع عشر هو بلد مؤسف (لم يلفظ خوري كلمة مؤسف إنّما وحْياً بحركة من يده وهزّة من رأسه) أمّا لبنان منظوراً إليه من الفن والمسرح والشعر والمجالات الإبداعيّة الأخرى من دون نسيان الإعلام والصحافة فيستحق الإنتماء إليه بالإختيار، وبالمعنى العميق للكلمة. والأملُ هو قوس قزح الحياة.
Shawki1@optusnet.com.au
السبت، أغسطس 08، 2009
كلّ ممرّ سالك
1- كمال الزهايمر الأولمبي
نثار رسائل إلى السيّد جيكساو
مع تأكيد التسلم باليد من مكتب بريد الموتى
في مركز دماغ الميت
إلى الغرفة الشاغرة في الطبقة العلوية.
2- مجمل الصورة
الصورة في المجمل، هي على هذا النحو:
حياة وموت
أنت في غرفة الإنتظار عند الدكتور زهايمر
لمن الدور الآن؟
3- حياة ساكنة
من دون إنتباه يدور حول البيت مسكوناً بالألم
شبحٌ بجسم ينتظر أن يقدّموا اليه الطعام.
4- هل أنت جاهز؟
أهذه أنت يا أمّاه التي هناك؟
هل أنت هنا؟ أين أنت؟
آه من أنت؟
ـ أنا الدكتور
ـ الدكتور؟
ـ لا، أنا الدكتور زهايمر
هل تأتي؟
هل أنت جاهز أم لا؟.
5- اللعنة
قالت غاضبةً: "لا تهتم، الله قدير"
قلت لها: "آمل ذلك فهو مدين لي بحياة طويلة عريضة".
6- الأرق
انقضت عشر سنين والأرق على حاله
بلغ الأحفاد سنّ الرشد والأرق على حاله
لا بدّ أن تجرح الساعة جرحاً بليغاً
إنزع أذرعتها أنا لا أحتاج اليها
وبعدها رافقني في أرقي
هذا أرق تجربة الموت الوشيك.
7- يوثانازيا
يوثانازيا
جميل هذا الإسم
مناسب لهذه الفتاة الجميلة
كم بلغ عمرك أيّتها الصغيرة؟
بلغ 92 عاماً؟
آه.
8- المرأة الميشلين
"ليست هي أمّك"
قال الدكتور
فبدأت أدعوها: المرأة الميشلين
عضلات يديها ورجليها ضخمة ثدياها ضخمان
كم احتاج من علب المحارم الناعمة كي أجعل من المرأة الميشلين مومياءً؟
9- العمر متعب
أنت حقّاً غير موجود سوى في اعتقادي
مثل عقل مذنب تتعقّبني ليلاً نهاراً
أنا ذاتي أسندك، أخلّدك بأسطورة من صنعي
هل أنت موجود؟ ابتعد، صرصار في وجهي
بيت عنكبوت في شعري ولحيتي
ابتعد، إذهب إلى الجحيم، إذهب إلى النعيم
كل ممرّ سالك.
الاثنين، يوليو 27، 2009
شوقي مسلماني: التجريد هو وسيلة كي يصل الصوت

حاوره سليمان الفهد:
*** إذا تسأل من أنا في الظاهر؟ أنا لبناني من جنوب لبنان ومن بلدة كونين الحدوديّة، وفي كونين، وفي غرفة من البيت حضرتُ إلى هذه الدنيا في سنة 1957. هاجرتُ بعد حرب السنتين إلى مصر فألمانيا فأستراليا ولا أزال في أستراليا. صدرت لي مجموعات شعريّة: "أوراق العزلة"، "حيث الذئب" و"مَنْ نزع وجه الوردة"؟ تُرجم كلّ من الأوّل والثاني إلى اللغة الأنكليزيّة بفضل الدكتور رغيد النحّاس والأديب الراحل نويل عبد الأحد. أنشرُ في إيلاف السعوديّة والنهار البيروتيّة والقدس العربي اللندنيّة وغيرها من الصحف والمدوّنات العربيّة.
* من "أوراق العزلة» وحتى "مَنْ نزع وجه الوردة؟" مروراً بديوانك "حيث الذئب" ثمة فقدان. هل يستطيع الشعر أن يشكل بديلا؟ هل يمكن أن يعيد ما فُقِد؟.
*** الفقدان يبدأ منذ الولادة، يقال عن حقّ أنّ الموت يبدأ من لحظة الولادة، وأي فقدان مثل فقدان الحياة، إنّما هذا لا يمنعنا من التعبير عن أشكال الفقدان الأخرى، والهجرة إلى أوطان أخرى طلباً لحياة أخرى ولو مرغماً ولا حاجة للتفصيل باعتبار أنّ الإرغام كثير هي بحدّ ذاتها فقدان وفقدان عظيم، ولا شيء يعوّض عن الوطن الأمّ مهما بلغ المرء في الكونيّة، وخسارة الأصدقاء بسبب الموت أو بسبب التيه والإفتراق وما شابه هي فقدان، وأن تشعر بالعزلة التي لا بداية لأنواعها ولا نهاية أيضاً فقدان، وشبح كلّ ذلك يخيّم على ما أكتب، والحقيقة تُقال أنّي من هذه الناحية واقعي وأعرف أنّي نتاج هذه البيئة، ولا أخفيك إيماني بأنّ شعراً من دون فقدان قلّما أستسيغه.
* تبدأ مجموعتك الأخيرة "مَن نزعَ وجه الوردة؟" بتماه مع سيرة لتدخل في تقاطع معها، ما الذي دفعك الى هذا المنحى؟.
*** كلّ شعر وكلّ فن هو سيرة ذاتيّة على نحو أو آخر: سيرة ذاتيّة في الحبّ، وسيرة ذاتيّة في الغضب، وسيرة ذاتيّة في العقل، وسيرة ذاتيّة في الألم، وسيرة ذاتيّة في الذكرى، وسيرة ذاتيّة في ما تشاء، وبالتالي فإنّ التقاطع والتماهي تحصيل حاصل. وأنا بالمناسبة أؤيّد القول أنّ أجمل الشعر هو أصدقه لا أكذبه من حيث عمق المشاعر لا من حيث صور التعبير وأشكالها. ومرّة ثانية فإنّ الشعر الذي ليس هو إبن السيرة هو شعر لا يتعدّى الشفاه، وهو زبَد، والزبَد لا يمكث.
* هل يكتب الشاعر غيره؟.
*** يمكن للشاعر أن يكتب عن أي كان، حتى يمكنه أن يكتب بالنيابة عن شجرة من خلال تمثّل ربيع الشجرة وزهوّ الشجرة أو تمثّل خريف الشجرة أو انكسار الشجرة وحزن الشجرة بمعنى أنّ الشاعر عندما يكتب غيره إنّما يفعل ذلك للتعبير عن ذاته الأخرى. من هنا التلاوين في الأشعار. والشاعر مثلما هو ذاته هو الآخر لأنّه ليس معزولاً في جزيرة كحال حي بن يقظان التي استوحاها الغرب وهو يكتب القصص ويصنع الأفلام. أنا عندما أقرأ شعراً لا يحاكيني ولا يُخاطبني ولا يسأل عنّي أقول: سلاماً.
* ثمة غياب كثير للمكان والزمان في شعرك. ما الذي يعنيه لك المكان والزمان؟.
*** كثيرون لاحظوا أنّه يندر المكان والزمان في ما أكتب، إنّما أحد لم يأخذ ذلك عليّ، والسبب هو معرفتهم أنّهما مفقودان ظاهراً فيما هما حاضران باطناً، أنا أؤمن بقوّة أنّ ظلال مكان أو ظلال زمان هي في كلّ مكان وزمان، ومن هنا فإنّ التجريد مرّات وسيلة لكي يصل الصوت ـ الحالات التي ترسمها القصيدة ـ الكلمات التي تصرّح بها، ولكلّ شخص في هذا الكون المتعدّد والواحد في الوقت ذاته بالنهاية أسلوب وقبل الأسلوب توجد تجربه.
* لا إحالات تاريخيّة أو تراثيّة في "من نزع وجه الورد"؟ ولا في المجموعتين السابقتين هل في الإحالات ضرر؟.
*** لا أستطيع أن أخوض في موضوع الإحالات في الشعر، لكن أجزم أن الإكثار منها فيه خطر، قد لا أقول بجديد على اعتبار أنّ الزائد كالناقص، وهناك شعراء عُرِفوا باسم الإحالات. وإذا احتكمنا إلى المتعة التي يولّدها الفن، فإنّ الإحالات قد تلجم المتعة لانشغال المتلقّي بالبحث في التاريخ أو في التراث للوقوف على أبعاد النداء. وشخصيّاً أفضّل الفنّ الذي يُحيل إلى ذاته أي إلى عالمه الخاصّ ورموزه الخاصّة، الفنّ الكوني ومنه الشعر الكوني الحديث ينظر بعين الرضى إلى هذا المنحى.
****************

1 ـ جراد
إنّه الجراد
يترصّدُني
وشجرةٌ تبكي ملاكَها.
2 ـ على الحافّة
عنكبوت تحوكُ الشراكَ على الحافّة
موتى يسحبونَ الأحياءَ
مِنْ أرجلِهم.
3 ـ باب
هناك
في الصحراء
رعاةٌ يضيّعون قطعانَهم
ويضيعون
في الأحشاء حيث خطى
مشاها أوّلون كانوا أحياء حقّا
اللغطُ
أسماء
بين الصوتِ والصوتِ
صراخ
تعالَ
ادخلْ بي.
4 ـ الحفلة
جمجمة تضحك
في صحراء.
5 ـ الرصاصة لا تزال في رأسي
للحائط وجْهةٌ ثانية وثالثة
وعليه نعلّقُ الساعةَ أو اللوحة أو مفاتيح البيت
الليل له وجْهةٌ ثانية وثالثة
ووقتٌ محدّد
الليلُ الآن يبدأُ مع الفجر
الحربُ مكتظّةٌ بالحرب
والخراب
نصوِّب بعصفور يغرّد
لا بعصفور في القفص
نصوِّب بقوس قزح
دفترُ الرسم له وجْهةٌ محدّدة
وهي أن تحبَّ أكثر
دفترُ الرسم لا يحقِّرُ الدائرة
دفترُ الرسم مستطيلات ومكعّبات
علامةُ التعجّب يقين
أمّا الفكرة فلها وجْهةٌ ثانية وثالثة
للفأس أكثر من فكرة
مثل السكّين والرصاصة والقلم
السمكة لها وجْهتُها الخاصّة
للنسيان وجْهةٌ ثانية وثالثة
البحر له وجهةٌ ثانية وثالثة
وفيه سمكةُ القِرش
كالرملِ حيثُ العقرب
الحرف له وجهةٌ ثانية وثالثة
الطيرُ لا يَسقطُ من الشجرة
الطيرُ يُسقَطُ من صوته
السمكة لا تغرقُ في البحر
السمكة تُغرَّقُ في البحر
الخبرُ العاري عن الصحّة
الرصاصة التي لا تزال في رأسِي.
6 ـ الوهم
للتمويه
ظلٌّ مِنْ ضربةِ شمس.
7 ـ طريق معاكس
أحبُّ جبلاً
فأقع في الوادي
أفتحُ ذراعيَّ
فيلقاني السيل
أسألهُ الغرقَ
فتُمسِكُنِي يَدٌ
ألعنُها
فتتشبَّثُ بي.
8 ـ الجهة السابعة
للرحيل أسباب
والفضائح من تلك النتائج
يدي ولسانيَ عليك
رمادٌ وعينيَ وقلبيَ عليك
أوراقُ الجهةِ السابعة
البئرُ التي تصرخ، الكلُّ
الكلُّ عليك
أنا ما ترى وما لا ترى
أراكَ في الشارع
أراكَ نائماً
كلّي قدّامك
كلّي وراءك
كلّي على يمينك، على يسارك
فوقك، تحتك
وكلّك.
9 ـ رأسٌ كفيف
الشمس تضيء غزالةَ الطريق
النار تُطفِئُ لهيبَ اليباس
عينٌ ضيّعتْ أختَها ليستْ عينَاً
القبر حجارةٌ كثيرةٌ
ورأسٌ واحدٌ كفيف
في علبةِ الليل.
10 ـ غابة
كذلك الغابة
فيها يموتُ العشب
هكذا الغابة.
11 ـ معاً
الركضُ سباقٌ
مع الخطأ.
12 ـ ظنون
تقف على ثغرة
فترميكَ ثغرة
تقولُ حسناً
فلا يردُّ صدى
أهروبٌ، وعلامةٌ في المكوث؟
أمكوثٌ، وعلامةٌ في الهروب؟
تقف ولا تقف
ترمي ولا ترمي
تقول ولا تقول
إلاّ ظنّاً.
13 ـ ميْت آخر
المنارة
يدُ بحرٍ غريق.
14 ـ باب مغلق
النارُ امرأةٌ جريح
العتمةُ عينُ فقيه.
15 ـ فراق
نلقى يومَنَا
دائماً
بوجهٍ آخر.
16 ـ لهم جميعاً
لليل قمر
للصحراء عين
شمس
مسافة للحجر.
17 ـ الطاقة
واحد فقط من كلِّ مليون قال:
لن يمرّوا. قال: من هنا سيعبرُ النمل
والنملُ فقط
قالَ: للطاقةِ طاقة. نموتُ
إذا نموتُ مرّتين
مدنٌ كلُّها مدن
ومدنٌ سراب.
Shawki1@optusnet.com.au
الخميس، يوليو 23، 2009
أجراسُ داروين
كان يخطّ في دفتر
من سجلّ الحياة
ما لم يُخطّ
خمس سنوات تختصر خمسة مليارات من السنين
قُرِعتْ أجراسٌ: أيّها العالَم إنّك تتغيّر
الثابت هو إنّك تتغيّر
الثابت هو أنّ التغيُّر ثابت
جذْعٌ، أفنانٌ، غصون
أزهار، ثمار
شجرةُ عيد ميلاد
ومزيد من الملح على جرح
خمس سنوات
وهو يتمعّن بالأجنحة والزواحف
والأسنان والأنياب والهوام
والزهور والأشجار
ويخطّ في دفتر من سجلّ الحياة الكبير ـ القديم
تفاصيل دقيقة بأحرف كبيرة
التولّد الذاتي
النشوء، التطوّر، الشمس
الغذاء، الإتّصال ـ الإنفصال
الأصلح، الخيبة، الأمل
خمس سنوات ..
ويسجّل مِنَ السجلّ الأكبر في الدفتر
وفي الأسابيع الأخيرة من الرحلة
على متن "بيغل"
التي تمخر عباب الفضاء
انهمر ضوءُ لنظرة عميقة، بليغة، كريمة
مختلفة تماماً.
Shawki1@optusnet.com.au
الخميس، يوليو 09، 2009
مثلما تخرج الشجرة
1 ـ غزال آخر
لأنّ كوناً آخر في الرأس الآخر في رأسك
إنّما مع إقرار أنّ الشجر هو ذاته الشجر الذي تراه
الزهور التي تراها أيضاً هي ذاتها
والبحر الأزرق الجميل الرائع هو ذاته
والحَمام هو ذاته
ونهر الحياة المقدّس هو ذاته
لأنّ كوناً آخر في الرأس الآخر في رأسك
يجنح بك نحو كون آخر
تفرد جناحيك لقلب آخر
أنظف، أطهر
وأرقّ.
**
لأنّك ترحل في الأبيض وفي الأسود
وليس بالتأكيد اللون الأبيض واللون الأسود
إنّما الأبيض المسِمّ والأسود الملذوع والمُسَمَّم
لأنّك ترحل في الفوضى
فوضى اللاكمال بإطلاق
وحتى في رحيلك في فوضى رحيلك
لأنّك ترحل وحتى في غربة الغربة
هذا الوجوم على وجهك.
**
ولا تفتأ تخرج
ولا تفتأ ترجع
وليس أن تخرج من البيت
وأن تدخل إلى حانة
بل أن تخرج كما تخرج الشجرة
وكما يخرج البحر الأزرق الجميل الرائع
وكما تخرج الزهور
وكما يخرج الحَمَام
ولا تفتأ ترجع
بندوب.
2 ـ العين
ليس كلّ عين لها عين أخرى
تماماً كما تعلم أنّ ليس كلّ قلب فيه قلب
ومثلما تعلم كيف وأنت تتقدّم تتراجع
عين فقط ترى وأخرى ترى
إنّما فيها عين تقرأ وتفهم
وعين فيها عين فيها عين
عندها الحكمة.
3 ـ أرواحُ دخان
وفي دخانٍ أرواح لا تعدّ ولا تُحصى:
أرواح تدمع فرَحاً، أرواح تدمع حزناً وأسفاً
أرواح تمشي على الماء، أرواح حاضرة غائبة
أرواح شرسة لها أسنان، أرواح تزحف
وأخرى تمشي وأخرى تطير
وأرواح تصرخ بجنون
في دخان أرواح مكسورة
وكم مِن روح مطفأة
وكم من روح رماد بارد.
4 ـ وراء الطبيعة
كثيراً اجتزتُ الدربَ هذه:
اجتزتُها هارباً، اجتزتُها عابراً
اجتزتُها فاتحاً، اجتزتُها وأنا أحمل على ظهري ميّتاً
واجتزتُها وأنا راجع
كثيراً اجتزتُ الدرب هذه
وجميعهم معهم خبر
غير أنّ الأغلبيّة الساحقة راضية
بما عندها
والأقليّة
قلِقة.
5 ـ حتى
أورقتْ وأزهرتْ
زمجرَ وأزبدَ
بكتْ وذرفتْ دموعاً
اتّسعَ بلا نهاية
والموسيقى سلالم
والعطر أحلام
وجوهرة هي كلمة
أبعد من المكان.
Shawki1@optusnet.com.au
الاثنين، أبريل 20، 2009
ضوء آخر
شوقي مسلماني
1 ـ دمٌ منزلق :
بخفّةِ سمكة
ينزلق في الشارع
وبأبّهةٍ
يطيّر النظرات
إنّه دمُ الليلة الفائتة.
2 ـ عنزةُ البقاء :
شجرة درّاق تسرق درّاقتي
عنزةُ البقاء عند قمّة جبل
كي يبذغ الفجرُ مطمئنّاً
تشمخ .. كتمثال.
3 ـ كنزُ حياتي :
على مسافة مئات ملايين الأميال
كنزُ حياتي يصطاد
بيدٍ من قصب الضوء
تنهيدةً .. في نهرٍ يابس.
4 ـ مشعل :
النظرة!
الموسيقى
الإبتسامة!
الوردة
الجوهرة!
الشمس المشرقة
هذه .. قبضتك.
5 ـ الليل :
ليس سؤالاً
صديقٌ، نسمة
أُصغي للعشب، للصمت
للندى
بتفتّح
زهرة.
6 ـ لغة :
أسمع لأراك
أرى لأسمعك.
7 ـ حبّ :
عند خطّ الإستواء
الخطّ الأقرب إلى الشمس
القلبُ مفعمٌ بالحبّ
وفي ذروة الذروة.
8 ـ ضوء آخر:
حتى في الأعماق السحيقة
حيث العتمة
عيون
وضوء آخر
ينبض.
الاثنين، أبريل 06، 2009
ناحية ثانية
شوقي مسلماني
1 ـ
حبائل في الطريق
الشفرةُ بين اللحظةِ وبين اللحظةِ
وعندما تكون روحاً
وعندما تكون غباراً
بعيدٌ وقريب
قريبٌ وبعيد
المكسورُ الملتئم
والملتئمُ المكسور
يا سيّدَ هذا العدم
وعندما قلبُكَ مجروح
وتكونَ وفي آن لا تكون
ولئنّ "لئنّ" وإلى "إلى"
وعندما
تغرق مستسلماً.
**
وذهاب وإياب
وشجرة ورماد
وبين "بين" وفي "في"
وكلمة معتبرة وكلمة معتبرة
وكلمة عابرة وغابرة
ومع "مع"
والأرض تدور والمغزل يدور
وذهاب آخر وإياب آخر.
**
أينما كنت
حتى لو كنتَ في كلّ المجرّة في آنٍ
أنتَ في قلبك
أينما تكون في قلبك
أنتَ في المجرّة كلّ المجرّة في آنٍ
يا عينُ همّتْ بأن تذرف دمعة.
2 ـ
وتمضي: أقدام مكسورة وأقدام ثابتة
وأقدام متخفية وأقدام بلا أقدام
وتمضي: عيون كثيرة أسيرة وعيون حرّة
وعيون خلف عيون وعيون أمام عيون
وعيون لا تُرى بالعين المجرّدة
وعيون شرِّيرة وعيون طيّبة
وتمضي: أوجه مالحة وأوجه حلوة
وأوجه يائسة وأوجه منتصرة
وأوجه مسِمّة.
3 ـ
ولا تشرف على الجاذبيّة حتى
ترجع وتشدّك الجاذبيّة إلى تحت
وحتى "حتى" وحتى "فيما".
Shawki1@optusnet.com.au
السبت، فبراير 28، 2009
لم أقلْ شيئاً آخر
شوقي مسلماني
تعلّمَ زهرةً وغرسَ وردة
إلى سركون بولص
لم أصدِّقْ أنّ هذه الصورة هي للشاعر العراقي سركون بولص. إنّه متهدِّم كمَن بلغَ مِنَ العمْرِ عتيّا، وعهدي به، ومِنْ خِلال صوَر له في مواقع ألكترونيّة وصحف، ممتلئاً، عفيّاً. وأمعنتُ النظرَ بالصورة، ولأنّي لم أعرفْ مِنْ مواليد أي سنة هو سركون خمّنتُ أنّه تجاوزَ المئة حولاً، وأنّي بهذه الصورة قد ضبطتُه. ثمّ بعدَ فترة رأيتُ صورة أخرى له، والأصحّ أنْ أقول: شبحه. ثمّ علِمتُ أنّه في حرَج صحِّي. إذاً حقّاً لم يغشّني سركون بولص. ولأنّي على غير دراية بما يلمّ به، ألحقّ أقول، لم أجزمْ أنّ موعِدَ غيبتِه قد أزفّ. وقبلَ يومين مِنْ يومِ المفاجأة أخبرني الصديق الشاعر وديع سعادة أنّه سيتّصِل بسركون في ألمانيا. واتّصلَ، وحضر سركون. كان صوتُه عريض، إنّما منخور بالتعب. وردّاً على سؤال ما كان يجب أن يوجّه له قال: "لا أريد صلة بأي نظام عربي". وقصدَ السلطة في بلده على رأس قائمة القطيعة. والحقّ أقول، ورغم وجومي، لم يخطر ببالي أنِّي بعدَ يومين سأتذكر أنّها كانت المرّة الأولى أسمع فيها صوت صاحب "الوصول إلى مدينة أين" وما مِنْ أمل بسماعِه مرّة ثانية بعدَ أنْ بلغَ أخيراً مدينة "أين" ذاتها. وقلتُ للصديق وديع وقد صمتَ "الخطّ" بين أستراليا وألمانيا: "علينا البدء بالتحضير للقاء على إسم سركون وشِعرِه". لم أقلْ شيئاً آخَر. أوّل مرّة سمعتُ باسم سركون بولص كان مِنَ الشاعِر صاحب "واحِد مِنْ هؤلاء" جاد الحاج.
**
أوراقُكَ مِنْ كتاب
يأتي الأطفالُ إليه
مِنْ كلِّ أطرافِ مدينة "أين".
**
ومِنْ مسافة إلى مسافة
منذ وعيتَ أيُّها المسكوب مِنْ ضوعِ الفجر
وفي كلّ مسافة تتعلّم زهرةً وتَغرس وردة
والطريق صعود بلا نهاية
وتحتَ سماء لا ترحم
حتى توقّفَ الجسم عن اللِّحاق تماماً.
**
الأفق خطّ واحد وهذا هو البحر
وهذه هي الطيور وهذا هو الذي
يجب أنْ يعيش مئة بالمئة.
**
لا حاجة لهذه الجروح
لا لهذه الفوضى الدامية.
**
الخرافة كثيفة
إلى حدود انعدام الرؤية
إلى حدود تمزيق شبكةِ الأمان.
**
أُخِذَ القرار
حتى كلّ هذا الموت الرهيب.
أُخِذَ قبلَ أنْ تعي هذه التي تُحاك.
**
الأنبل هو أللاّ تكون حدود بين البلدان
الأنبل هو الفضاءاتُ الواحدة
الأرواح الواحدة
أمم العالم الواحد.
**
مثل ما لا بدّ أنتَ أيُّها الجمرة تحصي
وتحمل جبلاً على ظهرك.
**
المحلّ رفيع
يستحقّ الوفاء
نحنُ فيه جميعاً.
**
أولى أللاّ يقع الذي يحلّق عالياً
أولى أن يحلِّقَ عالياً دائماً.
**
ممّا لا شكّ فيه أنّ قلباً ينبض
لا شيء يستطيع أنْ يمنعَ صوتاً يُريد.
Shawki1@optusnet.com.au
الثلاثاء، يناير 20، 2009
الشجر مثلهم يموت واقفاً
شوقي مسلماني
1 ـ
لأنّهم رفعوا رايةَ دمهم،
لأنّ الشمس تزهر بأكفّهم،
لأنّ النسائم الرقيقة تزدهر ..
تخفقُ بها جنباتُ قلوبِهم الكبيرة
يا شمسُ أشرقي إلى أبد الأبد ..
من ناحيتهم البعيدة.
**
مثلما شمسان: الليل والنهار،
مثلما الريح تلوّن والماء يلوِّن،
يعانقون الشمسَ كما يليق بكلّ شمس ..
تداعبُ أناملهم ثمار الزيتون في بيّاراتهم القديمة
أولئك القديمون .. ولا يزالون يولدون أشدّاء
بزهر برتقال حبّهم لناحيتهم ..
مثلما شمسان: الشمس والقمر
مثلما هم لهم ناحيتهم وناحيتهم لهم ..
مثلما شمسان: هي وهو
ومثلما شموس تنظر بحسد
بحضرةِ شمس.
**
مثلما يليق الأزرقُ بالبحيرات الكبيرة والبحار،
مثلما تليق الخضرةُ ويليق البنفسجُ
ويليقُ زهر الصبّار الأصفر المبتسم
يليقون بناحيتهم ..
الناس الذين يموتون
كما قال مغنيهم
كالأشجار
واقفين.
2 ـ
الذين تشعّ الدموع على خدودهم
لمّا يفرحون ولمّا يحزنون
هم هؤلاء الذي يجرحون أيديهم
إذا لم يجدوا ماءً
لإحياء نبتة.
3 ـ
مرّات، يتصاعد دخان أسود
عندما لا تريد للجراد أن يمرّ
ناحيةُ أولئك الذين يصعدون ..
أولئك الذين يهطلون
مطراً شفيفاً.
الأحد، يناير 04، 2009
شوقي مسلماني: مشاريع لخدمة السلطان
ايلاف
أين المسألة؟ مشاريع في خدمة المثقّف؟ أم مشاريع لخدمة السلطان؟. مهرجانات ومؤتمرات وجوائز! لا بأس، لكن بشرط.. وهو ألاّ يبيع المثقّف ضميره.
المثقّف لا يفقأ عينيه ليعمل أنّه لا يرى كيف يتورّم السلطان ويجتاح المكان ولا يترك حيِّزاً. المثقّف لا يفقأ عينيه ليعمل أنّه لا يرى الوحوش من كلّ حدب وصوب مقبلين لنهب بلاده.
المثقّف هو أعلى صوت.. لا أخفض صوت. وإذا الآخر يقول بصدام الحضارات فلا بأس إذْ "يجترّ" المثقّف العربي "حوارَ الحضارات" إنّما عليه أوّلاً أن يدلّنا على حضارته في الحاضر لا في الماضي، فأين هي حضارة المثقّف العربي الآن؟ إنّها مقطّعة بإجرام داخلي وإجرام خارجي.
أي مثقّف هو الذي في "الجيبة".. أي مثقّف هو مثقّف "الكيروسين"؟.. أي مثقّف هو الذي يعطي ظهره ويتولّى من يفتك بأهله.
بالأمس القريب قال شاعر "لكم قطيعكم.. " فلنتمعّن كيف آخرون "يُلابطون" في ساقية لكي يوهموا أنفسهم أنّهم يخوضون اليمّ الأجاج المتلاطم الأمواج، أم أقول: عن وعي سافل؟.
الإشارة بإصبع الإتّهام لكي لا يكون اللصّ الأكبر وأعوانه، ها هنا المسألة.
السبت، يناير 03، 2009
البكاء على كتف الوطن ليحيى السماوي: هل الحياة مَهانة وتشرّد وسجون؟
شوقي مسلماني
الشاعر يحيى السماوي وأنا يقلّنا مركب واحد: "أستراليا" التي تقع في المقلب الآخر من الكرة الأرضيّة. نتهاتف ونتراسل منذ سنوات تزيد على العقد لكن يوماً لم نلتق إذْ تفصلنا مسافة يوم بالقطار. هو في "أديلايد" وأنا في "سيدني". كان المفترض أن تجمعنا مناسبة أدبيّة في "تمّوز" الفائت. أيضاً جرت الرياح بما لا تشتهي السفن وإنْ عوّضتْ بأن أقرأ في مجموعة "البكاء على كتف الوطن" وهي آخر إصدارات يحيى الشعريّة تعقب أربع عشرة مجموعة منها: "عيناك دنيا"، "قصائد في زمن السبي والبكاء"، "هذه خيمتي فأين الوطن" و"نقوش على جذع نخلة" كلّها تقريباً جامحة في رحاب الخليل المنسابة والهادرة والمستعيدة لصور وتراكيب لا تنضب مع عدم إغفال المستجد في المعاني.
ويتجوّل الشاعر يحيا في مجموعته الجديدة مثلما في بستان المواضيع، فيرقّ ويشفّ ويثور ويغضب: "أمرَ الهوى قلبي"، "يا هند"، "أوصيكِ بي شرّاً إذا خنتُ الهوى"، "كلّ عصر وله ربّ وهولاكو جديد"، "القتلى لا يحييهم الإعتذار"، "خليكَ في منفاك"، "مناشير ليست سريّة"، "الذئاب" وغيرها من القصائد التي عناوينها توطئة إلى آمال أو إلى آلام أو إلى أحلام أو إلى يأس أو إلى شمس فهو في الزمن الحاضر حيث: "لا الحسن البصري في مسجده / ولا الفراهيدي في مجلسه / ولا الفتى علي في المقام". حيث: "يحدث أن يُقتَل عصفور / لأنّ ريشَه / ليس بلون جبّة الإمام". حيث الدولة: "... تُقاد من سفارة / إن عطس السفير في مخبئه / أُصيبت البلاد بالزكام". حيث "أيجود بالعسل الذباب"؟. وحيث: "ما للنار تُثلجني"؟. وهو في زمن تُسبى بغداد مجدّداً على أيدي الأعداء الخارجيين والداخليين: اللصوص الكبار والصغار المسعورين على النفط والآثار والماء والنخيل والحضارة، ولذلك في خلفيّة قصائد كثيرة: "هولاكو" و"التتار" و"الأشرار" و"التجّار اللصوص" مثلما سؤال عن "المعتصم" و"الهلالي" و"سيف ذي يزن" و"عروة بين الورد" وغيرهم؟. وكم يزاوج الشاعر في نهج ثبّته سابق بين "هند" أو "ليلى" والأرض ـ الوطن، وكم يحاول أن يستقرئ الذات، فأين الخلل؟ أهو في الأنذال الذين استحكموا وبطشوا؟ وما هو العمل؟ هل حياة في الذل والمهانة والتشرّد وأقبية السجون والجوع والعطش؟ وما هو العمل؟ وهل بديل عن الغضب؟ هل يجدي العتاب؟ "لا تعتبن فليس يجدي بالأبالسة العتاب" أم في خيانة و"حاشا غصوني أن تخون جذورها" وهل بديل مرّة ثانية عن الغضب؟.
قصيدة "سادن الوجع الجليل" البائيّة التي تقع في 13 صفحة وقصيدة "خليكَ في منفاك" التي تقع في 7 صفحات عينا مجموعة "البكاء على كتف الوطن" المهداة "إلى فقيد المروءة ومكارم الأخلاق والأبجديّة الأديب العربي الشيخ عبد العزيز التويجري ... اعترافاً بكوثر علم. هو القائل : "أن يكون المرء ولو مجرّد عشبة في وطنه أثرى له من أن يصبح غابة في منفى فاتّخذْ من الفرات مداداً ومن السعفة قلماً واصنعْ لوحك من طين العراق واعلمْ أنّ أعذب الشعر أصدقه لا أكذبه".
الغلاف للفنّان عبد الله الشيخ. التنفيذ والطباعة: التلوين للتأليف والترجمة والنشر ـ دمشق.
هنا قصيدة من المجموعة:
سادن الوجع الجليل
عاتَبْتُ لو سمعَ القريبُ عتابي . .
وكتبتُ لو قرأ البعيـدُ كتابي !
وسألتُ لو أنَّ الذين مَحَضْتُهُم
وِدّي أضـاؤوا حيرتي بجوابِ !
وَعَصَرْتُ ماءَ العينِ لو أنَّ الأسى
أبقى بحقلِ العمرِ عُشْبَ شبابِ
وَأنَبْتُ عني لو يُنابُ أخو الهوى
بسخينِ أحداقٍ ونزفِ إهـابِ
وَتَرَنَّمتْ لــو لم تكن مشلـولةً
شفتي ... ومصلوبَ اللحونِ ربابي
كيف الغناءُ؟ حدائقي مذبــوحةٌ
أزهــــارُها ... ويبيسةٌ أعنابي
شجري بلا ظِلٍّ .. وكلُّ فصولـهِ
قيظٌ .. وظمــآنُ الغيومِ سحابي
طَرَقَ الهوى قلبي .. وحين فَتَحْتُهُ
ألقى به عصـــفاً وعودَ ثقابِ
حتى إذا كشَفَ الضحى عن شمسهِ
ألفيتُني ميتـــاً بنبضِ ثيــابِ
يتقاتل الضِـــدّان بين أضالعي :
عَزْمُ اليقــــينِ وحيرةُ المرتابِ
صُبْحي بلا شمــسِ .. وأما أنجمي
فَبَريقُ بارودٍ وومــــضُ حرابِ
روحي تمصُّ لظى الهجــيرِ وَتَسْتَقي
شفتاي من دمـــعٍ ووهجِ سرابِ
أرفو بخيطِ الذكرياتِ حشـــاشةً
خَرَمَتْ ملاءَتَها نِصــــالُ غيابِ
الدارُ بالأحبابِ .. ما أفياؤُهـــا
إنْ أَقْفَرَتْ داري من الأحبــاب؟
عابوا على قلبي قنــــاعةَ نَبْضِهِ
أنَّ الردى في العشــقِ ليس بِعابِ
أنا سادنُ الوَجَـــعِ الجليلِ خَبَرْتُهُ
طفــلاً .. وها قـارَبْتُ يومَ ذهابي
صـــوفيَّةَ النـــيرانِ لا تترفَّقي
بيْ لو أتيتُكِ حامـــــلاً أحطابي
قـد جئتُ أستجدي لظاكِ .. لتحرقي
ما أَبْقَتِ الأيـــــامُ من أعشابي
أنا طِفْلُكِ الشيـخُ ... ابتدأتُ كهولتي
من قبــلِ بـــدءِ طفولتي وشبابي
لَعِبَتْ بي الأيـــــامُ حتى أَدْمَنَتْ
وَجَعي .. وَخَـــرَّزَتِ العثارُ شِعابي
يحدو بقافلتي الضَـــــياعُ كأنني
للـحـزنِ راحٌ والهمـــومِ خوابي1
إنْ تفتحي بــابَ العتـــابِ فإنني
أَغْلَقْتُ في وجـــــهِ الملامةِ بابي
أهواكِ ؟ لا أدري .. أَضَعـْتُ بداهتي
وأَضــاعني في ليــــلهِ تِغْرابي
كلُّ الــذي أدريـــهِ أني بَذْرَةٌ
أَمّا هــواكِ فجـــدولي وتُرابي
نَزَقي عفيفٌ كالطـــفولةِ فاهدئي
أنا طفلكِ المفـــطومُ .. لا ترتابي
الشيبُ ؟ ذا زَبَــدُ السنين رمى به
موجُ الحيــــاةِ على فتىً متصابي
"ستٌ وخمسون" انتهين وليــس من
فرحٍ أُخيــــطُ به فتوقَ عذابي !
الدغل والزُقّــــومُ فوق موائدي
والقيـــــحُ والغِسلينُ في أكوابي2
أحبيبة الوجــــع الجليل مصيبتي
أن العــــراق اليومَ غاب ذئابِ
لو كـــــان يفتح للمشردِ بابه
لأتيتُهُ زحــفــــاً على أهدابي
وطويتُ خيمةَ غربتي لو أنهــــا
عَرَفَتْ أمانــاً في العراق روابـي
أوقفتُ ناعـوري على بستانِـــهِ
وعلى دجــــاهُ المستريب شهابي
عانَقْتُها فتوضَّأتْ بزفيرِهـــــا
روحي..وعطَّـــرني شميمُ خضابِ
كادت تَفرُّ إلى زنابقِ خصرهـــا
شفتي فـــــرارَ ظميئةٍ لشرابِ
سكرتْ يدي لمّــا مَرَرْتُ براحتي
ما بينَ موجِ جــــدائلٍ وقِبابِ
وحقولِ نعناعٍ تَفَتَّحَ وردهــــا
وسهولِ ريحـــانٍ وَطَلِّ حُبابِ3
لُذْنا بثوبِ الليلِ نَسْترُ شوقنـــا
من عين مُلتصٍّ ومن مرتــــابِ4
فشربتُ أعـــذبَ ما تمنّى ظامئٌ :
شهدٌ غَسَلتُ بهِ مُضاغَ الصّــابِ5
يا أيها المجنونُ – صاحَتْ- دَعْكَ من
تُفـــــاحِ بُستاني وَزِقٍّ رضابي
جَرَّحْتَ فستــاني فكيف بزنبقي ؟
فَأَعِــــدْ عليَّ عباءتي وحِجابي
حتى إذا نَهَضَ المُكِّبرُّ .....والدجى
فَرَكَ العيونَ ولاحَ خيـطُ شِهابِ
وتثاءَبَ القنديلُ ... وابتدأ السنـا
عريانَ مُلْتَفّــاً بثــوبِ ضَبابِ
صَلَّتْ وصلَّيتُ النوافلَ مثلَهــا
وبسطتُ صَحْنَ الروحِ للوهّـابِ
خوفي عليَّ – وقد تَلَبَّسَني الهـوى-
مني ...ومنكِ عليكِ يومَ حسـابِ
إنْ كنتِ جاحـدةً هوايَ فهاتِـني
قلبي وتِبْرَ عواطـفي وصــوابي
نَمْ يا طريدَ الجَّنتينِ معـــانقـاً
خالاًً يشعُّ سناهُ بين هضـــابِ
عَرَفَتْكَ مخبولاً تُقايضُ بالنـــدى
جمراً وكهفَ فجيعــةٍ برحـابِ
اصحــابَنا في دار دجلةَ عذرَكمْ
إنْ غَرَّبَتْ قدمـــاي يا أصحابي
جَفَّتْ ينابيعُ الوئــامِ وأّصْحَرَتْ
بدءَ الربيعِ حـدائق اللبــلابِ
أحبابَنـا ...واسْتَوْحَشَتْ أجفانَها
مُقَلي وشاكسَني طريقُ إيابــي
أحبابَنا عَزَّ اللقــــاءُ وآذَنَتْ
شمسي قُبيـلَ شروقِهـا بغيـابِ
أحبابَنا في الدجـــلتين تَعَطَّلَتْ
أعيــادُنا من بعــدكم أحبابي
ندعو ونجهل أَنَّ جُلَّ دُعائِنـــا
منذ احترفنـا الحقـدَ غيرُ مُجابِ
نَخَرَ الوباءُ الطائفيُّ عظامنـــا
واسْتَفْحلَ الطاعونُ بالأربــابِ
عشنا بديجورٍ فلمــا أَشْمَسَتْ
كشفَ الضحى عن قاتلٍ ومرابي
ومُسَبِّحينَ تكــاد حين دخولهم
تشكو الإلهَ حجارةُ المحــرابِ
ومُخَنَّثين يرون دكَّ مــــآذنٍ
مجداً ... وأنَّ النصرَ حزُّ رقـابِ
واللاعقين يد َ الدخيل ِ تضرّعا ً
لنعيم كرسي ٍ بدار ِ خراب ِ ...
جيف ٌ ـ وإنْ عافتْ عفونة لحمِها
أضراسُ ذئبان ٍ وناب ُ كلاب ِ...
وطنَ الفجيعة ِ والشقاء ألا كفى
صبراً على الدُخــلاءِ والأذنابِ
1 الخوابي : دنان الخمر وما شابه ذلك
2 الغسلين : ما يسيل من أجسام أهل النار.
3 الطل : اللذيذ من الروائح والنعم.
4 الملتص : مسترق السمع
5الحباب : بضم الحاء : الحب والود . وبفتح الحاء: ما يعلو الماء أو الخمر من فقاقيع. الصاب : نبت شديد المرارة.
الجمعة، يناير 02، 2009
عربٌ عبريّون صهاينة
شوقي مسلماني
مئات القتلى
وأكثر من ألفي جريح يا غزّة
40 كلم طولاً
و10 كلم عرضاً
مليون ونصف مليون فلسطيني
أعلى كثافة سكّانيّة في الأرض
غبارٌ
هذا "المجتمع الدولي"
350 كلم مربّع
واحة كرامة في 14 مليون كلم مربّع من الرمل
يا مليوناً ونصفاً
موتوا جوعاً وعطشاً ومرضاً وقتلاً
يا مليوناً ونصفاً
موتوا من أجل عظْمةٍ لمسعورٍ ومسعورة
مصر "أمّ الدنيا"
جفّ حليبها
مصر "أمّ الدنيا"
صارت أمّ إسرائيل
عرب عبريّون صهاينة
حرب بلا هوادة
ضدّك يا غزّة
يشترك فيها عرب عبريّون صهاينة
يا غزّة
"أونصة" دمك تُحسَب بالدولار الأميركي
يا غزّة غيفارا غزّة
يا غزّة الفجر الآتي
أمّةُ العرب
أسافلُها أخسّاؤها
أراذلُها متحجّراتها
وسخها:
حكّامها
إنّ العربي الجيّد
صار هو العربي الميت!
يا مومياءات العرب
يا سلاطين العرب
إنّ حذاء منتظر الزيدي
هو أشرف من أشرف أشرفكم
يا غزّة ..
من أقصى أعماق هذه العتمة
عليك السلام ..
عليكم السلام يا شهداء غزّة ..
يا شهداء فلسطين ..
دمك
يا غزّة ..
منارة.
Shawki1@optusnet.com.au
الجمعة، ديسمبر 19، 2008
شجرٌ وطين
(إلى الصديق الشاعر شوقي مسلماني)
سواء كانت حنجرتك نافورة صهيل
أو ساقية همس
فهي كأثداء أمّهاتنا الطيّبات
لا تُرضع السطور غير مداد الفضيلة
وكينابيع تندلق من تلقاء نفسها:
ينهض قلبك الطفل
ناسجاً من حرير نبضه
مناديلَ للعشّاق
خياماً للمشرّدين
وبيارقَ للذائدين
عن الوطن
يا واضح الغموض
ويا غامض الوضوح
ثمّة بين الشعر والنضال حبلٌ سرّي
كلاهما يحدِّق في تخوم الغد
وكلاهما جسرٌ ذهبيّ
يربط بين شجر الأحلام
وطينِ اليقظة.
الثلاثاء، ديسمبر 02، 2008
عصافير كوبري قصر النيل للشاعر ماهر الخير
كي تكون مروحة الشعر واسعة .. وكثيرة الألوان
ماهر الخير، شاعر مسكون بالحنين والحبّ والإمتنان للأمكنة التي احتضنته وتحتضنه الآن .. للناس الذين عرفهم .. وللحبّ الأوّل.
**
يستعيد الشاعر في مجموعته الجديدة: "عصافير كوبري قصر النيل" ـ 2008 ـ ذكرى القاهرة، فتحضر "الكباري" و"القباب" و"النيل" و"الحسين" و"خان الخليلي" تماماً كما يستعيد الغريب ذكرى حبيب .. فيحضر وجهها ولون عينيها وثغرها ..
إنّها القاهرة:
" ... منقوشة على جلدي
مثل نشيد هيروغليفي
...
لم يُكتشَف بعد" ص100
وكثيراً ما تحضر في آن مطارح حزينة هي في داخل الشاعر أصلاً موصولة بنشأة في مدينة منكوبة بالإهمال المزمن من جهة ومفتوحة على "البحر" والنزيف والهجرة من جهة ثانية.
وتحضر "الأمّ الحزينة"، ويحضر "جرح البحر" و"بكاء النهر" و"دمع المحار" .. و"طيرٌ كفّ عن الغناء".
**
من عناوين المجموعة الجديدة الصادرة في مصر ـ دار ميليت ـ والإهداء هو للقاهرة: "مقاهي الذاكرة"، "نزيف بنفسجي"، "في مهبّ الذكريات" .. وعناوين أخرى تشي بشاعريّة مثلما النهر في القصائد و"الأشجار" و"النرنج" و"البخّور" و"الحواري القديمة" و"نقوش المعابد" ومثلما:
"كان الصيّاد يصلّي ركعة الأحلام" ص60
ومثلما "اغتسل أوّلاً بماء العاشقين" ص64
و"أضمّك وأبكي" ص52
كي تكون مروحة الشعر واسعة.
**
صدر له ديوانان .. الأوّل: "عارياً تحت الشمس" ـ 1998 ـ دار الفارابي ـ بيروت.
الثاني: "شمس لقميص أزرق".
وقصائد مصوّرة: "بكاء الثلج" ـ جائزة تقديريّة من مهرجان الفيديو كليب الدولي ـ 2006 ـ و"تمزّق العصافير صدر السماء" ـ أوسكار مهرجان الفيديو كليب الدولي ـ 2004 ـ و"رسائل سريّة من بيروت" ـ 2000.
تنقّل الشاعر الخير بين طرابلس (مسقط الرأس) وبيروت وباريس والقاهرة وكانبرا العاصمة السياسيّة لأستراليا حيث يعمل قنصلاً في السفارة اللبنانيّة.
**
"سترى كيف من جلد الليل يولد النهار" ص140
"غنّيتُ له حتى نام ومضيت" ص16
"تفيض الكؤوس بدم العاشقين" ص66
وريش ملوّن كثير من سرب "عصافير كوبري قصر النيل".
Shawki1@optusnet.com.au
الأحد، نوفمبر 16، 2008
كي يفرد جناحيه
شوقي مسلماني
إنسان ما قبل حي بن يقظان المتولّد ذاتيّاً في جزيرة تثمر أشجارُها نساءً، دفعتْه إلى أمام غريزةُ البقاء، إنّما من ناحية ثانية، وهو الذي له طول وعرض وعمق، أي الأقاليم الثلاثة، كما يجب، فيمكن من صورته التأكيد أنّه بتعبير ابن طفيل مدرِك بالقوّة وليس بالفعل. ويمكن الإستنجاد بألف مثل ومثل، وبزيادة لا بنقصان، سوى أنّ الذاكرة تسعى أن تكون أمينة، فعندما تغمض عينيك تحتجب عنهما الألوان حتى تفتحهما من جديد. وهما مغمضتان يكون التعبير أنّهما مدركتان بالقوّة، أي أنّهما لا تبصران الآن، وحين تفتحهما يكون التعبير أنّهما مدركتان بالفعل، أي تبصران.
كان يعيش بقوّة الغريزة وصنوف الصدفة والحظّ، وفي آن مدركاً بالقوّة. فغياب كثيف يحطّمه ويلقي أستاراً على عينيه، لكنّي أظلمه إذا أنكرتُ طائر الفينيق فيه متململاً منتفضاً ولو على خسران غالباً.
كان متروكاً إلاّ من إشارات.
العدمُ، فكان، فهو متروك.
كان بين السمّ والأنياب، فهو متروك.
كان المُفتَرَس، فهو متروك.
كان من الجملة، فهو متروك.
بدأ وحده يختزن الأسماء ويشعل الحرائق ويبطش، فهو متروك.
ووحده حمل المبضع لكي يبلغ قدسَ أقداسه، فهو متروك ولا يزال.
الإستطراد هو أنّ ابن طفيل، للأسف، أجاز للأخلاق، ولو سامية، أن تنفي عدم الفارابي في ناحية من نواحيه. يجوز ألاّ ينقطع الرجاء غير أنّ الرجاء في الوعي والعقل والإدراك والعِلم. السؤال لم يخفت ولا انقطع منذ حيّ التامّ، ومنذ حيّ المدرِك بالقوّة والمدرك بالفعل.
أمّا الإشارات، فمن العناصر الأربعة كما اعتُمِد قديماً، فجسمانيّة بطول وعرض وعمق، وواجبة، ولا استغناء أو تجاوز ولو بقدر ذرّة، وإجازة التشديد لإجازة التأكيد بعد وقائع واستنتاج واستنباط. كلّ جسم متروك.
المدرِك بالفعل يرى الناهب المنهوب والمنهوب الناهب، والقاتل المقتول من سبيل لا حصر له والمقتول القاتل بسبيل لا حصر له. جسمانيّة هي الإشارات، فترى ولا ترى، وتسمع ولا تسمع، وتشمّ ولا تشمّ، وتتذوّق ولا تتذوّق، وتلمس ولا تلمس، وتعي ولا تعي، وكثيراً في الصدفة والحظّ، أو كثيراً في الخطأ الجميل، أم يجدر القول: الإنحراف الخلاّق والمبدع؟.
وأظلمه إذا أنكرتُه متوثّباً ولو إلى حين بعد سنين في الغشاوة، ولكن أيضاً في الإستبصار. الغشاوة إرث عمرُه من قبل حيّ، عمره من عمر عدم فبدء فحيّ، إلى استبداد قصّة، فثورةُ قصّة استبدّتْ، فثورةُ قصّة بدورها استبدّتْ. والإستبصار إدراك بالقوّة وإدراك بالفعل وحاجة ضدّ النقص وثورة على الإستبداد من أجل تأسيس آخر. الغشاوةُ دوران مع الدوران بلا زاد، حيث لا جذر ينفذ في الصخر، حيث لا قمر ولا منارة، حيث لا تجيد الحبَّ ولا يد، والرياح عاتية من جهةِ الجشع بإفراطِ أنانيّة، ومن جهةِ عماء ببُنى تحتيّة أساس وبُنى فوقيّة حتميّة ومظالم لا نهائيّة، وفي الذروة من الوحشيّة قتلى يوميّاً بالذلّ والتعب وكثرةِ الداء وندرةِ الدواء والبطالةِ والإستغلالِ والطبقيّةِ والمرتشين لكلمة، ومن جهةِ قصص صمّاء تضيق بالطرائف، لا تقرّ بتخثّرها أو ابتذالها، فيما الإستبصار أن تفيض، أن ترى ما وراء: ما جنس الألم؟ ما جنس الإنكسار؟ كيف الظلام؟ أين الجهة؟ كيف تستزيد؟ ماذا الفرد وماذا الجماعة؟ كيف الإفتراق يجمع والإجتماع يرتقي بالإصرار والجرأة؟ ماذا الخطّة؟ ماذا الإنعتاق؟ ماذا جهة المستقبل حيث الصراع مع الطبيعة لا مع إنسان آخر، حيث العمل الخالق نزهة لا منّة وحبّ لا جبّ؟. كان يسعى بسلاسل حديد وإدراكٍ أقل ـ أدركََ ولم يدرك، حاولَ ولم يحاول، اجتهدَ ولم يجتهد. الإدراك بالقوّة فيه أخضر كثير، فيه زهور كثيرة، تكافل كثير، كلّ إسم رفيع، إنّما تلك الصخرة، وإنّما تلك المطرقة ترتفع".
وأظلمُه ظلماً لا مزيد عليه إذا أُنكِر الآن أن الفينيق لكي يفرد جناحيه ـ آمال باتّساع الدنيا. مدينة رقيقة كونيّة. انتصارات أكيدة على جبهة الغد. إدراك بالفعل، ونكفلُ أن نعالج زمن الحصاد الوفير".
Shawki1@optusnet.com.au
الاثنين، نوفمبر 10، 2008
فيديو كليب: ولكن لم يُهمَلوا
شوقي مسلماني
"إذا كنتُ حماراً، وأنتَ أخي، فبأي شرع وعقل يا أحمق، ويا أخرق، ويا أصفق، تتسلّل على حين غرّة، ومن دون أن يرفّ لك جفن تطعنّي في ظهري"؟.
هذا هو سيّداتي سادتي فحوى الأغنية التي شاعتْ ولا يملّ سماعها الكبير والصغير والمقمّط في السرير.
وقال الراوي أنّ لهذه الأغنية قصّة، وهي باختصار شديد ما عليه من مزيد قصّة حمار يقع في غرام أتان لديها من المفاتن الكثير، وهو غرام أين منه غرام قيس ليلى، أو غرام جميل بثينة، أو غرام كثير عزّة، أو غرام عنترة عبلة، أو غرام روميو جوليات. ولكن إذا هؤلاء صرّحوا بلواعجهم فإنّ حمارنا آثر الكتمان، حتى بعد فترة، وبسبب من انحباسه واختناقه في ذاته بدأ عقله يلعب به، ويجذبه ذات الشمال وذات اليمين، ويرميه على بطنه ويلقيه على ظهره، ويجعله يتوهّم، ويرى ما ليس موجوداً. ومثلاً: رأى حوض زهور، فقصده، وما أن جاوره حتى رأى أنه ليس حوض زهور، إنّما هو أتان صاحبة الحسن الفتّان وسالبة عقله تستلقي. فارتعدت مفاصله، فهل يعقل أن يلتهم من لا يحب سواها؟. وفكّر، وقلّما هو يفكّر، أنّه حتى لو كان هو الغول فإنّ الغول لا يلتهم غولته. وهكذا تراجع عن حوض الزهور. ومرّة، استبدّ به العطش، وما أن رأى جرن ماء حتى أقبل يعدو، وهو عنده، ويهمّ أن يشرب، رأى وجهه معكوساً، إلاّ أنّ عقله أوهمه أن هذا الوجه ليس غير وجه أتان التي تستحم، وغطست لمّا رأته يهرع إلى ناحيتها لكي لا يراها عارية، فاتّسعتْ عيناه ذعراً، ورأى كيف، وهو ينظر إليها، قد اتّسعت عيناها ذعراً أيضاً. وتراجع خجِلاً ومرعوباً في آن من أن تكون ظنّت أنّه قليل الحشمة ومصاب بالبصبصة. وولّى هارباً لا يلوي على شيء. وهكذا بعد فترة فقدَ الشهيّة، وقلّما يأكل أو يشرب، وبدأ يفقد وزنه حتى صار جلدة وعظمة كالمصاب بمرض النحافة ـ أنيروكسيا.
وفي يوم، وقد شارف أن ينفق، وفيما كان ساهما في البريّة، دخلتْ روحه على خطّه وقالت له: "ماذا جرى؟ ها، إذا أنت تريد أن تنفق فأين سأذهب أنا؟ يا حبيبي خذ الأمر بالرويّة، ألا يجدر بك أن تصارح أتانك؟ ماذا ستخسر يا حبيبي إذا صارحتها؟ فإذا رأيتها تهشّ وتبشّ فاعلمْ أنّك قد نلت مرادك، وإذا رأيتها قد عبستْ فستعلم أنّها ليست لك".
فقال لها، وقد قطّب ما بين عينيه، وهذا أقصى ما يستطيعه، بسبب ضعفه: "لو أعلم متى ستعقلين؟ هل تظنّين بما تخرفين أنّك بلغت شأواً في العقل؟ إفترضي أنّي صارحتُها، ثمّ أعلمتْ إحدى صديقاتها بما سلف اتّجاهها وبما سلف اتّجاهي، وربّما فقط من باب الثرثرة، أو ربّما فقط من باب المباهاة، وربّما لترسل رسالة إلى جحش هي مغرمة به ولكي تنبّهه أنّه إذا كان مغمض العينين فعليه أن يفتحهما، وتعلمين أنّ السرّ إذا جاوز الصدر شاع، وحينها سيصل إلى عزول، وهذا بالتأكيد لن يرحمني، سيهرع من إسطبل إلى آخر، ومن مربط إلى آخر، ومن حظيرة إلى أخرى، وحتى من بيت إلى آخر، ويقول مضيفاً من عندياته أن أتاناً قد رفضتني لأنّني حمار مدسوس، ويؤكّد إثباتاً لتجنيه بأن نهيقي رخيم وليس منكراً، وأنّ حوافري ليست من صخر الصوّان، بل هي حزوز جبنة لافاش كي ري ـ البقرة الضاحكة، وأنّ ذيلي ليس شديداً، بل أضعف من محرمة كلينكس. وسيصدّقه بكل تأكيد كل من له عندي ثأر. وستقرع العجائز حوافرها وتقول: "كيف لم نكتشفه؟ كيف إستطاع أن يغشّنا كل هذه السنين"؟. وسيسمع الأطفال، وسيلاحقونني في الأزقّة وهم يهتفون: "أَهُوْ أَهُوْ، إلمدسوس أَهُوْ". وساعتئذ، يا أفلاطون وأرسطو روحي أوّل ما سألعنك، وألعن الداية التي سحبتْ رأسي، وسأتمنّى أن تقبل الضبع أم عامر وتمزّقني، وتطحن عظامي، أو سأتمنّى مثل المحرومين من أوطانهم، أو المحرومين في أوطانهم، لو تنشقّ الأرض وتبتلع اللصوص، أيضاً تنشقّ وتبتلعني".
وبينما كان الحمار يلوم روحه وهي تلومه، ويستهزئ بها وهي تستهزء به، ويعنّفها وتعنّفه، ويتّهمها بالجنون وهي تتّهمه بالجنون، وينتف شعر رأسها وتخرمشه، ويصفعها فتبصق بوجهه، ويتوعّدها بالطلاق فتقول له: "الكلب المسعور أفضل منك"، وإذ أتان مقبلة وهي ترقص "عالدقّة ونصّ" وتحاذيه حتى يلمس بطنُها العامر بطنَه الضامر. وتتجاوزه، وتقف، بعدما تجعل دبرها عند أنفه، وينظر، ويفرك عينيه لكي يتأكّد أنّهما لا تضحكان عليه، وينظر، ثمّ يفركهما، ويرفع قائمتيه الأماميتين ويضرب وجهه كأنّما ليتأكّد أنّه في علم وليس في حلم، ثمّ يقول لروحه: "إنّها أتان، أنظري ما أجملها، أنظري إلى أذنيها إنّهما تبزّان طولاً أذني كوكب الجوزاء، أنظري إلى بطنها كأنّه منطاد، أنظري إلى وبرها إنّه يلمع من الشبع، أنظري إلى قوائمها الخيطان وحوافرها الكشاتبين".
ويتنشّق الحمار الهواء، وينهق، والسرور والحبور يغمران وجهه: "أتان تحبّني، تموت بتلابيبي، إنّها أتاني وأنا خيّالها".
وعوض أن يتقدّم يتراجع، ويقف لا يحرّك ساكناً. وتقول له روحُه: "إنّها أمامك على طبق من ذهب، لماذا تتأخّر"؟.
فيقول لها بإستخفاف: "أسكتي، الكلّ يتكلّم إلاّ أنتِ. ألم نجاور معاً الإنسي؟ هل عمّر الإنسي ما عمّر إلاّ باللف والدوران؟ أنا قرّرت مثل الذي في تلك الناحية أن ألفّ وأدور. سأرسل ربعي إلى ربعها لكي يقولوا بعد طوفان من اللفّ والدوران أنّي حمار أحمل على ظهري أثقال الدنيا وأبداً لا أتذمّر. وكذلك ربعها سيلفّون ويدورون ويقولون أن أتاناً سيّدة الأتن. وسيقول لي أصدقائي: "مبروك". سأقف، وفي رقبتي رسن، وهي ستقف إلى جانبي وعليها بردعة، بينما قبضات من الشعير تنهال علينا. وستغزل في الجوّ محارم، فيما حوافر تدكّ الأرض ولسان الحال يقول وعمر المحترمين يطول: "لا نزال هنا وسنظلّ هنا". وأنتِ تعرفينني، فأنا أكثر ما أكره إطلاق العيارات الناريّة. وسأطلب من جميع الحمران أن يكتموا، وأنا على يقين أنّهم سيستجيبون لي".
وقال الحمار لروحه وقال، وبدورها حاولت أن تلجمه عن الكلام وإضاعة الوقت، حتى أخيراً اتّهمتْه أنهّ يهذي. واشتبكا، وشتمها وشتمته، وقال لها: "يا خنزيرة". فقالت له: "يا خنزير". وهجم عليها، فرفعت بوجهه سكّيناً، فيما أتان كانت في مكانها تنهق، والحمار مشغول لا يسمع.
وجرى منها جدول. ونبت العشب، وازدهر، وذبل، واصفرّ، ويبس وتلاشى، والحمار ليس هنا. حتى من لا مكان برز إلى الميدان جحش إسمه: "جحشان" وقيل: "حماران" له خمسة قوائم وهجم على أتان.
وفاضت القدور، وغرّد العصفور، واختلطت أرواح بأرواح، ونهض من بين النيام كرّ يُدعى كرّان، وتوعّد كوكب الأرض بالنهيق والبعر بعد تسعة أشهر.
وفي اليوم التالي، وعند بعض الماء، وقعت عين الموتور على عين الواتر وقال: "ها، أنا أخوك، كيف أيّها الخائن تخون؟. هل فيك ضمير؟. أعطني سكّيناً أريد أن أقتل نفسي".
وسمع رعاة، وتسامروا في العشيّات، وضحكوا حتى تفحّصوا الأرض بأرجلهم، ومنهم سمع ركبان، وهؤلاء أوصلوا إلى أبعد البلدان، وتأثّر شاعر، وأعطى ما نظمه، بعدما أنقص وأضاف، إلى ملحّن خيّط لحناً. وقصدا، بعدما استعرضا المطربين والمطربات والمغنّين والمغنّيات والمؤدّين والمؤدّيات غنّوجةً من الغنّوجات الفرعونيّة العينين، التفّاحيّة الخدّين، العبليّة الزندين، المضمومة من فوق إلى تحت. فاشترت. وعملتْ "فيديو كليب": تنهّدت وتأوّهت وتشخلعت وتثنّت ورقصت ولعبت كرّة السلّة وكرة القدم وجيدو وكاراتيه وتاكواندو والمصارعة الحرّة.
وخلبتْ ألبابَ الملايين، وأكثر ما خلبت ملوكاً ورؤساء صلموا الآذان وجدعوا الأنوف وثملوا العيون وقطعوا الأيدي والأرجل وأُمهِلوا، ولكن لم يُهمَلوا.
Shawki1@optusnet.com.au
الثلاثاء، أكتوبر 21، 2008
مِن دون شكّ: يذهب بعقل الفيلسوف
شوقي مسلماني
رأى حمار، وهو مسؤول عن محلّة، في منامه، أنّه ملك كامل الأوصاف: تاج، عرش وصولجان. طار من الفرح. ثمّ رأى موكباً مهيباً من حمير الزرَد يشيّع جنازة على إيقاع طبول وصنوج. وسرعان ما استيقظ وكلّ فرائصه ترتعد. وبعدما رشف جرن ماء والتقط أنفاسه حاول أن يفسّر المنام. لكنْ لم يخلص إلى نتيجة. وأخيراً انتبه، وهو قلّما ينتبه، أنّ له أعواناً، فلماذا لا يطلبهم ويستأنس بعلمهم، خصوصاً أنّه سمع مَن قال أنّ العاقل هو الذي يضمّ عقول الآخرين إلى عقله؟.
ولم يصبر، وهو المشهور بطول الصبر، حتى تشرق الشمس، بل أسرع إلى نافذة تطلّ على جميع بيوت المحلّة الغارقة في الظلام، ونهق قائلاً: "ها، يا أعيان ووجهاء المحلّة هبّوا من رقادكم واحضروا من فوركم".
ولمّا لم يشتعل ضوء في بيت نهق من جديد مع جرعة زيادة. وأيضاً من دون فائدة. ففتح حنفيّة النهيق على نحو غير مسبوق حتى أقلق الريح التي أسرعت تولول وتنتف أوراق الشجر ولسان حالها يقول وأعمار الكرام تطول: "إرحمونا، الدنيا ليل، وفي البيوت صغار ومرضى وشيوخ نائمون".
والحمار كأنّه ليس هنا، وأعوانه لم يهبّوا.
وكرّر ... واحتشدت الغيوم في السماء ولسان حالها يقول: "ما الخطب؟ ماذا أصاب المحلّة"؟.
وتململ بركان، وزفرَ الدخانَ. ولمّا لم يرعوِ الحمار عن النهيق المنكر، انفجر، والشتائم أطلقها حمماً على رأس كل إبن حمار، وبعض الحمم سقطت على غابات فأضرم فيها النيران التي لم تنطفء إلاّ بعدما انتحبت السماء. ثمّ بلغ السيل الزبى، وجرف في طريقه إلى البحر كلّ ما لم يقم على الصخر.
وأخيراً إستيقظ الأعوان من سباتهم العميق، وطاروا إلى كبيرهم من دون أن يغسلوا وجوههم أو حتى أن يجلدوا الذباب المتراكم عليهم، ووقفوا في صفوف أمام حضرته، ونكّسوا رؤوسهم كأنّما عالمين بذنبهم، فيما هو يتفرّس غاضباً بهم، حتى أخيراً حرّك أذنيه وذيله وسألهم مغمض العينين إذا فيهم من يجيد قراءة الغد؟.
فنكّسوا رايات رؤوسهم، ما عدا أسنّهم الذي كان يلتهم ورقة ملفوف، فقد رفع قائمة وقال: "أنا".
وبعد أن قصّ الحمار منامه قال للمسنّ: "إذا أجدتَ التفسير وهبتكَ كيس شعير ومخلاةَ ذرةٍ بيضاء".
وأعملَ المسنُّ عقلَه، وهو قلّما يُعمِل عقله، ولاحظ، وهو قلّما يلاحظ، أنّ شيئاً ناقصاً في المنام ولا بدّ من إستيضاح. فقال: "أيّها الكبير، إنّ في المنام فجوات ولا بدّ من ردمها. ها، هل كان العرش والصولجان والتاج من الأبنوس والذهب والأحجار الكريمة أم من قصل الشعير وغيره من النجيليّات"؟.
واستهجن الحمار أن يسمع ما سمع، وخامرته الظنون وساورته الشكوك أن يكون المسن يستهزئ به فانفجر قائلاً: "ما هذا السؤال يا هذا"؟.
واهتزّتْ قوائمُ المسن. وعلم، وقلّما هو يعلم، أنّه في ورطة.
وأحنى رأسه وقال: "أنت الكبير، وأنا حقير الشأن، أرجو أن ترأف بي".
وأجهش بالبكاء. وعلم الحمار أنّ المسن طيّب القلب، ولم يقصد إلاّ الإستزادة في المعرفة. وقال: "بل كان العرش والصولجان والتاج من الأبنوس والماس والذهب والعقيق والسفاير والكورباء والأوبال، ومن جميعها تشعّ أنوار تقصّر دونها أنوار الشمس".
ولاحظ الحمار أن المسن لم يفرح بما سمع، فتقاذفتْه الظنون والشكوك، ولكنّه عضّ على الجرح وقرّر، وهو قلّما يقرّر، أن يمدّ له الحبل حتى تتراكم ذنوبه ويأخذه بها مجتمعة.
وسأله إذا كان لديه سؤال آخر؟.
فسأله المسن، والعرق يزخ من جبينه خوفاًُ من أن يكون الجواب من نوع الجواب الأوّل، فهذا يعني أن ما يظنّه قد يكون عين الحقيقة: "هل كانت الطبول والصنوج تعزف لحناً فرِحاً أم كانت تعزف لحناً ترِحاً"؟.
ونقز الحمار، وفكّر في أمر وقاحة المسن الذي يستعجل العقاب لينزل به الآن وليس غداً. غير أنّه آثر الصبر.
وقال للمسن على مضض: "كانت الأنغام فرِحة لا ترِحة".
ولمّا لاحظ أنّ المسن عليه علائم الإستياء أردف وقال له وهو يكزّ على أسنانه: " آمل أيّها المسن ألاّ يكون هذا الجواب أيضاً قد أزعجك".
واعتذر المسن، عالماً أنّه في واد وأنّ الحمار في واد، وأنّ البلاء المحدق يقترب ويكاد يأخذ بأعناق العباد.
فعذرَه الحمار، وخصوصاً لمّا رآه يقع ويقبّل حوافره قائلاً: "لا تظن بي الظنون أيّها المبجّل، فأنا فقط أسأل بحدود السؤال، ولم تزلّ قدمُ اللسان الذي هو من بعض علمك".
وقال له الحمار: "لا بأس، وإذا بعد في بطنك سؤال فاسألْ على أن يكون السؤال الأخير، وبالمقابل خذْ حذرك ولا تخرج عن نطاق الأدب وإلاّ فإنّي لن أغفر لك، وسيكون لك حافر ينزل على أمّ رأسك. هيّا إنهقْ بما عندك".
وسأله المسن السؤال الذي من هوله جعل الحمار يُصاب بفالج من شدّة عزم قذيفة انطلقتْ منه وأحدثت فتحة في الجدار: "هل كانت الجنازة، أيّها الكبير بتمام أخلاقك وعظيم رأفتك بخدّامك، لميْت أم لحي"؟.
وكان الحمار يتوقّع سؤالاً مثل سابقيه، وهو قلّما يتوقّع، أمّا مثل هذا السؤال الذي لا أب ولا أمّ له فهذا من المستحيلات، ولذلك هَوى من شاهق نحو صخور المفاجأة المسنّنة، وكان منه ما سبق.
وزفر وشهق، حتى ارتجّت أركان المكان وتشقّقتْ مطارح في السقف وسقط رمل.
وقال للمسن: "ها، أنت أيّها الحقير عين من الأعيان أم صبي من الصبيان؟. حتماً إنّ الملفوف يذهب بعقل الفيلسوف، فكيف أيّها المخرِّف إذا كان العقل هو عقلك؟. ها، ماذا في رأسك؟. أنطقْ، هل بلعتَ لسانك؟ هل أنت مدسوس علينا؟ مَن بعثك إلينا؟ إعترفْ، أيّها المنتن، كيف تكون جنازة لحي؟. متْ من قهرك، واعلمْ أنّ الجنازة كانت لميْت".
وما أن لفظ الحمار كلمة "ميْت" حتى أخذت عينا المسنّ تغزل في محجريهما. حتى أخيراً وقع كلّه على الأرض مغميّاً عليه.
ورأى الحمار ما رأى، وهو يلهث من الغضب، ونظر صوب الأعيان، وهو يهمّ أن يقول لهم شيئاً، فإذا بهم جميعهم نيام، حتى أنّ بعضهم، وخصوصاً أولئك الذين في الصفّ الأوّل، يشخرون. وتفرّس بهم غضباً. حتى أخيراً حرّك أذنيه وذيله على نحو خاطف، ولسان حاله يقول، وأعمار الأعزّاء تطول: "لو كان لي أعوان غير هؤلاء لما كنتُ أنا".
وأفرخَ روعُه، والتفت إلى الحاجب، بعدما رأى حركة في بطن المسن، وقال له: "إذهبْ واجلبْ دلو ماء وقبضة غذاء".
وفعل الحاجب.
ثم قال له الحمار: "صبّ الدلو على رأس المسن، وإذا رأيته يفتح فمه لقّمه قبضة الغذاء".
وفعل الحاجب.
ونهض المسن.
وبعدما قضم ما في فمه، ولعقَ بلسانه قطرات ماء لا تزال تنزلق على رأسِه، قال للحمار الذي يبتسم كأنّما يشجّعه على الكلام: "لماذا أيّها الكبير رأيتَ العرش والصولجان والتاج من الخشب والمعادن والحجارة؟. فهل أنتَ أو نحن نقتات مثل هذه الأشياء؟. ولو رأيت ما رأيت من القشّ لالتهمتََ منه والتهمنا نحن أحبابك شيئاً منه معك. وهل كان الذين سبقونا أكثر إدراكاً؟. حتى آلهتهم جعلوها ممّا يُؤكَل، واطمأنّوا وسكنوا وتورّدتْ خدودهم. ولمّا أصابتهم المجاعة افتدتهم وقدّمت أبدانها قرابين. ولماذا أيّها الكبير رضيت أن تعزف الطبول والصنوج ألحاناً فرِحة؟. فالفرِح للفرِح والترِح للترِح، أمّا وفرِح لترِح فثانية الأثافي. إمشِ في أزقّة المحلّة وسترى أيّ حال هو حالنا منذ كانت الأرض ومنذ كنّا، فهذا يفترسنا وذلك يقول لنا: "هش" و"حا". وكيف تقبل أيّها الكبير أن تكون الجنازة لميْت؟. ألا تدري أيّها الكبير، يا حامل السواطير، أنّ الميْت هو الذي مات عن خلف قليل، وأنّ الذي يموت عن خلف عظيم هو حي؟. أيّها الكبير، أريدك أن تعلم أنّ منامك نذير شرّ مستطير، فلن يطلع علينا صباح إلاّ وجميعنا من الهالكين".
ومن دون غيرها استقرّت اللفظةُ الأخيرة في أسماع الأعيان النيام، ففتحوا أعينهم بذعر، ورفعوا رؤوسهم.
وصاح واحد منهم يُدعى الأقطش، لأنّ له أذناً واحدة، فيما الثانية نهبها ذئب: "يا ويلتاه، كيف نحن من الهالكين"؟.
وصاح آخر يُدعى الأجرب، لأنّه تصيبه أيّام في السنة يحك جسمه، وقيل أنّه مرضٌ أصيب به خلال خدمته في جيش كان يغزو بلاداً: "كيف نحن سنهلك؟ وعلى ظهر مَن إذا هلكنا ستنهض الأرض"؟.
وصاح ثالث من زاوية: "إنتبهوا، إنّ السقف سيقع".
وراح هذا ينهق وذاك يزعق وذيّاك يضرط من الخوف والقلق.
وفيما هم يتدافعون على غير هدى صاح واحد: "أرجوكم اعقلوا".
وسأله زميله: "وماذا تريدنا أن نعقل"؟.
وأردف بأعلى صوته: "أين هو الباب؟ أرشدوني أين هو الباب".
وقال واحد: "يا ليتني قبل أن آتي إلى هنا أوصيت أتاني بكرّنا، وأن تحذّره من القمار".
وقبل أن ينهي قوله استقرّ حافر في خاصرته، ومن شدّة الألم فتح فمه وعضّ رقبة وجيه بالصدفة هو إلى جواره. وهذا بدوره لبط عيناً بالصدفة كان يقف خلفه. وعلى هذا النحو اختلط الحابل بالنابل. وأخيراً، ومن لا مكان طار حافر واستقرّ في أمّ وجه الحمار الذي صاح تلك الصيحة حتى كاد السقف فعلاً يقع، ثمّ قال، وهو يغطّي وجهه، بعدما خيّم على الأعوان صمت شعوراً بالذنب: "آآآه".
ونظر الأعيان إلى بعضهم البعض، فرأوا الدم يلطّخهم، ورأوا مسابح أسنان متناثرة على الأرض. وتهامسوا عن سبب ذلك؟ متناسين أنّهم للتوّ كانوا مشتركين في حرب ضروس ولا مثلها حرب البسوس، أو حرب داحس والغبراء، أو حرب اللصوص الأولى، أو حرب اللصوص الثانية، أو حرب ثعلب الصحراء، أو حرب اختطاف جزيرة، أو حرب الناب والمخلب، أو حرب الرمح والثور.
وفيما الحمار يصلح وجهه بقائمة، رفعَ جارتَها، وكأنّه يطلب من الوجهاء أن يعطوه آذانهم، ولمّا لم يستجيبوا هدّدهم بإلقاء قنبلة ذريّة فوق رؤوسهم، فامتثلوا.
وتنحنح وقال: "بورك بكم أيّها الأعوان، فلا ضرّ ولا ضرار، ولا شرّ ولا أشرار، وجميعكم من الأحرار. ها، والبحر الأجاج الرجراج، والسراج الوهّاج، والنعاج والدجاج، والسماء ذات الأوداج، إنّ فجْركم إلى إنبلاج. وعندما أَنتهي من خطبتي تتسلّلون إلى دياركم على رؤوس حوافركم، وتحرصون قبل النوم أن تملأوا بطونكم من معلفين، وتشربوا من جرنين، وتلبطوا الهواء ثلاث مرّات، أو بقدر ما تشاؤون، ثمّ تنهقون ثلاث مرّات، أو بقدر ما تشاؤون أيضاً، فليس على اللبيط والنهيق عدّ وحساب. وعندما ستستيقظون تنسون هذه الليلة المشؤومة".
وأطبق فمه، فخرجوا على رؤوس حوافرهم.
وعملوا بما حفظوا عن ظهر قلب، ومثلهم عمل الحمار، من دون أدنى شكّ.
shawki1@optusnet.com.au