الأحد، نوفمبر 16، 2008

كي يفرد جناحيه


شوقي مسلماني
إنسان ما قبل حي بن يقظان المتولّد ذاتيّاً في جزيرة تثمر أشجارُها نساءً، دفعتْه إلى أمام غريزةُ البقاء، إنّما من ناحية ثانية، وهو الذي له طول وعرض وعمق، أي الأقاليم الثلاثة، كما يجب، فيمكن من صورته التأكيد أنّه بتعبير ابن طفيل مدرِك بالقوّة وليس بالفعل. ويمكن الإستنجاد بألف مثل ومثل، وبزيادة لا بنقصان، سوى أنّ الذاكرة تسعى أن تكون أمينة، فعندما تغمض عينيك تحتجب عنهما الألوان حتى تفتحهما من جديد. وهما مغمضتان يكون التعبير أنّهما مدركتان بالقوّة، أي أنّهما لا تبصران الآن، وحين تفتحهما يكون التعبير أنّهما مدركتان بالفعل، أي تبصران.
كان يعيش بقوّة الغريزة وصنوف الصدفة والحظّ، وفي آن مدركاً بالقوّة. فغياب كثيف يحطّمه ويلقي أستاراً على عينيه، لكنّي أظلمه إذا أنكرتُ طائر الفينيق فيه متململاً منتفضاً ولو على خسران غالباً.
كان متروكاً إلاّ من إشارات.
العدمُ، فكان، فهو متروك.
كان بين السمّ والأنياب، فهو متروك.
كان المُفتَرَس، فهو متروك.
كان من الجملة، فهو متروك.
بدأ وحده يختزن الأسماء ويشعل الحرائق ويبطش، فهو متروك.
ووحده حمل المبضع لكي يبلغ قدسَ أقداسه، فهو متروك ولا يزال.
الإستطراد هو أنّ ابن طفيل، للأسف، أجاز للأخلاق، ولو سامية، أن تنفي عدم الفارابي في ناحية من نواحيه. يجوز ألاّ ينقطع الرجاء غير أنّ الرجاء في الوعي والعقل والإدراك والعِلم. السؤال لم يخفت ولا انقطع منذ حيّ التامّ، ومنذ حيّ المدرِك بالقوّة والمدرك بالفعل.
أمّا الإشارات، فمن العناصر الأربعة كما اعتُمِد قديماً، فجسمانيّة بطول وعرض وعمق، وواجبة، ولا استغناء أو تجاوز ولو بقدر ذرّة، وإجازة التشديد لإجازة التأكيد بعد وقائع واستنتاج واستنباط. كلّ جسم متروك.
المدرِك بالفعل يرى الناهب المنهوب والمنهوب الناهب، والقاتل المقتول من سبيل لا حصر له والمقتول القاتل بسبيل لا حصر له. جسمانيّة هي الإشارات، فترى ولا ترى، وتسمع ولا تسمع، وتشمّ ولا تشمّ، وتتذوّق ولا تتذوّق، وتلمس ولا تلمس، وتعي ولا تعي، وكثيراً في الصدفة والحظّ، أو كثيراً في الخطأ الجميل، أم يجدر القول: الإنحراف الخلاّق والمبدع؟.
وأظلمه إذا أنكرتُه متوثّباً ولو إلى حين بعد سنين في الغشاوة، ولكن أيضاً في الإستبصار. الغشاوة إرث عمرُه من قبل حيّ، عمره من عمر عدم فبدء فحيّ، إلى استبداد قصّة، فثورةُ قصّة استبدّتْ، فثورةُ قصّة بدورها استبدّتْ. والإستبصار إدراك بالقوّة وإدراك بالفعل وحاجة ضدّ النقص وثورة على الإستبداد من أجل تأسيس آخر. الغشاوةُ دوران مع الدوران بلا زاد، حيث لا جذر ينفذ في الصخر، حيث لا قمر ولا منارة، حيث لا تجيد الحبَّ ولا يد، والرياح عاتية من جهةِ الجشع بإفراطِ أنانيّة، ومن جهةِ عماء ببُنى تحتيّة أساس وبُنى فوقيّة حتميّة ومظالم لا نهائيّة، وفي الذروة من الوحشيّة قتلى يوميّاً بالذلّ والتعب وكثرةِ الداء وندرةِ الدواء والبطالةِ والإستغلالِ والطبقيّةِ والمرتشين لكلمة، ومن جهةِ قصص صمّاء تضيق بالطرائف، لا تقرّ بتخثّرها أو ابتذالها، فيما الإستبصار أن تفيض، أن ترى ما وراء: ما جنس الألم؟ ما جنس الإنكسار؟ كيف الظلام؟ أين الجهة؟ كيف تستزيد؟ ماذا الفرد وماذا الجماعة؟ كيف الإفتراق يجمع والإجتماع يرتقي بالإصرار والجرأة؟ ماذا الخطّة؟ ماذا الإنعتاق؟ ماذا جهة المستقبل حيث الصراع مع الطبيعة لا مع إنسان آخر، حيث العمل الخالق نزهة لا منّة وحبّ لا جبّ؟. كان يسعى بسلاسل حديد وإدراكٍ أقل ـ أدركََ ولم يدرك، حاولَ ولم يحاول، اجتهدَ ولم يجتهد. الإدراك بالقوّة فيه أخضر كثير، فيه زهور كثيرة، تكافل كثير، كلّ إسم رفيع، إنّما تلك الصخرة، وإنّما تلك المطرقة ترتفع".
وأظلمُه ظلماً لا مزيد عليه إذا أُنكِر الآن أن الفينيق لكي يفرد جناحيه ـ آمال باتّساع الدنيا. مدينة رقيقة كونيّة. انتصارات أكيدة على جبهة الغد. إدراك بالفعل، ونكفلُ أن نعالج زمن الحصاد الوفير".
Shawki1@optusnet.com.au

ليست هناك تعليقات: